الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير
Maison d'édition
مكتبة السنة
Numéro d'édition
الرابعة
Genres
مقدمات:
شعار الكتاب وشيء من مزايا هذه الطبعة الخامسة:
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقا﴾ . "قرآن كريم"
عن ابن عباس قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله ﷺ أحدث، تقرؤنه محضا لم يشب؟ ١ [وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب. وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم"] ١.
_________
١ من الزيادات الكثيرة والمهمة التي تركها المؤلف ﵀ في ثنايا نسخته الخاصة والتي قدمها لنا ولده: الدكتور عمر بن محمد أبو شهبة- حفظه الله ووفقه، وتجدها في طبعتنا هذه بين قوسين [-] وانظر على سبيل المثال صفحة ٥، ١٥، ٢٢، ٢٦، ٢٧، ٢٨، ٣٧، ٤٠، ٤٦، ٤٩ وغيرها وهذه إحدى مزايا طبعتنا هذه فضلا عن التصويبات الكثيرة وغيرها مما سيراه القارئ إن شاء الله. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصاحات.
"الناشر".
1 / 3
مقدمة الكتاب لفضيلة الدكتور محمد محمد أبو شهبة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب لفضيلة الدكتور محمد محمد أبو شبهة
الحمد لله الذي أنزل على عبده محمد الكتاب، ولم يجعل له عوجا، قيِّما، لا تزيع به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يتطرق إليه تحريف ولا تبديل، ولا يميل به عن الجادة الباطل: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ ١.
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا. محمد، المؤيد بالقرآن معجزة عظمى، وآية باقية على وجه الدهر، ووكل إليه بينه وتفسيره فقال سبحانه: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ ٢.
وعلى آله وأصحابه، والمهتدين بهديه، ما بقي مسلم على وجه الأرض.
أما بعد:
فقد رغب إلي فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ: عبد الحليم محمود، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية بالجامع الأزهر المعمور بالعلم والعلماء، أن أولف كتابا أبين فيه الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفاسير، مع تزييفها وبيان بطلانها، وقد صادف هذا البحث المفيد هوىً في نفسي؛
١- لأني أعلم شدة حاجة المسلمين إلى مثل هذا المؤلف الذي يذب عن كتاب الله تعالى ما علق بتفسيره من الأباطيل والخرافات والأكاذيب التي كادت تطغى على التفسير الصحيح لكتاب الله تعالى وتخفى الكثير من جلاله، وجماله، وهدايته التي هي أقوم الهدايات: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ ٣، وعقائده التي هي أسمى العقائد وأحقها بالقبول، وأليقها بالفطر البشرية، وأقربها إلى العقول، وأمسها
_________
١ سورة فصلت: آية ٤١، ٤٢.
٢ سورة النحل: آية ٤٤.
٣ الإسراء: آية رقم ٩.
1 / 4
بالقلوب، وتظهر الإسلام أمام الباحثين، ولا سيما في العصر الأخير: عصر تقدم العلوم الكونية، والمعارف البشرية، بمظهر الدين الذي يشتمل على الخرافات والترهات؛ لأن كتابه الأكبر هو: القرآن الكريم، وهذه هي: تفاسيره، فيها كثير مما يخالف حقائق العلم، وسنن الله الكونية!! ومؤلفوها هم من علماء الإسلام، بل ومن كبارهم، فهي صورة للإسلام، ولتفكير المسلمين، وذلك مثل: ما روي في بدء الخليقة، وأسرار الوجود، وتعليل بعض الظواهر الكونية، مثل: الرعد، والبرق، والخسوف، والكسوف، وبرودة مياه الآبار في الصيف، وحرارتها في الشتاء، ومثل: ما روي في تفسير: ﴿ق﴾ وأنه الجبل المحيط بالأرض وتفسير قوله تعالى: ﴿ن﴾ وأنه الحوت الذي على ظهره الأرض، وما روي في قصص الأنبياء والمرسلين من إسرائيليات باطلة لا تليق بمقام الأنبياء، وعصمتم إلى نحو ذلك، وما أكثره في كتب التفاسير.
وطالما رغب إلي الكثيرون في تأليف كتاب يحق الحق، ويبطل الباطل، ويزيح عن تفسير كتاب الله تعالى هذا الركام من الموضوعات والإسرائيليات والأباطيل، ولأني عنيت من عهد طلب العلم بتتبع الدخيل في كتب التفسير ونحوها، والرد عليها، فقد كانت ولا زالت مثار شبه، وتشكيك، واعتراضات، وتجنيات على الإسلام، والقرآن، والنبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد حمل كبر هذا الإثم [القساوسة] والمستشرقون، فقد وجدوا في هذه الإسرائيليات والمختلقات ما يشبع هواهم، ويرضي تعصبهم الممقوت، ويشفي نفوسهم المريضة الحاقدة على الإسلام ونبيه، والقرآن؛ هذا الحقد والضغن الذي يعتبر امتدادا للحروب الصليبية التي شنوها على الإسلام والمسلمين، والتي لا تزال إلى عصرنا هذا تتخذ أشكالا شتَّى، ومظاهر متعددة.
والعجب من هؤلاء المبشرين، والمستشرقين: أنهم في سبيل إرضاء صليبيتهم الموروثة، والتي رضعوها في لبان أمهاتهم، يصححون الموضوع والمختلق المنحول، على حين نراهم يحكمون بوضع كثير من الأحاديث الصحيحة، حتى ولو كانت في الصحيحين اللذين هما أصح الكتب البشرية على الإطلاق وذلك مثل: ما روي زورا وكذبا في قصة زواج النبي ﷺ بالسيدة زينب بنت جحش، وما روي في: قصة الغرانيق، مما هو
1 / 5
من صنع زنادقة اليهود والفرس، وأضرابهم، ونحو ذلك مما طبل له المستشرقون والمبشرون، وزمروا، وزادوا فيه، وأعادوا.
