ويؤكد جابر لقارئه أنه لا نجاح في عمل علمي إلا إذا كان مسبوقا بعلم؛ فالتحصيل النظري أولا ثم التجربة والتطبيق ثانيا. نعم إن هذا التحصيل الكامل قد يقتضي تعبا وجهدا، لكنه لا مناص من ذلك إذا أريد الوصول. يقول: «اتعب أولا تعبا واحدا، واجمع، وانظر، واعلم، ثم اعمل؛ فإنك لا تصل أولا، ثم تصل إلى ما تريد.»
58
ومبدأ آخر يوصي به ابن حيان، وهو - فيما أرى - أدخل في المبادئ التربوية منه في مبادئ المنهج العلمي في إجراء البحوث، لكنه على كل حال طابع يميز جابر ويصور لنا شخصيته تصويرا واضحا؛ ألا وهو التكتم والتخفي، فواجب العلماء - في رأيه - أن يتكتموا علمهم، فلا يكشفوه إلا في الظروف الملائمة وإلا للأشخاص الذين يستحقونه ويطيقونه ويستطيعون حمله بما يتفق وكرامته؛ لأنك إذا صببت في إنسان علما أكثر مما يطيق، كنت كمن يضع في إناء أكثر مما يسع فيذهب الأمر هباء، لا بل إنك لتزهق ذلك الإنسان وتحرقه بما تحمله إياه من علم يعجز عن حمله: «ولولا أنني أمرت أن أعطي الناس بقدر استحقاقهم لكشفت من نور الحكمة ما يكون معه الشفاء الأقصى؛ ولكنى أمرت بذلك لما فيه من الحكمة؛ لأن العلم - يا أخي - لا يحمله الإنسان إلا على قدر طاقته وإلا أحرقه، كما لا يقدر الإناء والحيوان أن يحمل إلا بقدر طاقته وملئه، وإلا فاض، ورجع بالذل والعجز.»
59
روى الجلدكي في شرح المكتسب عن جابر بن حيان رواية
60
تبين وجهة نظر ابن حيان في وجوب تكتم العالم حتى يصادف الظروف المواتية؛ وذلك أن تلميذا أراد التعلم والأخذ عنه، فماطله جابر وراوغه. فلما أصر التلميذ ولم يتحول عن طلبته، قال جابر: «إنما أردت أن أختبرك وأعلم حقيقة مكان الإدراك منك، ولتكن من أهل هذا العلم على حذر ممن يأخذه عنك. واعلم أن من المفترض علينا كتمان هذا العلم، وتحريم إذاعته لغير المستحق من بني نوعنا، وألا نكتمه عن أهله؛ لأن وضع الأشياء في محالها من الأمور الواجبة، ولأن في إذاعته خراب العالم، وفي كتمانه عن أهله تضييعا لهم.»
ونختم حديثنا عن منهج «ابن حيان» بموجز لهذا المنهج يضغطه في عشر نقط،
61
هي: (1)
Page inconnue