26
في هذا المعنى يقول: يمكن أن نضع مبدأ عاما لا يسمح بأي استثناء مهما كان نوعه، هذا المبدأ هو: جميع معطيات الاعتقاد - حتى تلك المعطيات التي بلغت حدا كبيرا من الإتقان والإحكام في طابعها العلمي أو الفلسفي - تستمدها مباشرة من خبرتنا التجريبية المباشرة، أو هي على الأقل ترتبط بهذه الخبرة بطريقة محددة تماما بحيث يمكن التأكد منها.»
27 (26) غير أننا حين نقول إن الفرد في حالة الانتباه يكون نشطا فعالا دون أن يكون لنشاطه سبب خارجي، لكنه محدد بذاته في إحداث حركات جسمه هو - ألا نكون بذلك قد اعتدينا على الأرض المقدسة لقانون بقاء الطاقة؟ إن في استطاعة أحد علماء الطبيعة أن يثير الاعتراض الآتي: إن إحداث حركة في الجزئيات المادية للجسم يعني أن النشاط الذاتي المزعوم قد أضاف قدرا جديدا من الطاقة الحركية
Kinetic energy
دون أن يختفي قدر مساو لهذه الإضافة من صورة أخرى من صور الطاقة، وهذا تحطيم واضح لواحد من أعظم القوانين المعترف بها في علم الطبيعة، وهو قانون بقاء الطاقة، الذي يذهب إلى أن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، بل تتحول فقط إلى صور مختلفة. (27) ويمكن أن نشرح قانون بقاء الطاقة في إيجاز شديد على النحو التالي:
إذا ما درسنا الطرق التي تؤثر بها المادة في حواسنا لوجدنا أن هناك حالات متعددة للمادة يمكن قياسها، هي التي نسميها بصورة الطاقة. وهكذا نجد لدينا: طاقة الحركة، وطاقة الوضع، والحرارة، والضوء ... إلخ، ونحن نلاحظ أنه في حالة اختفاء إحدى هذه الصور تظهر بدلا منها صورة أخرى، وفي كل حالة من هذه الحالات هناك معدل ثابت لتحول صورة من الصور إلى صورة أخرى. فلو أننا استخدمنا الطاقة الكيميائية لتوليد الحرارة، فإن عدد الوحدات الحرارية التي نحصل عليها من كل وحدة من وحدات الطاقة الكيميائية الضائعة يظل ثابتا. ولو أننا لاحظنا كل التحولات التي تطرأ على أي مجموعة من مجموعات الطاقة، لوجدنا أن المجموع الكلي للوحدات الذي نحسبه بمصطلحات إحدى هذه الصور - يظل ثابتا باستمرار. ويمكن أن نوضح ذلك بهذا المثال الآتي: افرض أن شخصا يملك مبلغا معينا من المال، وأنه أحيانا يستبدل القروش بالشلنات، وأحيانا أخرى يستبدل العملة الفضية بعملة ورقية ... إلخ، لكن المبلغ يظل مع ذلك ثابتا، فالمجموع الكلي يبقى كما هو، سواء أكان محسوبا بالشلنات أم بغيرها، وعلى الرغم من أن المبلغ كله كان في لحظة من اللحظات مجموعة من القروش، وفي لحظة أخرى كان كله فضة، وفي لحظة ثالثة كان كله أوراقا مالية، أو كان في لحظة رابعة خليطا من ذلك كله - فإن المجموع الكلي للمبلغ يظل واحدا في جميع هذه الحالات. (28) وعلى ذلك في استطاعة عالم الطبيعة أن يقول إن الأعصاب أجسام مادية، مثلها مثل الحجارة سواء بسواء، وانتقال التيارات العصبية هي نفسها عملية فسيو-كيمائية، تشبه تماما عملية احتراق الشمعة، ولا بد من تفسيرها تفسيرا ماديا . ولو أننا افترضنا أن شيئا ما يحدث في حالة الانتباه داخل لحاء المخ؛ حيث لا يمكن أن يحدث بنفس الطريقة في