ومما يؤسف له غاية الأسف أن بعض المتعلمنين والمثقفين الذين تثقفوا بثقافة غير إسلامية، ولا سيما من صنعتهم أوروبا على عينيها، وربتهم على يديها، ويتسمون بأسماء المسلمين، قد تابعوا سادتهم المستشرقين فيما زعموا وصاروا أبواقا لهم، يرددون ما يقوله هؤلاء؛ لأنهم ينظرون إليهم على أنهم قمم في العلم والمعرفة، والشأن في المغلوب كما قال واضع أساس علم الاجتماع: العلامة ابن خلدون أن يقلد الغالب وتنماع شخصيته في شخصيته، وبذلك ساعدوا على نفث هذه السموم بين المتعلمين من شباب المسلمين!!
ولقد كان ضرر هؤلاء أشد من ضرر سادتهم المبشرين والمستشرقين؛ لأن القارئ المسلم حَذِر ولو بعض الحذر مما يقول هؤلاء أو لا يركن إليهم الركون كله، أما الكاتب المسلم: فالأمنة من جانبه أكثر، والاغترار بما يقوله أكبر.
وقد كانت المدة المحددة لهذا المؤلف ثلاثة أشهر، ولكني اشترطت ستة أشهر، وقبل الأمين العام للمجمع، ولكن ماذا تكفي ستة أشهر؟! وأنا أتولى عمادة كلية أصول الدين بجامعة الأزهر فرع أسيوط وإن شئت الحقيقة، فأنا أقوم بتأسيس فرع للجامعة بعاصمة الصعيد أسيوط.
وأقوم ببعض المحاضرات في الكلية وخارجها، وفي بعض الشهور كرمضان، والمحرم، وربيع الأول، قد تستوعب المحاضرات العامة الشهر كله، وهو جهد ينوء به الشاب، فضلا عن الشيخ المثقل بشتى المسئوليات والأعباء!! فلا عجب إذا كانت الأشهر الستة قد تضاعفت. ولما تولى فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ: محمد عبد الرحمن بيصار أمانة المجمع، بعد أن تولى سلفه الجليل وكالة الأزهر، كرر الرغبة في إنجاز هذا الكتاب النافع المفيد، لذلك لم يكن لي بد من أن أضاعف الجهد، وأتابع السهر، وأواصل البحث حتى أفرغ من هذا المؤلف الذي أعتقد أنه من أوجب الواجبات على علماء المسلمين، حتى أفي بما وعدت.
وهذا الموضوع١ ليس بالأمر الهين الذي يقوم به فرد واحد ولكنه يحتاج إلى جهود.
_________
١ هذه كلمة حق لا مرية فيها فإذا كان المشرفون جادين، فليعدوا العدة لهذا العمل كاملة: من مراجع وموظفين ... إلخ.
1 / 6
متعاونة متضافرة من جماعة متخصصين في الأصلين الشريفين: القرآن والسنة، وعلومهما وغيرهما من العلوم الإسلامية، ولهم إلمام وعلم بالتقدم العلمى في الطب، والفلك وعلم سنن الله الكونية، وعلم الاجتماع البشرى، وعلم النفس وعلم الأجناس ونحوها، حتى يؤيدوا بطلان الإسرائيليات، وتهافتها بما جد من نظريات علمية مستقرة، وبذلك يتم لهم نقدها نقدا خارجيا: نقد السند، ونقدا داخليا: نقد المتن، من جهة النقل والعقل والعلم، ويكونون قد أضافوا إلى ما ذكره الأقدمون في نقدها جديدا من النقد، وجديدا من العلم.
ولكن لو أننا انتظرنا حتى تكون هذه الجماعة، وتبدأ في العمل لمضت السنون، ولم ننجز عملا، بل قد لا تتفق الجماعة على رأي في كثير من الإسرائيليات، والموضوعات؛ إذ التكوين الثقافي ليس واحدًا، والأنظار ليست واحدة، وهذه طبيعة البشر. والنقاد في كل عصر، منهم المتشدد، ومنهم المتساهل، ومنهم المتوسط المعتدل، لذلك رأيت ألا أحجم عن الكتابة في هذا الموضوع الضخم الخطير الجليل، وأن أؤدي عن علماء المسلمين فرضا مفروضا في هذا المضمار واستعنت بالله تعالى، وسألته التوفيق، والسداد، والرشاد.
وهأنذا أفي بما وعدت، وأقدم ما أنجزت، فإن كان ما وصلت إليه صوابا فمن الله ﵎، وإن كان خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وبحسبي أن اجتهدت، وبذلت غاية الوسع في الاجتهاد فلن أخلو من الأجر، وصدق المبلغ عن رب العالمين ﷺ حيث يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" رواه البخاري ومسلم.
وقد كان اقتراح عنوان الكتاب أن يكون: الإسرائيليات في كتب التفسير"، ولكني رأيت أن أضم إلى الإسرائيليات الموضوعات أيضا في كتب التفسير؛ فإن فيها موضوعات ذات خطر على الإسلام والنبي، وذلك مثل: ما وضعه الزنادقة وأعداء الإسلام من يهود، ومجوس، ونصارى، وغيرهم، من قصص وروايات تقدح في عصمة النبي، وتظهر الإسلام بمظهر الدين الساذج الذي يشتمل على الخرافات.
ومنها: ما كان من أثر الخلافات السياسية، والدينية، والمذهبية ومنها ما وضعه قوم زعموا وبئس ما زعموا أنهم يخدمون الإسلام، ويرغبون فيه وذلك مثل: الأحاديث التي وضعت في فضائل القرآن وفي فضائل السور، وفي فضائل الأشخاص
1 / 7
والأزمنة، والأمكنة، فقد استباح بعض الزهاد وبعض المتصوفة الوضع في باب الترغيب والترهيب وزعموا جهلا وزورا أن ذلك حسبة إلى الله، ومن المؤسف أن بعض أهل العلم لا يزالون يرددون أمثال هذه المرويات، ويستولون بسببها على قلوب العامة والسذج، مع أنها قد نص على وضعها واختلاقها كثير من الحفاظ، وأئمة النقد.
وبهذا وذلك: يكون الكتاب فائدته أعظم، وثمرته أعم وأشمل، ولا يفوتني في هذا المقام: أن أنوه بما قام به بعض زملائنا من جهاد مذكور مشكور في هذا الباب، وهو أخونا الأستاذ الدكتور الشيخ محمد حسين المذهبي الأستاذ بكلية أصول الدين، في كتابه "التفسير والمفسرون"، وفي الكتيب القيم الذي نشره له مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف.
