وإذا كان الحكم مستحيلا بغير فاعل يجاوز المضمون الفكري، فسوف تصبح المعرفة بدورها مستحيلة؛ ذلك لأن القضايا وحدها لا تكون معرفة، لكنها تصبح معرفة حين نثبتها أو ننفيها، أو بمعنى آخر حين نصدر عليها أحكاما.
15 (7) وفضلا عن ذلك فلو كنا لا نملك سوى الانطباعات والأفكار وحدها، فمن أين نعرف أن هناك إحساسين مختلفين يوجدان معا إذا ما صادفتنا مثل هذه الحالة؟ افرض مثلا أنني أنظر إلى إحدى الصور، وأستمع إلى أنغام الموسيقى في آن معا، فلو أنني كنت على وعي بأنهما إحساسان مختلفان، فإن هذا الوعي نفسه دليل على وجود شيء آخر غير الإحساسين هو الذي مكنني من أن أعرف أنهما إحساسان اثنان وليسا إحساسا واحدا. (8) من الواضح أننا لا ننتبه إلى جميع الانطباعات التي تطبع الحواس في لحظة معينة، لأن انتباهنا ينتقي منها انطباعا معينا. فأنا - مثلا - لم أكن أدرك الانطباع الحسي لما أرتديه من ثياب إلى أن وجهت انتباهي إليه الآن فقط، مع أن هذا الانطباع كان موجودا طوال الوقت، لكني لكي أعيه؛ كنت في حاجة إلى توجيه انتباهي إليه . ومنذ دخلت قاعة المكتبة، واتخذت فيها مجلسي، وساعتها لا تنقطع عن الدق الرتيب الخافت المتتالي بشكل منتظم ومطرد. لكني لم أكن أسمع هذه الدقات الخافتة لأني لم أكن قد انتبهت إليها، على الرغم من أن الموجات الصوتية التي تحدثها هذه الدقات لم تنفك عن طرق طبلة أذني. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: من ذا الذي يختار هذا المعطى الحسي أو ذاك - دون بقية المعطيات - ليكون موضوعا للانتباه؟ لا يمكن أن تكون الإحساسات، بما هي كذلك، هي التي اختارت نفسها بنفسها، بل لا بد أن يكون هناك شيء غيرها هو الذي قام بهذا الاختيار. (9) إذا كانت الانطباعات والأفكار هي وحدها ما تتضمنه عقولنا فسوف يكون مستحيلا عليها أن تعني شيئا، أي إنها ستفقد قيمتها بوصفها رمزا يشير إلى شيء آخر غير وجودها ومضمونها، فنحن حين يكون لدينا انطباع أو فكرة، ندرك ما هي
that it is
وماذا تعني
what it is
16
لكن الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا يمكن أن تدلنا على ما تمثله في العالم الواقعي، وبعبارة أخرى، الانطباع بذاته أو الفكرة وحدها لا تعني شيئا، فهي ليست سوى إشارة أو رمز، ولا بد أن يكون هناك فاعل يجاوز هذه الإشارة ويعلو عليها، هو الذي يفسر لنا ما ترمز إليه. وفضلا عن ذلك فقد يكون لدينا انطباعان متشابهان أتم ما يكون التشابه، ويكون لهما - مع ذلك - معنيان أو أكثر مختلفان أتم الاختلاف. انظر مثلا إلى الرمز الرقمي 23، إنه قد يعني «ثلاثة وعشرين»، أو قد يعني «خمسة» إذا كنت أقصد جمع العددين، وقد يعني «ستة» إذا كنت أقصد ضربهما. ومع ذلك فالانطباع واحد في جميع هذه الحالات. ألا يدل ذلك على وجود شيء فيما وراء الإحساس هو الذي يضفي عليه المعنى في كل حالة من الحالات؟ (10) يرى هيوم في تفسيره لفكرة «الكلية» - مسايرا باركلي - أن «جميع الأفكار الكلية إن هي إلا أفكار جزئية ربطت باسم معين يخلع عليها دلالة أوسع مدى، ويجعلها تستثير - إذا ما لزم الأمر - أفرادا أخرى شبيهة بها.»
17
وهو كذلك : إن كل شيء في الطبيعة فرد متميز بفرديته، فمن السخف أن نفترض وجود مثلث في الطبيعة دون أن تكون لأضلاعه وزواياه مقادير معلومة معينة بالنسبة بعضها إلى بعض، وإذا كان مثل هذا الافتراض سخفا في دنيا الأشياء والواقع، فسخف بالتالي أن تقول ذلك عن «فكرة» المثلث.
18
Page inconnue