إِتْحَافُ ذَوي الأَلْبَاب
فِي قَوْلِهِ - تَعَالى -:
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾
تَأْلِيفُ
مَرْعِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبي بَكْر الكَرْمِيِّ المَقْدِسِيِّ الحَنْبَليِّ
المُتَوَفَّى سَنَةَ (١٠٣٣هـ)
ضَبَطَ نَصَّهُ وَعَلَّقَ عَلَيْهِ
حَازم خَنْفَر
قَدَّمَ لَهُ
عَلِيُّ بْنُ حَسَن الحَلَبِيُّ الأَثَرِيُّ
Page inconnue
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[تَقْدِيم]
الحَمْدُ لِله حَقَّ حَمْدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ وَعَبْدِهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَوَفْدِهِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ أَحْسَنَ بِيَ الظَّنَّ أَخِي المُكَرَّمُ الفَاضِلُ (حَازِم خَنْفَر) - وَفَّقَهُ اللهُ إِلَى مَزِيدِ هُدَاهُ -؛ فَدَفَعَ إِلَيَّ رِسَالَةً عِلْمِيَّةً حَقَّقَهَا، وَهِيَ رِسَالَةٌ لِلعَلَّامَةِ الشَّيْخِ مَرْعِيٍّ الكَرْمِيِّ الحَنْبَليِّ ﵀، بِعُنْوَانِ: «إِتْحَافِ ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾».
فَأَلْفَيْتُ جُهْدَهُ ظَاهِرًا فِي ضَبْطِ نَصِّهَا، وَالتَّعْلِيقِ عَلَيْهَا، وَتَخْرِيجِ أَحَادِيثِهَا.
فَجَزَاهُ اللهُ خَيْرًا عَلَى هَذَا الجُهْدِ المَبْذُولِ، وَعَلَى هَذَا الصَّنِيعِ الَّذِي أَرْجُو لَهُ مِنْ رَبِّي القَبُولَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ، وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَكَتَبَ
عَلِيُّ بْنُ حَسَن الحَلَبِيُّ الأَثرِيُّ
عَمَّانَ - الأُرْدُن
فِي ضُحَى يَوْمِ الثُّلاثَاءِ
٢٠ /شَعْبَان /١٤٣٣ هـ
1 / 3
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[مُقَدِّمَةُ المُحَقِّقِ]
الحَمْدُ لِله، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَمِمَّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ وَلَا امْتِرَاءَ - عِنْدَ ذَوِي الأَفْئِدَةِ المُؤْمِنَةِ -: أَنَّ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ لِطَعْنٍ أَوْ نَقْدٍ؛ فَهُوَ بِنَجْوَةٍ مِنَ الاخْتِلَافِ وَالتَّنَافِي، وَمِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ؛ فَالقُرْآنُ كَلَامُ رَبِّ العِزَّةِ وَالجَلَالِ القَائِلِ فِيهِ: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (١).
وَلَمْ يَزَلِ القُرَّحُ مِنْ أَهْلِ الاجْتِهَادِ وَحَضَنَةِ العِلْمِ يَسْتَبِرُونَ غَوْرَ مَعَانِيهِ وَيَغُوصُونَ فِي دَرْكِهَا؛ كَشْفًا عَمَّا غَمُضَ تَفْسِيرُهُ وَاخْتَلَطَ بَيَانُهُ، فَدُوِّنَتِ الدَّوَاوِينُ وَصُنِّفَتِ المُصَنَّفَاتُ - مَا بَيْنَ أَسْفَارٍ وَكَرَارِيسَ -.
وَمِنْ تِلْكَ المُؤَلَّفَاتِ: هَذِهِ الرِّسَالَةُ؛ الَّتِي تَضَمَّنْتِ الإِشْكَالَ الحَاصِلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٢) ...؛
_________
(١) سُورَةُ (النِّسَاءِ)، آيَة (٨٢).
(٢) سُورَةُ (الرَّعْدِ)، آيَة (٣٩).
1 / 5
فَقَدْ تَنَازَعَ فِي تَفْسِيرِهَا أَهْلُ العِلْمِ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ:
الأُولَى: عَلَى مَاذَا يَقَعُ المَحْوُ وَالإِثْبَاتُ؟
وَالثَّانِيَةُ: مَا المُرَادُ بِـ (أُمِّ الكِتَابِ)؟
وذَكَرَ المَاوَرْدِيُّ فِي «تَفْسِيرِهِ» (١) المَسْأَلَةَ الأُولَى عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى سِتَّةٍ.
وَلَقَدْ أَظْهَرَ المُصَنِّفُ فِي رِسَالَتِهِ - هَذِهِ - الأَقْوَالَ المَشْهُورَةَ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ، وَأدِلَّةَ كُلِّ قَوْلٍ، ثُمَّ أَثْبَتَ رَأْيَهُ بِالدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ وَالحُجَّةِ العَقْلِيَّةِ، وَتَكَلَّمَ - أَيْضًا - فِي بَعْضِ المَسَائِلِ المُتَعَلِّقَةِ بِالقَدَرِ، وَرَدَّ أَقْوَالَ المُخَالِفِينَ لِأُصُولِ الشَّرْعِ - كَالمُعْتَزِلَةِ -، فَكَانَتْ رِسَالَةً جَامِعَةً مَاتِعَةً نَفِيسَةً، اسْتَوْعَبَتْ أُصُولَ المَسْأَلَةِ وَفُرُوعَهَا.
