فوافقه عماد الدين على ذلك، ثم انطلقا عائدين إلى الفندق. وفي الطريق تفرج حسن على الغياض المحدقة بالمدينة من الجنوب، وفيها أغراس التين والمشمش واللوز وغيرها، وعلى باب الدركاه، وبرج الكشاف، وباب المصلى المؤدي إلى قصر الحكومة؛ حيث يقيم أحمد بك الجزار. فلما اقتربا من القصر قال عماد الدين: «يحسن أن نعجل بالابتعاد عن هذه المنطقة؛ فإن الجزار قد يأمر بقتلنا لأدنى شبهة تخالجه في أمرنا، وقد أسرف في سفك الدماء حتى صار له من اسمه أكبر نصيب، وتروى عنه في ذلك أحاديث تقشعر لها جلود الأسود، أذكر منها أنه داعب إحدى سراريه مرة بقطع أذنها بخنجره! وما أحسبه إن علم بأني من رجال الشيخ ضاهر إلا معجلا بالفتك بي.»
ثم جدا في السير حتى وصلا إلى الخان ودخلا غرفتهما؛ حيث أخذا يعدان أمتعتهما للرحيل، وبعد أن استراحا قليلا قال عماد الدين: «سأذهب إلى صاحب الفندق لأخبره باعتزامنا السفر، وأستعين به على اكتراء جملين نركبهما إلى عكا.»
فقال حسن: «حسنا تفعل، وأسأل الله التوفيق.»
وطال انتظار حسن رجوع عماد الدين من هذه المهمة، فقلق وغادر الغرفة قاصدا إلى غرفة صاحب الفندق ليبحث عن عماد الدين هناك، فوجدهما جالسين على دكة فيها يتهامسان، وما وقع نظر عماد الدين عليه حتى ناداه وأشركه معهما في الحديث، فإذا بصاحب الفندق يقول: «ما أظن أن الخروج من المدينة ممكن في هذه الأيام، فالأحوال مضطربة، والأمير يوسف في طريقه إلينا على رأس حملة قوية من جنوده لتأديب أحمد بك الجزار، وقد أمر هذا بإغلاق أبواب المدينة ومنع الدخول إليها والخروج منها.»
فبغت حسن، وانقبضت نفسه، وبدت على محياه علائم التذمر والاستياء، فقال له صاحب الفندق: «لا تتذمر يا بني، واحمد الله على أنكما لم تحاولا الخروج من المدينة قبل علمكما بهذا النبأ الخطير.» ثم ناوله غليونه وفيه تبغ مشتعل، وقال له: «إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وهذه الدنيا لا يدوم فيها حال، وقد مضى علي أربعون سنة أعمل في هذا الفندق، ومر علي كثير من الأهوال التي يشيب لها الولدان، فكم غزا اللبنانيون وأهل البلاد المجاورة هذه المدينة من البر! وكم سطا عليها القرصان والجنود الأجانب من البحر! وما أكثر الحكام الذين استبدوا في حكم أهلها من مسلمين ونصارى! وقد تولى حكمها مرة رجل نصراني يقال له «أبو عسكر الجبيلي»، فعاث فيها الفساد وأسرف في القتل والتعذيب والإرهاب، وغره شيطان الظلم والقوة، فظن أن لن يقدر عليه أحد، وأمعن في طغيانه وتجبره، فقاسينا منه الأمرين، وأصابني من اضطهاده وعنته بلاء كثير، ثم ذهب كما ذهب قبله وبعده كثيرون من أمثاله، وسبحان من له الدوام!»
فقال حسن: «وما ظنك بمسألة الجزار هذه؟ هل يطول أمرها؟»
قال: «إن نبأ قدوم الأمير يوسف وجيشه لم يصل إلى المدينة إلا منذ ساعات، وقد علمت به قبل أن يعلم به الجزار نفسه؛ إذ سمعته من الرسول الذي حمله عند مروره بالفندق في طريقه إلى قصر الحكومة، وعما قريب نرى ما يكون من شأن الفريقين.» •••
في صباح اليوم التالي، استيقظ حسن وعماد الدين على ضجة كبيرة في الفندق وخارجه، فنهضا مذعورين وهما يحسبان أن الحرب نشبت بين الأمير يوسف والجزار، ولكنهما ما لبثا قليلا حتى تبينا من أصوات المنادين في الطرقات أن الأمر انتهى بالمصالحة، وأن الجزار خارج في موكبه لمقابلة الأمير يوسف في السهل الرملي المعروف باسم «المصطبة» وكتابة عهد الصلح، فقال حسن: «الحمد لله الذي كشف عنا الضر.» ثم التفت إلى عماد الدين وقال: «ألا ترى أن نخرج لمشاهدة مجلس الصلح؟»
فقال عماد الدين: «إنني طوع إرادتك، ولكننا تأخرنا عن الوصول إلى عكا كثيرا، فلنذهب إلى صاحب الفندق لعله يستطيع أن يكتري لنا جوادين نركبهما في رحلتنا، ثم نعجل بالرحيل، فأبوك لا بد قد سئم طول الانتظار في عكا، كما أني لا آمن أن يغضب علي الشيخ ضاهر.»
فقال حسن: «لقد نطقت الصواب، فهيا بنا إلى صاحب الفندق.»
Page inconnue