فمكث عبد الرحمن في المدينة أسبوعا آخر، وفي الأسبوع التالي سمع الناس يتحدثون بقرب مجيء الجند، وخرجت الموسيقى والعساكر لملاقاتهم إلى خارج المدينة، فمكث هو في الخان حتى تحقق عودتهم، فخرج مع خادمه إلى قصر الشيخ ضاهر لعله يلقى صديقه عماد الدين، وهناك لقيه الهجان، فأخبره أن عماد الدين مصاب بجرح ويقيم بمنزله على السور، فقال: «أذهب إليه لعلي أطببه فأكافئه بعض المكافأة على فضله.» وسأل الرجل عن بيته فسار به إلى طابية من الطوابي المبنية على السور، وهناك دخل غرفة شاهد فيها عماد الدين ممددا في الفراش، لكنه ما كاد يراه حتى نهض كأنه لا يشكو ألما وسلم عليه وأجلسه بجانبه، أما علي فبقي خارجا.
ولما استتب بهم المقام سأله عبد الرحمن عن حسن فقال: «لقد مررت بكل السواحل ولم أقف له على خبر، فلعله أبطأ في الطريق. وأنت ماذا فعلت؟» فقص عليه القصة من أولها إلى آخرها.
فقال: «وهل أتيت بتوصية إلى الشيخ ضاهر؟» قال: «نعم، ولكنني لا أزال خائفا منه.»
قال: «وهل تستطيع التطبيب حقا؟» قال: «نعم.» فقال: «إني مصاب بجرح خفيف، ولكنني سأشيع أني تألمت منه كثيرا، وأنك قد شفيتني بمهارتك، وعند ذلك تتقرب من رجال الشيخ ضاهر، وأنا أعلم أن ولده ناصيف مصاب بجرح خفيف أيضا في ساعده، وقد قتل طبيبه هذه المرة، فإذا شفي على يدك نلت حظوة في عينيه وربما عينوك طبيبا للقصر، وعند ذلك تتمكن من استخدام الشيخ ضاهر في البحث عن ولدك.» ثم أفهمه الكثير من عادات ناصيف وطباعه، وأعطاه مقدارا من مرهم البيلسان في قارورة لكي يستعمله في تطبيبه.
وأخذ منذ ذلك الحين يتظاهر بتثاقل المرض عليه، وأشاع في القلعة أنه ظفر اتفاقا بطبيب مغربي أظهر في تطبيبه مهارة كبرى حتى شفي، فذاع ذلك بين الجند والأمراء في القلعة والقصر حتى بلغ الشيخ ضاهر وأولاده، فبعث ناصيف وهو في فراشه إلى عماد الدين، فلما ذهب إليه سأله قائلا: «سمعت بطبيب مغربي قد شفاك من مرضك بعد أن ثقلت وطأته عليك، فهل ذلك صحيح؟»
قال: «نعم يا سيدي.» وأخذ يطنب في مدح مهارة طبيبه وفراسته إلى أن قال: «وهو ليس طبيبا فقط، ولكنه عالم بالفراسة ويعالج الداء بدواء واحد فقط وتظهر النتائج بسرعة.» فطلب منه أن يدعوه إلى مقابلته.
فذهب عماد الدين وأتى بعبد الرحمن بعد أن أخبره بكل شيء، فدخل وحيا، فقال له الشيخ ناصيف: «قد سمعنا بمهارتك في الطب، فجئنا بك لتطبيب جرحنا، فهل أنت واثق بنفسك.» قال: «إن الشفاء من عند الله، وأرى أني بمعونته تعالى أستطيع شفاءك.»
فأعجبه كلامه فقال: «هذا ساعدي وهذا جرحي، فما هو الدواء عندك للجروح؟»
قال: «إن البلسم أحسن الأدوية له، وعندي منه قارورة أحضرتها معي من بلاد الغرب لم أستخدمها في شفاء جرح غير جرح عماد الدين، فإذا أذن لي مولاي طببته بها.» قال: «افعل.»
فنادى عبد الرحمن خادمه عليا فجاءه بالقارورة ففتحها، وأخرج من الجراب ريشة صغيرة من ريش النعام غمسها في المرهم ومسح بها الجرح بعد غسله، ثم لفه بعصابة وقال: «يشفيك الله يا سيدي بإذنه تعالى.» وما زال يتردد عليه حتى شفي تماما وقال له: «إني معجب بك أيها الطبيب، فهل أنت في هذه الديار من قديم؟» فقال: «لم آت إليها إلا حديثا، ولكني طببت كثيرين وشفوا على يدي بإذن الله؛ لأنه هو الشافي، وقد رافقت أمير المراكب الروسية مدة وسرت معه في السنة الماضية من هنا إلى مصر، وقد أعجب بي وأعطاني كتاب توصية للأمير الجليل الشيخ ضاهر.»
Page inconnue