وَقَدْ وَفَّقَنِي اللهُ ﷿ لِأَنْشَطَ لَهَا - ضَبْطًا وَتَحْقِيقًا وَتَعْلِيقًا وَتَخْرِيجًا -، وَفَرَغْتُ مِنْهَا - بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى - فِي الثَّامِنَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ، سَنَةَ (١٤٣٣هـ).
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُقِرَّ عَمَلَنَا - هَذَا - فِي مِيزَانِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
حَازِم خَنْفَر
٨/ ٧/٢٠١٢م
_________
(١) انْظُرْ «تَفْسِيرَ المَاوَرْدِيِّ» (٣/ ١١٧ - ١١٨).
1 / 6
[عَمَلِي فِي الكِتَابِ]
١ - قَيَّدْتُ حُرُوفَ الكَلِمَاتِ بِالشَّكْلِ، وَضَبَطْتُ المُشْكِلَ - مِنْهَا - ضَبْطَ حُرُوفٍ؛ تَقْوِيمًا لِلِّسَانِ العَرَبِيِّ - مِنْ إِعْرَابٍ وَصَرْفٍ -، وَكَذَلِكَ مَنْعًا لِلإِشْكَالِ - مِنْ مُشَتَبِهٍ لِلأَسْمَاءِ -.
٢ - عَزَوْتُ الآيَاتِ، وَخَرَّجْتُ الأَحَادِيثَ وَالآثَارَ، وَلَمْ أَتَوَسَّعْ فِي ذِكْرِ المَصَادِرِ، وَمَا وَجَدْتُ لِلْعَلَمَاءِ فِيهِ حُكْمًا أَوْرَدْتُهُ، وَأَكْثَرُ مَا عَوَّلْتُ عَلَيْهِ فِي هَذَا البَابِ: حُكْمُ العَلَّامَةِ المُحَدِّثِ الأَلْبَانِيِّ ﵀.
٣ - تَرْجَمْتُ لِمَا وَرَدَ مِنَ الأَعْلَامِ فِي الكِتَابِ.
٤ - أَظْهَرْتُ مَا غَرُبَ مِنَ المَعَانِي.
٥ - أَضَفْتُ فَوَائِدَ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنَ الرِّسَالَةِ.
٦ - أَشَرْتُ إِلَى المَوَاضِعِ الَّتِي عَزَاهَا المُصَنِّفُ إِلَى قَائِلِيهَا، وَكَذَلِكَ الَّتِي لَمْ يَعْزُهَا، وَهُنَا تَنْبِيهٌ، وَهُوَ: أَنَّ المُصَنِّفَ قَدْ يَعْزُو إِلَى كِتَابٍ لِعَالِمٍ فَيَذْكُرُ مِنْهُ نَصًّا، ثُمَّ يَتَصَرَّفُ فِيهِ - إِمَّا اخْتِصَارًا أَوْ زِيَادَةً أَوْ لَفْظًا -، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَثِيرٌ - عِنْدَهُ - لَسَلَّمْتُ بِأَنَّهُ اخْتِلَافُ نُسَخٍ خَطِّيَّةٍ.
٧ - ضَبْطُ النَّصِّ وَتَصْحِيحُهُ - مِمَّا ظَهَرَ خَطَؤُهُ -، وَالإِشَارَةُ إِلَى المُعَدَّلِ.
1 / 7
[تَرْجَمَةُ المُصَنِّفِ]
مُصَنِّفُ هَذِهِ الرِّسَالَةِ: هُوَ الإِمَامُ المُحَدِّثُ الفَقِيهُ: مَرْعِيُّ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَحْمَدَ الكَرْمِيُّ المَقْدِسِيُّ الحَنْبَليُّ؛ مِنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ الحَنَابِلَةِ.
وَالكَرْمِيُّ: نِسْبَةً إِلَى (طُورِ كَرْمٍ) المَعْرُوفَةِ الآنَ بِـ (طُولِ كَرْمٍ) - بِفِلَسْطِينَ - الَّتِي وُلِدَ بِهَا.
أَخَذَ عَنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ المَرْدَاوِيِّ، وَالقَاضِي يَحْيَى الحَجَّاوِيِّ - وَغَيْرِهِمَا -.
كَانَ ذَا اطِّلَاعٍ وَاسِعٍ عَلَى نُقُولِ الْفِقْهِ وَدَقَائِقِ الحَدِيثِ، وَمَعْرِفَةٍ تَامَّةٍ بِالعُلُومِ المُتَدَاوَلَةِ، وَكَانَ مُنْهَمِكًا عَلَى الْعُلُومِ انْهِمَاكًا كُلِّيًّا، فَقَطَعَ زَمَانَهُ بِالإِفْتَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّصْنِيفِ.