حالة أخرى، بوصفه محصلة لظروف مادية خالصة، فإننا بذلك نحطم الاتصال، الذي لا يتحطم، للتفسير الفيزيائي، فالطاقة الموجودة في العالم المادي لا تفنى ولا تخلق، بل يعاد توزيعها فحسب، وبالتالي فلا يمكن أن يكون صحيحا ما نقول من أن النشاط الذاتي يحدث حركة - لأنه بذلك لا بد أن يزيد أو ينقص من كمية الطاقة الموجودة في العالم المادي - وبالتالي يحطم قانون بقاء الطاقة. (29) وردا على هذا الاعتراض، سوف أجيب بادئ ذي بدء، بالشك في الشمول المزعوم لهذا القانون، وسوف أحاول - ثانيا - أن أبين أن نشاط الانتباه لا يتعارض بالضرورة مع هذا القانون. (30) هناك واقعة تعارض الزعم القائل بأن الطاقة لا بد أن يقابلها قدر من العمل مساو لها تماما، وهي أن بعض الطاقة الحرارية يتبدد دون أن يحدث أي قدر من العمل مساو له، وطالما أننا لا نعرف شيئا عن الطريقة التي تعود بها هذه الطاقة المبددة إلى مصدرها الأصلي، ألا يمكن أن تكون الطاقة المتاحة لنا مستمدة من مصدر خفي، لا يمكن فيزيقيا أن ترد إليه؟ (31) وهذا السؤال يبرز أمامنا فكرة إمكان الرد
reversibility ، أو إمكان التحول، وهي الفكرة التي تزعمها النظرة الآلية، ويدعمها قانون بقاء الطاقة. فهم يزعمون أن أيا ما كان التغير الذي يحدث في العالم فإن من الممكن أن يعود كل شيء من جديد إلى وضعه السابق، لكن الوقائع تظهرنا على أن هذه النظرية المزعومة لا تستطيع - على الأقل - أن تجد لها تطبيقات في مجالات معينة. «إن لا معقولية الرد «أو التحول إلى الوضع السابق» واضحة في العمليات العضوية، فليس من المعقول أن تتقلص الشجرة وتعود القهقرى إلى البذور، ولا أن تبدأ الحياة مع جثة الإنسان وتنتهي بالميلاد، ولا تعود سلسلة الأنساب إلى الوراء.»
28
والواقع أن إمكانية الرد هذه لا يمكن - فيما يبدو - أن تنطبق إلا على نظام يمكن لأجزائه بعد أن تتحرك أن تعود إلى أوضاعها السابقة، أعني نظاما يمكن لأجزائه بعد أن تتحرك أن تعود إلى أوضاعها السابقة، أعني نظاما لا يلعب الزمان أي دور في ماهيته. «لكن الأمر على خلاف ذلك تماما في مجال الحياة، فها هنا تبدو الديمومة - يقينا - وكأنما تقوم بدور السبب، ومن ثم فإن الفكرة القائلة بالعودة بالأشياء إلى الوراء بعد انقضاء زمان معين هي ضرب من المستحيل، طالما أن مثل هذه العودة إلى الوراء لا تحدث قط في حالة الكائن الحي.»
29 «وفي حين أن النقطة المادية - كما يفهمها دعاة النزعة الآلية - تظل في حاضر أبدي. فإن الماضي قد يكون حقيقة بالنسبة للأجسام المادية، وهو يقينا حقيقة أكيدة بالنسبة للموجودات الواعية. وإذا كان الماضي لا يمثل أدنى كسب ولا أدنى خسارة، بالنسبة إلى أي نظام نزعم له البقاء، فإنه قد يمثل كسبا بالنسبة إلى الكائن الحي، وهو بدون شك كسب محقق للوجود الواعي. وإذا كان الأمر على هذا النحو: أليس هناك الشيء الكثير مما يمكن أن يقال حول افتراض القوة الواعية أو الإرادة الحرة، التي تخضع لفعل الزمان وتستغرق ديمومة، حتى إنه ليمكن أن تفلت من قانون بقاء الطاقة؟»
Page inconnue