تأسيس (3)
وحتى لا يبدو الرجل كمن يلقي القول جزافا، كان عليه أن يقوم بأمرين: الأمر الأول هو عرض ما انتهت إليه النظريات التاريخية التقليدية بشأن الخروج، ومناقشة مدى مصداقيتها؛ بحيث إذا ثبت بطلانها انتقل إلى الأمر الثاني، وهو تقديم الأدلة الكافية لتأكيد فروضه، تلك التي استغرقت كتابه حتى آخر صفحة فيه. ومن هنا يبدأ مناقشة التاريخ ونظريات المؤرخين، ومحاكمتها محاكمة عادلة تماما، وربما ساعده على تلك المحاكمات أن حيثيات إدانة أي نظرية منها، سبق وقدمتها نظرية أخرى بديلة.
ويبدأ بأقدم نظرية قدمت عن حدث الخروج، وقد وردت عند المؤرخ المصري «مانيتون». وتقرن تلك النظرية بين ظهور الهكسوس وبين ظهور الإسرائيليين، كما تقرن خروج الهكسوس بخروج الإسرائيليين؛ حيث سجل «مانيتون» أن الهكسوس بعد طردهم من مصر اتجهوا إلى فلسطين؛ حيث أنشئوا هناك مملكة «أورشليم». وقد أخذ المؤرخ اليهودي «يوسفيوس» بكلام «مانيتون». وذهب المذهب نفسه - من القدماء - الأب «يوليوس الأفريقي»، الذي روى أن اليهود تمردوا في مصر بقيادة «موسى»، على ملك باسم «أحمس». وحتى الآن، وبعد مضي أكثر من تسعة عشر قرنا على تلك النظرية، لم يزل هناك من يأخذ بها إلى اليوم.
لكن على الجانب الآخر نجد من يرفض تلك النظرية تأسيسا على مقدمة منطقية تماما، وهي «كيف يقع اليهود تحت نير العبودية في مصر إذا كانوا هم الذين حكموها باسم الهكسوس»، إضافة إلى المقدمة الثانية في ذلك القياس وهي أن حكام مصر بعد «أحمس» قائد التحرير، كانوا من الحكام الأقوياء الذين فرضوا هيمنتهم على شرقي المتوسط بما فيه فلسطين، مما يستحيل معه أن يخرج بنو إسرائيل رغما عن إرادة مصر، بل ويقومون بغزو فلسطين المفترض أنها خاضعة للحكم المصري آنذاك، بل ويتمكن الإسرائيليون من إنشاء دولة في فلسطين! لذلك لجأ آخرون إلى البحث عن فترات ضعف إبان حكم الأسرة الثامنة عشرة، يمكن أن تسمح بالخروج وبقيام الدولة؛ ومن ثم ذهبوا إلى احتمال حدوث ذلك بعد انتكاسة «إخناتون» فرعون التوحيد. لكن ما يدحض ذلك المذهب بدوره، أسانيد وثائقية تم العثور عليها بين وثائق مدينة «إخناتون» في تل العمارنة، في شكل رسائل من حاكم أورشليم، يحذر فيها الفرعون من مهاجمة قبائل بربرية لحدوده من عبر الأردن باسم «الخابيرو»، والتي تنطق أيضا «عابيرو»، ويمكن أن تكون مسمى للعبريين اليهود؛ لذلك لا بد أن يكون الخروج قد حدث قبل إخناتون بفترة كافية، وتسقط بذلك تلك النظرية بدورها.
ومن هنا ذهبت نظرية ثالثة إلى أن بني إسرائيل قد غادروا مصر زمن «أحمس»، إبان طرده للعناصر الأجنبية مع الهكسوس، ووصلوا فلسطين زمن «إختاتون» باسم «الخابيرو»، لكن العقبة في قبول تلك النظرية، أنها تهمل مائتي عام بين زمن أحمس وزمن إخناتون، وتعني أمرا مقبولا، هو أن يكون زمن التيه الإسرائيلي في سيناء قد استغرق مائتي عام بدلا من أربعين عاما قدرتها التوراة، وتعد بذاتها زمنا طويلا جدا استغرقه الخارجون من مصر إلى فلسطين.
لذلك طرحت النظرية الرابعة رأيا مخالفا تماما؛ وهو أن يكون الخروج قد حدث - لا بد - زمن الفرعون «مرنبتاح» بن الفرعون «رمسيس الثاني» حوالي 1220ق.م في الأسرة التاسعة عشرة، بعد العثور على غطاء تابوته الذي يعدد عليه البلاد التي أخضعها، وبينها عبارة تقول: «أبيدت إسرائيل ولم يبق لها بذر.» وهو أول ذكر لإسرائيل في أي وثيقة مصرية على الإطلاق، مما يؤكد أن «مرنبتاح» هو فرعون الخروج، بينما كان أبوه «رمسيس الثاني» هو فرعون الاضطهاد، لكن تلك النظرية بدورها تبدو غير كاملة الإقناع؛ لأن نص مرنبتاح يشير لإسرائيل ضمن إشارته لدول خارج مصر، وليس لقوم داخل مصر، بما يعني أن حديثه عن دولة كانت قائمة بالفعل قبل أن يشن هجومه عليها. إضافة لعدم ذكر فرعون دمر إسرائيل باسم «مرنبتاح» ضمن الأسماء الواردة في المأثور التوراتي لأعداء إسرائيل، كما لا يتفق ذلك مع أي محاولة لتزمينه مع أحداث التوراة وزمنها، حيث لا بد أن يكون الإسرائيليون قد دخلوا فلسطين بعد خروجهم من مصر، ولكن بمائة عام أي حوالي 1190ق.م، وبذلك لا يتبقى لعصر القضاة سوى قرن واحد، وهو ما يخالف بشدة الزمن المفترض، والذي يحتسب ثلاثة قرون كاملة على الأقل لذلك العصر، وربما أربعة، «لذلك اعتبر عصر «مرنبتاح» كموعد للخروج موعدا متأخرا جدا وأكثر مما ينبغي»، ورغم ذلك تعد هذه النظرية من أشيع النظريات حتى اليوم.