دَخَلَ مِصْرَ وَتَوَطَّنَهَا، وَأَخَذَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهَا، ثُمَّ تَصَدَّرَ لِلإِقْرَاءِ وَالتَّدْرِيسِ بِجَامِعِ الأَزْهَرِ، ثُمَّ تَوَّلَى المَشْيَخَةَ بِجَامِعِ السُّلْطَانِ حَسَنٍ، وَتُوُفِّيَ فِيهَا سَنَةَ (١٠٣٣هـ)، وَلَهُ نَحْوُ سَبْعِينَ كِتَابًا؛ مِنْ أَشْهَرِهَا: «دَلِيلُ الطَّالِبِ» وَ«غَايَةُ المُنْتَهَى» (١).
_________
(١) انْظُر «خُلَاصَةَ الأَثَر» لِلْمُحِبِّي (٤/ ٣٥٨).
1 / 9
[صِحَّةُ نِسْبَةِ الكِتَابِ إِلَى المُؤَلِّفِ]
صَحَّتْ نِسْبَةُ الكِتَابِ إِلَى المُصَنِّفِ لأُمُورٍ؛ مِنْهَا:
١ - مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ - نَفْسُهُ - فِي كِتَابِهِ «رَفْعِ الشُّبْهَةِ وَالغَرَرِ عَمَّنْ يَحْتَجُّ عَلَى فِعْلِ المَعَاصِي بِالقَدَرِ» (ص٢١) بِقَوْلِهِ: «وَقَدْ بَسَطْتُ الكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي كِتَابِي «إِتْحَاف ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ)»».
٢ - مَا نَسَبَهُ لَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ؛ كَالمُحِبِّي فِي «خُلَاصَةِ الأَثَرِ» (٤/ ٣٥٨)، وَإِسْمَاعِيلَ البَغْدَادِيِّ فِي «إِيضَاحِ المَكْنُونِ» (٣/ ١٨).
1 / 11
[وَصْفُ المَخْطُوطِ]
المُقَدِّمَةُ: «الحَمْدُ لِله المُنَزَّهِ بِذَاتِهِ، الرَّفِيعِ الجَنَابِ، المُقَدَّسِ بِصِفَاتِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ».
الخَاتِمَةُ: «وَفِي هَذَا القَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ بِعَيْنِ البَصِيرَةِ - وَاللهُ ﷾ أَعْلَمُ -».
رَقْمُ النُّسْخَةِ: ٣٠٩٤٨٦.
عَدَدُ الأَوْرَاقِ: (٢١) وَرَقَةً.
مَصْدَرُ المَخْطُوطِ: مَكْتَبَةُ الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ.
1 / 13
[صُورَةٌ مِنَ المَخْطُوطِ]
الصَّفْحَةُ الأولَى مِنَ المَخْطُوطِ
1 / 14
الصَّفْحَةُ الأَخِيرَةُ مِنَ المَخْطُوطِ
1 / 15
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
وبه نستعين
الحَمْدُ لِله المُنَزَّهِ بِذَاتِهِ، الرَّفِيعِ الجَنَابِ (١)، المُقَدَّسِ بِصِفَاتِهِ عَنْ إِدْرَاكِ عُقُولِ ذَوِي الأَلْبَابِ، المَوْصُوفِ بِالأُلُوهِيَّةِ قَبْلَ كُلِّ مَوْجُودٍ، البَاقِي بِنَعْتِ السَّرْمَدِيَّةِ بَعْدَ كُلِّ مَحْدُودٍ (٢)، المَنِيعِ الحِجَابِ (٣)، المَلِكِ الَّذِي طَمَسَتْ
_________
(١) (الجَنَابُ) - بِفَتْحِ الجِيمِ -: هُوَ: السَّاحَةُ وَالجِوَارُ، تَقُولُ العَرَبُ: (هُوَ فِي جَنَابِ فُلَانٍ)؛ أَيْ: فِي سَاحَتِهِ وَجِوَارِهِ، وَ(جَنَابُ القَوْمِ): نَاحِيَتُهُمْ وَمَا حَوْلَهُمْ، ثُمَّ أُشِيعَ اسْتِخْدَامُهَا لِلإِجْلَالِ كَغَيْرِهَا مِنَ الكَلِمَاتِ المُعَظِّمَةِ لِلْمَذْكُورِ؛ كَـ (حَضْرَةِ الملِكِ)، وَ(المَقَامِ الشَّرِيفِ) - وَغَيْرِ ذَلِكَ -، وَيُرَادُ بِنِسْبَتِهَا إِلَى البَارِي - تَعَالَى -: العَظَمَةُ المُطْلَقَةُ الرَّفِيعَةُ.
قَالَ القَلْقَشَنْدِيُّ فِي «صُبْحِ الأَعْشَى» (٥/ ٤٦٤): «وَأَصْلُ (الجَنَابِ) فِي اللُّغَةِ: الفِنَاءُ، أَوْ مَا قَرُبَ مِنْ مَحَلَّةِ القَوْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: (لُذْنَا بِجَنَابِ فُلَانٍ)، وَ(فُلَانٌ خَصِيبُ الجَنَابِ)، فَيُعَبَّرُ عَنِ الرَّجُلِ بِفِنَائِهِ وَمَا قَرُبَ مِنْ مَحَلَّتِهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَيُجْمَعُ عَلَى (أَجْنِبَةٍ)؛ كَـ (مَكَانٍ وَأَمْكِنَةٍ)، وَعَلَى (جَنَابَاتٍ) كَـ (جَمادٍ وَجَمَادَاتٍ)».