ماذا يمكن في هذا الموضوع:
وآراء الناس وأفكارهم متباينة في معالجة هذا الموضوع الخطير؟:
١- فمنهم من يرى الاستغناء عن كتب التفسير التي اشتملت على الموضوعات والإسرائليات التي جنت على الإسلام والمسلمين وجرت عليهم كل هذه الطعون والهجمات من أعداء الإسلام، وذلك بإبادتها أو حرقها، حتى يحال بين الناس، وبين قراءتها، والاكتفاء بالكتب الخالية أو المقلة منها، وتأليف تفاسير أخرى خالية من هذه الشوائب والمناكير وهو رأي فيه إسراف وغلو؛ إذ ليس من شك في أن هذه الكتب فيها بجانب الإسرائيليات علم كثير، وثقافة إسلامية أصيلة، وأن ما فيها من خير وحق أكثر مما فيها من شر وباطل، فهل لأجل القضاء على الشر نقضي على الخير، ولأجل الإجهاز على الباطل نجهز على الحق أيضا؟ أعتقد أن هذا لا يجوز عقلا، ولا شرعا.
ثم إن هذا الرأي غير ممكن تنفيذه عمليا، فنحن إذا أعدمنا ما يوجد من هذه التفاسير في المكاتب العامة، فكيف يمكن ذلك في المكاتب الخاصة؟! ومن أصحابها من يضن بها ضنه بنفسه، وليس من حق أحد أن يغتصب مال غيره، ويعدمه تعللا بهذه العلة.
الحق: أن هذا رأي فيه إسراف وغلو، وغير ممكن تنفيذه عمليا وفي الحق: أن هذه الكتب التي اشتملت على الموضوعات والإسرائليات لو وجد في عصر طبعها من تنبه لما فيها، وكان من أهل التمييز بين الصحيح والضعيف، وما هو من قبيل الإسرائيليات، وما ليس منها علق على هذه الكتب عند طبعها، لوقانا شر هذه الإسرائيليات
1 / 8
والأكاذيب، ولما تسممت بها العقول والأفكار، ولكفانا ما نقوم به اليوم، ولكن "لو" لا تجدي الآن.
٢- وهناك فريق آخر يرى أن نجمع ما طبع من هذه الكتب ونخفيها عن أعين الناس، ثم نعيد طبعها بعد تنقيتها من الإسرائيليات والموضوعات، ولكن أية قوة في العالم الإسلامي يمكنها أن تفعل هذه؟! ثم هو إن أمكن في المكاتب العامة، فكيف يمكن في المكاتب الخاصة المخفية في بيوت أصحابها؟ الحق أن هذا الرأي وإن كان أقل إسرافًا وغلوًّا من الرأي الأول، فهو غير ممكن أيضا من الناحية العلمية.
وأيضا: فهذه الإسرائيليات والموضوعات، وإن لم تكن لها قيمتها الدينية والتشريعية في نسبتها إلى النبي ﷺ أو إلى الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنها مختلقة عليهم، منتحلة، لكن لها في نظر بعض الباحثين والمؤلفين في الحياة العقلية في الإسلام قيمتها العلمية، فهي تدل على ثقافة العصر، وأفكار أهله، وتلاقح الثقافات وتأثير بعضها في بعض؛ لأن الذي وضعها ونسبها لهؤلاء لم يكن خارجا عن البيئة، ولا منعزلا عن روح العصر، وإنما كان مؤثرا ومتأثرا، وهذا الرأي قد ردده بعض الباحثين في كتبه١، ولكني لست منه على ثلج٢، ولا على اتفاق مع قائله؛ لأنها سممت الأفكار، وتجنت على التفسير والحديث، وكان لها آثارها السيئة في كتب العلوم الإسلامية، فضررها أعظم بكثير من نفعها المزعوم.
٣- فلم يبقَ إلا الطريق الثالث: وهو رأي القائلين بالتنصيص على هذه الإسرائيليات والموضوعات وردها من جهة العقل والنقل وبيان أنها دخيلة على الإسلام، ومدسوسة على الرواية الإسلامية وبيان من أين دخلت عليه، وذلك بتأليف كتاب، أو كتب في هذا ونشرها نشرا موسعا، بحيث يستفيد منها كل مثقف، وكل متعلم، بل وكل من يحسن القراءة، وبذلك نقضي على ما في بعض كتب التفسير من شرور الإسرائيليات وسمومها التي أفسدت عقول كثير من الناس، ولا سيما العامة، وصاروا يتناقلونها على أن لها أصلا في الرواية الإسلامية، وما هي منها في شيء.
_________
١ هو الأستاذ أحمد أمين ﵀ في كتابيه: "فجر الإسلام ص ٢٥١و "ضحى الإسلام" ج٢. ص١٤٣.
٢ على ثلج أي على اطمئنان. نهاية.
1 / 9
منهجي في هذا الكتاب:
أما منهجي في هذا الكتاب: فسأقدم للبحث الأصلي بمقدمات أبين فيما معنى التفسير والتأويل ومعنى الإسرائيليات، وما المراد بالموضوعات؟ وما المنهج الذي يجب أن يتبع في تفسير القرآن، والكلام عن التفسير بالمأثور، وأقسامه، والتفسير بالرأي والاجتهاد المقبول منه والمردود ودخول الوضع والإسرائيليات في التفسير بالمأثور، وأسباب ذلك وما وجه إلى هذا النوع من التفسير من نقد، والآثار السيئة التي خلفتها هذه الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير وغيرها.
ثم أعرض لما قام به حفاظ الحديث، وأئمة النقد، والتعديل والتجريح من جهاد مشكور في التنبيه إلى الموضوعات والإسرائيليات في كتب التفسير، ثم أعرض لأشهر كتب التفسير بالمأثور، مبينا بإيجاز قيمة كل كتاب من جهة الرواية، ولأشهر كتب التفسير بالرأي المقبول، من حيث اشتمالها على الموضوعات والإسرائيليات قلة أو كثرة، أو عدم اشتمالها من غير تعرض لما فيها من جوانب كمال أو جوانب نقص أخرى، فليس ذلك من غرضي، ولا مما يتصل بالغرض الذي وضع له الكتاب، إلى غير ذلك مما عرضت له.
