L'Islam comme partenaire
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
Genres
تمهيد
1 - حياة فريتس شتيبات وأعماله
2 - ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1
3 - عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية
4 - العلمانيون والإسلاميون ... محاولة مصرية لتصنيفهم1
5 - «الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)1
6 - خليفة الله: قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام1
7 - نحو تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا
8 - الذين آمنوا ولم يهاجروا ... البدو كجماعة هامشية في المجتمع الإسلامي1
9 - الدور السياسي للإسلام
Page inconnue
10 - عمر الأول1
11 - المسلم والسلطة
المصادر والمراجع
تمهيد
1 - حياة فريتس شتيبات وأعماله
2 - ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1
3 - عشر قضايا عن الأصولية الإسلامية
4 - العلمانيون والإسلاميون ... محاولة مصرية لتصنيفهم1
5 - «الإيمان يعطي الأمل في النجاة» (مناقشات معاصرة في الكتابات الإسلامية الواسعة الانتشار)1
6 - خليفة الله: قراءات عن صورة الإنسان في الإسلام1
Page inconnue
7 - نحو تنظيم موحد للمسلمين في ألمانيا
8 - الذين آمنوا ولم يهاجروا ... البدو كجماعة هامشية في المجتمع الإسلامي1
9 - الدور السياسي للإسلام
10 - عمر الأول1
11 - المسلم والسلطة
المصادر والمراجع
الإسلام شريكا
الإسلام شريكا
دراسات عن الإسلام والمسلمين
تأليف
Page inconnue
فريتس شتيبات
ترجمة
عبد الغفار مكاوي
تمهيد
«لا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذي يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير ...»
عبد الغفار مكاوي (1) كان على قرائه وأحبابه وتلاميذه المنتشرين في الغرب وفي الشرق العربي والإسلامي أن ينتظروا سنوات طويلة قبل أن يتلقفوا - بلهفة الممتن المشتاق - الكتاب الجامع الذي صدر في عام 2001م، وضم معظم بحوثه ومقالاته التي عكف على كتابتها وألقاها في المؤتمرات طوال أكثر من خمسين عاما (من 1944 إلى 1996م). والكتاب يحتوي على ثلاثين بحثا ومقالا بالألمانية والإنجليزية بقيت مشتتة في كتب ومجلات استشراقية لا حصر لها، منها أربعة عشر مقالا في التاريخ الإسلامي، والباقي في التاريخ العربي الحديث، وكلها تشهد على إنصافه وتعاطفه وموضوعيته التاريخية الدقيقة. وقد ظهر الكتاب تحت عنوان يدل على هذه المعاني العلمية والإنسانية وهو «الإسلام شريكا»، وعلى غلافه صورة لمؤلفه الأستاذ «فريتس شتيبات» (1933م-...) رائد الاستشراق الألماني منذ نهاية الحرب العظمى الثانية، في العدد السبعين من «سلسلة النصوص والدراسات البيروتية» التي أسسها بنفسه عندما كان يتولى رئاسة المعهد الشرقي الشهير في بيروت (من سنة 1963 إلى سنة 1968م) وقبل عودته إلى موطنه في مدينة برلين لتولي عمادة معهد العلوم الإسلامية بجامعتها الحرة (من سنة 1969 إلى سنة 1988م) واستمرار رعايته للدراسات الشرقية والإسلامية ولأبناء البلاد العربية الذين تتلمذوا على يديه وما زالت تربطهم به وشائج المحبة والإجلال والعرفان، مقرونة بالتمنيات الصادقة بالشفاء من المرض الشديد الذي ألم به قبل أكثر من ست سنوات ولم يمنعه من الحفاظ على جسور التواصل والرعاية والاهتمام بتلاميذه وعارفي فضله. (2) يعد «فريتس شتيبات» نموذجا رفيعا للعالم والباحث في العلوم الإنسانية والتاريخ العربي والإسلامي بوجه خاص؛ فهو يجمع بين النظر والعمل، ويؤلف بين العقلانية الدقيقة والتعاطف الدافئ والإنصاف الحكيم؛ ينخرط في بحثه بكل طاقته، ويتأمله كذلك من مسافة بعد كافية، يشارك في موضوعه بقلبه ومشاعره واهتمامه الشخصي، كما يحلله تحليلا موضوعيا وتاريخيا نقديا من أكثر من منظور. ولا شك في أن تطور حياته وتقلب مراحلها بين الإقامة في وطنه والعمل خارجه - لا سيما في القاهرة من سنة 1955 إلى سنة 1959م وفي بيروت من 1963 إلى 1968م - ورئاسته للعديد من اللجان المشرفة على دراسة الشرق الإسلامي ومناهجها على مدى سنوات عديدة امتدت حتى بدايات المرحلة التالية لإعلان الوحدة الألمانية (1992-1993م)، مع مساهمته الفعالة في تأسيس ورعاية المركز العلمي لدراسة الشرق الحديث الذي أصبح اليوم إحدى المؤسسات الثقافية المرموقة في العاصمة الألمانية (وقد أوصى له بمكتبته الخاصة التي لم أر في حياتي أروع ولا أضخم منها ...) - لا شك في أن كل ذلك مع خصاله الإنسانية النادرة التي جعلت منه الأب والمعلم والراعي الأمين لكل من درس على يديه أو اتصل به من أبناء العرب ومن عشرات الباحثين الألمان الذين تعهدهم بتوجيهه وإشرافه - كل ذلك قد بوأه عن جدارة مكانة عميد المستعربين في ألمانيا، وسكرتير جمعية المستشرقين الألمان، والصديق الكبير لعشرات من الإخوة العرب المتخصصين في التاريخ العربي والإسلامي قديمه وحديثه. (3) قام «شتيبات» بدور كبير في الاهتمام بدراسة الشرق العربي الحديث، وتنبيه الأجيال الجديدة من المستشرقين والمستعربين إلى أن لغات الماضي وحضاراته ما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤثر تأثيرا مستمرا في ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية، والأزمات والقضايا الملحة في وقتنا الراهن. ولا شك في أن إقامته الطويلة في القاهرة وبيروت قد أتاحت له فرصة التعرف عن كثب على مشكلات العالم العربي والإسلامي، وتوجيه أنظار شباب الباحثين إلى أن دراسة الواقع الحاضر بكل ظواهره لا تقل أهمية عن دراسة الماضي الذي طالما استغرق جهود المستشرقين.
وهو من أوائل الذين انتبهوا إلى خطورة الكذبة الكبيرة التي يروج لها، على أقل تقدير منذ أوائل التسعينيات، على ألسنة وأقلام بعض الكتاب والعلماء المغرضين، وعبر وسائل الإعلام المزيفة والجاهلة، وهي الكذبة التي تشيع أن الإسلام - بعد تفكك الاتحاد السوفييتي - هو العقبة الكبرى أمام السلام العالمي، والخطر الأكبر الذي يهدد ما يسمى بالعالم الحر، وأنه هو العدو الذي تتنافس في رسم صورته الإرهابية أقلام متحيزة وأدوات اتصال مريبة. ولا بد أن نذكر أنه كان في طليعة الذين انتقدوا مقالة صمويل هنتنجتون التي نشرها سنة 1993م في مجلة الشئون الخارجية، تحت العنوان نفسه الذي ظهر به بعد ذلك كتابه المشهور عن صدام الحضارات، وأنه كان من أوائل الذين تصدوا لآراء هذا الباحث المغالط ففندها وكشف القناع العلمي الكاذب الذي تغطي به وجهها القبيح وأهدافها المسمومة. وقد دحض أفكار هنتنجتون وبين أن الدين الإسلامي، وأي دين آخر، لا يمكن بحكم طبيعته أن يكون عدوانيا أو يصدر عنه العدوان أو يهدف إليه، وأن مسألة العداوة للغرب يجب أن تفهم من داخل السياق التاريخي الذي تعيش فيه شعوب العالم الثالث، إسلامية كانت أو غير إسلامية، وتشعر بتخلفها عن الدول الصناعية المتقدمة وتبعيتها لها، كما تسعى بالضرورة سعيا متعثرا للتخلص من ذلك التخلف وتلك التبعية. ومن هنا يقرر بكل ما أوتي من شجاعة وحكمة أن الإسلام لا يمثل أي تهديد للعالم، بل إن العكس من ذلك هو الصحيح؛ فأكثر المسلمين يشعرون في عصرنا الحاضر بأنهم مظلومون ومهددون. وإذا كان هذا الشعور قد تسبب في ظهور بعض الاتجاهات اللاعقلية أو التصرفات المتطرفة - تجاه الأجانب والسياح بوجه خاص في بعض البلاد العربية - فإن المسئول عن ذلك في المقام الأول هو بعض القوى الغربية التي تهيمن على العالم، وتخون القيم والمثل العليا التي تتشدق بها (مثل حق الشعوب في تقرير المصير، والديموقراطية وحقوق الإنسان ... إلخ) وتطبق معايير مزدوجة تضر بمصالح الشعوب العربية والإسلامية. وأقرب دليل صارخ على الظلم الواقع على المسلمين والعرب هو مأساة البوسنة ومأساة فلسطين وما نكبتا به من مجازر وتدمير وتخريب وتجويع. وإذا كانت هذه المآسي وأمثالها قد ولدت ردود الفعل العنيفة عند بعض الحركات الأصولية المتشددة، فلا يجوز أن تدفع الغربيين إلى رسم صورة مشوهة للإسلام كعدو للغرب، بل يجب أن تدفعهم للبحث عن أسباب هذه الحركات المتطرفة، وتحثهم على مراجعة موازينهم ومعاييرهم المزدوجة، وتقنعهم بتغيير مواقفهم المتحيزة - التي ترجع لأسباب قديمة ومعقدة - ضد المسلمين والعرب، بحيث يبينون لهم أنهم يريدون أن يفهموهم لا أن يحاربوهم ... (راجع بحثه في هذا الكتاب عن دور البحث العلمي في حوار الأديان ومقاله عن الأصولية الإسلامية). وهكذا ينفي نفيا قاطعا أن يرجع الصراعات الكبرى في عصرنا إلى الخلافات الدينية، ويدعو إلى الحوار السمح بين الأديان، وتأكيد أوجه التشابه والتقارب والعناصر المشتركة بينها، وضرورة إسهام الباحثين العلميين في هذا الحوار الذي لا بد أن يعود بالخير على البشرية كافة ... (4) والمستعرب والمؤرخ الكبير لا يمل التنبيه إلى تعدد الاتجاهات والتيارات والحركات الإسلامية، وتأكيد الفروق الشديدة بينها، واختلاف أهدافها ومشاريعها وتصوراتها لنهضة «الأمة» أو الجماعة الإسلامية. وهو لا يمل كذلك دعوة الغربيين أن يبذلوا جهدهم لمعرفتها وتقدير الدوافع الكامنة وراءها، والشروط والمواقف التاريخية التي نشأ بعضها على الأقل كرد فعل لها. وهو يلح في كل مناسبة - كما سبق القول - على ضرورة تفهم هذه الحركات الإسلامية لا محاربتها، ولا يخفي تعاطفه مع التيار المعتدل الذي يدعو لاستقلال الأمة الإسلامية بهوية حضارية متميزة، ويشيد بمحاولات عدد كبير من المفكرين المجددين والدعاة المجتهدين لتأسيس مشروع حضاري يحمل الصبغة الإسلامية، ونموذج نهضوي يكون بديلا عن النموذج الغربي ويخرج العرب والمسلمين من حالة التبعية المهينة للغرب المتفوق (راجع مناقشته المنصفة - في المقال الرابع - لمحاولة تصنيف الجماعات الإسلامية والعلمانية ومساندته لضرورة الحوار بينها).
