لأنها شجرة يقطعونها من الوعر، صنعة يدي نجار بالقدوم، بالفضة والذهب يزينونها، وبالمسامير والمطارق يشدونها فلا تتحرك، هي كاللعين في مقثاة فلا تتكلم، تحمل حملا لأنها لا تمشي، لا تخافونها لأنها لا تغير ولا فيها أن تصنع خيرا ... الآلهة التي لم تصنع السموات والأرض تبيد من هذه الأرض ومن تحت هده السموات.
أما يهوه فهو الإله الحقيقي لأنه هو:
صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، بفهمه بسط السموات ... مصور الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه ...
وهو أيضا إله عالمي:
لا مثل لك يا رب، عظيم أنت وعظيم اسمك في الجبروت، من لا يخافك «يا ملك الشعوب» لأنه بك يليق؛ لأنه في جميع حكماء الشعوب وفي كل ممالكهم ليس مثلك. (إرميا، 10)
وتزداد الضغوط النفسية على إرميا وهو يجد نفسه يصرخ ولا مجيب، يكرهونه ويدبرون لاغتياله مرة ويسبونه ويلعنونه مرة، فينادي شعب يهوذا الضال الذي خان آلهته بعقاب قادم، فسيمنع يهوه المطر ويموت الناس جوعا، ثم يرسل جحافل شعب غريب عليهم فيقتلونهم ويسبونهم إلى بلاد غريبة، لكن يهوه سيرأف بهم في النهاية إذا تابوا وندموا عما فعلوه من شر (إرميا، 5: 15-19؛ و18: 6-10؛ و33: 10-12).
ومع ذلك فإن إرميا لم يكن فيما يبدو قد وصل إلى التوحيد المجرد، كل ما في الأمر أنه يريد يهوه وحده سيدا، أما طقوس عبادته فكانت هي ذات طقوس الآلهة الأخرى، ولم يظهر أي عداء لتقريب الضحايا والتبخير لربه؛ لأنه يرى مستقبل يهوذا التائبة يوم يقوم الكهنة اللاويون بإصعاد المحرقات والتقدمات وتهيئة الذبائح ليهوه (إرميا، 33: 18)؛ فلم يكن ليهوه عند إرميا أية مطاليب أخرى سوى ذات المطاليب التي تطلبها الآلهة الأخرى.
ويبدو أن مواقف إرميا السياسية كانت وراء ملاحقته واضطهاده؛ فكما علمنا انفصلت بابل عن آشور بعد موت «أشور باني بعل» عام 626ق.م، وخلال العقدين التاليين كانت بابل والميديين قد حطموا الإمبراطورية الآشورية تماما. وبدأت تطلعات بابل لميراث الإمبراطورية، وكانت لمصر زمن الفرعون «نخاو» ذات الطموحات، وهو ما دفعها لمساعدة حاميات آشور في شمالي سوريا أملا في الاستيلاء عليها، لكن نبوخذ نصر الكلداني أنزل بها الهزيمة في قرقميش، فتراجع نخاو بجيوشه لتجميع قواه ومتابعة الصراع ضد بابل. وهو ما شجع يهوذا على إيقاف دفع الجزية لآشور المتهالكة وكانت يهوذا تابعة في الوقت نفسه لمصر. ويبدو أن يهو آحاز بن يوشيا أزعج الفرعون فعزله وأخذه أسيرا إلى مصر حيث مات هناك، ونصب الفرعون نخاو بدلا منه يهوياقيم شقيقه ملكا على يهوذا. وفى كل ممالك بلاد الشام كان يجري النزاع بين اتجاهين في السياسة الخارجية: اتجاه يميل نحو مصر والآخر نحو بابل، فكان في بلاط الملك يهوياقيم حزب قوي موال لمصر، وحزب آخر موال لبابل قوي شأنه بعد هزيمة الفرعون نخاو، وكان إرميا من هذا الحزب الأخير الذي يرى أن الخلاص من الدمار والانقراض الشامل هو الخضوع لبابل باستسلام كامل دون مقاومة؛ «لأن الهزيمة العسكرية أمام مصر قد تعني مجرد تبعية سلمية، أما الهزيمة العسكرية أمام بابل فكانت تعني الدمار الشامل»؛ ومن هنا لم يكن إرميا مواليا لحزب بابل حبا فيها بل رعبا منها وإشفاقا مما قد يحدث ليهوذا لو حالفت مصر وهزمت مصر أمام بابل ثانية؛ فمعنى ذلك الإبادة الشاملة لشعب الرب من قبل البابليين. هذا بينما كان فريق ثالث يعتقد أن يهوه لن يسمح لهؤلاء أو أولئك من وثنيين بالسيطرة على شعبه، لكن إرميا كان على يقين من اجتياح بابل لبلاده، لكن يهوه في النهاية لن يسمح بفناء شعبه «وأيضا في تلك الأيام يقول يهوه لا أفنيكم» (5: 18). ومثل هوشع وإشعيا يتنبأ إرميا ببعث جديد لشعب إسرائيل من البقية التائبة أو الراجعة لكن في مستقبل غير محدد بشكل دقيق. لكن قبل ذلك ستدمر أورشليم تماما «يكون هذا البيت وتكون هذه المدينة خربة بلا ساكن»، وكان رد فعل الناس على إرميا غضبا شديدا «وكل الشعب أمسكوه قائلين تموت موتا» (26: 8)، لكن البعض الآخر أنقذ إرميا من غضبة الناس، في ذات الوقت الذي لقي فيه النبي أوريا بن شمعيا - الذي كان يردد ذات كلام إرميا - حتفه، «أتوا به إلى الملك يهوياقيم فضربه بالسيف وطرح جثته في قبور بني الشعب» (26: 32).
وبالفعل السحري المتبع بكسر الجرار الفخارية رمزا على كسر أصحابها وفنائهم، تجرأ إرميا أمام شيوخ الكهنة والشعب في وادي بن هنوم وكسر هناك إناء فخاريا وهو يقول كلمة يهوه «هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يكسر وعاء الفخاري»، وكان ذلك مجلبة للنحس في اعتقاد الناس؛ لذلك أمر فشحور كاهن معبد أورشليم بضرب إرميا ومنعه من دخول المعبد (19: 1-11؛ و20: 2).
ويبدو أن ملك يهوذا «يهوياقيم» قد اضطر في النهاية إلى إعلان خضوعه لبابل؛ لأنه قام أولا بقطع اتصالاته مع مصر، ثم أرسل جزية إلى نبوخذ نصر، ثم عاد بعد ثلاث سنوات يتردد محاولا العودة إلى مصر التي فقدت ثقتها به، وحتى يؤكد عودته توقف عن دفع الجزية لبابل، فأمر نبوخذ نصر أتباعه الموآبيين والآراميين والعمونيين بتأديبه فهاجموا بلاده. ومات يهوياقيم عام 598ق.م تاركا العرش لابنه يهوياكين، في الوقت الذي وصلت فيه جيوش بابل وضربت الحصار على أورشليم واستسلم يهوياكين 597ق.م، وسبى نبوخذ نصر الملك اليهوذي وبلاطه وكهنته وجيشه إلى بابل، وترك سكان الريف وأقام عليهم صدقيا الابن الثالث ليوشيا ملكا منوبا من قبله على يهوذا.
Page inconnue