وهذه المقدمات أو التمهيدات على طولها لا بد منها، حتى يكون القارئ لهذا الكتاب على بينة من أمر هذه المباحث، التي ستسلمه إلى المقصد الأصلي من الكتاب في غير اقتضاب.
ثم بعد ذلك آخذ فيما قصدت، وهو: الإبانة عن الإسرائيليات والكشف عن الموضوعات في كتب التفسير، سواء منها ما اختص بالتفسير بالمأثور، أو ما جمع فيها بين المأثور وغيره، أو ما غلب عليها التفسير بالرأي والاجتهاد، ومما ينبغي أن يعلم، أن هذه الكتب الأخيرة لا تخلو من التفسير بالمأثور قط، ولا يمكن أن تخلو منه.
وليس من غرضي في هذه الدراسة وهذا البحث أن أتناول الكتب كتابا كتابا، فهذا أمر يطول، ويلزم منه التكرار، أو الإحالة على ما فات.
ولكني سأعرض لهذه الإسرائيليات والموضوعات، وأردها من جهة العقل والنقل.
1 / 10
متأسيا في ذلك بأقوال جهابذة العلماء من حفاظ الحديث، وأئمة النقد الذين إليهم المرجع في التصحيح والتضعيف والتمييز بين الغث والسمين، والمقبول والمردود، وجمعوا بين المعقول والمنقول، وكذلك غيرهم ممن ليسوا من حفاظ الحديث، ولكنهم تناولوا إبطال بعض هذه الإسرائيليات، والموضوعات، من جهة العقل والنظر، وأزيد على ما ذكروه ما استفدناه من العلوم الحديثة، وما استجد من نظريات علمية مستقرة لم تكن معروفة في عصورهم وما منَّ الله به على من دراساتي القرآنية، والحديثية، ثم أنبه على مواضعها وأماكنها في كتب التفسير التي ذكرتها، من غير رد لها ونص على بطلانها وتهافتها، أو التحذير منها، حتى يكون القارئ لهذه التفاسير على بينة من حقيقة هذه المرويات، وعلى حذر من الاغترار بها وتصديقها.
والله أسأل أن يلهمني الصواب والرشد، وأن يمدني بروح من عنده إنه سميع مجيب.
كتبه
أبو السادات
محمد بن محمد أبو شهبة
من علماء الأزهر الشريف.
والمتخصص في الأصلين الشريفين:
القرآن والسنة
المحرم ١٣٩١هـ
مارس ١٩٧١م.
1 / 11
معنى إسرائيليات وموضوعات وتفسير
الإسرائيليات
...
معنى: إسرائيليات، وموضوعات، وتفسير
يقتضينا منهج البحث التحليلي أن نبين معنى كلمة: "إسرائيليات" والمراد من "الموضوعات" و"التفسير" والتأويل، حتى يكون القارئ على علم بها نقول:
أ- الإسرائيليات:
جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، والنسبة في مثل هذا تكون لعجُز المركب الإضافي لا لصدره، وإسرئيل هو: يعقوب ﵇ أي عبد الله وبنو إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسلوا منهم فيما بعد، إلى عهد موسى ومن جاء بعده من الأنبياء، حتى عهد عيسى ﵇ وحتى عهد نبينا محمد ﷺ
وقد عرفوا "باليهود" أو بـ "يهود" من قديم الزمان، أما من آمنوا بعيسى: فقد أصبحوا يطلق عليهم اسم "النصاري" وأما من آمن بخاتم الأنبياء: فقد أصبح في عداد المسلمين، ويعرفون بمسلمي أهل الكتاب"١
وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي الصالح، حتى يتأسوا به، ويتخلقوا بأخلاقه، ويتركوا ما كانوا عليه من نكران نعم الله عليهم وعلى آبائهم وما كانوا يتصفون به من الجحود، والغدر، واللؤم، والخيانة وكذلك ذكرهم الله سبحانه باسم اليهود في غير ما آية، وأشهر كتب اليهود هي: التوراة، وقد ذكرها الله في قوله تعالى: ﴿الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ
_________
١ أهل الكتاب يطلَقون على اليهود والنصارى، ولكنهم في مثل هذا يراد بهم اليهود غالبا؛ لأنهم الذين كانوا يسكنون بالمدينة وما جاورها.
ولأن الكثرة الكاثرة من الإسرائيليات دخلت عن طريق اليهود.
1 / 12
الْفُرْقَان﴾ ١. وقال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا﴾ ٢ والمراد بها التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف والتبديل، أما التوراة المحرفة المبدلة، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية، وكونها نورا، ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم، الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل.
ومن كتبهم أيضا: الزبور وهو كتاب داود ﵇، وأسفار الأنبياء، الذين جاءوا بعد موسى عليه وعليهم السلام، وتسمى التوراة وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها "بالعهد القديم".
وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود، وهي التوراة الشفهية، وهو مجموعة قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية، ومدنية وشروح، وتفاسير، وتعاليم، وروايات كانت تتناقل وتدرس شفهيا من حين إلى آخر ... وقد اتسع نطاق الدرس والتعليم فيه إلى درجة عظيمة جدا، حتى صار من الصعب حفظه في الذاكرة، ولأجل دوام المطالعة، والمداولة، وحفظا للأقوال والنصوص، والآراء الأصلية المتعددة والترتيبات، والعادات الحديثة، وخوفا من نسيانها وفقدانها مع مرور الزمن، وخصوصا وقت الاضطهادات، والاضطرابات، قد دونها الحاخامون بالكتابة سياجا للتوراة، وقُبِلَت كسنة من سيدنا موسى عليه السلام٣.