(٢) قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» (٢/ ٣٦٣): «السَّرْمَدُ: الدَّائِمُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ».
قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ المُرَادُ مِنْ مَعْنَى السِّيَاقِ أَنَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَزَلِيٌّ أَبَدِيٌّ، وَصِفَاتُهُ أَزَلِيَّةٌ بَاقِيةٌ - عَلَى الأَبَدِ - بِبَقَاءِ ذَاتِهِ، فَالبَاءُ فِي قَوْلِهِ: (بِنَعْتِ) هِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ، كَقَوْلِكَ: (بَقِيَ المرِيضُ بِحَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا).
وَالأَجْوَدُ أَنْ يَقُولَ: (بِالنُّعُوتِ السَّرْمَدِيَّةِ)، كَمَا جَاءَ فِي مُقَدَّمَةِ النَّسَفِيِّ لِـ «تَفْسيرِهِ» الَّتِي قَدْ يَكُونُ المُصَنِّفُ - هُنَا - اقْتَبَسَ بَعْضًا مِنْهَا فِي أَوَّلِ مُقَدَّمَتِهِ لِلرِّسَالَةِ - هَذِهِ -.
(٣) رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» (١٧٩) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ ﷿ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النَّارُ - لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
1 / 17
سُبُحَاتُ (١) جَلَالِهِ الأَبْصَارَ، وَحَارَتْ فِي بَدِيعِ جَمَالِهِ الأَفْكَارُ، العَزِيزِ الوَهَّابِ، الَّذِي كَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ المَقْدُورِ فِي أُمِّ الكِتَابِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٢)، فَلَا رَادَّ لأَمْرِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الحِسَابِ.
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيفَتِهِ (٣)، المَبْعُوثِ إِلَى كَافَّةِ خَلِيقَتِهِ، المَنْعُوتِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ (٤)، الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٥)، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ آلٍ وَأَصْحَابٍ، مَا انْهلَّتْ بِالغَيْثِ مُزَنُ (٦) السَّحَابِ، وَاشْتَاقَتْ لِلْمُتَّقِينَ الكَوَاعِبُ (٧)
_________
(١) السُّبُحَاتُ: بِضَمِّ السِّينِ وَالبَاءِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الحَدِيثِ - كَمَا فِي الحَاشِيَةِ السَّابِقَةِ -.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» (٣/ ١٣ - ١٤): «قَالَ صَاحِبُ «العَيْنِ» وَالهَرَوِيُّ وَجَمِيعُ الشَّارِحِينَ لِلْحَدِيثِ مِنَ اللُّغَوِيِّينَ وَالمُحَدِّثِينَ: مَعْنَى (سُبُحَاتِ وَجْهِهِ): نُورُهُ وَجَلَالُهُ وَبَهَاؤُهُ».
(٢) رَوَى مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» (٢٦٥٣) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللهِ ﷺ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ».
(٣) قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي «الفَتَاوَى الكُبْرَى» (٥/ ١٢٢): «وَاللهُ لَا يَجُوزُ لَهُ خَلِيفَةٌ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللهِ، قَالَ: (لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، حَسْبِي ذَلِكَ)؛ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ - يَكُونُ خَلِيفَةً لِغَيْرِهِ».
(٤) يُشِيرُ المُصَنِّفُ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨)﴾ [التوبة:١٢٨]
(٥) سُورَةُ (الرَّعْد)، آيَة (٣٩).
(٦) (المُزَنُ): جَمْعُ (مُزْنَةٍ)، وَهُوَ: المَطَرُ.
(٧) (الكَوَاعِبُ): جَمْعُ (كَاعِبٍ)، وَهِيَ الفَتَاةُ الَّتِي كَعَبَ ثَدْيُهَا، أَيْ: بَرَزَ ثَدْيُهَا وَضَخُمَ.
1 / 18
الأَتْرَابُ (١).
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ فَرَائِدُ يَتِيمَةٌ، وَفَوَائِدُ ثَمِينَةٌ، وَعُقُودُ جَوَاهِرَ مُضِيئَةٍ، وَبُدُورٌ سَوَافِرُ (٢) مُسْتَضِيئَةٌ، فِي الكَلَامِ عَلَى قَوْلِ العَزِيزِ الوَهَّابِ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (٣) مُتَكَلِّمًا فِي ذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ العُمُرِ (٤) وَنُقْصَانِهِ، وَبَيَانِ إِثْبَاتِ القَدَرِ وَتِبْيَانِهِ، وَأَنَّ المَقْدُورَ مَسْطُورٌ، وَالمَسْتُورَ مَنْشُورٌ، يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ، جَانِحًا فِي ذَلِكَ لاخْتِصَارِ كَلَامِ أُولِي الأَلْبَابِ، جَامِعًا مَا تَفَرَّقَ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الكِتَابِ، مَعَ زِيَادَاتٍ مُحَقَّقَةٍ، وَإِفَادَاتٍ مُدَقَّقَةٍ، وَسَمَّيْتُهُ: إِتْحَافَ ذَوِي الأَلْبَابِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
_________
(١) (الأَتْرَابُ) جَمْعُ (تِرْبٍ) - بِكَسْرِ أَوَّلِهِ -، وَهُوَ: مَنْ كَانَ مُمَاثِلًا لآخَرَ فِي السِّنِّ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي المُؤَنَّثِ، وَالمُرَادُ هُنَا: المُسْتَوِيَاتُ فِي السِّنِّ، وَيرِيدُ بِذَلِكَ قَوْلَهَ ﷿: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (٣١) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (٣٢) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (٣٣)﴾.
