وكان من في المنزل قد رأوا ما رآه فأخذهم ما أخذه من الخوف وتوقع الشر واجتمعوا حوله خافقة قلوبهم معقودة ألسنتهم، حتى سالمة زوجته إذ تحول صراخها إلى أنين خافت مكبوت.
ومضت لحظة رهيبة علت بعدها ضجة المزدحمين بباب المنزل، واشتدت الطرقات عليه، وصحب ذلك صوت معالجة فتح الباب بالعنف، فرفع السيد عبد الرحمن رأسه وأشار إلى بعض الخدم الملتفين حوله أن ينزلوا لفتح الباب وإدخال العساكر القادمين قاعة الاستقبال (المنظرة) في الطابق الأرضي لتقديم القهوة لهم وسؤالهم عما يريدون. ففعلوا ما أشار به.
وبعد قليل صعد إليه أحد أولئك الخدم وقد ازداد وجهه صفرة، وأنبأه بلسان متلعثم أن القادمين هم رجال الشرطة المنوط بهم حفظ الأمن والنظام بالمنطقة، وأنهم قبضوا على كثير من سكان الحارة وغيرهم للتحقيق معهم في أمر مصرع بواب الحارة، ويريدون أن يخرج معهم لسماع أقواله أمام الوالي (رئيس الشرطة) في القلعة.
ولا تسل عن فزع السيد عبد الرحمن بعد أن سمع هذا الكلام، على أنه خشي أن يكون في تأخره عن النزول إليهم والخروج معهم إلى القلعة ما لا تحمد عقباه، فتحامل على نفسه وودع أهل منزله ثم تزود بقدر كبير من الدراهم لعله يحتاج إليها في الطريق. وهبط من دار الحريم إلى المنظرة فحيا العساكر في أدب واحترام وقدم لهم نفسه، فسرعان ما أوثقوه ثم خرجوا به مع المقبوض عليهم الآخرين آخذين طريقهم إلى القلعة. •••
وصل السيد عبد الرحمن إلى القلعة وقد أنهكه التعب والحزن وما قاساه من إهانات العساكر في الطريق. وهناك أوقفوه مع بقية المتهمين أمام رئيس الشرطة، فأخذ يهددهم بالقتل ويسمعهم أفحش السباب، وكلما تراموا على قدميه مؤكدين براءتهم مما اتهموا به، لج في طغيانه وأصم أذنيه عن سماع توسلاتهم.
وأخيرا، أمر العساكر بأن يزجوا بهم في السجن ريثما ينظر في أمرهم، فهم هؤلاء بتنفيذ الأمر، وهمس جاويش منهم قائلا للمتهمين الموثقين: «إن جناب الوالي (رئيس الشرطة) لا يبالي تظلمكم، ولا تهمه دعواتكم له بطول العمر والسلامة، ولكن إذا دفع كل منكم نصف كيس مساهمة في دية القتيل، فقد يقبل إعادة النظر في أمركم ويعفو عنكم!»
فاستبشر السيد عبد الرحمن وقال في نفسه: «هذا طلب هين يسير.» ثم دفع للجاويش نصف كيس للوالي ونصف كيس له. واقتدى به من استطاع الدفع من المتهمين، فأخذ الجاويش ما دفعوه من المال وعاد إلى الوالي فتحدث معه هنيهة، ثم جاءهم يقول: «قد عفا جناب الوالي عنكم.» فصاحوا جميعا شاكرين داعين.
وحسب المتهمون - وفي مقدمتهم السيد عبد الرحمن - أن المسألة انتهت عند هذا الحد. ولكن العساكر ما لبثوا أن ساقوهم في قيودهم وأغلالهم إلى مقر الأغا (محافظ المدينة) في القلعة بحجة إتمام التحقيق!
وكان هذا الأغا إنكشاريا طويل القامة هائل الحجم، على رأسه عمامة بيضاء هرمية الشكل، وعلى كتفيه العريضتين فرو سمور، وهو كث اللحية عريضها، تدل نظراته الشزراء على أنه فظ غليظ القلب . فلما دخلوا عليه أمر بجلدهم قبل أن يسمع أي شيء عن أمرهم. فأخذوا يتضرعون إليه ويستعطفونه مترامين على قدميه يحاولون تقبيلهما، فركلهم وقال لهم محتدا: «إما أن تذكروا من القاتل وإما كنتم القاتلين وحق عليكم أشد العقاب!»
وبعد اللتيا والتي، كتب الله لهم الخلاص من شر الأغا. بعد أن جمعوا من بينهم ما تيسر من المال ودفعوه له ولمعاونيه، فأمر بحل وثاقهم وإطلاق سراحهم، فخرجوا من عنده وهم لا يكادون يصدقون أنهم نجوا.
Page inconnue