وهو ينوه في مواضع كثيرة من دراساته ومقالاته بسماحة الإسلام، ومرونة الشرع واتساع صدره - على مدى التاريخ الإسلامي - للعديد من التفسيرات الخلاقة والاجتهادات المبدعة. بل إنه ليرجع أحد أسباب الضعف والتخلف اللذين أصابا المسلمين، في القرون التي أعقبت ذروة مجدهم ونهضتهم الوسيطة وحتى وقتنا الحاضر، إلى إغلاق أبواب الاجتهاد في تفسير النصوص المقدسة، والتشبث بآراء القدماء لمجرد قدمها - على رغم تغير الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية - والعجز عن التجديد والإبداع والمواءمة بين «المثال» الثابت والواقع المتغير - ويكفي أن يراجع القارئ مقاله المهم عن «النائب عن الله» الذي يتتبع فيه تطور فهم المفسرين المختلفين لمعنى كلمة «خليفة» و«خلافة»، وذلك من الطبري إلى علي شريعتي، ليرى كيف يرحب بالتفسيرات والتخريجات المختلفة لمعاني الكلمتين، وكيف يؤكد أن النص القرآني نفسه يسمح بمرونة الاجتهاد في التفسير إلى أقصى الحدود، ما دام الاجتهاد والتفسير يقعان داخل إطار الإيمان الصادق والنظر العقلي الصائب. (5) من الطبيعي أن يهتم المستشرقون بوجه عام بجوانب من ديننا وتاريخنا وتراثنا وحضارتنا لا نعطيها نحن القدر الكافي من الاهتمام. إن عين الآخر ترى ما لا نراه، وبحكم التعود والاطمئنان إلى المألوف والموروث تغيب عنا دقائق تاريخية وخفايا اجتماعية كثيرة ينتبه إليها الأجنبي الغريب بنظرة واحدة. من ذلك موضوع «البدو» أو «الأعراب» الذين وصفهم القرآن الكريم بالذين
آمنوا ولم يهاجروا ... فهم الفريق الثالث، إلى جانب المهاجرين والأنصار، الذين كان لهم وضع ديني وقانوني واجتماعي يميزهم عن هذين الفريقين، كما كانت لهم مشكلات تستحق الاهتمام بها من وجهة نظر التاريخ الاجتماعي والطبقي للإسلام (راجع المقال الثامن عن الذين آمنوا ولم يهاجروا)، ولعلهم كانوا يمثلون دور «الهامشيين» أو «الغرباء» الذين لم يندمجوا - على الأقل في فترة تاريخية معينة - في الجماعة الإسلامية اندماجا كاملا، وظلوا متمسكين - حتى بعد دخولهم في الإسلام - ببعض تقاليدهم وعاداتهم التي أخذوها ابنا عن أب عن جد، من حياتهم القبلية وانتمائهم القديم الموروث للقبيلة الذي كان يفوق أي انتماء آخر. وعلى الرغم من قصر هذه المقالة، فإنها في تقديري يمكن أن تفتح الباب لبحوث أشمل عن أوضاع هؤلاء البدو المغتربين أو الهامشيين، على الأقل في المرحلة المبكرة من تاريخ الإسلام. (6) وتشهد الدراسات والمقالات المقدمة في هذا الكتاب على عمق التعاطف العقلي والوجداني الذي يكنه المؤلف للإسلام والمسلمين (وربما يرجع أحد أسباب هذا المنحنى الفكري الموضوعي النزيه إلى انتمائه لبلد غير مثقل بتاريخ استعماري بغيض. ومن ثم لا تنطبق عليه الصورة التي رسمها إدوارد سعيد والعلامة محمود محمد شاكر للاستشراق المسخر لخدمة الاستعمار ...) وأوضح شاهد على هذا التعاطف المنصف والحكيم في وقت واحد هو المقال القصير الذي كتبه في سنة 1989م عن حاجة المسلمين الذين يعيشون في وطنه إلى تنظيم موحد يجمع شملهم على اختلاف لغاتهم وأصولهم، ويقرب الخلافات المذهبية التي طالما تسببت في التفريق بينهم، بل ودفعتهم في أوقات كثيرة إلى تجريد السيوف من أغمادها وكأنهم أعداء لم يوحد بينهم دين السلام والإسلام لوجه الله الواحد الذي وجههم لقبلة واحدة ... وقد كتب هذا المقال قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر المشئومة والمريبة، أي قبل أن تنخرط منظمات عديدة وتكتلات ضخمة من بعض العناصر اليهودية والمسيحية في تشويه صورة الإسلام والمسلمين، وتأليب القوى الغربية الغبية على شن الحرب عليهم وكأنهم أعدى أعداء السلام والنظام العالمي ... وأعتقد مخلصا أنه لو قدر للمؤلف أن يكتب هذا المقال بعد ذلك التاريخ المشئوم لما تغيرت لهجته الطيبة المتعاطفة، ولكن ماذا نفعل وقد أقعده المرض اللعين منذ حوالي سنة 1996م فحرمنا من نفثات قلم عالم إنسان يندر وجوده اليوم في العالم الغربي؟
وتتجلى أمانة «شتيبات» في عرضه الشامل للتطور السياسي والاجتماعي والحضاري الحديث في بعض البلاد العربية والإسلامية. وتدفعه هذه الأمانة إلى إلقاء الذنب في «خيبة الأمل» - التي تلخص الشعور العام للعرب والمسلمين بعد فشل نظمهم الحديثة على اختلاف أشكالها في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية وإنسانية حقيقية - على كاهل الدول الصناعية المتقدمة التي يرجع جزء كبير من «أزمة الوعي» في العالم العربي والإسلامي إلى إحساس شعوبها بالتبعية لها والاعتماد عليها، سواء جاء ذلك مباشرة من خلال مخترعات تلك الدول المتقدمة وأفكارها وخططها التي استعارها العرب والمسلمون وجربوها دون نجاح يذكر، أو جاء بطريقة غير مباشرة من «المتغربين» من أبنائها الذين حصروا كل جهدهم في نقل نموذج «الحداثة» الغربية أو الدعوة للاقتداء بالغرب، بدلا من مراعاة ظروفهم التاريخية والتراثية أو ظروفهم الحاضرة، ومحاولة وضع نموذج مستقل تتحقق فيه الهوية الحضارية الذاتية بغير انغلاق عن الغرب ولا تهالك عليه. وهذه الشجاعة التي لم تمنعه من تحميل الغرب المتقدم، بتاريخه الاستعماري المجرم والظالم، مسئولية الأزمة وخيبة الأمل اللتين ذكرنا مدى حدتهما، هي نفسها التي جعلته يفسر الدوافع الحقيقية وراء حركات «الإحياء» أو «الصحوة الإسلامية» على اختلاف توجهاتها وأهدافها، وأن يبرر احتجاجها على التبعية للقوى الأجنبية ونموذجها الحضاري، وسعيها للبحث في الدين والتراث الإسلامي عن «السند الخاص» والمنبع الأصيل لهويتها الحضارية. ولا شك في أن حيرة العربي والمسلم بين السندين والمنبعين - الخاص والأجنبي - هي أحد الأسباب الأساسية الكامنة وراء «وعيه الشقي» وخيبة أمله المريرة. بجانب أسباب أخرى ترجع - كما سبق القول - لفشل النظم المختلفة في البلاد العربية والإسلامية وعجزها عن تحقيق التنمية والتحديث والتقدم والتنوير ... إلخ، بصور واقعية ملموسة، وأشكال قادرة على التطوير والتغيير الحقيقيين بدلا من التخفي وراء الأقنعة الخطابية والبلاغية المكرورة (راجع بحثه المهم عن الدور السياسي للإسلام، وتأمل تحليله لمسيرة الدولة الدينية في كل من إيران وباكستان وليبيا، والمشكلات والعثرات التي ما زالت تقع فيها، وسوف تشعر شعورا واضحا بأنه يميل إلى موقف «الحداثيين» الذين نجحوا - على رغم الاعتراضات المستمرة من جانب الأصوليين التقليديين وعلماء الدين - في تأكيد أن وجود الدولة المرتكزة على الشرع لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع التأثر الصحي بثقافة الغرب ومحاكاته - محاكاة حرة وخلاقة - في علمه وتقدمه واحترامه للحقوق الإنسانية كافة لإقرار السيادة الشعبية وتبني النظم الديموقراطية، كتداول السلطة، وانتخاب رئيس الدولة وممثلي البرلمان انتخابا شعبيا ...) أي إنه يقف - في هذا المقال وفي غيره - في صف التفسير الخلاق للنصوص الشرعية بما يلائم الضرورات والحاجات المتغيرة بتغير الزمن وظروف الحياة، كما يعبر هنا وفي مواضع أخرى عن يقينه الراسخ بأن الإسلام يقدم للمسلم مجالا واسعا للاجتهاد وتقديم تفسيرات جديدة وشجاعة للنصوص الشرعية، واتخاذ قرارات خاصة قد تسير به إلى الأمام أو ترجع به إلى الوراء. (7) ويتضح المنهج التاريخي النقدي الذي يتبعه المؤلف بأجلى صورة في بحثه عن «عمر الأول» - أي عمر بن الخطاب رضي الله عنه - الذي كان وسوف يبقى رمزا خالدا للعدل الخالص، وقدوة عالية لكل حاكم في تاريخ هذه المنطقة التي ما فتئت تشتاق إلى العدل (منذ عهد «جلجاميش» طاغية أوروك - كما نعرفه من أساطير السومريين ومن الملحمة البابلية الشهيرة - حتى كبار الطغاة وصغارهم في العصر الحديث). ويحلل المؤرخ الكبير الحكايات والأساطير التي نسجت حول هذه الشخصية النادرة، ويشرح الظروف التاريخية التي نشأ فيها وغيرته كما غيرها، أو أنتجته - كما نقول اليوم - وأنتجها: كيف تمت كبرى الفتوح الإسلامية بفضل حكمته وتوجيهه وصلابة عزيمته، وكيف «دون» الدواوين لمواجهة مقتضيات المد الإسلامي في بلاد جديدة وحضارات عريقة، وكيف استطاع أن يدمج القبائل العربية النافرة في موكب الإيمان الزاحف وتحت راية الرسالة الجديدة الموجهة للبشر كافة، وكيف أصر حتى النهاية على التوحيد بين العروبة وعالمية الإسلام في كيان جوهري واحد. هل نقول إن هذا التاريخ المجيد من صنع عمر أم إن عمر نفسه من صنعه؟ ولكن عمر لم يكن ليفهم هذا السؤال وأمثاله، ونظرية البطل والبطولة في صنع التاريخ - كما تبناها كارلايل والعقاد، أو كما تصورها هيجل في زعمه بأن «دهاء العقل» أو الروح المطلق يسخر الأبطال العظام لتحقيق أغراضه - هذه النظرية لا تصلح أيضا لتفسير عظمة هذه الشخصية التي جسدت المثل الإسلامي الأعلى في الواقع أو قربته منه إلى أقصى حد تقدر عليه طاقة البشر. لقد كان عمر نفسه يتخذ ما اتخذ من قرارات حاسمة وصارمة وهو يعلم أنه مجرد أداة لتحقيق خطة إلهية عهد إليه بتنفيذها، ومن ثم تجلت عظمته في «اختراق التراث» واستلهامه وتفسيره على نحو خلاق للاستجابة للظروف التاريخية والحضارية الجديدة، وبذلك استطاع أن يشكل هذه الظروف التي عملت عملها كذلك في تشكيله. وبذلك يبقى عمر نموذجا للحفاظ على التراث وتجديده في آن واحد، وصوتا محذرا من التمسك العبودي به من ناحية، ومن تجاهله والقفز فوقه عن جهل ورعونة من ناحية أخرى. (8) وتصل الرحلة إلى نهايتها مع البحث الطويل المهم عن «المسلم والسلطة» الذي يتناول قضية «تطبيق الشريعة» وتاريخ الدولة الإسلامية منذ أن كانت مثلا أعلى تحقق في الواقع في ظل الدولة الإسلامية الأولى التي أسسها الرسول - عليه السلام - في المدينة، إلى أن ابتعد المثال بالتدريج عن الواقع، وتنكر شيئا فشيئا للمبادئ الإسلامية نفسها في انتخاب الخليفة وتعيينه والمساواة بين الحكام والمحكومين أمام الله والشرع، وذلك منذ أن أصبح الحكم في عهد الأمويين ملكية دنيوية ووراثية، واضطر بعض علماء الدين في العصر العباسي إلى تبرير وجود الأمير الغاصب والظالم والطاعة له درءا للفتنة، بعد أن أصبح الخليفة تابعا تبعية مطلقة للقواد المرتزقة في عهد البويهيين والسلاجقة - وذلك عملا بالحديث المنسوب إلى الرسول: إمام ظالم غشوم خير من فتنة تدوم - وكيف أثر هذا على مر التاريخ في موقف المسلم من السلطة بحيث أصبح - على الأقل منذ محنة ابن حنبل حتى يومنا الحاضر - هو موقف «التقية»: أي تبرير الخضوع المطلق للسلطة التي يرى المسلم وجهيها في وقت واحد: الوجه «الأبوي» الذي يتصور أنه يحميه ويكفل له أمنه ورزقه، والوجه الظالم الكريه الذي لا حيلة له معه وليس في وسعه تغييره ولا التمرد عليه - على الأقل في الأوساط السنية - خوفا على نظام الدنيا ووحدة الجماعة واتقاء للفتنة. والمهم أن البحث يبين مدى صعوبة «تطبيق الشريعة»، وفشل كل المحاولات التي بذلت - بعد دولة المدينة الأولى - عبر التاريخ الإسلامي لتقريب المثال من الواقع وتحقيق المبادئ الإسلامية في السياسة العملية. ولعل الباحث يريد أن يقول إن الدولة الدينية تنتمي إلى عالم المثل الذي يستحيل تحقيقه في الدنيا وفي واقع البشر، ولكن يمكن أن نعاين ظله على الأرض عندما نعيش في حمى دولة «متدينة» تهتدي بأنوار الدين وتأخذ في الوقت نفسه بالأساليب الحديثة المتفق عليها في الديموقراطية أو الحكم بالشورى (كانتخاب رئيس الدولة، وسيادة الشعب، وتعددية الأحزاب والمنابر، وتداول السلطة، وتحقيق المساواة بين الحكام والمحكومين أمام الشرع والقانون، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في التفكير والاعتقاد والتعبير والنقد). ولعل التجارب الأخيرة في تأسيس الدولة الإسلامية - كما ناقشها في بحث سابق عن الدور السياسي للإسلام وتمثلت في باكستان وإيران وليبيا وغيرها من المحاولات العشوائية القصيرة العمر - لعل هذه التجارب، التي لم يكتب لها الاستقرار حتى اليوم، أن تقنع المسلمين بأن تطبيق الشرع في هذه الدنيا ممكن إذا استطاعوا تحقيق التوازن بين متطلبات الدين والمتطلبات التي تفرضها روح العصر وضروراته وحاجاته المتجددة كل يوم بل كل لحظة. (9) تلك هي البحوث والمقالات «الإسلامية» التي عرضناها في هذا الكتاب عرضا أمينا ودقيقا بقدر الطاقة. وراعينا في ترتيبها أن نبدأ بأحدثها - من حيث زمن كتابتها - وأشدها التصاقا بظروفنا وقضايانا المعاصرة (وهي ترجع إلى سنة 1996م)، وصولا إلى البحوث المبكرة التي يرجع أحدها إلى منتصف السبعينيات. وقد رأيت من الضروري، لكي تكتمل رؤية المستعرب الكبير للتاريخ العربي والإسلامي أمام القارئ العربي، أن أقدم تلخيصا وافيا لأبرز بحوثه ومقالاته عن جوانب مهمة من تاريخ العرب الحديث، وبدايات حركة القومية العربية في سوريا ولبنان، ونكبة فلسطين، ومشكلات النظام الثوري في مصر بعد انهيار الوحدة مع سوريا، ونظام التعليم قبل الاحتلال البريطاني لمصر ومشروعات إصلاحه عند طه حسين، فضلا عن عرض مقالين عن روايتين لهما أهميتهما الفكرية والفنية معا، وهما طواحين بيروت وأولاد حارتنا.