(٢) (السَّوَافِرُ) جَمْعُ (سَافِرٍ)؛ أَيِ: المُشْرِقَةُ.
(٣) سُورَةُ (الرَّعْد)، آيَة (٣٩).
(٤) (العُمُرُ): بِضَمِّ العَيْنِ وَالمِيمِ، وَبِضَمِّ العَيْنِ وَسَكُونُ المِيمِ، وَبِفَتْحِ العَيْنِ وَسُكُونِ المِيمِ.
1 / 19
مقدِّمة
في إِثْبات حقيقة القدر
اعْلَمْ - وَفَّقَكَ اللهُ تَعَالَى - أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الحَقِّ هُوَ الحَقُّ.
وَمَذْهَبُهُمْ: أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - قَدَّرَ مَقَادِيرَ الخَلْقِ وَمَا يَكُونُ مِنَ الأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فِي الأَزَلِ، وَعَلِمَ - سُبْحَانَهُ - أَنَّهَا سَتَقَعُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَهُ
- تَعَالَى - وَعَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ؛ فَهِيَ تَقَعُ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهَا.
وَخَالَفَتِ القَدَرِيَّةُ (١) فِي ذَلِكَ - وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى مَذْهَبِهِمْ (٢) -؛ فَقَالُوا: إِنَّهُ - سُبْحَانَهُ - لَمْ يُقَدِّرِ الأَشْيَاءَ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا، وَأَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةُ العِلْمِ؛ أَيْ: إِنَّمَا يَعْلَمُهَا - سُبْحَانَهُ - بَعْدَ وُقُوعِهَا (٣).
وَكَذَبُوا عَلَى اللهِ فِي قَوْلِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِالكِتَابِ
_________
(١) قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» (١/ ١٥٤): «وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ قَدَرِيَّةً لِإِنْكَارِهِمُ الْقَدَرَ».
(٢) كَالفَلَاسِفَةِ الَّذِين أَثْبَتُوا عِلْمَ اللهِ - تَعَالَى - لِلْكُلِّيَّاتِ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ - سُبْحَانَهُ - عِلْمَ الجُزْئِيَّاتِ، وَكَالمُعْتَزِلَةِ - الَّذِينَ هُمُ امْتِدَادٌ لِلقَدَرِيَّةِ - الَّذِينَ أثْبَتُوا العِلْمَ لَهُ - سُبْحَانَهُ - وَأَنْكَرُوا تَقْدِيرَهُ لِلأَشْيَاءِ.
(٣) أَوَّل مَا تُكُلِّمَ بِالقَدَرِ كَانَ بَعْدَ مُنْتَصَفِ القَرْنِ الأَوَّلِ الهِجْرِيِّ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ: هُوَ (سَوْسَنُ) وَيُكْنَى أَبَا يُونُسَ، وَيُقَالُ لَهُ: سنْسَوَيْهِ وَسيسوَيْهِ - وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ -، كَانَ نَصْرَانِيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى دِينِهِ، ثُمَّ أَخَذَ عَنْهُ مَعْبَدٌ الجُهَنِيُّ، وَأَخَذَ غَيْلَانُ عَن مَعْبَدٍ.
وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمُ القَدَرِيَّةُ الأَوَائِلُ؛ أَمَّا القَدَرِيَّةُ الَّذِينَ جَاءُوا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَثْبَتُوا العِلْمَ لِله
- تَعَالَى -، وَلَكِنْ أَنْكَرُوا الخَلْقَ وَالإِرَادَةَ وَالمَشِيئَةَ - كالمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ -.
1 / 21
وَالسُنَّةِ (١).
أَمَّا الكِتَابُ:
فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ (٢).
وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ (٣).
إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآيَاتِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ جَمَّةٌ فِي «البُخَارِيِّ» وَ«مُسْلِمٍ» - وَغَيْرِهِمَا -:
فَفِي «مُسْلِمٍ»: عَن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ (٤) ﵄، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ - تَعَالَى - مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ» (٥)، وَفِي حَدِيثِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ: «قَدَّرَ المَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ
_________
(١) هَذِهِ المُقَدَّمَةُ مِنْ كَلَامِ النَّووِيِّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ» (١/ ١٥٤) - بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ -.
(٢) سُورَةُ (الحَدِيد)، آيَة (٢٢).
(٣) سُورَةُ (التَّوْبَة)، آيَة (٥١).
