الإتباع للسيوطي
قَالَ ابْن فَارس فِي فقه اللُّغَة: للْعَرَب الإتباع، وَهُوَ أَن تتبع الْكَلِمَة الْكَلِمَة على وَزنهَا، أَو رويها إشباعًا وتوكيدًا. وَقد شاركت الْعَجم الْعَرَب فِي هَذَا الْبَاب.
وَقَالَ أَبُو عبيد فِي غَرِيب الحَدِيث: فِي قَوْله ﷺ َ - فِي الشبرم إِنَّه حَار يار.
وَقَالَ الْكسَائي: حَار من الْحَرَارَة، ويار إتباع، كَقَوْلِهِم، عطشان نطشان، وجائع نائع، وَحسن بسن، وَمثله كثير فِي الْكَلَام، وَإِنَّمَا سمى اتبَاعا لِأَن الْكَلِمَة الثَّانِيَة إِنَّمَا هِيَ تَابِعَة للأولى على وَجه التوكيد لَهَا، وَلَيْسَ يتَكَلَّم بِالثَّانِيَةِ مُنْفَرِدَة، فَلهَذَا قيل الإتباع.
قَالَ: وَأما حَدِيث آدم ﵇: أَنه استحرم حِين قتل ابْنه، فَمَكثَ مائَة سنة لَا يضْحك، ثمَّ قيل لَهُ: حياك الله وبياك، قَالَ: وَمَا بياك؟ قيل: أضْحكك، فَإِن بعض النَّاس يَقُول فِي بياك: إِنَّه اتِّبَاع، وَهُوَ عِنْدِي -
1 / 88
على مَا جَاءَ تَفْسِيره فِي الحَدِيث - إِنَّه لَيْسَ بِاتِّبَاع، وَذَلِكَ أَن الِاتِّبَاع لَا يكَاد يكون بِالْوَاو، وَهَذَا بِالْوَاو.
وَمن ذَلِك قَول الْعَبَّاس فِي زَمْزَم: هِيَ لشارب حل وبل، فَيُقَال إِنَّه أَيْضا إتباع، وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي كَذَلِك لمَكَان الْوَاو.
وَأَخْبرنِي الْأَصْمَعِي عَن الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان أَنه قَالَ: بل، هُوَ مُبَاح بلغَة حمير، قَالَ: وَيُقَال: بل، شِفَاء، من قَوْلهم: قد بل الرجل من مَرضه وأبل، إِذا برأَ. انْتهى كَلَام أبي عبيد.
وَقَالَ التَّاج السُّبْكِيّ فِي شرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ: ظن بعض النَّاس أَن التَّابِع من قبيل المترادف لشبهه بِهِ، وَالْحق الْفرق بَينهمَا، فَإِن المترادفين يفيدان فَائِدَة وَاحِدَة من غير تفَاوت، وَالتَّابِع لَا يُفِيد وَحده شَيْئا، بل شَرط كَونه مُفِيدا تقدم الأول عَلَيْهِ، كَذَا قَالَه الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ.
وَقَالَ الْآمِدِيّ: التَّابِع لَا يُفِيد معنى أصلا، وَلِهَذَا قَالَ ابْن دُرَيْد: سَأَلت أَبَا حَاتِم عَن معنى قَوْلهم: بسن، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ.
قَالَ السُّبْكِيّ: وَالتَّحْقِيق أَن التَّابِع يُفِيد التقوية، فَإِن الْعَرَب لَا تضعه سدى، وَجَهل أبي حَاتِم بِمَعْنَاهُ لَا يضر، بل مُقْتَضى قَوْله: إِنَّه لَا يدْرِي، مَعْنَاهُ أَن لَهُ معنى، وَهُوَ لَا يعرفهُ.
قَالَ: وَالْفرق بَينه وَبَين التَّأْكِيد، أَن التَّأْكِيد يُفِيد مَعَ التقوية نفى احْتِمَال الْمجَاز، وَأَيْضًا فالتابع من شَرطه أَن يكون على زنة الْمَتْبُوع، والتأكيد لَا يكون كَذَلِك.
وَقَالَ ثَعْلَب فِي أَمَالِيهِ: قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: سَأَلت الْعَرَب أَي شَيْء معنى شَيْطَان ليطان؟ فَقَالُوا: شَيْء نتد بِهِ كلامنا: نشده.
1 / 89
ذكر أَمْثِلَة من الِاتِّبَاع
قَالَ ابْن دُرَيْد فِي الجمهرة: " بَاب جمهرة من الِاتِّبَاع " يُقَال: هَذَا جَائِع نائع، والنائع: التمايل: المتمايل، قَالَ:
(متأود مثل الْقَضِيب النائع ...)
وعطشان نطشان، من قَوْلهم: مَا بِهِ نطيش أَي حَرَكَة، وَحسن بسن، قَالَ ابْن دُرَيْد: سَأَلت أَبَا حَاتِم عَن بسن، فَقَالَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ.
ومليح قزيح، من القزح، وَهُوَ: الأبزار.
وشحيح نحيح (بِالْبَاء) من البحة، ونحيح (بالنُّون) من نح بِحمْلِهِ.
فَهَذِهِ الْحُرُوف إتباع لَا تفرد.
وتجئ أَشْيَاء يُمكن أَن تفرد، نَحْو قَوْلهم: غنى ملى، وفقير وقير، والوقر: هزمة فِي الْعظم. وجديد قشيب. وخائب هائب. وَمَاله عَال وَلَا مَال
وَعقد أَبُو عبيد فِي الْغَرِيب المُصَنّف بَابا لِلِاتِّبَاعِ، فَمَا ذكر فِيهِ: يُقَال: حسن، بسن قسن، وَلَا بَارك الله فِيهِ وَلَا تَارِك وَلَا دَارك.