Page inconnue
ونبدأ بمقال مبكر (يرجع إلى سنة 1944م) عن تحولات الاستقلال اللبناني. ويلاحظ الكاتب في البداية أن لبنان بلد له وضعه الخاص، على رغم أنه كان على الدوام جزءا من الشام، وهو يتتبع مراحل تاريخه منذ أن فتح المسلمون سوريا وخلصوها من السيادة البيزنطية في سنة 635م، ودعم فيها الخلفاء الأمويون (من 660 إلى 750م) دولتهم ولم يفكروا في الاستيلاء على لبنان ولا اكترث كذلك الخلفاء العباسيون بالإمارات الصغيرة التي بدأت تتكون فيه. وعرف الصليبيون أهمية الموقع الاستراتيجي للبنان فأسسوا فيه «بارونيات» و«دوقيات » عديدة، مما ساعد الجماعات المسيحية على تأكيد وضعها، لا سيما بعد انضمام المارونيين في سنة 1182م إلى الكنيسة الكاثوليكية.
ويواصل الكاتب تتبعه لتاريخ لبنان من التنوخيين الذين خضعوا للدولة العثمانية في بداية القرن السادس عشر، إلى الشهابيين الذين حاولوا تأسيس دولة لبنانية مستقلة وتحالفوا مع محمد علي في تمرده على الباب العالي، ثم ذهبت ريحهم بعد أن مني بالهزيمة واضطر في سنة 1840م للانسحاب من سوريا. ثم يتحدث عن العلاقات الحميمة التي ربطت المارونيين اللبنانيين بفرنسا. وذلك منذ الحروب الصليبية وحملة نابليون الفاشلة على سوريا في سنة 1799م إلى أن أصبحت فرنسا حتى يومنا الحاضر هي سقف الحماية الذي يستظل به المسيحيون اللبنانيون الذين كانوا - من خلال اتصالهم بالغرب - رواد النهضة العربية ثم رواد حركة القومية العربية بعد أن انتبهوا إلى خطر الهيمنة الغربية وأدركوا - بحكم اللغة والتراث والمصالح المشتركة - أنهم جزء لا يتجزأ من العالم العربي. وهكذا انتهت أولى مراحل الاستقلال بثورة اللبنانيين في سنة 1916م على الحكم العثماني.
وبعد إعلان وصاية فرنسا على لبنان في أبريل سنة 1920م، طالب المارونيون باستقلال لبنان بمساعدة فرنسا وحمايتها. وأعلن المندوب السامي الفرنسي الجنرال جورو قيام دولة لبنان الكبير في اليوم الأول من شهر سبتمبر سنة 1920م - وبدأت خلافات الشعب اللبناني مع وصاته الذين أخذوا يعوقون استقلاله الحقيقي بشتى الطرق. ولما زحفت أمواج الثورة السورية الكبرى على الاحتلال الفرنسي في سنة 1925م؛ حاول الفرنسيون إرضاء اللبنانيين، وسمحوا لمجلسهم النيابي بوضع دستور الجمهورية اللبنانية الذي أعلن في شهر مايو سنة 1926م وتكون في أثره المجلس الوزاري والمجلس النيابي، وتولى رئاسة الحكومة الشيخ الماروني بشارة الخوري الذي لم يلبث أن استقال من منصبه، وأخذت تتداول كراسي السلطة شخصيات عديدة؛ مما أدى إلى حل المجلس النيابي وفشل أول دستور لبناني.
وتبنت دولة الوصاية سياسة جديدة اقتدت فيها بالسياسة التي اتبعتها إنجلترا مع العراق ومصر، فأحلت معاهدتي التحالف والصداقة مع فرنسا (نوفمبر 1936م) محل الوصاية. وسارع المفاوض اللبناني بإعلان استقلال لبنان على الرغم من بقاء قوات الاحتلال حتى اتفاق آخر، مما أثار دعاة الوحدة العربية وأشعل نيران الغضب والقلق. ولم تلتزم فرنسا لا بالمعاهدة التي أبرمتها مع سوريا ولا مع لبنان، ودفعتها ظروف الحرب العظمى الثانية إلى حل البرلمان وإلغاء الدستور (سبتمبر 1939م) وعجزت سياستها عن حمل السكان - باستثناء المارونيين - على التعاون معها. ونشب الصراع على القوة بين فرنسا وبريطانيا العظمى آنذاك على مراكز سلطاتهما في الهلال الخصيب. وتحت شعارات الاستقلال للبلدين زحفت القوات البريطانية وقوات ديجول في صيف سنة 1941م على سوريا ولبنان فاحتلتهما، وأعلنت الولايات المتحدة أيضا أنها تضمن هذا الاستقلال الوهمي ... وتوالى الصراع بين الأحزاب اللبنانية المختلفة حتى كلف رياض الصلح - المعروف بحماسه للوحدة العربية وعروبة لبنان - بتأليف الوزارة، وشرع في تعديل الدستور وحذف كل المواد التي تشير فيه إلى الوصاية من قريب أو بعيد. وغضب مندوب فرنسا وأمر (في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1943م) باعتقال رئيس الجمهورية - بشارة الخوري - ورئيس الوزراء رياض الصلح. وكان من الطبيعي أن يثور الشعب وتشتعل نيران الغضب، وأن يستمر الصراع بين الفرنسيين والإنجليز على الهيمنة والسيطرة. وبدأت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تشاركان في اللعبة لأخذ نصيبهما من غنيمة الشرق الأوسط. وأفلحت بريطانيا في عرقلة أي تدخل من جانب واشنطن وموسكو في شئون الشرق، ونافقت العرب على طريقتها فمالأت أمانيهم وطموحاتهم، ووقفت في الظاهر ضد سياسة ديجول، كما وقفت الشعوب العربية والإسلامية في صف الكفاح اللبناني من أجل الاستقلال باعتباره جزءا لا يتجزأ من قضية الوحدة العربية الشاملة.
تلك كانت تجربة لبنان الصعبة في سنة 1944م، أي قبل إعلان انتهاء الحرب العظمى الثانية بما يقرب من عام واحد. ولأن المؤلف ينتمي - كما سبق القول - إلى بلد لا تثقل ضميره ولا ذاكرته ذنوب تاريخ استعماري لأي بلد شرقي أو عربي، فليس غريبا عليه أن يتعاطف مع طموح لبنان وكفاحه في سبيل الاستقلال عن فرنسا (بالرغم من حرص المارونيين حتى اليوم الحاضر على الحفاظ على العلاقات الثقافية وصلات الود معها)، وفي سبيل الانضمام إلى صفوف الأمة العربية في وقت كانت قد ارتفعت فيه الأصوات المنادية بإنشاء الجامعة العربية، وبدأت فيه المشاورات والاجتماعات التي سبقت إعلان مولدها. ولعل أهم ما في هذا المقال وأدله على تفهم «شتيبات» لقضية العرب الأولى والأخيرة أنه يؤكد ضرورة اندماج لبنان في الكيان العربي الأكبر وتماهي مصالحه الذاتية مع المصلحة العربية العامة، كما يعبر بصدق عن تطلعه لاستقلال العرب جميعا عن فرنسا وبريطانيا والغرب كله. (10) ونأتي إلى مقاله المبكر أيضا عن طريق الأمة الجزائرية (1961م) الذي يشيد فيه بالكفاح الأسطوري للشعب الجزائري في سبيل الاستقلال (الذي كتب عنه في مقالات سابقة نشرت في «أرشيف أوروبا» من سنة 1958 إلى سنة 1961م) كما يخصص المقال لبيان المقدمات الروحية والاجتماعية التي عززت حركة التحرير المجيدة وزودت شعلة ثورتها بالوقود الضروري.
ويبدأ المؤلف بالكلام عن الوعي القومي عند الجزائريين بين الذين يؤكدون وجوده والذين ينكرونه (من دعاة الجزائر الفرنسية). ثم يتتبع نشأة هذا الوعي القومي وتكوينه نتيجة ردود الفعل الساخطة على فظائع الاستعمار الفرنسي وجرائمه السياسية والاقتصادية، ويرصد بداياته الأولى بعد نهاية الحرب العظمى الأولى على يد علماء الدين المسلمين قبل غيرهم من «النخب» الجزائرية التي تربت في المدارس الفرنسية التي زيفت وعيها فلم ينتبه لبشاعة «الفرنسة» إلا بالتدريج. واندلعت شرارة التمرد الأول الذي تفجر في ليلة الواحد والثلاثين من أكتوبر سنة 1954 فأيقظت الغافلين على صحوة الوعي القومي الجزائري، كما أججت نيران التعصب والتشبث بشعارات الفرنسة عند المستعمرين من قصار النظر ومحدودي الأفق. ولكن اكتشاف أول شبكة كبرى لجبهة التحرير الجزائرية في السادس من فبراير سنة 1956، والحكم بالإعدام على بعض أعضائها وتنفيذ ذلك الحكم الأعمى في التاسع عشر من شهر يونيو من العام نفسه؛ أديا إلى تصاعد لهيب ثورة التحرير من تلك الشرارة الأولى، وإلى تماهي الشعب مع الثوار، وتزايد القمع والاضطهاد من جانب المستعمرين الذين أخذوا يكتشفون مدى تجذر جبهة التحرير في أرض الجماهير.
ويتتبع الباحث تطور «الثورة المنظمة» التي لم تكن مجرد تمرد فوضوي، ويتحدث عن قيادتها الوطنية والجماعية التي ينفي عنها أي تبعية لموسكو أو أي تأثر بالشيوعية، كما يشيد بتصميمها المستمر على رفض أي نوع من التبعية لفرنسا أو أي بديل عن الاستقلال والاعتراف بحق الجزائر في تقرير المصير، واعتراضهم القوي على اقتطاع الصحراء الكبرى بكنوزها الغنية وضمها إلى فرنسا لدى أي حل أو تفاهم منتظر، كل هذا يشرحه المؤلف بروح التعاطف والإنصاف لهذه الثورة المجيدة وقادتها، وذلك قبل حصول الجزائر على الاستقلال الكامل بعد كتابة المقال بعام واحد. (11) ويعرض المؤلف في مقاله عن «بداية مرحلة جديدة في مسيرة الثورة الناصرية» (1962م) للصدمة القاسية التي أدمت قلوب المؤمنين بالوحدة العربية على أثر انفصال «القطر السوري» في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1961م عن «القطر المصري» وتصدع ما كان يسمى بالجمهورية العربية المتحدة التي لم تكد تعمر ثلاث سنوات بعد إعلان قيامها في الأول من شهر فبراير سنة 1958م، ولكن قسوة الصدمة ومرارتها لم تثن عزيمة عبد الناصر عن التمسك بالوحدة العربية، ولا عن استكمال البناء الثوري في مصر - قاعدة هرم الوحدة الكبرى - من خلال تطوير الاقتصاد لزيادة الإنتاج والدخل، والتوزيع العادل للثروة، وتعديل الدستور، والتوسع في التصنيع - ابتداء من الخطة الخمسية التي بدأت سنة 1957م - وإشراك الشعب في تحمل مسئولية العمل الجماعي عن طريق الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي. ويناقش المقال عناصر هذا البرنامج الثوري الذي كان يهدف - كما قال عبد الناصر في الخطاب الذي ألقاه في الخامس من ديسمبر سنة 1957م - إلى خلق مجتمع اشتراكي وديموقراطي وتعاوني: إجراءات التأميم والمصادرة والتوسع في القطاع العام، وتطبيق قوانين يوليو الاشتراكية الشهيرة، والعمل على تحقيق نوع من الديموقراطية «الموجهة» - التي لم يشارك فيها الشعب قط مشاركة حقيقية، لا لأن وعيه لم يبلغ بعد درجة كافية من النضج، كما زعم بعض المسئولين آنذاك، بل لأن الإجراءات البيروقراطية والبوليسية كانت من التعقيد والجفاف والقسوة بحيث لم تجذب الناس لتطويق رقابهم بنير العمل السياسي الذي تمسك الدولة القمعية بكل خيوطه - والمهم بعد كل شيء أن الأهداف الكبرى للثورة الناصرية - كزيادة الإنتاج، وإقامة العدل الاجتماعي، ومشاركة المواطنين في العمل العام - لم تكن لتتحقق، كما تمنى النظام الحاكم، بالوسائل التي اختارها تحت إشرافه ورقابته. ويبدي المؤلف في النهاية مخاوفه من أن تؤدي الطرق التي اختار النظام الناصري السير فيها إلى كارثة تهدد عربة النظام والبلاد كلها بالسقوط في هاويتها. ومع أنه يتمنى في آخر المقال ألا يحدث هذا، وأن يتكفل الزمن بنجاح التجربة، فإن النكسة الفاجعة التي حلت بالنظام وبالبلاد كلها بعد كتابة هذا المقال بست سنوات حققت مخاوفه ولم تصدق نبوءته الطيبة. (12) والجدير ذكره أن المؤلف كتب بعد مرور سنتين على المقال السابق (أي في سنة 1964م) مقالا آخر مفعما بالمحبة والتقدير والبصيرة عن جمال عبد الناصر وجهوده في بداية الثورة للبحث عن «طريق خاص» لم يلبث أن وجده - بعد تجارب مريرة من المحاولة والخطأ - فيما سمي بعد ذلك بالاشتراكية العربية - وهو يتابع فيه مساعي عبد الناصر ورفاقه لتعبيد طريق التحديث العقلاني والإصلاح الجذري (كما يتجلى في قانون الإصلاح الزراعي ومحاربة الإقطاع واحتكار رأس المال وقانون الأحوال الشخصية وإلغاء المحاكم الشرعية، وفي قانون إصلاح جامعة الأزهر وتحديثها بالدراسات العلمية المواكبة للعصر، والنهوض بأوضاع المرأة ومنحها حق الانتخاب، وتنظيم الأسرة للحد من الانفجار السكاني، والتخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على جميع المستويات وغير ذلك من القوانين الصادرة في يوليو سنة 1961م وما نص عليه «الميثاق» في عام 1962م). وكأنما يريد المؤلف ضمنا أن يقول إن ثورة عبد الناصر أصبحت هي اليد العسكرية التي تنفذ في الواقع بعض أفكار الإمام محمد عبده وتلاميذه وأتباعه العظام من رواد حركة التنوير، وفي مقدمتها فكرة عدم التعارض ولا التناقض بين الوحي والعقل، ولا بين الشريعة والتقدم العلمي والاجتماعي.