ومن التوراة وشروحها، والأسفار وما اشتملت عليه، والتلمود وشروحة، والأساطير والخرافات، والأباطيل التي افتروها، أو تناقلوها عن غيرهم: كانت معارف اليهود وثقافتهم، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب التفسير، والتاريخ والقصص والمواعظ، وهذه المنابع إن كان فيها حق، ففيها باطل كثير، وإن كان فيها صدق، ففيها كذب صراح، وإن كان فيها سمين، ففيها غث كثير، فمن ثم انجر ذلك إلى الإسرائيليات، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات، فيجعلها شاملة لما
_________
١ آل عمران: ١- ٤.
٢ المائدة: ٤٤.
٣ من التلمود: ص٧، ٨.
1 / 13
كان من معارف اليهود، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل وشروحها، والرسل وسيرهم ونحو ذلك؛ وإنما سميت إسرائيليات لأن الغالب والكثير منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل، أو من كتبهم ومعارفهم، أو من أساطيرهم وأباطيلهم١.
والحق: أن ما في كتب التفسير من المسيحيات أو من النصرانيات هو شيء قليل بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات، ولا يكاد يذكر بجانبها، وليس لها من الآثار السيئة ما للإسرائيليات؛ إذ معظمها في الأخلاق، والمواعظ، وتهذيب النفوس، وترقيق القلوب، وأما:
_________
١ التفسير والمفسرون ج ١ ص ١٦٥.
ب- الموضوعات: فهي جمع موضوع، اسم مفعول، وهو في اللغة مأخوذ من وضع الشيء يضعه وضعا، إذا حطه وأسقطه. أو من وضعت المرأة ولدها إذا ولدته١، وأما في اصطلاح أئمة الحديث فالموضوع: هو الحديث المختلق٢ المصنوع، المكذوب على رسول الله ﷺ أو على من بعده من الصحابة والتابعين، ولكنه إذا أطلق ينصرف إلى الموضوع على النبي ﷺ؛ أما الموضوع على غيره فيقيد، فيقال مثلا: موضوع على ابن عباس، أو على مجاهد مثلا، والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة، أما على المعنى اللغوي الأول: فلأنه منحط ساقط عن الاعتبار، وأما على الثاني: فلما فيه من معنى التوليد، والتسبب في الوجود؛ والموضوع من حيث مادته ونصه نوعان: ١- أن يضع الواضع كلاما من عند نفسه، ثم ينسبه إلى النبي ﷺ أو إلى الصحابي، أو التابعي. ٢- أن يأخذ الواضع كلاما لبعض الصحابة أو التابعين، أو الحكماء، والصوفية، أو ما يروى في الإسرائيليات، فينسبه إلى رسول الله؛ ليروج وينال القبول، مثال ما هو من قول الصحابة: ما يروى من حديث: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون _________ ١ انظر القاموس والمصباح المنير مادة "وضع". ٢ الاختلاق أعم من أن يكون ابتدع كلاما لم يسبق إليه. أو أخذ كلام الغير، ثم نسبه إلى النبي، فيكون الاختلاق في نسبته إليه.
ب- الموضوعات: فهي جمع موضوع، اسم مفعول، وهو في اللغة مأخوذ من وضع الشيء يضعه وضعا، إذا حطه وأسقطه. أو من وضعت المرأة ولدها إذا ولدته١، وأما في اصطلاح أئمة الحديث فالموضوع: هو الحديث المختلق٢ المصنوع، المكذوب على رسول الله ﷺ أو على من بعده من الصحابة والتابعين، ولكنه إذا أطلق ينصرف إلى الموضوع على النبي ﷺ؛ أما الموضوع على غيره فيقيد، فيقال مثلا: موضوع على ابن عباس، أو على مجاهد مثلا، والمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة، أما على المعنى اللغوي الأول: فلأنه منحط ساقط عن الاعتبار، وأما على الثاني: فلما فيه من معنى التوليد، والتسبب في الوجود؛ والموضوع من حيث مادته ونصه نوعان: ١- أن يضع الواضع كلاما من عند نفسه، ثم ينسبه إلى النبي ﷺ أو إلى الصحابي، أو التابعي. ٢- أن يأخذ الواضع كلاما لبعض الصحابة أو التابعين، أو الحكماء، والصوفية، أو ما يروى في الإسرائيليات، فينسبه إلى رسول الله؛ ليروج وينال القبول، مثال ما هو من قول الصحابة: ما يروى من حديث: "أحبب حبيبك هونا ما، عسى أن يكون _________ ١ انظر القاموس والمصباح المنير مادة "وضع". ٢ الاختلاق أعم من أن يكون ابتدع كلاما لم يسبق إليه. أو أخذ كلام الغير، ثم نسبه إلى النبي، فيكون الاختلاق في نسبته إليه.
1 / 14
بغيضك يوما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما"، فالصحيح أنه من قول سيدنا علي كرم الله وجهه، ومثال ما هو من قول التابعين: حديث: "كأنك بالدنيا لم تكن، وبالآخرة لم تزل...." فهو من كلام عمر بن عبد العزيز ﵁، ومثال ما هو من كلام الحكماء "المعدة بيت الداء، والحمية رأس كل دواء"، فمن قول الحارث بن كلدة طبيب العرب.
[ومثال ما هو من كلام المتصوفة ما يروى: "كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق، فعرفتهم بي، فعرفوني"]
ومثال ما هو من الإسرائيليات: "ما وسعني سمائي ولا أرضى ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن". قال الإمام ابن تيمية: هو من الإسرائيليات، وليس له أصل معروف عن النبي ﷺ.
[ومثل ذلك ما روي عن ابن عباس من أن: "عمر الدنيا سبع آلاف سنة" فهو من الإسرائيليات.
وقد نسب إلى النبي وإلى الصحابة والتابعين كثير من الإسرائيليات في بدء الخلق والمعاد وأخبار الأمم الماضية، والكونيات، وقصص الأنبياء، وسأذكر الكثير من ذلك فيما بعد، وبعضها من الخطورة على الدين بمكان.