وَقد اسْتُفِيدَ من المثالين أَن الِاتِّبَاع قد يَأْتِي بلفظين بعد المتبع، كَمَا يَأْتِي بِلَفْظ وَاحِد.
1 / 90
وَفِي الجمهرة أَيْضا: يَقُولُونَ: شغب جغب، وجغب اتِّبَاع لَا يفرد، ولحمه حظا بظا، إِذا كَانَ كثيرا، وَلَا يفرد بظا، هَكَذَا يَقُوله الْأَصْمَعِي، وَوَقع فلَان فِي حيص بيص وَفِي حِيص بِيص، وَلَا يفرد، إِذا وَقع فِي ضيق أَو فِيمَا لَا يتَخَلَّص مِنْهُ، وجئ بِهِ من حوث بوث (بِتَثْلِيث حَرَكَة الثَّاء) أى من حَيْثُ كَانَ، وَجَاء فلَان بحوث وبوث، أى بالشَّيْء الْكثير، وَيَوْم عك أك، وعكيك أكيك: شَدِيد الْحر، وتركهم هتا بتا: كسرهم.
وَفِي تذكرة الشَّيْخ تَاج الدّين بن مَكْتُوم بِخَطِّهِ: رجل حقرت نقرت، ودعب لعب، وخصى بصى، وفدم سدم، وعوز لوز، وطبن تبن، ومخر نطم مبرنطم. وهلعة بلعة، وهش بش، وشديد أديد، وَأعْطيت المَال سَهوا رهوًا، وخاش ماش، وَهُوَ: الْمَتَاع.
وَفِي ديوَان الْأَدَب للفارابي: أذن حشرة مشرة: لَطِيفَة حَسَنَة، وَرجل قشب خشب، إِذا كَانَ لَا خير فِيهِ، إتباع لَهُ. وَفِي الجمهرة: عَجُوز شهلة كهلة، اتِّبَاع لَهُ لَا يفرد.
وَفِي مُخْتَصر الْعين: رجل كفرين عفرين، أى خَبِيث.
وَفِي الصِّحَاح: إِنَّه لجواس عواس، أى طلاب بِاللَّيْلِ، وَرجل أخرس أضرس، اتِّبَاع لَهُ. وَشَيْء عريض أريض، اتِّبَاع لَهُ، وَبَعْضهمْ يفرده: وَرجل
1 / 91
كظ لظ، أَي عسر متشدد، وَمَكَان بلقع سلقع، وبلاقع سلاقع، وَهِي: الْأَرَاضِي القفار الَّتِي لَا شَيْء بهَا، قيل: هُوَ سلقع اتِّبَاع لبلقع لَا يفرد، وَقيل: هُوَ الْمَكَان الْحزن، وضائع سائع، وَرجل مضياع مسياع لِلْمَالِ، ومضيع مسيع، وناقة مسياع مرياع تذْهب فِي المرعى وَترجع بِنَفسِهَا، وشفة باثعة كاثعة، أَي ممتلئة محمرة من الدَّم، وَرجل حطىء نطئ: رذل.
فَائِدَة: قَالَ ابْن الدهان فِي الْغرَّة فِي بَاب التوكيد: مِنْهُ قسم يُسمى الِاتِّبَاع نَحْو عطشان نطشان، وَهُوَ دَاخل فِي حكم التوكيد عِنْد الْأَكْثَر، وَالدَّلِيل على ذَلِك كَونه توكيدًا للْأولِ غير مُبين معنى بِنَفسِهِ عَن نَفسه، كأكتع وأبصع مَعَ أجمع، فَكَمَا لَا ينْطق بأكتع بِغَيْر أجمع، فَكَذَلِك هَذِه الْأَلْفَاظ مَعَ مَا قبلهَا، وَلِهَذَا الْمَعْنى كررت بعض حروفها فِي مثل حسن بسن، كَمَا فعل بأكتع مَعَ أجمع، وَمن جعلهَا قسما على حِدة حجَّته مفارقتها أَكْتَع لجريانها على الْمعرفَة والنكرة، بِخِلَاف تِلْكَ، وَأَنَّهَا غير مفتقرة إِلَى تَأْكِيد قبلهَا بِخِلَاف أَكْتَع.
قَالَ: وَالَّذِي عِنْدِي أَن هَذِه الْأَلْفَاظ تدخل فِي بَاب التوكيد بالتكرار، نَحْو: رَأَيْت زيدا زيدا، وَرَأَيْت رجلا رجلا، وَإِنَّمَا غير مِنْهَا حرف وَاحِد
1 / 92
لما يجيئون فِي أَكثر كَلَامهم بالتكرار، وَيدل على ذَلِك أَنه إِنَّمَا كرر فِي أجمع وأكتع الْعين، وَهنا كررت الْعين اللَّام، نَحْو: حسن بسن، وَشَيْطَان ليطان.
وَقَالَ قوم: هَذِه الْأَلْفَاظ تسمى تَأْكِيد وإتباعًا.
وَزعم قوم: أَن التَّأْكِيد غير الِاتِّبَاع، وَاخْتلف فِي الْفرق، فَقَالَ قوم: الِاتِّبَاع مِنْهَا مَا لم يحسن فِيهِ وَاو، نَحْو: حسن بسن، وقبيح شقيح، والتأكيد يحسن فِيهِ الْوَاو، نَحْو: حل وبل.
وَقَالَ قوم: الِاتِّبَاع الْكَلِمَة الَّتِي يخْتَص بهَا معنى ينْفَرد بهَا من غير حَاجَة إِلَى متبوع.
1 / 93