35 (24) تبقى نظرية واحدة هي القول بأن النفس الموحدة ليست موجودا بسيطا مستقلا، لكنها فعل بواسطته يجمع الفرد ما يبدو أنه يساعده في حفظ وجوده. هذا الفعل هو المبدأ الموحد لمحتويات خبرة الفرد، بحيث تكون واحدة في أية لحظة، رغم تعدد المحتويات وتنوعها ، إنه الشرط الذي بدونه تصبح الرغبة والنفور، والانتقاء والرفض، أمورا مستحيلة. وبدون افتراض من ناحية أخرى لا يستطيع الفرد أن يشعر ويدرك ويفكر. إنه الصورة، أعني الخاصية الأساسية للفاعل السيكوفيزيقي، التي تجعله ينتقي العناصر - مادية كانت أو روحية - التي لا غنى عنها لوجوده. وفي كلمة واحدة: المركز الموحد: هو الفعل المتضمن في عملية الانتباه.
36
غير أن الانتباه لا يمكن تصوره دون موضوع، سواء أكان هذا الموضوع داخليا أم خارجيا. ومن هذه الثنائية: الانتباه إلى شيء ما تتألف نظرتنا إلى النفس، فالانتباه هو الجانب الذاتي، وما ننبه إليه هو الجانب الموضوعي. والنفس هي وحدة «الذات والموضوع» أو هي ثنائية «الصورة والمادة»، والصورة هي فعل الانتباه. والمادة هي الموضوع الذي يقع عليه الانتباه. ومن الواضح أن الجانبين لا يمكن أن ينفصلا، على الرغم من أنهما يمكن أن يتمايزا. فالفرد المنتبه وموضوع انتباهه يتضمن كل منهما الآخر، والواحد منهما مستحيل بدون الآخر. وهذان الجانبان - الجانب الذاتي والجانب الموضوعي - لازمان لتكوين الخبرة أيا كان نوعها: منهما تبدأ الخبرة، وبهما معا تستمر، وليس في استطاعتنا مطلقا أن نحللهما ونردهما إلى فرد منتبه بدون موضوع، أو إلى موضوع بدون الفرد المنتبه. فالجانبان متضامنان، وكل منهما يتضمن الآخر، والصفحة البيضاء
Tabula Rosa
التي تحدث عنها «لوك
Locke » لم تكن أبدا بيضاء في يوم من الأيام، كلا، ولا كانت صفحة بالمعنى السلبي المتقبل
لهذه الكلمة، لكنها كانت باستمرار: يفعل - ينتبه (أي فعل الانتباه). (25) ويتخذ الجسم في حالة الانتباه وضعا خاصا، أو موقفا معينا إزاء الموضوع الذي ننتبه إليه، وهذا هو السبب في أن الانتباه يكون في الغالب مصحوبا بحركات معينة للجسم. لكن هذه الحركات لا هي سبب الانتباه ولا هي نتيجته، وإنما هي جزء منه، فهي تعبر عنه تعبيرا مكانيا. فمن المألوف في حالة الانتباه أن يميل المرء إلى الأمام، أو أن يدير أذنه تجاه مصدر الصوت، أو أن يرفع حاجبيه أو يخفضهما ... إلخ. وهذه الحركات الجسمية تجعل عملية الاختيار أو الانتقاء ممكنة، وهي العملية التي تعتبر الخاصية الجوهرية للانتباه. إذ عن طريق الوضع المناسب للجسم يحدد الفاعل المجال الذي ينتبه إليه وسط البيئة المحيطة به. والانتباه الإيجابي لموضوع معين يصحبه بالضرورة قمع لجميع الجوانب الأخرى. والجانبان الإيجابي والسلبي للانتباه يسهلهما الوضع الصحيح الذي يتخذه الجسم أثناء عملية الانتباه. ومثل هذا الوضع المناسب يعمل كعامل انتقاء، فيفضل التقاط أشياء معينة، ويمحو في نفس الوقت موضوعات أخرى: «إن البحث عن شيء معين يتخذ وضعا يسهل الاستجابة لرؤية هذا الشيء والتعرف عليه. والإصغاء يتخذ وضعا يسهل الاستماع لأصوات معينة. ومن ثم فإن الإصغاء بإمعان قد يسد عليك الطريق إلى ملاحظة شيء مفقود، يجعلك لا تلاحظ الأصوات التي لا بد أن تجذب انتباهك في وقت آخر. وباختصار فإن الاستعداد والتهيؤ لعمل ما، هو في نفس الوقت عدم استعداد وعدم تهيؤ بالنسبة لأعمال أخرى.»
37 (26) الانتباه ليس ملكة بالمعنى الذي ينظر فيه إلى الفرد على أن لديه «قدرة» أو «قوة» أو ملكة الانتباه هي التي تجعله قادرا على الانتباه، بمعنى أنه إذا ما انتبه بالفعل - فإن ذلك يحدث بمساعدة تلك الملكة الموجودة بالقوة، بل إن الذات لا تكون ذاتا إلا لأنها تنتبه فعلا وباستمرار. انظر إلى نفسك في أية لحظة وسوف تجد أن هناك شيئا يشغل انتباهك، سواء أكان هذا الشيء إحساسا أم فكرة أم شعورا ... إلخ. وليست هناك لحظة واحدة في حياة الفرد يمكن أن تخلو من الانتباه خلوا تاما. فالجسم الذي لا ينتبه - ولو أدنى انتباه - هو جسم لا نفس له. وحتى في حالة النوم وغيرها من الحالات اللاشعورية؛ يكون الفرد منتبها إلى مضمون موضوعي، ولا يهم مدى الضآلة التي يكون عليها هذا المضمون. ولو أن حواس النائم كانت موصدة تماما، عن العالم الخارجي لكان معنى ذلك أن أكثر الأصوات ضجيجا لن يوقظه. ويجمل بنا هنا أن نلاحظ أن الأم النائمة قد لا توقظها حركة المرور الكثيفة التي يعلو ضجيجها خارج نافذة غرفتها، في حين أنه من المرجح جدا أن توقظها أقل حركة يحدثها طفلها، وهذا لا يعني فقط أن الانتباه مستمر أثناء النوم ، لكنه يعني أيضا أن الانتقاء والاختيار لما هو هام وضروري موجود في مثل هذه الفترة التي يغيب فيها الوعي الكامل.
والواقع أن الإدراك قد يكون من الضآلة بدرجة تجعلنا لا نلاحظه، وهذه الإدراكات التي غالبا ما لا نشعر بها هي التي يسميها «ليبنتز» بالإدراكات الضئيلة ...
petites perceptions
Page inconnue