حكم الكذب على رسول الله:
جمهور العلماء سلفا وخلفا على أن الكذب على رسول الله ﷺ من الكبائر، ولا يكفر من فعل ذلك إلا إذا كان مستحلا الكذب عليه وبالغ الإمام أبو محمد الجويني١ والد إمام الحرمين من أئمة الشافعية فقال: "يكفر من تعمد الكذب على رسول الله ﷺ" نقل ذلك عنه ابنه إمام الحرمين وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب، وأنه هفوة من والده.
ووافق الجويني على هذه المقالة: الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن المنير.
_________
١ هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الفقيه الشافعي والد إمام الحرمين المتوفى في ذي القعدة سنة ثمانٍ وثلاثين، وقيل: أربع وثلاثين، وأربعمائة بنيسابور، والجويني نسبة إلى جوين -بضم الجيم، وفتح الواو، وسكون الياء- ناحية من نواحي نيسابور تشتمل على قرى مجتمعة.
1 / 15
المالكي١ وغيره من الحنابلة، ووافقهم الإمام الذهبي في تعمد الكذب في الحلال والحرام، ولعل مما يشهد لهم قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّه﴾ ٢ فقد نفت الآية الإيمان عمن يفتري الكذب على الله، والكذب على الرسول كذب على الله، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ٣.
وقال رسول الله ﷺ: "إن كذبا علي ليس ككذبٍ على أحد، فمن كذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقد روى من طريق متكاثرة، حتى قال العلماء: إنه متواتر، ففي قوله: "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد" ما يشعر بأن حكم الكذب عليه ليس كحكم الكذب على غيره، والكذب على غيره كبيرة، فيكون الكذب عليه أكثر من كبيرة، أو أكبر الكبائر.
وفي معنى الكذب على النبي ﷺ الكذب على الصحابة والتابعين، ولا سيما فيما لا مجال للرأي فيه مما لا يعرف إلا من المشرع؛ لأن له حكم المرفوع إلى النبي كما نبه على ذلك أئمة الحديث٤؛ وأيضا فبعض الفقهاء يعتبر قولهم حجة في التشريع، إلا أني لم أقف على من قال: إن الكذب عليهم كفر، وإنما الذي قال الجويني: إنما هو في الكذب على النبي ﷺ:
ولا يدخل في الكذب الرواية بالمعنى؛ لأنها إنما أجازها العلماء لعارف بالألفاظ ومدلولاتها معرفة دقيقة عالم بالشريعة ومقاصدها خبير بما يغير المعاني ويفسرها، فهي لم تخرج عند التحقيق عن مدلول اللفظ الأصلي.
هل تقبل رواية من كذب في الحديث وإن تاب؟:
ولما للكذب على رسول الله ﷺ من إفساد في الشريعة وإبطال في الدين: ذهب
_________
١ هو الإمام أحمد بن محمد بن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية وعالمها المشهور المتوفى سنة ٦٨٣هـ وصاحب كتاب "الانتصاف على تفسير الكشاف".
٢ النحل: ١٠٥.
٣ النجم: ٣، ٤.
٤ هذا بالنسبة إلى ما يروى عن الصحابي، أما ما روي عن التابعين فهو مرفوع مرسل، وهناك شرط آخر؛ وهو ألا يكون الصحابي أو التابعي معروفا بالأخذ عن أهل الكتاب الذين أسلموا وإلا احتمل أن يكون من الإسرائيليات "نزهة النظر في شرح نخبة الفكر" للحافظ ابن حجر، التدريب للسيوطي ص ٦٣، ٦٤".
1 / 16
جمهور المحدثين إلى أن من كذب في حديث واحد فسق، وردت روايته، وبطل الاحتجاج بها، وإن تاب وحسنت توبته، ومن هؤلاء الأئمة: أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي والصيرفي، والسمعاني١.
قال أبو بكر الصيرفي: "كل من أسقطنا خبره من أهل النقل بكذب وجدناه عليه لم نعد لقبوله لتوبة تظهر" وقال أبو المظفر السمعاني: "من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه".
وخالف في ذلك الإمام النووي، فقال: والمختار القطع بصحة توبته في هذا، وقبول رواياته بعدها، إذا صحت توبته بشروطها٢. والحق أن ما ذهب إليه النووي قوى من جهة الاستدلال، ولكن مذهب الجمهور أحوط للأحاديث، وأبعد من الريبة في الرواية، ومن ثم نرى: أن أئمة الحديث احتاطوا له غاية الاحتياط، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا.
حكم رواية الموضوعات والإسرائيليات الباطلة:
قال العلماء سلفا وخلفا: لا يحل رواية الحديث الموضوع في أي باب من الأبواب، إلا مقترنا ببيان أنه موضوع مكذوب، سواء في ذلك ما يتعلق بالحلال والحرام، أو الفضائل، أو الترغيب والترهيب أو القصص والتواريخ٣، ومن رواه من غير بيان وضعه فقد باء بالإثم العظيم، وحشر نفسه في عداد الكذابين، والأصل في ذلك: ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، بسنده أن رسول الله ﷺ قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين" ٤ وفي حكم الموضوعات الإسرائيليات التي ألصقت بالنبي زورا، وكذبا عليه.
_________
١ علوم الحديث لابن الصلاح ص ١٢٨.
٢ صحيح مسلم بشرح النووي ج ١ ص ٧٠.
٣ علوم الحديث لابن الصلاح ص ١٠٩ والتدريب للسيوطي ص ٩٨.
٤ روي "يرى" بضم الياء بمعنى يظن، وبفتح الياء بمعنى يعلم فيشمل الوعيد من علم أو ظن وروي "الكاذِبَيْن" بصيغة المثنى بفتح الباء وكسر النون أي من وضعه ومن رواه؛ لأنه أذاعه وبصيغة الجمع بكسر الباء وفتح النون أي صار في عدادهم وواحدا منهم؛ لإشاعته الكذب على رسول الله ﷺ.
1 / 17
تحذير من يروي الموضوع المكذوب:
وقد حكم كثير من علماء الحديث وأئمته على من روى حديثا موضوعا من غير تنبيه إلى وضعه وتحذير الناس منه بالتعزير والتأديب، قال أبو العباس السراج: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري، ودفع إليه كتاب من ابن كرام يسأله عن أحاديث، منها حديث الزهري عن سالم عن أبيه١ مرفوعا: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص" فكتب محمد بن إسماعيل على ظهر كتابه: "من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد، والحبس الطويل".
