ومثل تلك القصة نموذج آخر بطله «داود» أيضا، وهي بدورها قصة غرامية انتهت باستيلائه على زوجة أخلص ضباطه أوريا الحثي (وكان يعمل تحت قيادة يوآب) بعد أن ضاجعها في غياب زوجها للدفاع عن حدود الدولة، فحبلت في الحرام بولده الذي سيصبح أشهر ملوك إسرائيل؛ سليمان، وهي كما وردت نصيا:
وكان في وقت المساء أن قام داود عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك، فرأى من على السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة المنظر جدا، فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بتشبع بنت أليعام، امرأة أوريا الحثي؟ فأرسل داود رسلا وأخذها، فدخلت إليه، فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها. وحبلت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت: إني حبلى . فأرسل داود إلى يوآب يقول: أرسل إلي أوريا الحثي. فأرسل يوآب أوريا إلى داود، فأتى أوريا إليه فسأله داود عن سلامة يوآب وسلامة الشعب ونجاح الحرب. وقال داود لأوريا انزل إلى بيتك واغسل رجليك، فخرج أوريا من بيت الملك وخرجت وراءه حصة من عند الملك، ونام أوريا على باب بيت الملك مع جميع عبيد سيده، ولم ينزل إلى بيته، فأخبروا داود قائلين: لم ينزل أوريا إلى بيته، فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر؟ فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود: إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام، وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي لبيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر، فقال دواد لأوريا: أقم هنا اليوم أيضا وغدا أطلقك، فأقام أوريا في أورشليم في ذلك اليوم وغده ... وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يوآب وأرسله بيد أوريا، وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه، فيضرب ويموت. وكان في محاصرة يوآب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه، فخرج رجال المدينة وحاربوا يوآب، فسقط بعض الشعب من عبيد داود، ومات أوريا الحثي أيضا ... فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات أوريا رجلها، ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته، وصارت له امرأة، وولدت له ابنا. (صموئيل الثاني، 11)
وإعمالا لكل ذلك فلا يصح أن تأخذنا الدهشة عندما نجد سليمان يقتل أخاه الأكبر صاحب الحق في العرش (ملوك أول، 2: 25)، ولا عشق سليمان للنساء وعبادته لآلهة أخرى (ملوك أول، 11: 1-8)، ولا عندما نجد أمنون بن داود يعشق أخته ثامارا ويجامعها (صموئيل ثاني، 13: 1)؛ فهذه قصص أسلاف وملوك ومؤامرات قصور ودسائس، أما الأنبياء فلهم في العهد القديم شأن آخر.
والنبييم جمع كلمة «نابي» أو «نبي» العبرية، من «نبا» أي خرج وارتفع، أو ظهر وخالف القطيع، وإن كانت بقراءة التوراة العبرية تعني تماما: الهاذي أو المخبول، وظهر منهم عدد كبير من بني إسرائيل، بعضهم كان قاسيا يقرع أسماع الإسرائيليين بالقول الغليظ، إلا أن الواضح أيضا في كثرتهم، أنها أصبحت مهنة تدر على محترفها رزقا طيبا، ومن هنا نلحظ في الأسفار المتأخرة تحفظ المؤلفين وحيطتهم إزاء الأنبياء كما جاء في سفر حزقيال «فإذا ضل النبي وتكلم كلاما، فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي، وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل» (14: 9).
وكثرة هؤلاء الأنبياء كانت لا تتناسب مع قلة عدد السكان في البلاد، وهو ما يؤخذ من قول سفر ملوك أول: «فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربعمائة» (22: 6)، لكنهم على أية حال كان بإمكانهم إشعال الحروب وخلع الملوك وتنصيب من يريدون، هؤلاء عادة ما كانوا من رجال الدين غير النظاميين، أشبه بمن نعرفهم اليوم بالدراويش، ولم يخضعوا لهيكل من الهياكل. لكنهم كانوا يزعمون تلقي الوحي من الرب بلا واسطة، وأن روح الرب قد تملكتهم فنطقت بلسانهم، وعادة ما نجد بعضهم في صف الشعب يدافعون عن قضاياه، ضد المؤسسة الدينية الرسمية وكهانها المسيسين. وقد ظهر سلطانهم ونما منذ القرن العاشر قبل الميلاد، ولم يأت منتصف القرن التاسع قبل الميلاد حتى أصبحوا من أهم عناصر الجماعة الإسرائيلية، وقام بعضهم بعقد اتصالات مع الدول الخارجية، لتقويض سلطان الداخل المرفوض. ويقول «روبنسون» إنه كانت «تعتورهم حالة نفسانية غريبة نسميها نحن الوجد، تشبه أعراضها أعراض الغيبوبة أو الصرع، ويزعمون أن كل مرجع ذلك إلى أن الشخص قد حل فيه إله ... والعجيب أنها كانت حالة معدية قد تنتقل من شخص إلى آخر، وقد نزع الأنبياء والواجدون إلى التجمع وتأليف الفرق، وتعلموا كيف يبتعثون هذه الحالة الخاصة بهم برياضات شتى كالرقص أو اصطناع الموسيقى أو تناول العقاقير.»
10
ونموذجا لذلك ما جاء في اختيار الكاهن صموئيل لشاول لمسحه بالزيت المقدس مسيحيا، كأول ملك لبني إسرائيل، فيصفه الإصحاح التاسع من سفر صموئيل الأول بالصفات «شاول، شاب، وحسن، ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب». لكنه حتى يكون نبيا ملكا، «أخذ صموئيل قنينة الدهن ، وصب على رأسه، وقبله، وقال: أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسا ... إنك ستصادف زمرة من الأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبئون، فيحل عليك روح الرب معهم وتتحول إلى رجل آخر» (صموئيل أول، 10).
وهذا «داود» بعد تنصيبه ملكا، يتمكن من استعادة تابوت بني إسرائيل المقدس من الفلسطينيين،
11 «فأركبوا تابوت الله على عجلة جديدة ... وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو، بالعيدان والرباب والدفوف وبالجنوك وبالصنوج ... وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب، وكان داود متمنطقا بأفود من كتان، فأصعد داود وجميع بيت إسرائيل تابوت الرب بالهتافات وبصوت البوق، ولما دخل تابوت الرب مدينة داود، أشرفت ميكال بنت شاول (زوجة داود) من الكوة، ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب، فاحتقرته من قلبها ... فخرجت ميكال بنت شاول لاستقبال داود وقالت: ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم؛ حيث تكشف اليوم في أعين إمائه وعبيده، كما يتكشف أحد السفهاء. فقال داود لميكال: إنما أمام الرب الذي اختارني دون أبيك، ودون كل بيته، ليقيمني رئيسا على شعب الرب إسرائيل، فلعبت أمام الرب» (صموئيل ثاني، 6).
ومن الأنبياء من لم يكن من بني إسرائيل، إنما من أهل المنطقة الذين يدعون إلى عبادة الإله البعل الزراعي، وقد ذاع صيت نبي موآب المدعو «بلعام بن بعور»، وجاء ذكره في العقد القديم كمناصر لبني إسرائيل ضد شعبه، مما يشير إلى أن المكافأة التي نالها من الإسرائيليين كانت أعظم. (جاء ذكره في التراث الإسلامي باسم بلعم بن باعوراء.)
Page inconnue