ومع الاعتراف بكل هذه الجهود المخلصة، وبأن معظم تصورات الثورة ومفاهيمها عن الإصلاح لم تنبع من مصادر أجنبية بل من تاريخ مصر الحديث في مواجهة العالم الغربي، فإن الثورة الناصرية لم تنجح في رفع مستوى معيشة الشعب ولا في تقريبه من الدولة - دع عنك تحقيق التماهي بينهما - وربما يرجع أهم أسباب ذلك الفشل إلى عجز الأدوات والوسائل التي استخدمها النظام وضراوتها وقسوتها في آن واحد (البيروقراطية الجاهلة والانتهازية من ناحية، ومصادرة الحريات والاعتقال والتعذيب المخيف من ناحية أخرى ). وعلى الرغم من ترديد الزعيم أن الثورة هي ثورة الشعب، وأنها تتعلم من حكمة الشعب، فإن هذا لم يمنع الشعب نفسه من الإحساس بخيبة الأمل في كثير من الإجراءات «الثورية» التي زادت من سلبيته وسوء ظنه بالسلطة، وشدة وعيه بالانفصام بين الكلام والفعل، بين الشعار الرنان والواقع البائس - ولعل ذلك كله يرجع أيضا فيما يرجع إليه للقرارات الدكتاتورية المفاجئة والمتعجلة، واللجوء للإجراءات العنيفة في إدارة الثورة (وفشل الإدارة هنا وفي كل مجال آخر قد كان وما يزال هو الطامة الكبرى ورأس المصائب كلها)، أي يرجع للاستبداد الفردي الذي ألقى عبء التطوير الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي على عاتق جهاز بيروقراطي جاهل وفاسد، ومع ذلك فإن المقال في مجموعه يقوم على فهم الثورة من داخلها وفي سياق ظروفها التاريخية المحددة، كما يقترب منها بكل التعاطف والإنصاف والتقدير لمبادئها ومثلها، مع الاحتفاظ بحقه في نقدها نقدا موضوعيا ومشفقا في الوقت نفسه من مغبة جموحها وعنفها ... وإذا كانت «النكسة» قد كشفت الغطاء - بعد كتابة هذا المقال بثلاث سنوات - عن أن التطوير والتغيير الحقيقيين مستحيلان في غياب الحرية والديموقراطية الحقيقية، فإن ذلك لا يقلل أبدا من قيمة التعاطف والإنصاف اللذين يبديهما الأستاذ شتيبات، في تناوله للثورة ومراحل تطورها وإيجابياتها وسلبياتها حتى تاريخ كتابة مقاله في سنة 1964م برؤية المؤرخ الدقيق والمشارك معا ... (13) وقد اهتم المؤرخ الكبير اهتماما خاصا بنشأة الوعي القومي العربي وبداية حركة القومية العربية في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر في كل من سوريا ولبنان وهو يلقي الضوء على هذه القضية في بحثه المنشور سنة 1969م عن «حركة الأعيان السوريين بين عامي 1877 و1878م»، وهو يبين فيه كيف بدأت هذه الحركة على يد خمسة من المسيحيين الشبان الذين ألفوا جمعية سرية التفت - مع بقية النخب المسيحية المثقفة - حول الكلية البروتستنتينية السورية (التي أصبحت في وقت لاحق هي الجامعة الأمريكية في بيروت) لبعث الوعي القومي العربي والدعوة لاستقلال سوريا ولبنان، وفي الوقت نفسه قامت حركة أخرى لتحقيق الهدف ذاته وكتب لها أن تكون أكثر وضوحا وأقوى تأثيرا، وهي «حركة الأعيان السوريين» التي تكونت في ثمانينيات القرن التاسع عشر بعد هزيمة الدولة العثمانية في حربها مع روسيا (1877-1878م) هزيمة ساحقة، وخوف العرب في الشام من أن تستغل إحدى القوى الأوروبية تلك الفرصة فتبدلهم بالاحتلال العثماني السيئ احتلالا أوروبيا أسوأ منه.
هكذا تألفت تلك الجماعة تحت قيادة اللبناني أحمد باشا الصلح (1818-1893م) وعقدت مؤتمرها الأول الذي ضم ثلاثين من أعيان المسلمين في سنة 1878م، وقرر المطالبة باستقلال البلاد الشامية وتتويج المجاهد الجزائري الأمير عبد القادر ملكا عليها (وكان يقيم في ذلك الحين في قصره في «دمر»، واشترط على أعضاء المؤتمر الإبقاء على «الرابطة الروحية» مع الدولة العثمانية والحصول على مبايعة جميع السكان من مختلف الطوائف والمذاهب).
كتب المؤلف هذا البحث بمناسبة ظهور كتاب «سطور الرسالة» الذي وضعه «عادل الصلح» حفيد قائد جماعة الأعيان التي سبق ذكرها، وظهر في بيروت سنة 1966م فلفت الأنظار إلى تلك الحركة التي كانت مجهولة وشبه منسية، وجمع فيه من فم والده «محمود منح الصلح» (1856-1920م) ومعلمه أحمد عباس الأزهري (1853-1927م) مادة شفاهية غزيرة قام بوضعها في سياقها التاريخي الأشمل، وناقش مدى دقتها واحتمالات صدقها وتطابقها مع الواقع.
Page inconnue
ويتابع الباحث قصة هذه الحركة، والأخبار التي وردت عنها في بعض كتب السير الشيعية والمارونية، وأسماء أعضائها العاملين الذين ثبتت أسماء سبعة منهم على الأقل، مع أسماء عدد آخر من المنتمين للحركة من مختلف الطوائف والجماعات الدينية (السنة والشيعة والعلويين والدروز، بجانب أحد القادة المسيحيين المنادين باستقلال «الجنس العربي» و«القبائل العربية» عن الدولة العثمانية «الظالمة والمهملة للشريعة»، وهو الماروني «يوسف بك كرم» (1823-1889م) الذي ثبت أنه أجرى اتصالات مختلفة مع الأمير عبد القادر الجزائري بشأن استقلال الشام، وإن لم يثبت انتماؤه الفعلي للحركة سابقة الذكر).
ويتابع الباحث تأسيس جمعية المقاصد الخيرية في بيروت (1878م) في صيدا (1879م) بفضل أحد أعضاء الحركة، وهو محمود منح الصلح، كما يتوقف عند نبأ النشرات الثلاث التي طالبت باستقلال الشام وعلقتها الحركة في بيروت، ولما بلغ خبرها إلى أسماع الباب العالي في إسطنبول أقيل مدحت باشا (1822-1883م) بسببها ونقل إلى أزمير.
1
ويستطرد الباحث فيتحدث عن تأسيس المحفل الماسوني السوري واللبناني في دمشق وبيروت، ودورهما في الجمع بين الطوائف الدينية المختلفة، والصلات القائمة بينهما وبين المحفل الماسوني بالقاهرة والمحافل الأوروبية، وعن انتماء بعض أعضاء حركة الأعيان السوريين والحركة الإسلامية الثائرة على الاحتلال البريطاني - مثل الأفغاني ومحمد عبده - إلى هذه المحافل السرية، وذلك فضلا عن الأمير عبد القادر الجزائري نفسه، ومع ذلك فلم تزل حقيقة هذه العلاقات المتشابكة قيد البحث، كما أن حركة الأعيان نفسها التي أسست سنة 1877م لم يكد يسمع لها صوت بعد زوال الأزمة التركية على أثر توقيع معاهدة الصلح مع روسيا (1878م)، وبعد تعرض بعض أعضائها للنفي أو للعيش تحت الحصار. والمهم بعد كل شيء أن الجمعيتين السريتين لشباب المثقفين المسيحيين وأعيان سوريا المسلمين قد تعاونا معا على المطالبة بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وأشرق معهما فجر الوعي القومي العربي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وعبرا عن الرغبة القوية في تأسيس دولة شامية مستقلة يتآخى فيها المسلم والمسيحي والدرزي، لا سيما بعد المذابح الدموية التي جرت سنة 1860م في جبل لبنان وفي دمشق، بسبب الصراع بين الدروز والمسلمين والمسيحيين.
2
ولا شك في أن المناخ الذي ساد بعد هذه المذابح قد ساعد على تقارب أبناء جميع الطوائف الدينية والعلمانية في سبيل الاستقلال وخوفا من التدخل الأوروبي، ويكفي أن تلك الفترة الزمنية التي لا تزيد على ربع القرن قد شهدت تأسيس الجمعية العلمية السورية، وجمعية المقاصد الخيرية، والمدرسة الوطنية التي فتح بطرس البستاني أبوابها لأبناء الوطن الشامي بغير تفرقة أو تمييز ... (14) ونأتي إلى مقال طريف يلقي الضوء على عراقة الشعور بالوحدة الوطنية بين العرب من مسيحيين ومسلمين، وعلى بزوغ فجر الوعي الوطني بالاستقلال وبالوحدة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر ... والمقال بعنوان: «عقد اجتماعي في مدينة فلسطينية» (ويرجع تاريخ كتابته لعام 1947م) ويورد المقال نص وثيقة أو حجة مهمة ترجع إلى سنة 1854 ميلادية/1270 هجرية، وتحتوي على «عقد اجتماعي» جرى توقيعه بأيدي ممثلي الطوائف الدينية في مدينة الناصرة وبعض القرى المجاورة لها. وقد وجد المؤلف هذه الوثيقة في كتاب «تاريخ الناصرة للقس البروتستنتي أسعد منصور» (طبع مطبعة الهلال، القاهرة 1924م) ... والموقعون على هذه الوثيقة النادرة ثلاثة وعشرون من سكان الناصرة وقريتين قريبتين منها «المشهد واكسال»، بجانب تسعة وثلاثين من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك والمارونيين والفرنسيسكان والبروتستنت، وكتب الوثيقة «العبد الفقير إلى الله محمد أمين الفاهوم» نائب الناصرة - أو قاضيها - في ذلك الحين ... وتنص الوثيقة على عدة بنود تؤكد تعهد أهالي الناصرة من شتى الطوائف الدينية على التعاون فيما بينهم لمواجهة الشر والفساد، وردع الطغيان والعدوان من جانب اللصوص وقطاع الطريق والأشقياء الخارجين عن طاعة «الدولة العلية»، ومن لم يرتدع منهم بالتي هي أحسن يقتل وتوزع ديته على «المتعامين» (أي على المتعاقدين أو المتعاهدين الذين صاروا كأولاد الأعمام) من أهل الناصرة - وإن قتل أحد المتعامين وأخذت ديته فثلث ديته إلى وارثه خاصة والثلثان إلى المتعامين. والجدير ذكره أن الحجة حفظت عند وكيل دير الناصرة لتكون سندا لهم إلى ما شاء الله ...
تلك هي وثيقة «المعامة» - أي عهد «العمومية» - أو العقد الاجتماعي الموقع بأيدي أولاد العمومة من الطوائف الدينية المختلفة لدرء الشر عنهم. ولعل أهل الناصرة قد أخذوا الكلمات التي تدل على وحدة أبناء العمومة من قبائل البدو التي كانت تحيط بهم أو كان بعضها يستوطن الناصرة، إذ يعتبر كل من ينتمي إلى القبيلة من أبناء العم، كما أن بعض التفاصيل الأخرى عن توزيع الدية وتوريثها مأخوذ عن القوانين المعمول بها لدى تلك القبائل.
وأهم ما يلفت النظر في هذه الوثيقة أنها تضم مختلف الطوائف الدينية في وحدة أو عصبة واحدة لمواجهة الشر والأشرار، وأنها تحاول أن تضفي على هذه الوحدة طابعا شرعيا بوضعها في إطار الشريعة الإسلامية (لاحظ أن كاتب الوثيقة قاض مسلم، وأنه يستخدم فيها مصطلحات ومفاهيم من الشريعة الإسلامية كما يذكر في نهايتها أنها وقعت بشهادة أربعة شهود ...) وأنها تلجأ إلى بعض التقاليد القبلية السائدة - كالثأر والدية - لحل المشكلات التي تعترض المجتمع عن طريق تقاليد قبلية أخرى - «كالمعامة» التي تنص عليها الوثيقة - وأنها أخيرا لا توحد بين عائلات أو قبائل، وإنما توحد بين طوائف وجماعات دينية مختلفة من حيث المذهب، ولكنها ذات مصلحة واحدة وهدف واحد.
ولكن ما الظروف التي أدت إلى توقيع هذه الوثيقة أو التي أحاطت بها؟
إن القس البروتستنتي أسعد منصور الذي وضع عنها كتابه المذكور من قبل ليس لديه إلا القليل الذي يقوله عن هذه الظروف: الاضطراب والفوضى اللذان عما البلاد بين عامي 1854 و1855م وأديا إلى الاعتداءات على أهالي الناصرة، والقحط والجدري اللذان انتشر وباؤهما في فلسطين في الفترة نفسها، ووقوف الحكومة عاجزة عن مواجهة القلاقل والحيلولة دون سفك الدماء في الجليل والخليل والمناطق الجبلية المحيطة بهما. أضف إلى ذلك الخلافات القائمة بين الطوائف المسيحية (التي بدأت تفد على المدينة وتثبت أقدامها فيها منذ بداية القرن السابع عشر، بعد أن كان المسيحيون قد تركوها تماما إثر استعادة المسلمين لفلسطين في أواخر الحروب الصليبية وتدمير الظاهر بيبرس لمدينة الناصرة سنة 661 للهجرة/1263 ميلادية)، إلى جانب الصراعات التي كانت تنشب بين العائلات الكبيرة على «مشيخة» الطوائف والجماعات الدينية المختلفة؛ إذ كان الوالي العثماني في صيدا ينتخب من هذه العائلات «مختارا»، وهي كلمة استبدلتها السلطة بكلمة «الشيخ» بعد انتهاء الاحتلال المصري للشام في سنة 1840م.