بل بالغ بعضهم، فأحل دمه، قال يحيى بن معين -وهو من كبار أئمة الجرح والتعديل- لما ذكر له حديث سويد الأنباري: "من عشق، وعف، وكتم، ثم مات مات شهيدا.
قال: هو حلال الدم٢!!
وقد سئل الإمام ابن حجر الهيثمي عن خطيب يرقى المنبر كل جمعة، ويروي أحاديث، ولم يبين مخرجيها ودرجتها فقال: ما ذكره من الأحاديث في خطبه من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها فجائز، بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من مؤلفٍ صاحبُه كذلك.
وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل؛ ومن فعل عزر عليه التعزير الشديد، وهذا حال أكثر الخطباء؛ فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلا أم لا، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك.
_________
١ هو عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵄.
٢ من المؤسف المحزن أن بعض أهل الهوى والغرام، وبعض الكتاب الهدامين للأخلاق لا يزالون يرددون هذا الحديث المكذوب، فمن لهم بمثل يحيى بن معين يحل دماءهم؟!
1 / 18
ما أشبه الليلة بالبارحة:
أقول: لا يزال بعض الخطباء، ومقيمي الشعائر الدينية الذين ليس له علم بالحديث رواية ودراية، ولا سيما من لم يتأهلوا التأهل اللازم لمن يتولى الإمامة والخطابة، والذين لا يزالون يخطبون من الدواوين، أو يعتمدون في خطبهم على الكتب التي لا يُعتمد عليها في معرفة الأحاديث والتمييز بين صحيحها، وضعيفها، وموضوعها، والذين جعلوا غايتهم استرضاء الجماهير، فيذكرون لهم أحاديث في الترغيب والترهيب، وحكايات وقصصا مثيرة عجيبة، أغلب الظن أنها من وضع القصاص، وجهلة الزهاد الذين استجابوا ذلك، وكان جل هممهم تملق الجماهير، واستمالتهم بذكر المبالغات، والتهاويل والعجائب، والغرائب وما أجدر هذه الفئة بأن يحال بينها وبين الخطابة، والوعظ، والتذكير، حتى لا يسمموا أفكار الناس ويفسخوا القيم الدينية والخلقية الصحيحة، وتكون حجة على الإسلام لا حجة له، وأحب أن أقول لهؤلاء وأمثالهم: إن في الأحاديث الصحاح والحسان، والقصص الثابت الصحيح غنية عن الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة والقصص، وجهلة الزهاد الذين استباحوا ذلك، وكان جل همهم تملق الجماهير، واستمالتهم بذكر المبالغات، والتهاويل والعجائب، والغرائب وما أجدر هذه الفئة بأن يحال بيها وبين الخطابة، والوعظ، والتذكير، حتى لا يسموا أفكار الناس ويفسخوا القيم الدينية والخلقية الصحيحة، وتكون حجة على الإسلام لا حجة له، وأحب أن أقول لهؤلاء وأمثالهم: إن في الأحاديث الصحاح والحسان، والقصص الثابت الصحيح غنية عن الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة والقصص المكذوب لمن يريد أن يرقق القلوب ويستولي على النفوس، فليتق الله هؤلاء في الناس، وفي أنفسهم.
ومن الحق في هذا المقام أن أقول أيضا: إن الكثيرين من المدرسين الأزهريين والوعاظ، والمرشدين، والدعاة إلى الله، والأئمة والخطباء المؤهلين تأهيلا علميا سليما، في الأزهر، وجامعته والجامعات الإسلامية الأخرى لهم من علمهم، ووعيهم الديني والثقافي وسعة اطِّلاعهم ما يعصمهم من الوقوع في رواية الموضوعات والقصص الباطلة، والإسرائيليات الزائفة، وتحري الصدق والحق في رواية الأحاديث، وذكر الأقاصيص، وأخذهم أنفسهم بالرجوع في ذلك إلى كتب العلماء الثقات الحفاظ للحديث، أو الذين لهم علم به ودراية، وهو أثر من آثار النهضة العلمية الحديثة من يوم أن أنشئت الدراسات العليا التخصصية في كليات الجامع الأزهر الشريف، عمره الله بالعلم والعلماء.
فقد كان من شعب هذه الدراسات: "شعبة التفسير والحديث" منذ ما يقرب من نصف قرن، وقد أتى على هذه الشعب حين من الدهر كان الطلاب فيها يستوعبون كل ما كتب وأُلِّفَ في العلم الذي تخصصوا فيه، وكذلك كان هناك تخصص في "الدعوة
1 / 19
والإرشاد"، ويا ليت هذه التخصصات تعود كما كانت؛ مناهج، ودراسة.
وكذلك كان من أسباب هذه النهضة الحديثة: إنشاء دور "للحديث في مصر، وفي الحجاز وغيرهما من الأقطار الإسلامية شرقا وغربا، وظهور علماء في كل قطر إسلامي أحبوا دراسة الحديث وعلومه" وإنا لنرجو أن يعود للحديث وعلومه سيرته الأولى، ومجده الغابر فاللهُمَّ حقق.
متى نشأ الوضع في الحديث؟:
كان من أثر اتساع رقعة الإسلام: دخول كثير من أبناء الأمم المغلوبة فيه ومنهم الفارسي، ومنهم الرومي، ومنهم المصري، ومنهم المخلص للإسلام، ومنهم المنافق الذي يكن في نفسه الحقد على الإسلام ويتظاهر بحبه، ومنهم الزنديق الذي يسعى بشتى الوسائل لإفساده وتشكيك الناس فيه، ومنهم اليهودي الذي لا يزال مشدودا إلى يهوديته، ومنهم النصراني الذي لا يزال يحن إلى نصرانيته.