(٤) (العَاصِ): الأَصْوبُ: إِثْبَاتُ اليَاءِ؛ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» (١/ ٧٧): «وَأَمَّا (العَاصِي) فَأَكْثَرُ مَا يَأْتِي فِي كُتُبِ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ وَنَحْوِهَا بِحَذْفِ اليَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ، وَالفَصِيحُ الصَّحِيحُ: (العَاصِي) بِإِثْبَاتِ اليَاءِ، وَكَذَلِكَ شَدَّادُ بْنُ الهَادِي، وَابْنُ أَبِي المَوَالِي، فَالفَصِيحُ الصَّحِيحُ فِي كُلِّ ذَلِكَ - وَمَا أَشْبَهَهُ -: إِثْبَاتُ اليَاءِ، وَلَا اغْتِرَارَ بِوُجُودِهِ فِي كُتُبِ الحَدِيثِ أَوْ أَكْثَرِهَا بِحَذْفِهَا - وَاللهُ أَعْلَمُ -».
(٥) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٢٦٥٣).
1 / 22
وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (١).
وَحَدِيثِ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ؛ حَتَّى العَجْزُ (٢) وَالكَيْسُ» (٣).
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مُتَّ (٤) عَلَى غَيْرِ هَذِهِ لَدَخَلْتَ النَّارَ» (٥)، رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ - أَيْضًا - وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ
_________
(١) عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ (٢١٥٦)، وَأَحْمَدَ (١١/ ١٤٤)، وَالحَدِيثُ فِي «مُسْلِمٍ» (٢٦٥٣) - كَمَا تَقَدَّمَ -.
(٢) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» (١٦/ ٢٠٥) نَقْلًا عَنِ القَاضِي عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ: «رُوِّينَاهُ بِرَفْعِ (العَجْزِ) وَ(الكَيْسِ) عَطْفًا عَلَى (كُلُّ)، وَبِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى (شَيْءٍ)».
قَالَ المُنَاوِيُّ فِي «فَيْضِ القَدِيرِ» (٥/ ٢٢): «وَ(الكَيْسُ) - بِفَتْحِ الكَافِ -؛ أَيِ: النَّشَاطُ وَالحِذْقُ وَالظَّرَافَةُ، أَوْ كَمَالُ العَقْلِ، أَوْ شِدَّةُ مَعْرِفَةِ الأُمُورِ، أَوْ تَمْيِيزُ مَا فِيهِ الضَّرُّ مِنَ النَّفْعِ».
(٣) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٢٦٥٥) وَأَحْمَدُ (١٠/ ١٣٣ - ١٣٤).
(٤) بِضَمِّ المِيمِ وَكَسْرِهَا، مِنْ (مَاتَ يَمُوتُ)، وَ(مَاتَ يَمَاتُ)، (وَمَاتَ يَمِيتُ).
وَالأَخِيرَةُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الزَّبِيدِيُّ فِي «تَاجِهِ» - نَقْلًا عَنْ شَيْخِهِ - بِقَوْلِهِ: «وَهِيَ لُغَةٌ مَرْجُوحَةٌ أَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ».
(٥) رَوَاهُ أَحْمَدُ (٣٥/ ٤٦٥)، وَأَبُو دَاوُدَ (٤٦٩٩)، وَابْنُ مَاجَهْ (٧٧).
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي «المُهَذَّبِ» (٨/ ٤٢١٢): «إِسْنَادُهُ صَالِحٌ».
وَقَالَ الأَلْبَانِيُّ فِي «ظِلَالِ الجَنَّةِ» (١/ ١٠٩): «إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ».
1 / 23
وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَفِي «مُسْلِمٍ» - أَيْضًا - حِينَ تَحَاجَّ (١) آدَمُ وَمُوسَى، وَفِيهِ: قَالَ آدَمُ لِمُوسَى: «أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟!» (٢).
وَفِي «مُسْلِمٍ» - أَيْضًا - مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَفِيهِ: قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ (٣) إِلَّا وَكَتَبَ اللهُ مَكَانَهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَلَا نَمْكُثُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ العَمَلَ؟ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، اعْمَلُوا؛ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ» (٤).
وَرَوَى الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ﵀ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ (٥)، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا مِنْ نَفْسٍ إِلَّا
_________
(١) يُقَالُ: (تَحَاجَّ الرَّجُلَانِ)؛ أَيْ: تَجَادَلَا.
(٢) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٦٦١٤)، وَمُسْلِمٌ (٢٦٥٢).
(٣) قَالَ ابْنُ الأَثِيرِ فِي «النِّهَايَةِ» (٥/ ٩٥): «أَيْ: مَوْلُودَةٍ، يُقَالُ: (نُفِسَتِ المَرْأَةُ) وَ(نَفِسَتْ)؛ فَهِيَ (مَنْفُوسَةٌ وَنُفَسَاءُ): إِذَا وَلَدَتْ، فَأَمَّا الحَيْضُ فَلَا يُقَالُ فِيهِ إِلَّا (نَفِسَتْ) - بِالْفَتْحِ -».
(٤) رَوَاهُ البُخَارِيُّ (١٣٦٢)، وَمُسْلِمٌ (٢٦٤٧).
(٥) بِالتَّصْغِيرِ؛ كَمَا فِي «تَقْرِيبِ التَّهْذِيبِ» (ص٣٥٧).