Page inconnue
وأخيرا فإن من أهم ما يجذب الانتباه إلى هذه الوثيقة المصطلح الذي تستخدمه للدلالة على توحد أبناء الطوائف والجماعات الدينية، كما يتوحد أبناء العم، في مواجهة خطر مشترك «عهد عمومية، متعامين، تعاموا، المعامة» ولكن جذر الكلمة ومشتقاتها - لا سيما الاسم عم والفعل عم والصيغة المصدرية «المعامة» - يمكن أن تنطوي أيضا على معنى «العامة» في مقابل الخاصة، كما يمكن أن تذكرنا على نحو ما بالحركات «العامية» التي كانت تطلق في العصر نفسه في لبنان على هبات «العامة» أو ثوراتهم الشعبية للمطالبة بتغييرات معينة في ظروف حياتهم الاجتماعية والسياسية والمعيشية، وتحملهم على تجميع صفوفهم كما يفعل أبناء العم «المتعامون»، وتجعلهم يتجاوزون كل الحدود الاجتماعية والدينية في وعي جماعي منظم يطمح إلى التغيير بالحسنى والوسائل السلمية قبل اللجوء إلى وسائل الردع المذكورة في الوثيقة. وهكذا ارتبطت كلمتا العم والعام والعامة في دلالات هذه «المعامة» التي وحدت مشاعر الفئات والطوائف المختلفة، وأطلقت في فضاء النفوس تلك الشرارة التي سرعان ما اشتعلت نيرانها وتوهجت أنوارها في وعي قومي ثائر على العثمانيين ثم على الفرنسيين، ووضعت الأسس الضرورية في أواخر القرن التاسع عشر للوعي العربي الحق، والوحدة العربية المأمولة ...
وإذا كان مؤلف الكتاب الذي ورد فيه نص الوثيقة لا يخبرنا عن أي أثر مباشر أو ملموس لها في واقع الحياة في مدينة الناصرة، فربما تكمن أهميتها التاريخية في أنها تعكس، أو على الأقل توحي، بملمح من تلك الوحدة التي ربطت بين الطوائف الدينية المختلفة في مرحلة متأخرة، ومن المؤكد أنها تعطينا لمحة بديعة عن وحدة الوعي العربي الذي هب ثائرا في وجه الطغيان الأجنبي، وما زال يسعى لتحقيق حلمه الأكبر بالوحدة العربية. (15) ونأتي إلى دراسات المؤلف عن مشكلة التعليم في العالم العربي ومصر بوجه خاص، ونكتفي منها بدراسته عن مشروعات التعليم في مصر قبل الاحتلال البريطاني.
3
لقد ظل نظام التعليم الإسلامي طوال العصر الوسيط وحتى بدايات العصر الحديث يحقق وظيفته في تزويد النشء بالمعارف الدينية (تحفيظ القرآن الكريم والإلمام ببعض العلوم الدينية وبعض المهارات العملية كمبادئ الحساب - وتأكيد وعيهم بالانتماء للأمة الإسلامية أو ل «دار الإسلام»). وقد حاولت بعض الحكومات استغلال هذا التعليم لتحقيق مصالحها وأغراضها - كما فعل السلاجقة السنيون بتأسيس «المدارس» لمكافحة التأثيرات الضارة لبعض المذاهب والقوى المناوئة. لم تكن هذه المدارس الإسلامية بوجه عام تمثل جزءا من نظام الدولة أو من جهازها الإداري، غير أن الأحوال تغيرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما أنشأ محمد علي «مدارسه» الحديثة لتدريب المهنيين والحرفيين على اختلافهم لخدمة «دولته». لم يهتم محمد علي أدنى اهتمام بأن يكون التعليم «وطنيا» أو«شعبيا» أو لتحصيل المعرفة أو العلم لذاته. صحيح أن قرار تأسيس المدارس الأولية في سنة 1836م قد جاء فيه أن أحد أهدافه هو «نشر مبادئ العلوم بين الأهالي» (ارجع للكتاب القيم المهم لأحمد عزت عبد الكريم عن تاريخ التعليم في عهد محمد علي، القاهرة 1938م، ص681، وكذلك ص149 وما بعدها ...) ولكن يبدو أن هذا كان مجرد كلام يردد صدى المثل المعمول بها في أوروبا دون اقتناع حقيقي من الحاكم. يدل على هذا أن محمد علي ينصح ابنه إبراهيم في أحد توجيهاته المكتوبة في الوقت نفسه على وجه التقريب بألا يتعدى التعليم حدود التدريب على خدمة الدولة (المرجع السابق ص30-40). ولكن إبراهيم نفسه كان فيما يبدو أكثر انفتاحا على القيم والمثل العليا للتعليم الأوروبي، فقد صدق في سنة 1847م - عندما كان هو الحاكم الفعلي مكان أبيه - على مشروع مقدم من «إبراهيم أدهم» - ناظر ديوان المدارس الذي تلقى تعليمه في إنجلترا - بتأسيس عدد من المدارس الأولية الحكومية التي كان من المفترض فيها أن تعطي الطلاب ما يزيد على الحاجة لمجرد «تدريب خدام» للحكومة، والجدير ذكره أن أول محاولة لإدخال المناهج الغربية في التعليم قد تمت في هذه المدارس التي أطلق عليها اسم «مكاتب الملة»، وكانت الكلمة الأخيرة في أواخر القرن التاسع عشر تستخدم بمعنى مرادف لكلمة الوطن.
4
مهما يكن الأمر فقد أهمل مشروع هذه المكاتب بعد وفاة محمد علي وابنه إبراهيم في سنة 1848م. وجاء حاكما مصر التاليان وهما عباس الأول (1848-1854م) وسعيد (1854-1863م) فلم يقدما شيئا يذكر للنهوض بالتعليم، ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى المشروع الموسع الذي قدمه إبراهيم أدهم لسعيد بعد توليه الحكم مباشرة، بتأسيس نظام جديد للمدارس الشعبية التي تشرف عليها الحكومة وتأخذ بالمناهج الأوروبية في التعليم وتدمج فيها المدارس التقليدية بالتدريج. وقد نص هذا المشروع على أن تقدم هذه المدارس للأطفال قدرا طيبا من التعليم العام الذي ينفعهم في مختلف ميادين حياتهم، كما استبعد أساليب القهر التي اتبعتها المدارس في عهد محمد علي، فنص كذلك على أن يكون الدخول فيها اختياريا، وألا يرغم التلاميذ على المبيت فيها، بل يصرح لهم بالبقاء مع عائلاتهم. وعلى رغم أن عددا كبيرا من الآباء رحبوا بالنظام المقترح وبعثوا بالتماساتهم الحارة لقبول أبنائهم - وذلك بسبب الاهتمام المتزايد لدى المصريين بالتعليم الحديث الذي رأوا نماذجه في المدارس الأجنبية التي تزايد عددها منذ منتصف القرن التاسع عشر (لا سيما في عهد سعيد)، وإن كان بعضها قد وجد منذ منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن الثامن عشر (المرجع السابق، ص670) - على رغم ما سبق ذكره فإن المشروع كله لم يخرج إلى حيز التنفيذ، وإن ثبت بعد ذلك أنه لم ينس تمام النسيان ...
ولعل أحد أسباب تزايد اهتمام المصريين بالتعليم الحديث هو إعجابهم بنماذج المدارس الأجنبية الحديثة التي تصاعد عددها في عهد سعيد كما سبق القول، بحيث بلغ عند وفاة سعيد تسعا وخمسين مدرسة، ثم قفز عدد المدارس التي أسستها الجاليات الأجنبية والأقلية القبطية (افتتح كيروللوس الرابع بطريرك الأقباط أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م) إلى 127 مدرسة في عهد إسماعيل (1863-1879م) ووصل عددها في سنة 1878م إلى 146 مدرسة فتحت أبوابها كذلك لأبناء المسلمين.
ولا شك في أن تكاثر هذه المدارس يرجع، لحد كبير، إلى تصاعد أعداد المهاجرين الأوروبيين إلى مصر منذ أن بدأت مع الحملة الفرنسية وفي عهد محمد علي، إلى أن بلغت ذروتها أثناء حفر قناة السويس وازدهار التجارة في القطن المصري - بعد توقف السفن الحاملة للقطن الأمريكي إبان الحرب الأهلية من 1861 إلى 1865م - بحيث بلغ عدد الأجانب الأوروبيين في هذه السنة الأخيرة ثمانين ألف مهاجر. وقد بدأ هؤلاء المهاجرون قصة تحكمهم الطويل في تجارة البلاد وصناعتها ومصارفها المالية، وهو التحكم الذي يرجع في جانب منه على الأقل إلى تفوق التعليم الذي تلقوه في بلادهم أو في المدارس الأجنبية المذكورة التي بدأ كذلك أبناء المصريين المسلمين من الطبقات الميسورة في الإقبال عليها من أوسع الأبواب، لا لتحريك ألسنتهم بلغات أجنبية فحسب، بل لتعلم المهارات النادرة والمناهج الجديدة في البحث والتفكير، على نحو ما فعل المبعوثون منذ عهد محمد علي بعد عودتهم إلى البلاد. وقد واكب هذا الإقبال المد المتصاعد للمشاعر الوطنية والإحساس المتزايد بالحقوق المدنية. ويكفي القول في هذا الصدد بأن أول كتاب سياسي بالمعنى الدقيق في تاريخ مصر الحديثة قد ظهر سنة 1869م، وهو كتاب تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز أو الديوان النفيس بإيوان باريز (القاهرة 1323 هجرية/1905 ميلادية، ص79، 187، 188، 196 وبعدها) لإمام التنوير الحديث رفاعة رافع الطهطاوي الذي سبق له أن ساهم في مشروع إبراهيم أدهم السالف الذكر الذي قدمه سنة 1854م، كما قدم في كتاب آخر (وهو مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية) مشروعا متكاملا لتحقيق السعادة للوطن المصري يقوم فيه التعليم بالدور الحاسم عندما يبدأ تعليم الأطفال، قبل التدريب المهني والفني، بتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم المدنية. وكان لهذا الكتاب تأثير هائل وغير مسبوق في الفكر المصري في القرن التاسع عشر، وانتشرت آراؤه في «المجالس» التي كانت تعبر عن الرأي العام، كما أخذت بها معظم الصحف السياسية التي أسست في تلك الفترة، وعمل عمله في تصاعد النقد الساخط على الحكم المستبد وسوء الظن بالأجانب المستغلين. واشتدت الحاجة - تحت تأثير الدعوة الثورية لجمال الدين الأفغاني - إلى تعليم ثوري يعيد مجد الإسلام القديم ويستخدم سلاح الغرب - أي علومه ومعارفه الجديدة - سلاحا يحارب به الغرب المستغل، ويمكنه من الإطاحة بنظم الحكم الشرقية المستبدة. وازداد الاهتمام بالتعليم - باعتباره الطريق الوحيد للتحرر - عند الجناح المعتدل من الإصلاحيين الوطنيين مثل الشيخ حسين المرصفي.
5
ويستعرض المؤلف أحوال المدارس في عهد إسماعيل الذي رفع صوته - أمام قناصل الدول الغربية بعد توليه الحكم مباشرة (في العشرين من شهر يناير سنة 1863م) معبرا عن اهتمامه «بالمدارس التي هي أساس كل تقدم» - ثم لم يلبث بعد ذلك بأيام قليلة أن أعاد فتح ديوان المدارس الذي أغلقه سعيد في سنة 1854م، واهتم بإصلاح المدارس العسكرية ، وأمر بفتح مدرسة أولية وأخرى ثانوية في كل من القاهرة والإسكندرية، والغريب أن البداية الحقيقية لهذه السياسة التعليمية الجديدة قد توافقت مع قيام أول برلمان مصري في سنة 1866م، وهو مجلس شورى النواب الذي كان من أبرز مهامه النظر في مشكلة المدارس وتطوير التعليم. ففي أول دورة انعقاد لهذا المجلس (من نوفمبر 1866 إلى يناير 1867م) قدم اقتراح بإنشاء مدرسة أولية في جميع المديريات، وتحول الاقتراح إلى مشروع تبناه المجلس في يناير 1867م، وطالب فيه بقبول جميع التلاميذ بغض النظر عن ديانتهم أو طبقتهم الاجتماعية، وبمجانية التعليم والغذاء والكساء أيضا عند اللزوم. وسرعان ما صدقت الحكومة على المشروع، ودعت الشعب للمساهمة في الدعم المالي له إلى جانب الدخل المخصص له من الأوقاف، وأسندت الإشراف عليه للمهندس الواسع الأفق والمربي الكفء علي مبارك الذي عين (في الثاني عشر من أكتوبر 1867) وكيلا لديوان المدارس ثم ناظرا له. وشكل مجلس الشورى لجنة من العلماء والأعيان لإعداد قانون المدارس الأولية الذي صدر في عام 1868م، وكان من أهم بنوده إصلاح الكتاتيب وإدماجها في نظام المدارس الحديثة تحت إشراف الدولة، وإضافة مادة الحساب إلى تعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم على يد الفقيه (أو المؤدب كما طولب بتسميته وكان في الغالب كفيف البصر ...) ويعاونه «عريف» يشترط فيه الإلمام بالقراءة والكتابة. أما الكتاتيب الكبيرة التي يزيد فيها عدد التلاميذ على السبعين فقد نص القانون على التوسع في منهجها الدراسي بحيث يضم الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا، بالإضافة إلى تعلم لغة أجنبية.