وقد انتهز أعداء الإسلام من المنافقين، والزنادقة، واليهود سماحة السيد الحيي: عثمان بن عفان ﵁ ودماثة خلقه، فبذروا البذور الأولى للفتنة، فكان ابن سبأ اليهودي الخبيث يطوف في الأقاليم، ويولب عليه الناس، وقد أخفى هذه السموم التي كان ينفثها تحت ستار التشيع، وحب سيدنا علي، وآل البيت الكرام، فصار يزعم أن عليا ﵁ هو وصي النبي، والأحق بالخلافة حتى من أبي بكر، وعمر ﵄ ووضع على النبي ﷺ حديثا: "لكل نبي وصي، ووصيِّي عليٌّ". لم يقف الأمر عند حد هذه الدعوة، بل ادعى ألوهيته، وقد طارده سيدنا عثمان، فهرب، فلما كان عهد سيدنا علي طارده وأحل دمه، فما كان ليرضى بهذه الدعوات الخبيثة التي يشنها هذا المغيظ المحنق على الإسلام والمسلمين.
ومما يؤسف له أن دعوته وجدت آذانا صاغية من بعض الأمة وبخاصة أهل مصر، وقد نجح هذا اليهودي الماكر في إثارة الفتة التي أطاحت برأس الخليفة الثالث: عثمان ﵁، وما إن تولى الخلافة سيدنا علي حتى وجد التركة مثقلة بالخلافات، فقد ناصبه أنصار عثمان العداوة من أول يوم، واستفحلت الفتنة، ووقعت حروب طاحنة، فني فيها كثيرون من خيرة المسلمين، وظهرت طائفة أخرى وهم الخوارج الذين لم يرتضوا
1 / 20
التحكيم بين على، ومعاوية، وكانت النهاية؛ أن أطاحت الفتنة ركنا آخر من أركان الإسلام، وهو الخليفة الرابع، وأضحت الأمة الإسلامية في فرقة واختلاف، ودب إليها داء الأمم قبلها، وتمخضت الفتنة عن شيعة١ ينتصرون لسيدنا علي، وعثمانية ينتصرون لسيدنا عثمان، وخوارج٢ يعادون الشيعة وغيرهم، ومروانية ينتصرون لمعاوية وبني أمية، وقد استباح بعض هؤلاء لأنفسهم أن يؤيدوا أهواءهم ومذاهبهم بما يقويها، وليس ذلك إلا في الحديث بأنواعه من أحكام، وتفسير، وسير، وغيرها.
وكان ذلك حوالي سنة أربعين للهجرة، وما زالت حركة الوضع تسير، وتتضخم حتى دخل بسببها على الحديث بلاء غير قليل، وهذا العصر هو ما يعرف بعصر صغار الصحابة وكبار التابعين.
روى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه بسنده عن طاوس، قال: "جاء هذا إلى ابن عباس -يعني بشير بن كعب- فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد لحديث كذا، وكذا. فعاد له، ثم حدثه فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال له: لا أدري أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا، أم أنكرت حديثي كله، وعرفت هذا، فقال له ابن عباس: إن كنا نحدث عن رسول الله ﷺ إذا لم يكن يكذب عليه، فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه".
وابن عباس توفي سنة ثمان وستين للهجرة.
وروى بسنده عن مجاهد، قال: "جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدِّث، ويقول: قال رسول الله ﷺ، فجعل ابن عباس لا يأذن٣ لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يابن عباس: ما لي أراك تسمع لحديثي أحدثك عن رسول الله
_________
١ هم أنصار سيدنا علي، وهم طوائف وفرق كثيرة وأخبث هذه الطوائف وأبعدهم عن الإسلام الرافضة الذين رفضوا إمامة الشيخين: أبي بكر، وعمر، بل وكفروهما وأعدل طوائف الشيعة وأقربهم إلى الإسلام الزيدية وهم يفضلون عليا على غيره، ولكنهم يجوزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
٢ هم الذين خرجوا على علي ﵁ بعد قبوله التحكيم بينه وبين معاوية وقالوا: لا حُكْم إلا لله، وقالوا بصحة خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان في سنيه الأولى قبل أن يغير ويبدل، وصحة خلافة علي قبل الرضا بالتحكيم، وهم من أصلب الطوائف في عقيدتهم وأكثرهم عبادة.
٣ أي لا يسمع.
1 / 21
ﷺ ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله ﷺ ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
وروى بسنده عن طاوس، قال: "أتي ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي ﵁، فمحاه إلا قدر"١ وأشار سفيان بن عيينة بذراعه، وروى بسنده عن أبي إسحاق قال: "لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي ﵁ قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا" قال الإمام النووي: أشار بذلك إلى ما أدخلته الروافض، والشيعة في علم علي ﵁ وحديثه، وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات، والأقاويل المفتعلة، والمختلقة٢.
وذكر الإمام الذهبي في "التذكرة": عن خزيمة بن نصر، قال: "سمعت عليا بصفين يقول: قاتلهم الله، أي عصابة بيضاء سودوا وأي حديث من حديث رسول الله ﷺ أفسدوا"٣
وروى الإمام مسلم بسنده، عن سفيان بن عيينة، قال: سمعت رجلا سأل جابرا٤ عن قوله ﷿: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه!! قال سفيان: وكذب، فقلنا لسفيان: وما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليًّا في السحاب، فلا نخرج مع من خرج من ولده، حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد عليا أنه ينادي: اخرجوا مع فلان.
يقول جابر: فهذا تأويل هذه الآية، وكذب، كانت في إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم٥ وهذا لون من ألوان الدس، والوضع في التفسير، وسيأتي من ذلك أمثلة لا تحصى.
_________
١ أي قدر أي ذراع بدليل تفسير سفيان، والظاهر أنه كان درجا مستطيلا.
٢ صحيح مسلم بشرحه ج١ من ص ٨٠-٨٣.
٣ تذكرة الحفاظ ج ١ ص ١١ ترجمة سيدنا علي [ولعل مراده ما وضعه محبوه في مدحه، وما وضعه مبغضوه في ذمه] .
٤ أي ابن يزيد الجحفي الشيعي الغالي قال فيه الإمام أبو حنيفة: "ما رأيت أكذب من جابر الجحفي" والشيعة يعتبرونه من شيوخهم.
٥ صحيح مسلم بشرح النووي ص ١٠٢.
1 / 22