ومعاصرا لصفنيا كان ناحوم الذي ركز نبوءاته على نينوى فكتابه يبدأ بعنوان يقول: «وحي على نينوى، سفر رؤيا ناحوم الألقوشي .» (ناحوم، 1: 1)، و«ألقوش» مدينة صغيرة من مدن يهوذا يعني أنه كان من مواطني المملكة اليهوذية. بالطبع لم يقل ناحوم إن نينوى باتت مهددة من تلك الشعوب المحيطة بها، ولا أنها زمنه قد بدأت تتلقى أولى ضربات الحلف الميدي البابلي؛ لأن الأمر كله لا بد أن يعود إلى يهوه الذي سينتقم لشعبه من آشور، فقد وجه يهوه غضبه ضد نينوى لأنه منها «خرج المفتكر على يهوه شرا» وبالطبع يقصد بهذا المفتكر أو الذي ينوي الشر على يهوه «سنحاريب ملك آشور». وأعلن يهوه على لسان ناحوم حكمه على آشور «لا يزرع من اسمك فيما بعد» (ناحوم، 1: 14). لقد جاء انتقام يهوه على يد الحلف الميدي البابلي وهو ينادي نينوى التي أوشكت على السقوط «تنفتح لأعدائك أبواب أرضك» (ناحوم، 3: 5).
لكن فرحة ناحوم الشامتة لم تستمر طويلا لأن بابل الناهضة كانت في طريقها للاستيلاء على ميراث آشور في المنطقة الشرق أوسطية، بعد أن دمرت آشور في 614ق.م وتقاسم الحلفاء ممتلكاتها.
ورغم أن سفر ملوك ثاني يؤكد إخلاص الملك يوشيا وغيرته الشديدة على يهوه، وأنه طارد كل العبادات الأخرى وقام بمذابح هائلة ضد أتباعها وكهنتها، وأنه «... لم يكن قبله ملك مثله، قد رجع إلى يهوه بكل قلبه وكل نفسه وكل قوته حسب شريعة موسى، وبعده لم يقم مثله» (ملوك ثاني، 23)؛ فإن يهوه أبدى نكرانا للجميل؛ فبينما مات منسي الكافر على سريره هانئا، فإن يوشيا المخلص ليهوه قد مات إبان معركته مع الفرعون نخاو 606-593ق.م عندما فضل يوشيا اعتراض جيوش مصر الخارجة لإيقاف الزحف البابلي على المنطقة وذلك في موقعة مجدو 609ق.م.
ومعلوم أن أسفار موسى لم تظهر إلا زمن يوشيا هذا حيث قيل إنه قد عثر عليها خبيئة بالمعبد، وهي التي عرفت باسم كتاب أو سفر التثنية. والقوانين والأحكام في هذا الكتاب أبدا لا تتفق مع زمن موسى لأنها تتحدث عن شعب يعيش حياة حضرية ويشتغل بالزراعة وليس شعبا بدويا تائها؛ شعب يملك مدنا ونظاما سياسيا وسلطة ملكية وإدارة مدنية (تثنية، 16: 18) ولديه مجمعه الكهنوتي الهرمي.
وفي سفر التثنية سقطة تؤكد أن هذا السفر قد تم جمعه أو إعادة تدوينه من أوراق قديمة زمن يوشيا؛ حيث يقول في موضع منه «في عبر الأردن في أرض موآب ابتدأ موسى يشرح هذه الشريعة قائلا» (تثنية، 1: 5)، والتعبير في عبر الأردن أي في الجانب الغربي من نهر الأردن، وهذا يشير إلى أن الكاتب وليس موسى هو من كان يعيش في عبر الأردن، بينما نعلم أن موسى مات ولم يعبر هذا النهر إلى غربه أبدا.
هذا ناهيك عن أسلوبه ومفرداته التي لا تمت بصلة إلى زمن موسى إنما هي بحق لغة متطورة من مميزات القرن السابع قبل الميلاد بل ويجب افتراض أن أنبياء مثل صفنيا وناحوم بل وإرميا كانوا ضمن جامعي ذلك القديم أو مؤلفي سفر الشريعة/التثنية.
وفي ذات الزمن ما بين 650 و640ق.م تقريبا ولد نبي آخر هو النبي الشهير إرميا، سليل أسرة الكاهن أبيثار الذي كان رأس كهنة أورشليم زمن داود وسليمان، وكان فيما يبدو ميسورا مثقفا قارئا للمقدس لأنه ينقل في كتابه نقلا حرفيا نبوءات سبق وقرأناها عند عاموس وهوشع وإشعيا. ويبدأ كتابه بمدخل تصديري يقول: «كلام إرميا بن حلقيا من الكهنة الذين في عناثوث في أرض بنيامين، الذي كانت كلمة الرب إليه في أيام يوشيا بن آمون ملك يهوذا» (إرميا، 1: 1-2).
ثم يميز إرميا نفسه «وكيف أصبح نبيا قبل أن يولد وكيف اختاره يهوه واصطفاه وهيأه للنبوة، وكيف أنه مرسل إلى شعوب العالمين وهي نغمة جديدة ستؤثر في نبي آخر بعيد فيما بعد ذلك بأزمان وفى مكان بعيد.» يقول إرميا: «فكانت كلمة الرب إلي قائلا: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيا للشعوب.» فقلت آه يا سيدي الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد. فقال الرب لي: لا تقل إني ولد لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك، يقول الرب. ومد الرب يده «ولمس فمي وقال الرب لي: ها قد جعلت كلامي في فمك»، انظر: قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس» (إرميا، 1: 4-10).
هكذا كان «من تكلم صبيا هو إرميا»، وكان إرميا مشاركا في الرعاية التمهيدية لسفر الشريعة/التثنية الذي كان آنذاك قيد الإعداد، وقام يهاجم العبادات الوثنية ويطالب بعدم السجود سوى ليهوه إبان كان في قريته عناثوث المنسوبة لربة الخصب الكنعانية «عنات/عناث» حتى إن أهل قريته تآمروا عليه لقتله (إرميا، 11: 21) مما اضطره إلى الهرب إلى أورشليم. وبقي إرميا حيا خلال زمن يوشيا ثم ابنه يهو آحاز 309ق.م، ثم يهوياقيم 608-598ق.م، ويهوياكين وصدقيا 597-586ق.م، ورأى بعينيه ما أسسه ليهوه زمن الملك يوشيا ينهار زمن أخلافه الذين عادوا للعبادات المتعددة والآلهة الغريبة؛ لذلك لم يكل إرميا من التنديد بشعبه لغدره بيهوه وزناه مع الآلهة الغريبة التي تم ترميمها من جديد، خاصة عبادات البعل وربة السماء إيزيس المصرية وعشتار البابلية، وكان يهوه يغلي غيظا وكمدا وغيرة على لسان إرميا إذ يقول له:
أما ترى ماذا يعملون في مدن يهوذا وفي شوارع أورشليم؟ الأبناء يلتقطون حطبا والآباء يوقدون النار والنساء يعجن العجين، ليصنعن كعكا لملكة السموات ... لكي يغيظوني. (إرميا، 7: 17-18)
Page inconnue