Page inconnue
ومما يدل على انتشار مفهوم الأمة والوطن في الوعي الجمعي أن مشروع المدارس السابق الذكر قد نص على أن «جميع المسلمين والأقباط هم أبناء الوطن»، ولذلك فتحت المدارس الأولية بجميع مستوياتها - لا سيما في المدن والمراكز - لأبناء جميع المصريين. وقد ذكر أحمد شفيق سنة 1870م (في كتابه مذكراتي في نصف قرن، القاهرة، 1934-1937م) أن الكتاتيب قبلت أبناء الأقباط، كما أن البابا كيريللوس بطريرك الأقباط - الذي أسس أول مدرسة قبطية حديثة في سنة 1853م كما سبق القول - فتح أبوابها لأبناء المسلمين (أحمد عزت عبد الكريم، تاريخ التعليم في عصر محمد علي، القاهرة، 1938م، 668)، وبتأثير من هذا الوعي الوطني بدأت السياسة التعليمية تتجاوز مهمة تخريج موظفين للدولة وتتجه للتعليم الشعبي بمعناه الواسع. والدليل على ذلك أنها بدأت - بعد التصديق على مشروع المدارس الأولية في سنة 1868م - في تأسيس مدارس البنات، وكلفت رفاعة الطهطاوي نفسه - الذي سبق أن دعا إلى تعليم البنات في كتابه مناهج الألباب المصرية - بتأليف كتاب مدرسي للأولاد والبنات (وهو كتاب المرشد الأمين للبنات والبنين، 1872م، الذي احتوى على عدد من الأفكار التربوية الجديدة من أهمها الدعوة إلى التعليم المختلط لإعداد الأولاد والبنات للحياة الزوجية ...) وفتحت أول مدرسة للبنات أبوابها في سنة 1873م ثم تبعتها مدرسة أخرى في سنة 1874م. وتجلت الروح الوطنية أو الأهلية الجديدة في السياسة التعليمية في تأسيس مدرسة للصم والمكفوفين في سنة 1875م، وفي إدراك علي مبارك أن النهوض بمستوى المدارس من ناحيتي الكم والكيف لا يتوقف على الموارد والمنح المالية فحسب، وإنما يعتمد قبل كل شيء على المدرس الكفء، ولذلك أسس أول مدرسة عليا للمعلمين، وهي دار العلوم التي افتتحها في القاهرة في شهر يوليو سنة 1871م.
6
كما تجلت أيضا في إقدام عدد من الأفراد ومن الجمعيات الخيرية في القاهرة والإسكندرية سنة 1878م - بتشجيع من الخديو إسماعيل قبل انتهاء حكمه بعام واحد، وبفضل الجهود التي بذلها خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم - بتأسيس عدد كبير من المدارس الأولية أو «المكاتب الأهلية» التي أشرفت الحكومة بعد ذلك على إدارتها والارتفاع بمستوى مناهجها. وعلى الرغم من الصعاب والمشكلات المالية والقانونية والعلمية التي واجهتها المدارس الأولية الحكومية والمكاتب الأهلية (كالفشل في إدماج الكتاتيب في نظام التعليم الحديث، كما نص على ذلك قانون المدارس الأولية لسنة 1868م، وبقاء الفجوة الواسعة بينهما إلى يومنا الحاضر) على الرغم من ذلك كانت هذه النهضة في التعليم مؤشرا صادقا على بداية جديدة ووعي وطني جديد.
ولما عزل إسماعيل بسبب تدخل القوى الأوروبية وخلفه ابنه توفيق في سنة 1879م، بقيت النزعة الوطنية على حيويتها وعنفوانها في السنوات الأولى من حكمه، كما ظل التوسع في التعليم وتحسين مستواه من أهم هموم الوعي القومي. ففي شهر مايو سنة 1880م قدم ناظر المدارس علي إبراهيم لمجلس النظار مذكرة جدد فيها أهداف النهضة التعليمية بصورة واضحة، فهو يشير في بداية المذكرة إلى الفوائد التي يحصلها الإنسان من التعليم العام، ويدعو إلى نشر «جو المعرفة» بين جميع السكان والتوسع فيها حتى تصل إلى أهالي الريف، وذلك لخلق الرغبة في المعرفة والتعليم في أبنائهم، وحثهم على الشعور بحقوقهم الأهلية وواجباتهم الإنسانية نحو أنفسهم وعائلاتهم وحكومتهم، ولهذا أكد - إلى جانب أهمية التعليم العام لتدريب الموظفين - ضرورة التوسع في إنشاء المدارس الأولية في عواصم المديريات وفي المدن والقرى المهمة، وتنظيم الدراسة بها ورفع مستوى المناهج، فضلا عن إنشاء كلية جديدة للمعلمين تدرس بها العلوم واللغات الحديثة ... (وقد أسست بالفعل في شهر سبتمبر سنة 1880م، وأدمجت مع دار العلوم بحيث أصبح اسمها مدرسة المعلمين المركزية). وتألفت لجنة من الخبراء قدمت - في التاسع عشر من ديسمبر سنة 1880م - تقريرها عن الموضوع، وأضافت اقتراحات جديدة إلى الاقتراحات السابقة، منها إنشاء مدرسة للزراعة والإشراف الحكومي على المدارس الأجنبية.
واندلعت نيران الثورة العرابية ... ثم حل كابوس الاحتلال البريطاني فأوقف نهر التطور، وجمد المشروعات الطموحة لسنوات عديدة في مشرحة اللورد كرومر الذي لم يكترث بنشر «جو المعرفة» الذي استهدفه المشروع السابق.
هكذا بذلت الجهود المخلصة ووضعت المشروعات الجادة قبل الاحتلال لنشر التعليم الأهلي بكل الوسائل الممكنة. ومهما يكن من قصور هذه الوسائل وعجزها عن تحقيق الطموحات الكبيرة، فإنها تدلنا من ناحية على يقظة الوعي بحرية الوطن ووحدته، ومن ناحية أخرى على الإيمان بضرورة إصلاح التعليم وتحديثه. والواقع أن الأمرين لا ينفصلان، ويكفي لبيان ترابطهما وجود الرغبة الصادقة عند الحكام ورواد الإصلاح - الذين كان بعضهم موظفين أكفاء - في نشر التعليم بين جميع المصريين وفي المدن والقرى على السواء. صحيح أن بعض الأسئلة الملحة قد بقيت حتى اليوم بغير جواب، من ذلك مثلا:
إلى أي مدى ينبغي أن تعتمد المدارس ومعاهد التعليم على دعم المواطنين ومساندتهم بالخبرة والهبات المالية والأوقاف؟ (مع العلم بأن فكرة التربح الاستغلالي من وراء إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة لم تظهر على الإطلاق، ولم يكن من الممكن أن تظهر في ذلك الوقت الذي أشرق فيه فجر الوعي الوطني وعمرت القلوب والعقول بالقيم الحية الباقية)، ومن تلك الأسئلة أيضا: إلى أي حد ينبغي أو يمكن دمج المدارس التقليدية - الكتاتيب والمدارس الأزهرية - في نظم التعليم الحديث؟ وهل يمكن أن يشارك الآباء في دفع المصروفات أم يكون التعليم كله أو جزء منه على نفقة الدولة (كما نص على ذلك مشروع سنة 1868 بالنسبة إلى المدارس الأولية)؟ ثم إلى أي حد يمكن أو ينبغي إثارة اهتمام المواطنين بالتعليم وحماسهم لإشباع الفضول المعرفي، ومن ثم تحملهم المسئولية المشاركة في إصلاح التعليم وتحديثه؟
إن الجهود الأمينة التي بذلت للرد على الأسئلة السابقة في حدود الإمكانات الضئيلة في ذلك الحين، والمساعي التي تمت لتنمية الوعي الوطني وترسيخ البناء الاجتماعي السليم عن طريق إصلاح التعليم ونشره بين الجميع؛ كل هذا قد اصطدم بالمشكلة التي ما تزال تلقي بظلالها القاتمة، وهي مشكلة ازدواجية التعليم التقليدي والتعليم الحديث، إلى جانب تعدد الجهات الأجنبية التي تلقن الطفل والشاب المصري، بلغات غير لغته الأم، أصول العلم وفروعه وخطر ذلك على وحدة الوعي القومي وعلى الهوية القومية.
تلك بعض الأسئلة التي سيناقشها المؤرخ والمستعرب الكبير في بحثه الذي كتبه بعد البحث السابق بما يزيد على عشرين عاما عن طه حسين وديموقراطية التعليم (1990م). (16) والحق أن طه حسين ليس عميد الأدب العربي وحسب، وليس مجرد رائد جسور لثقافة الحرية والديموقراطية والاستنارة، بل له دور نظري وعملي كبير في إعادة تنظيم التعليم الابتدائي والثانوي وتحقيق أهم تحول اجتماعي عرفته مصر منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم الحاضر.
كان دستور 1923م في مادته التاسعة عشرة قد فرض التعليم الإلزامي في المدارس الأولية (أو المكاتب العامة) على أبناء المصريين جميعا من الجنسين وجعله تعليما مجانيا، ولا بد أن نذكر هنا أن النظام المدرسي في ظل الاحتلال البريطاني كان يعاني الازدواجية الحادة بين التعليم الأولي - الذي كان صورة متطورة من الكتاتيب العريقة، كما كان مجرد تعليم شعبي بلا طموح ولا مستقبل - وبين التعليم الابتدائي الذي كان يكفل للتلاميذ، مقابل مصروفات محددة، تعليما حديثا يتضمن بعض العناصر الأوروبية كاللغة الإنجليزية والعلوم، ويعدهم لمراحل تعليمية أعلى في المدارس الثانوية والمدارس والمعاهد العالية، بجانب إعدادهم للتعيين في الوظائف الحكومية. وهكذا ثبت قانون الإلزام بالتعليم تلك الازدواجية عندما حصره في التعليم الشعبي أو الأولي الضئيل القيمة، وحرم المترددين عليه من فرص التطور ومواصلة تحصيل العلم إلا في أضيق الحدود، ومع ذلك فلا بد أيضا من الاعتراف بأن نص الدستور على ذلك الإلزام كان في حد ذاته خطوة متقدمة لا يصح الاستهانة بها، وأنه جاء استجابة ليقظة الوعي الوطني المتصاعد وانتشار المثل والقيم والأفكار الديموقراطية كأشعة الشمس التي لم يكن في استطاعة واضعي الدستور أن يتجاهلوا وجودها. والحقيقة أن أعضاء اللجنة المشكلة لوضع الدستور قد أبدوا رغبتهم في أن تنص المادة التاسعة عشرة على تعميم المجانية على جميع المستويات المدرسية، ولكنهم عدلوا عن تلك الفكرة التي كان تحقيقها في حكم المستحيل.
Page inconnue
7
استمرت المناقشات التي دارت حول مبدأ الإلزام بالتعليم الأولي ومدى تنفيذه وجدواه عشرات السنين، واختلفت حوله آراء المحافظين والعمليين (أو النفعيين) والتقدميين، وكان أهم الناطقين بوجهة النظر الوطنية والتقدمية وأبلغ المعبرين عنها هو طه حسين في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر (1938م) الذي قدم فيه - بجانب أفكاره عن دور مصر الثقافي وماهيته ومستقبله - برنامجا واضحا ومحددا عن إصلاح نظام التعليم في المدارس والتخلص من الازدواجية التي سبق الحديث عنها.
وقد أكد طه حسين بكل حزم في هذا الكتاب أنه يجب على النظام الديموقراطي أن يكفل الحياة والحرية والسلام لكل أبناء الشعب، وأنه لن يحقق أي هدف من هذه الأهداف إذا تقاعس عن وضع القانون الملزم بالتعليم الأولي موضع التنفيذ، وحمل الجميع على الخضوع له بالرفق واللين أو بالشدة والعنف. والهدف الأول من التعليم الأولي يكمن في أنه أبسط وسيلة يملكها الفرد في يده لتمكنه من العيش، أما الهدف الثاني فيكمن في أن هذا التعليم الأولى هو أبسط وسيلة ينبغي أن تكون في يد الدولة نفسها لتحقيق الوحدة الوطنية وإيقاظ شعور الأمة بحقها في الوجود الحر المستقل، وبواجبها في الدفاع عن هذا الوجود. وأما الهدف الثالث والأخير فيكمن في أن هذا التعليم هو الوسيلة الوحيدة في يد الدولة لتمكين الأمة من الاستمرار في الوجود؛ لأنها تضمن عن طريقه وحدة التراث الذي يتحتم أن ينتقل من جيل إلى جيل، كما يتحتم على جميع أفراد كل جيل أن يشاركوا في عملية نقله.
8
والملاحظ أن طه حسين كان في هذه المرحلة من حياته لا يزال ينظر إلى المدرسة الأولية باعتبار أنها هي المدرسة الشعبية، كما كان من رأيه أن تقسيم التعليم العام إلى مدارس أولية لأبناء الشعب ومدارس ابتدائية وثانوية لأبناء النخبة إنما يجعل تربية الشباب على الشعور بالوحدة الوطنية أمرا وهميا، وقد حبذ - في هذه المرحلة - إلغاء المدارس الأولية كشيء مرغوب فيه، ولكنه لم يصمم عليه تصميما جديا واكتفى باقتراح بعض «المهدئات» مثل إتاحة الفرص الممكنة للنقل من المدرسة الأولية إلى المدارس العامة (الابتدائية والثانوية) ...
والواقع أن المدارس الأولية بدأت تتعرض مع مرور الزمن للإهمال الشديد، بينما تزايد نمو المدارس الابتدائية والثانوية تحت ضغط الرأي العام، كما كانت تعبر عنه (مع صمت الأغلبية الصامتة!) الطبقة الوسطى الصاعدة. والظاهر أن ديموقراطية الدولة المصرية في ذلك الحين هي التي حكمت - بقصد أو بغير قصد - على المدارس الأولية أو الشعبية بنوع من «التمييز العنصري» لمصلحة المدارس الحكومية التي لم يكن يقدر على دفع مصروفاتها سوى أبناء الطبقة «البورجوازية».