1 / 24
وَقَدْ كَتَبَ اللهُ مَخْرَجَهَا وَمَدْخَلَهَا (١) وَمَا هِيَ لَاقِيَةٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَفِيمَ العَمَلُ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: «اعْمَلُوا؛ كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُونَ (٢) لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، وَأَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ (٣) لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ»، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: الآنَ حَقَّ (٤) العَمَلُ (٥).
وَأَخْرَجَ البَزَّارُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ﵁، قَالَ: سَمِعْتُ
_________
(١) (مَخْرَجَهَا) وَ(مَدْخَلَهَا): بِفَتْحِ المِيْمِ وَضَمِّهَا - فِي اللَّفْظَيْنِ -، فَالوَجْهُ الأَوَّلُ مِنْ (دَخَلَ وَخَرَجَ)، وَالثَّانِي مِنْ (أَدْخَلَ وَأَخْرَجَ)، وَانْظُرْ - لِمَزِيدِ بَيَانٍ - «أَدَبَ الكَاتِبِ» لابْنِ قُتْيَبَةَ (ص٥٥٦).
قَالَ عَلِيٌّ القَارِي فِي «شَرْحِ مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ» (ص٣٨٣): «(مَدْخَلَهَا): مَكَانَ دُخُولِهَا وَزَمَانَهُ وَسَائِرَ شَأْنِهِ مِنْ أَوَّلِ وِلَادَتِهِ إِلَى انْتِهَاءِ نَشْأَتِهِ، (وَمَخْرَجَهَا): أَيْ مَكَانَ خُرُوجِهَا، وَزَمَانَهُ، وَهُوَ مُنْتَهَى أَجَلِهِ، وَمُقْتَضَى عِلْمِهِ، وَمُنْقَطَعُ عَمَلِهِ».
(٢) فِي المَخْطُوطِ: (فَيُيَسَّرُوا)، وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتْنَاهُ.
(٣) انْظُرِ الحَاشِيَةَ السَّابِقَةَ.
(٤) بفَتْحِ الحَاءِ أَوْ ضَمِّهَا - عَلَى البِنَاءِ لِلْمَعْلُومِ أَوِ المَجْهُولِ -، قَالَ فِي «القَامُوسِ»: «وَ(حَقَّ) بِالفَتْحِ: وَجَبَ؛ لَازِمٌ مُتَعَدٍّ».
قُلْتُ: وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ جَعَلَ الفَتْحَ بِوُجُودِ (عَلَى)؛ كقَوْلِكَ: (حَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا)، وَالضَّمَّ بِوُجُودِ (اللَّامِ)؛ كَقَوْلِكَ: (حُقَّ لَهُ أَنْ يَفَعْلَ كَذَا).
(٥) وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ؛ رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي «مُسْنَدِهِ» (١/ ١٧٠)، وَمِنْ
طَرِيقِهِ: ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي «السُّنَّةِ» (رقم ١٧٣).
وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي «العِلَلِ» (٤/ ٣٢٦) بِالإِرْسَالِ، وَضَعَّفَهُ الأَلبَانِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي «ظِلَالِ
الجَنَّةِ» (١/ ٧٦).
وَيَشْهَدُ لِأَصْلِ مَعْنَاهُ: حدِيثُ عَلِيٍّ الَّذِي قَبْلَهُ.
1 / 25
رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَوَّلُ (١) مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ (٢)، فَقَالَ: اجْرِ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» (٣).
_________
(١) ومِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهَا بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَانْظُرْ - لِمَزِيدِ بَيَانٍ - الحَاشِيَةَ التَّالِيَةَ.
(٢) قُيِّدَ الشَّكْلُ - هُنَا - عَلَى ثَلَاثَةِ ضُرُوبٍ، وَبِحَسَبِهِ تَنَازَعَ أَهلُ العِلْمِ فِي أَسْبَقِيَّةِ العَرْشِ أَوِ القَلَمِ فِي الخَلَقِ:
فَالضَّرْبُ الأَوَّلُ: بِرَفْعِ (أَوَّل) وَ(القَلَم)، وَذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ:
الأَوَّلُ: لِمَنْ قَالَ بِأَسْبَقِيَّةِ القَلَمِ، فَجَعَلَ سِيَاقَ الحَدِيثِ جُمْلَتَيْنِ مُنْفَصِلَتَيْنِ، وأَخَذَ بِظَاهِرِ الحَدِيثِ.
وَالثَّانِي: لِمَنْ قَالَ بِأَسْبَقِيَّةِ العَرْشِ، إِلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ: أَنَّ القَلَمَ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ مِنْ هَذَا العَالَمِ.
وَالضَّربُ الثَّانِي: بِرَفْعِ (أَوَّل) وَنَصْبِ (القَلَم)، وَذَلِكَ عَلَى المَعْنَيَيْنِ نَفْسَيْهِمَا المُتَقَدِّمَيْنِ، وَيَقَعُ عَلَى حَالَتَيْنِ:
الأُولَى: على تَقْدِيرِ عَامِلٍ مَحْذُوفٍ؛ هُوَ (كَانَ)، فَيَكُونُ السِّيَاقُ المُقَدَّرُ: (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: كَانَ
القَلَمَ).
