وكان البادري رئيس الدير قد شعر هو ووكيله بالضجة التي حدثت عند باب يعقوب، فأدركا أن الضيفين اللذين هربا إلى خارج السور من الدير وقعا في أيدي الحراس، وفيما هما يتداولان في ذلك، سمعا طرقا على الباب ثم جاءهما البواب وأخبرهما أن أحد الحراس يطلب طبيب الدير لإسعاف رجل وقع على الأرض من فوق السور فانكسرت رجله، فنهض الوكيل ومضى إلى الباب فأطل من الكوة التي فوقه على الحارس المنتظر وسأله متجاهلا: «لمن تريدون طبيب الدير؟»
فقال الحارس: «نريده لإسعاف رجل قبضنا عليه خارج السور بعد أن سقط من فوقه وهو يحاول الخروج من المدينة.»
فأدرك الوكيل أنهم لم يقبضوا إلا على أحد الضيفين، وأراد أن يحتال لإنقاذه، ولإنقاذ الدير في الوقت نفسه من غضب الجزار، فقال للحارس: «إن هذا الخائن الذي قبضتم عليه لا يستحق الشفقة، فهو من خدم الدير الذين نرسلهم لابتياع المؤن من لبنان، وكان الرئيس قد غضب عليه لخيانته وحبسه في غرفة بأعلى الدير، فحاول الفرار من النافذة، لكنه وقع في شر أعماله.»
فجازت حيلة الوكيل على الحارس واعتقد أن المصاب المقبوض عليه من خدم الدير، فقال: «على كل حال، إنه الآن يئن من فرط الألم؛ إذ كسرت ساقه، ولا بأس بأن يسعفه طبيب الدير، ثم نبعث به في الصباح إلى مقر الوالي فيلقى جزاءه كما يريد رئيس الدير.»
فقال الوكيل: «إذا لم يكن بد من تطبيبه، قياما بواجب الإنسانية، فالأفضل أن نعيده إلى الدير، وسأستأذن الرئيس في ذلك، فإذا قبل لحقت بك لإحضار ذلك الخائن المصاب.» ثم أغلق الكوة وعاد إلى رئيس الدير، فأخبره بالحيلة التي عمد إليها؛ إنقاذا لذلك الغريب المسكين؛ ولإبعاد الشبهات عن الدير، فاغتبط الرئيس بذلك وقال: «لقد حاولنا إنقاذه أولا حبا في عمل الخير، ولا شك أن إنقاذه الآن أوجب لأنه جريح.»
وكان الحارس قد عاد إلى زملائه، وأنبأهم بما علمه من أن المصاب كان محبوسا في الدير لخيانة ارتكبها فيه، ثم جاءهم وكيل الدير بعد قليل، وأكد لهم صحة تلك الرواية، ثم طلب منهم معاونته على حمل المصاب وإعادته إلى الدير، فقال الجاويش رئيس الحراس: «لكننا لا بد لنا من تبليغ أمره إلى حضرة الوالي؛ لأننا اعتقلناه خارج السور بعد صدور الأمر بعدم الخروج من المدينة أو دخولها.»
فقال وكيل الدير: «إننا أشد رغبة منكم في الانتقام من هذا الخائن، وسنتولى إبلاغ الأمر إلى الوالي فيما بعد.» وما زال يحاورهم ويموه عليهم حتى أقنعهم بإعادة المصاب إلى الدير، فتعاون بعضهم على حمله، ومضوا به والوكيل معهم حتى أدخلوه الدير وأرقدوه على وسادة في إحدى الغرف ثم انصرفوا.
وخشي وكيل الدير أن يبلغوا الأمر إلى الجزار، فعاد إلى جاويشهم وانتحى به ناحية، ثم شكره على همته ويقظته، ومد إليه يده بصرة من النقود قائلا: «إن رئيس الدير بعث بهذا إليك تقديرا لشهامتك، ويرجو أن تقبله بركة منه.»
فتناول الجاويش الصرة ووجهه يفيض بالغبطة والابتهاج، وصافحه الوكيل مودعا وهو يقول: «وقد طلب مني الرئيس أن أبلغك رجاءه ألا يبلغ أمر ذلك الخادم الخائن إلى جناب الوالي؛ لأنه يرغب في محاكمته بحسب قوانين الدير.»
فقال الجاويش: «حسنا، ليكن جناب الرئيس مطمئنا، فسأحقق طلبه هذا إكراما لإنسانيته.»
Page inconnue