9
وعلى الرغم من الاتجاه الرسمي الواضح لتمييز الطبقة الوسطى على غيرها، فلم تتوقف جهود المشرفين على التعليم عن إضفاء الطابع الديموقراطي عليه. وقد استطاع واحد من أفضل وزراء المعارف، وهو أحمد نجيب الهلالي، أن يطرح من هذا المنظور في سنة 1935م برنامجا لإصلاح التعليم بالمدارس طالب فيه بإلغاء المصروفات المفروضة على المدارس الابتدائية التي كانت أكثر عجزا من المدارس الأولية عن استيعاب جميع الأطفال، كما نص على ذلك قانون الإلزام بالتعليم. والجدير ذكره أن طه حسين كان يشغل من سنة 1942م إلى سنة 1944م منصب المستشار الفني في وزارة المعارف على عهد نجيب الهلالي، ومن ثم كان مشاركا في المسئولية عن السياسة التعليمية.
10
ولما تولى طه حسين وزارة المعارف في حكومة الوفد الأخيرة (من 12 يناير1950 إلى 27 يناير 1952م) لم يكتف بمواصلة الطريق الديموقراطي الذي بدأه الهلالي، بل خطا الخطوة الجريئة المفاجئة عندما أعلن أن التعليم المجاني من حق كل طفل مصري كحقه «في الماء والهواء»،
Page inconnue
11
كما أدمج المدارس الأولية في المدارس الابتدائية (التي جعلها مع الحضانة ست سنوات) لكي يقضي على الازدواجية، التي طالب بإلغائها في «مستقبل الثقافة في مصر »، بحيث أصبحت هي أداة تنفيذ قانون الإلزام السابق ذكره.
ولا يتسع المجال للحديث عن السياق التاريخي والسياسي الذي تمت فيه هذه الخطوة الشجاعة الحاسمة، ولا عن رياح الاعتراضات والانتقادات التي هبت عليها من جانب السياسيين - حتى من داخل حزب الوفد نفسه - أو الفنيين من صفوة علماء التربية وغيرهم،
12
وذلك مع التسليم بأن معظمهم كانوا مؤمنين بمبدأ ديموقراطية التعليم مع اختلاف وجهات نظرهم في أولوياته ووسائل تطبيقه ... فالمهم بعد كل شيء أن طه حسين صمم على المضي قدما في مشروعه من دون أن يكترث بمشكلة التمويل الباهظ الذي تستطيع الدولة أن تدبره عن طريق الضرائب أو أي طريق آخر، وأنه رفض بكل قوة أن يؤجل إتاحة فرص التعليم لملايين الأطفال المصريين إلى مستقبل بعيد مجهول ...
كان ذلك هو المنتظر من رائد الحرية والتجديد، صاحب «المعذبون في الأرض» و«شجرة البؤس» وغيرهما، وشمس العقل العربي الحديث التي شعت بأضواء الاستنارة في كل اتجاه. ولا عجب بعد ذلك أن نجد الفيلسوف وناقد الثقافة فؤاد زكريا يقول بحق في كتابه «كم عمر الغضب؟»: «إن سياسة طه حسين التعليمية تمثل البداية الحقيقية للتحول الاجتماعي في مصر، لا في التعليم وحده، بل كذلك في إيجاد فرص العمل ودفع عجلة التقدم والنهضة ...»
13 (17) معنى النكبة (بيروت، دار العلم للملايين، 1948) ... ومعنى النكبة مجددا (بيروت، 1967م).
يعيد الأستاذ شتيبات في سنة 1985م قراءة هذا الكتيب الذي صار «علامة» على ضرورة النقد الذاتي العربي، وما يزال دائم الحضور في وجدان كل عربي اطلع عليه في طبعته الأولى بعد نكبة 1948م أو في طبعته الثانية بعد نكبة يونيو 1967م (التي حاولنا التخفيف من قسوتها ومرارتها فسميناها «نكسة») والكتيب المشهور من تأليف المؤرخ العربي الكبير قسطنطين زريق الذي وضع فيه برنامجا عاما لنهضة «الحصان العربي» من كبوته الأليمة، وعبر فيه عن فكره الليبرالي المتحرر من الأيديولوجيات التي كانت قد بدأت تصطخب على الساحة، والناطق بلغة العصر وحضارته العلمية وروحه الثورية ونزعته العقلانية النقدية. ومراجعة الأستاذ لهذا الكتيب تجري على مألوف عادته في وضع المشكلات التي يدرسها أو يناقشها في سياقها التاريخي الأشمل. ولذلك نراه يشير قبل حديثه عنه إلى كفاح البلاد العربية منذ الحربين العظميين في سبيل الاستقلال، وتجاربها المحبطة مع القوى الكبرى - لا سيما فرنسا وبريطانيا - وتأسيس الجامعة العربية في شهر مارس سنة 1945م لتوحيد كلمة العرب، والاستبشار بقيام منظمة الأمم المتحدة للاستماع إلى أصوات الدول الصغيرة ومساعدتها على تحقيق آمالها في التحرر الوطني. ثم جاءت الطعنة القاضية على آمال العرب وثقتهم في أنفسهم بإعلان قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من شهر مايو سنة 1948م، واستيلائها على جزء كبير من أرض فلسطين، وطردها للملايين من سكانها العرب. كان زرع سكين الكيان الصهيوني التوسعي، والمتحالف مع الغرب الإمبريالي والمسخر لخدمته، في قلب الوطن العربي بمنزلة «قلب» للمسار التاريخي الذي كان العرب يتوقعون منه أن يؤدي بشكل طبيعي إلى الاستقلال الوطني والحصول على حق تقرير المصير. وكان تأييد معظم الأصوات في الأمم المتحدة لقيام الكيان العدواني ضربة أخرى زلزلت إيمانهم بالحق والعدل وجاء فشل التدخل العسكري للدول العربية في إيقاف العدوان الصهيوني أشبه بجرعة أخرى من السم الذي سرى في الدم العربي ونشر فيه جراثيم الشك في حيوية الأمة العربية وقدرتها على التوحد للدفاع عن نفسها وتأكيد وجودها وحقوقها. وبدأ المفكرون والمثقفون العرب - كما حدث بعد النكبة التالية - في مراجعة النفس والتاريخ والموقف من العالم، وتحليل أسباب الهزيمة المفجعة ووصف الأدوية الناجعة، وتحديد الوسائل الكفيلة بمواصلة السير على طريق التحرر والتقدم. وكان هذا الكتيب الخطير من أهم المساهمات في هذا النقد الذاتي المؤلم والضروري في آن واحد ...
والمقدمة التي كتبها المؤلف لهذا الكتيب يرجع تاريخها إلى الخامس من شهر أغسطس سنة 1948م، كما أن طبعته الأولى ظهرت في الشهر نفسه، والثانية في شهر أكتوبر، أي إنه كتب أثناء اشتعال المعارك التي خاضتها بعض الجيوش العربية ضد العصابات الصهيونية وقبل توقيع اتفاقيات الهدنة في سنة 1949م. لم يكن المؤرخ الكبير يعيش في برج عاجي، بل إن عمله كسفير سوري في الولايات المتحدة ومندوب لسوريا في الأمم المتحدة قد ساعده على الانخراط في صميم الأحداث الجارية، والوعي الحاد بالمشكلات الحاضرة والتنبؤ «اليمامي» (نسبة إلى زرقاء اليمامة) بالمصائب القادمة. وهو يقول إنه أمسك بالقلم لكي يوضح فكره الخاص ويزيل الغموض والاضطراب من عقول مواطنيه، لا سيما الشباب والطلاب، أي إنه كتب بصفته أستاذا ومعلما يجمع في شخصه بين حياد العالم المتمكن وعقلانية المحلل القدير وعاطفة المواطن المشارك والمسئول.
وينطلق «زريق» في تأملاته وتحليلاته من وعي مرهف بجدية الموقف وخطورته، ويكفي دليلا على ذلك أنه لا يسمي ما حدث في فلسطين «نكسة» كما سيفعل غيره بعد ذلك، وإنما وصفه بأنه نكبة وكارثة. لقد لقي العرب هزيمة عسكرية وسياسية أدت إلى انهيار معنوي تمثل في تشككهم في أنفسهم وفي حكوماتهم. وأول علاج يصفه للتعامل مع النكبة والأسباب التي أدت إليها هو تقوية الشعور بالخطر مع تقوية إرادة النضال (ص19). فالعدو الذي هزم العرب هو الصهيونية، وهي حركة توسعية وإمبريالية لن تكتفي بتدمير الشعب العربي في فلسطين، بل ستهدد موارد البلاد العربية الأخرى ووجودها نفسه. ومع أنه يدرك تماما أن اليهود قد عانوا من الاضطهاد في أوروبا في فترات تاريخية مختلفة، وفي أيام هتلر والنازية على وجه الخصوص، فإنه يرفض أن يكون هذا مبررا للاستيلاء على فلسطين وتشريد شعبها العربي. ويتجلى تفاؤله - أو حسن نيته - وقت تأليف كتابه عندما يقول إن حل المسألة اليهودية مرهون بنشر التسامح واحترام الكرامة الإنسانية في العالم كله، بل إنه يؤكد استعداد العرب للتعايش مع اليهود في ظل نظام ديموقراطي (ص84).
Page inconnue
ويستطرد «زريق» في وصف أساليب العلاج المباشر لآثار النكبة بغية رفض الهزيمة وتقوية إرادة النضال: تعبئة جميع الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية وتحقيق أقصى قدر ممكن من وحدة الدول العربية وتعاونها في هذه الميادين، وإبداء الاستعداد للدخول في المساعي الديبلوماسية وقبول الحلول المعتدلة لكسب تأييد القوى العظمى. ولكنه يرتفع بعد ذلك إلى مستوى آخر من التحليل عندما يقول إن كسب المعركة القادمة لن يكفي لحل المشكلة الصهيونية والمسألة العربية في مجموعهما؛ إذ تحتم الضرورة إيجاد «كيان عربي قومي متحد وتقدمي» عن طريق ثورة أساسية في نظم الحياة العربية (ص41). ثم يرسم في صفحات قليلة مشروع رؤيته لأمة عربية لم توجد بعد وما زلنا نحلم معه بوجودها: أمة ذات أهداف موحدة، وإمكانات متحققة، توجه وجهها صوب المستقبل، وتفتح عينيها على النور، كما تفتح صدرها للخيرين من أي مكان يجيئون.
ويبدأ مؤلف «معنى النكبة» في تحديد معاني مصطلحاته، فأما القومي فلا ضرورة لتعريفه لأنه يستخدم عادة بمعنى «الوطني»، كما أن كلمة الأمة في العربية لا يمكن أن تشتق منها صفة مناسبة. ثم يشرح كلمة «متحد» التي يتصف بها الكيان العربي المأمول فيقول إن الجامعة العربية قد ثبت ضعفها الشديد بحيث تحتم الضرورة تأسيس دولة «اتحادية»، أي دولة «فيدرالية» ذات سياسات خارجية واقتصادية وقوات دفاعية موحدة (ص44). وأما الصفة الحاسمة التي تطلق على هذا الكيان العربي فهي «التقدمي». وهو يبدأ شرحه لهذه الكلمة التي طالما أسيء استخدامها، أو بالأحرى استغلالها، بأن ينصح الوطنيين أو القوميين بعدم التردد عن استخدامها لمجرد أنها تشيع على ألسنة وأقلام الاشتراكيين والشيوعيين، لأن التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعقلي شرط أساسي لقيام الكيان العربي الجديد، بل إن القومية نفسها مستحيلة بغير هذا التقدم المواكب لحركة التاريخ وقوانين المجتمع . ويحدد «زريق» أربعة عناصر ضرورية لتحقيق التقدم: الميكنة والتصنيع، الفصل بين الدولة والمؤسسة الدينية، التدريب العقلي على العلوم الوضعية والتجريبية، تبني أفضل القيم العقلية والروحية التي وصلت إليها الحضارات الإنسانية واختبرت صحتها التجربة البشرية. ومن الوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف بذل الجهود الوطنية لاستغلال الموارد القومية، ونشر المعرفة والتعليم، والتوسع في الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية، والإصلاح الإداري (ص50)، ثم يؤكد أهمية الدور الذي ينبغي أن تؤديه النخبة المثقفة المخلصة في ريادة هذا التقدم، ويحبذ أن يتحد أعضاؤها في أحزاب وتنظيمات ذات «أيديولوجيات» أو منظومات فكرية موحدة.
ويعبر «زريق» عن لب فكرته عن التقدم عندما يقرر أن الهدف منها هو أن نصبح فعليا وروحيا، لا اسميا وماديا فحسب، جزءا من العالم الذي نعيش فيه، وأن نتكيف مع نظمه في الحياة والتفكير، ونتكلم لغته، ونقتبس المدنية الحديثة بماديتها وروحانياتها دون التخلي عن هويتنا والعناصر الباقية من تراثنا، ونسعى للتعرف على منابعه ووصل مصيرنا بمصيره (ص47). وإذا كان المؤرخ الكبير يدعو العرب للتواصل مع الحضارة والمدنية الحديثة، فلا يعني هذا رفض التراث القومي أو التخلي عنه. صحيح أن جزءا من هذا التراث مصيره إلى الزوال والنسيان، ولكن الجزء السليم والجدير بالبقاء هو الذي سيميزه العقل المتحرر المنظم الذي يجب علينا أن نأخذه من الحضارة الحديثة ونبني عليه ثورتنا (ص49).
تعرض «معنى النكبة» للنقد الشديد من جهتين على أقل تقدير: من الإسلاميين الذين احتجوا على مطالبته بالفصل بين الدولة والدين، متذرعين بالحجة المعروفة التي تقول بأن الإسلام، على العكس من المسيحية الأوروبية، لم يعرف السلطة الكنسية والكهنوتية التي اضطهدت الشعب والدولة، والعلم والحرية، كما أن ذلك الفصل معناه القطع بين الناس وبين تراثهم الروحي، وهدفه تشكيك الشباب في دينهم.