وَالثَّانِيَةُ: عَلَى رِوَايَةِ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمَ» - بِزِيَادَةِ (إِنَّ) -، فَيَتَوَجَّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّ (القَلَمَ) خَبَرُهَا؛ حَيْثُ يُنْصَبُ الجُزْءَانِ فِي (إِنَّ وَأَخَوَاتِهَا)، وَهِيَ لُغَةٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَبَعْضُهُمْ خَصَّ ذَلِكَ بِـ (لَيْتَ) فَقَطْ.
أَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ: فَبِنَصْبِ (أَوَّل) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَنَصْبِ (القَلَم) عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَسْبَقِيَّةِ العَرْشِ، فَجَعَلَ السِّيَاقَ جُمْلَةً واحِدَةً،، وَالمُرَادُ: (أَنَّ اللهَ ﷿ أَمَرَ القَلَمَ عِنْدَ أَوَّلِ خَلْقِهِ أَنْ يَكُتْبَ)، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ؛ قَالَ ﵀ فِي «بُغْيَةِ المُرْتَادِ» (ص١٨١): «فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ؛ إِذْ (مَا) هِيَ المَصْدَرِيَّةُ، وَهِيَ وَالفِعْلُ بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ الَّذِي يَجْعَلُهُ ظَرْفًا؛ كَمَا يُقَالُ: (أَوَّلَ مَا لَقِيتُ فُلَانًا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ)؛ أَيْ: (فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ لُقْيِهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ)، وَإِذَا كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ خَلْقِهِ هَذَا القَوْلَ؛ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ؛ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ قَبْلَهُ غَيْرُهُ».
(٣) رَوَاهُ أَحْمَدُ (٣٧/ ٣٧٨)، وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - (٣٣١٩)، وَأَبُو دَاوُدَ (٤٧٠٠)، وَالبَزَّارُ فِي «مُسْنَدِهِ» (٧/ ١٣٧ - «البَحْرِ الزَّخَّارِ»)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي «ظِلَالِ الجَنَّةِ» (١/ ٤٨ - ٥٠)، وَالوَادِعِيُّ فِي «الجَامِعِ الصَحِيحِ فِي القَدَرِ» (ص١٠٢ - ١٠٣).
1 / 26
قَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ (١): إِسْنَادُهُ حَسَنٌ (٢).
وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ - وَصَحَّحَهُ - عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ، قَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، قَالَ: يَا رَبِّ! وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اُكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ» (٣).
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ: القَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اُكْتُبْ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ» (٤).
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي زُرَارَةَ: وَهَذَا الحَدِيثُ مِنَ الصِّحَاحِ (٥).
وَفِي «تَفْسِيرِ مَكِّيٍّ» (٦) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: خَلَقَ
_________
(١) (المَدِينِيُّ): بِفَتْحِ المِيمِ وَكَسْرِ الدَّالِ؛ نِسْبَةً إِلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ كَمَا فِي «الأَنْسَابِ» (١٢/ ١٥٢ - ١٥٣)، وَ«تَوْضِيحِ المُشْتَبِهِ» (٨/ ١٠٠).
(٢) نَقَلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ المَدِينِيِّ: عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيليُّ فِي «الأَحْكَامِ الوُسْطَى» (٤/ ٣٠٧).
(٣) تَقَدَّمَ تَخْرِيجُهُ (ص١٩).
(٤) لَمْ أَظْفَرْ بِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَلَا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ المَصَادِرِ الحَدِيثِيَّةِ الأُخْرَى، وأَوْرَدَهُ ابْنُ الأَثِيرِ فِي «جَامِعِ الأُصُولِ» (٤/ ١٨) مِنْ زِيَادَاتِ رَزِينٍ العَبْدرِيِّ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي كِتَابِهِ «التَّجْرِيدِ»، قَالَ عَنْهُ الذَّهَبِيُّ فِي «سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ» (٢٠/ ٢٠٥): «أَدْخَلَ كِتَابَهُ زِيَادَاتٍ وَاهِيَةً، لَوْ تَنَزَّهَ عَنْهَا لأَجَادَ».
(٥) العِبَارَةُ - هُنَا - غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ؛ فَلَا يُحْفَظُ مِنَ المُحَدِّثِينَ مَنْ يُعْرَفُ بِهَذَا الاسْمِ، وَإِنَّمَا قَدْ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي الرُّوَاةِ؛ وَيَظْهَرُ أَنَّ سَقْطًا تَخَلَّلَ السِّيَاقَ - وَاللهُ أَعْلَمُ -.
(٦) هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ حَمُّوشٍ الأَنْدَلُسِيُّ القَيْسِيُّ، وَيُعْرَفُ بِمَكِّيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ مُقْرِئٌ وَعَالِمٌ بِالتَّفْسِيرِ وَالعَرَبِيَّةِ؛ لَهُ كُتُبٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا «الهِدَايَةُ إِلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ»، وَهُوَ فِي مَعَانِي القُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ، تُوُفِّيَ سَنَةَ (٤٣٧هـ)، انْظُرِ «الأَعْلَامَ» لِلزِّرِكْلِيِّ (٧/ ٢٨٦).
1 / 27