وبين النظريات التي حازت ذيوعا أيضا، تلك التي اعتبرت حدثي الدخول والخروج مسألة اعتيادية في تاريخ مصر، باعتبار دخول البدو إلى مصر وخروجهم منها في عصور متباينة، كان أمرا دوريا ومعتادا؛ لذلك كان دخول بني إسرائيل وخروجهم أمرا هامشيا في اهتمامات المصريين، إلى الحد الذي لم يجدوا معه أي داع للاهتمام بتسجيله. لكن ذلك لا يتفق مع إصرار التوراة على تفصيل الأحداث وهولها وشدتها، ومن هنا لجأ أصحاب نظرية مشابهة إلى الاعتراف بما قالت التوراة، لكن مع النزوع إلى تأويل النصوص التوراتية لتبدو مقبولة، وذلك بإلباس الأساطير التي سبقت الخروج وصحبته ثوبا يظهرها كأمر اعتيادي. ومن هنا قامت تفسر الضربات التي أنزلها رب موسى بالمصريين من قمل وضفادع أو بعوض وذباب باعتبارها أمورا اعتيادية تماما عند المصريين، بالنظر إلى أرض مصر الشديدة الخصب، والتي تسمح بكافة أنواع الحياة، بينما بدا ذلك غريبا على بدو رعاة. كذلك رياح الخماسين التي تهب من الصحراء الليبية محملة بالرمال والأتربة مع ما تجلبه معها أحيانا من أسراب الجراد، يمكن أن تفسر ضربة الإله اليهودي «يهوه» لمصر بالظلام والجراد. أما مسألة انشقاق البحر فهي أسطورة متكررة في الميثولوجيات القديمة عند مختلف الشعوب، وإذا كان لا بد من الاعتراف بانشقاق البحر وانطباقه، فلن يكون له تفسير سوى موجة مد عالية ضاعفها إعصار مفاجئ. ثم تستكمل النظريات مسوغاتها بالميل الإسرائيلي المعهود، والواضح في كتابهم المقدس للصياغات الإعجازية والميل الشديد للخوارق، حتى إن شعلة بيد قائد الخروج، تتحول مع ميل إلى الخيال في نص التوراة إلى إله يسير أمامهم في عمود دخان ونار.
وقد ذهب أحد هؤلاء، وهو «تشالزبيك» إلى أن جبل سيناء الذي عبروا إليه كان بركانا، والبركان هو الظاهرة الوحيدة التي تعطي صورة عمود دخان بالنهار ونار بالليل، ولأنه عادة ما تصاحب ثورات البراكين النشطة ضربات زلزالية، فإن زلزالا قد سحب الماء ليلة الخروج بعيدا عن الشاطئ، ثم ارتدت المياه لتحطم كل ما جاور البحر وتبتلعه، وهو ما يفسر معجزة البحر الموسوية. لكن المشكلة الكبرى التي واجهت هذا التفسير ... رغم براعته ... أن منطقة سيناء لم تكن منطقة بركانية، إضافة إلى أن المنطقة الواقعة ما بين البحر المتوسط وخليجي السويس والعقبة تفتقد تماما ظاهرة المد الإعصاري، ناهيك عن كون «بيك» اضطر في النهاية، وفي نهاية حياته، إلى الاعتراف بخطئه، وسحب نظريته. (2) الوثائق والأدلة
وهكذا أصبح الميدان خاليا من نظرية تامة الصدق تفسر حدث الخروج وزمانه، ومرة أخرى تبيت الحاجة ماسة إلى «فليكوفسكي»! ولا يبقى سوى أن ندخل مع الرجل إلى عالمه، بادئين بقوله: «سنجد أنفسنا مضطرين للإقرار باعتراف مباشر وصريح، أن الكلمات (يقصد كلمات الكتاب المقدس) تعني ما تقوله تماما، وأن مدى الكارثة كان يفوق بدرجة كبيرة أية نتائج أخرى يمكن أن تنجم عن ثورة بركان. لقد ساهمت الأرض والبحر والسماء في الثورة المفاجئة، البحر غمر الأرض، والحمم الساخنة تدفقت من أرض ممزقة، وقد وصفت النصوص المقدسة فوضى العناصر التي انطلقت من عقالها:
ارتجت الأرض، وارتعشت أسس الجبال ... تحركت واهتزت ... دخان ونار ... ظهرت أعماق المياه، وانكشفت أسس المسكونة. هو المزحزح الجبال، ولا تعلم الذي يقلبها في غضبه ... هو المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها.»
Page inconnue