14
والحق أن «زريق» لا يدعو إلى علمانية تنكر الدين جملة أو تتجاهل تأثيره العميق في حياة الإنسان، وإنما يعترف بالقوة الروحية التي يهبها الدين للمؤمن، كما سبق له أن أكد أهمية الإسلام والرسالة المحمدية في تدعيم القومية والوعي القومي، وذلك في كتابه «الوعي القومي» الذي ظهر سنة 1939م في بيروت (ص111). صحيح أنه يرفض «الحرفية الدينية» على حد تعبيره، وهو كمؤرخ وأستاذ جامعي ليس في حاجة إلى من يذكره بأن الإسلام لا يعرف الاحتراف أو الاحتكار الديني ولا الكهنوت، ولكنه يرفض «الطائفية» الدينية التي تسببت - بعد الفراغ من تأليف كتابه بأربعة عقود - في حرب أهلية لا تزال آثار حرائقها المدمرة في لبنان ماثلة للعيان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن تلخيص النقد الموجه ل «معنى النكبة» في أنه لم يتعمق بحث المجتمع العربي للكشف عن أسباب النكبة، كما أن عناصر التقدم المختلفة التي يقترحها تشترط تغييرات اجتماعية لم يذكر عنها إلا القليل أو لم يذكر شيئا على الإطلاق. وهو - في رأي هؤلاء النقاد - يمكن تصنيفه مع المهادنين أو حتى مع الرجعيين لأنه، بالرغم من تأكيده المستمر لضرورة الثورة، لا يجعل للصراع الطبقي أي مكان في مشروعه عن التقدم.
15
والواقع أن هذه الانتقادات تبدو مشروعة لمن يقرأ الكتاب بعد أكثر من خمسين سنة من كتابته؛ إذ يدهش لافتقاره إلى التحليل الاجتماعي - الذي لم يكن قد عرف بعد بشكل علمي ومنهجي في البلاد العربية - بقدر ما يعجب بملاحظاته الجريئة والنافذة البصيرة عن مختلف جوانب الموقف العربي، وبمشروعه «اليوتوبي» عن كيان عربي موحد وتقدمي ليس من المستحيل أن يتحقق لو صحت إرادة العرب على التوحد في مواجهة التهديدات المتصاعدة بإبادتهم على كل المستويات المادية والمعنوية.
ومهما يكن من قصور الكتيب الشهير عن تقديم تحليل واف للبناء الاجتماعي والطبقي وتناقضاته التي كانت أحد أسباب النكبة، ومهما يكن من نفوره من استخدام كلمة الثورة خوفا من ظلالها الأيديولوجية التي يكرهها، (من المستغرب حقا في نظر من يطلع عليه اليوم أنه يفضل عليها كلمة «انقلاب» التي لم يكن يدري في ذلك الوقت أنها ستكون أصل الكوارث المتلاحقة منذ منتصف القرن الماضي في بعض البلاد العربية والأفريقية والآسيوية والأمريكية الجنوبية)، وعلى الرغم من التعميمات الغامضة والمشروعات التي ما زالت إلى اليوم أشبه بالآمال المستحيلة، فلا شك في أن الكتيب نفسه كان ولا يزال صرخة ضمير عربي عميق الجرح وصادق الرؤية والتنبؤ إلى حد مذهل، بقلم عالم عربي حر شجاع وشديد الإيمان بالعقلانية والتقدمية وبالوحدة والقومية العربية القائمتين على العلم والقيم والاستنارة، وذلك كله عن طريق التغيير الجذري والثوري الحاسم في كل ميادين الحياة والتفكير والعمل. وإذا لم يكن قد قدم برنامجا عمليا مفصلا للتغيير والإصلاح، فقد رسم الإطار الصالح للتساؤل والحوار، وحذر من الأخطار الكبرى التي تهدد اليوم - فعلا لا قولا - بتصفيتنا واقتلاعنا من جذورنا، وفتح الأعين والضمائر والعقول على مشكلاتنا الكبرى المزمنة. (18) ونأتي أخيرا إلى الأدب الذي أعلم تمام العلم مدى شغف الأستاذ شتيبات بالاطلاع على الأعمال الكبرى فيه، سواء من أدب بلاده أو من الأدب العربي. ذلك لأن المؤرخ لا يستغني - كما يعلم الجميع - عن الرجوع للأعمال الأدبية ليزداد وعيا وبصيرة بحقائق الحياة ومشاعر البشر وأفكارهم، وبهمومهم وطموحاتهم في حقب أو مواقف تاريخية معينة. وقد اختار من الأدب العربي الحديث روايتين تعكسان مرحلتين مهمتين أو أزمتين حاسمتين في مسيرتنا نحو مجتمع عربي متحد ومتقدم، إلى جانب ما تعبران عنه من قيم جمالية وإنسانية رفيعة. والرواية الأولى، وهي «أولاد حارتنا» لربان سفينة الرواية العربية نجيب محفوظ، (ويرجع بحثه عنها تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» إلى سنة 1975م)، والثانية للروائي اللبناني الكبير توفيق يوسف عواد (ويعود بحثه عنها تحت عنوان «الطائفية في الرواية اللبنانية» إلى سنة 1984م). ونبدأ بعرض هذا البحث قبل أن نختم هذا التقديم برواية محفوظ التي طالما أثارت حولها عواصف الجدل. (19) من المعروف أن التدين بمعناه الأصلي المباشر يعني إيمان الإنسان بالله وبكل ما هو مقدس إيمانا باطنيا عميقا، كما يعني انتماءه إلى جماعة دينية محددة. وقد ظل انتماء المسلم إلى جماعة دينية على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا دليلا على هويته، ومبدأ يقوم عليه نظام حياته الاجتماعية والسياسية والوجدانية. وينطبق الشيء نفسه على سائر الأديان السماوية والبشرية، إذ يبقى الانتماء إلى جماعة أو ملة أو نحلة أو طائفة دينية أمرا حاسما وموجها لحياة الإنسان وتفكيره ووعيه بذاته وعالمه الاجتماعي والطبيعي. وإذا كانت الكلمة الأخيرة، وهي الطائفة والمصدر المشتق منها وهو الطائفية، قد اصطبغت عبر التاريخ الإسلامي وغير الإسلامي، لا سيما في العصر الحديث وفي النصف الثاني من القرن العشرين، بظلال قاتمة توحي بالتطرف والتعصب، أو بالتزمت والمحدودية على حساب التسامح والمحبة والتعاون والتآخي الإنساني، فقد وصلت في كوارث الحرب الأهلية اللبنانية وغيرها إلى حد الدخول في دوائر الجنون والانتحار أو الاحتراق والتدمير الذاتي. (20) قدم توفيق يوسف عواد (الذي ولد سنة 1911م في إحدى القرى المارونية في لبنان ومات في حادث مروع في أثناء الحرب الأهلية) عدة مجموعات قصصية وروايتين هما الرغيف (1939م) وطواحين بيروت (1972م)، قبل اندلاع نيران جحيم الحرب الأهلية بقليل. وقد تلقى العلم في كلية القديس يوسف في بيروت، ثم واصل دراسته للحقوق في جامعة دمشق، مما أتاح له الاهتمام بقضايا العروبة وتجاوز دائرة الطائفة الدينية الضيقة (يدل على ذلك إشادته في «الرغيف» بمشاركة المسيحيين اللبنانيين في الكفاح العربي للاستقلال عن الدولة العثمانية). وقد عمل بعد إتمام دراسته أكثر من عشر سنوات بالصحافة والكتابة الأدبية، ثم دخل منذ سنة 1946م في دائرة العمل الديبلوماسي، وعمل سفيرا للبنان في عواصم عديدة، وظهرت الطبعة الأولى لروايته التي نتحدث عنها عن دار الآداب سنة 1972م وفي أثناء وجوده في طوكيو.
والشخصية الرئيسية في الرواية (وهي تميمة) فتاة شيعية من قرية «مهدي» إحدى قرى الجنوب اللبناني. بدأت شجرة عائلتها في التحطم والتفكك، فأبوها سافر إلى أفريقيا سعيا وراء رزقه فشاء سوء حظه أن يقبض عليه بتهمة التهريب، وشقيقها جابر الذي صار رب العائلة يستغل وضعه الجديد في غياب أبيه ليحيا حياة ماجنة تنزلق به إلى حافة الجريمة. وتصمم تميمة، على غير رغبة شقيقها، على استكمال دراستها العالية في العاصمة، وتصر بذلك على السير في طريق التحرر الذي لا يقودها إلى السعادة بل إلى الدوران مع «طواحين بيروت». فالصحافي التقدمي «رمزي رعد» يفتنها بسحره الأيديولوجي ويغويها فتستسلم له؛ ثم تتبين أنها لم تجن إلا الشوك من حماسه الثوري وتجربتها الجنسية معه، والمحامي الشيعي المرشح لدخول البرلمان «أكرم الجردي» يريد منها أن تكون عشيقته ويعدها بأن يتزوجها فيما بعد، لكنها ترفض أولا ثم تخضع لإرادته في مقابل أن يدبر لها وظيفة سكرتيرة في نقابة عمال الميناء.
Page inconnue
ثم يأتي اللقاء الواعد مع طالب الهندسة هاني الراعي (وربما يرمز للمؤلف نفسه في شبابه) الذي يحملها إلى المستشفى فور إصابتها بجراح في إحدى مظاهرات الطلبة. ويضم الحب الفتاة الشيعية والفتى الماروني تحت جناحه، فتطل الطائفية بوجهها القبيح وتحرم عليهما الارتباط المقدس الذي يمكن أن يحققا فيه ذاتهما ويلمسا جوهر وجودهما. وفي النهاية ينكسر حلم الحب بسبب الظروف الخارجية من ناحية، وعجز الحبيب عن التحرر من التقاليد الموروثة من ناحية أخرى، وذلك بمجرد أن تعترف له - لتكون صادقة مع نفسها ومعه - بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي التقدمي رمزي رعد.
وتدخل خيوط العلاقات بين الشخصيات في نسيج الموقف التاريخي للبنان بين عامي 1968 و1969م، ففي هذه الفترة الزمنية بدأت حركة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من الأرض اللبنانية، كما أخذت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ترغم لبنان على الانخراط في صراع الشرق الأوسط وتؤجج جمرات الاختلاف في وجهات النظر - في صفوف الطلاب بوجه خاص - بين مؤيد لحركة المقاومة ومعارض لها. ويبدأ هذا الاختلاف بالاحتجاج على النسبة المحددة لأبناء كل طائفة للقبول بالجامعات، ثم تتسع دائرته فتشمل الزواج المدني الذي ييسر عقد الزواج «المحرم» بين أبناء الطوائف الدينية، كما تشتعل قبل كل شيء حول الموقف الواجب اتخاذه من الفدائيين الفلسطينيين الذين يعرضون سكان القرى في الجنوب للمخاطر باستفزازهم لإسرائيل العدوانية بحكم طبيعتها وتاريخها، كما يصطدمون في كثير من الأحيان مع السلطات اللبنانية والجيش اللبناني. وتتفاوت الآراء حول هوية الفدائي، فهناك «الفدائي الفدائي» الذي يكافح في فلسطين و«يبيع روحه» فداء لها، وهناك «نصف الفدائي» الذي يطلق عدة أعيرة نارية عند الحدود ثم يسرع بالعودة إلى معسكره ليلوذ به، وهناك الفدائي الذي ليس بفدائي، وإنما يتبختر في الشوارع ببذلة الفدائيين والبندقية السوفييتية الصنع تتدلى من كتفه (ص227).
ويعبر توفيق يوسف عواد عن موقف من الفلسطينيين يتسم بالتفهم والحكمة؛ إذ كيف ينتظر من الفلسطينيين أن يحافظوا على القوانين بينما اغتصاب وطنهم ضد كل القوانين، ولم تفلح كل القرارات الشرعية الدولية في إعادته إليهم؟ إن مجرد وجود الفلسطينيين في لبنان هو في رأيه الذي يحفز اللبنانيين على تطوير وعيهم بمشكلاتهم واتخاذ القرارات الحاسمة في شئونهم العامة والخاصة. ويوضح عواد رأيه بطريقة فنية عندما يراوح بين سرده للمناقشات الطلابية التي يصرح فيها هاني بأن التوتر بين اللبنانيين والفلسطينيين يرجع إلى أن الزواج المزعوم بينهما هو «زواج نفاق»، وبين الأفكار التي تراود حبيبته تميمة في أثناء الاستماع لما يقول فتناجي نفسها قائلة: «إن زواجنا لن يكون زواج نفاق.» وتواصل حديث النفس التي تحثها على أن تعترف لهاني بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي. وهنا يستخدم عواد استعارة غريبة ذات دلالة عميقة على هدفه من كتابة روايته؛ فقد كان العنوان الأصلي للرواية وقت إعداد تجارب طبعها هو «أرواح للإيجار»، وهو يوضح ما يعنيه بهذه الاستعارة عندما يتهم معظم شخصيات الرواية على لسان الصحافي التقدمي بأنهم قد أجروا أرواحهم (ص264)، وكان من المفروض أن يبيعوها لو كانوا صادقين. فالحب ليس تأجيرا للروح، بل هو بيع نهائي لها في سبيل المحبوب. باع روميو روحه في سبيل جولييت، كما باعت روحها في سبيله. كذلك الملهمون بحق والمؤمنون بصدق، إنهم لا يؤجرون أرواحهم وإنما يبيعونها. والسيد المسيح - عليه السلام - هو إمام جميع الذين باعوا أرواحهم، أي ضحوا بها في تفان خالص مطلق. والفدائيون أيضا يصدق عليهم هذا الوصف، بشرط أن يوقعوا على عقد البيع بدمائهم من أجل الوطن السليب. ولعل مؤلف الرواية قد كتب هذا كله بينما تتردد في سمعه وعقله الآية الكريمة:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (البقرة: 207) أو الآية الكريمة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (التوبة: 111).
هكذا أجرت «تميمة» روحها - كما يرى حبيبها رمزي - للمثل العليا على طريقة المثقفين، بينما أجر هو روحه لكلمات وكلمات وكلمات. إننا جميعا - على حد قوله - نؤجر أرواحنا لشيء ما. وهو يمضي مع الصورة الفنية فيحصي مجموعة من الحيوانات البشعة التي ترمز لرذائل بشعة وكلها في رأيه قد أجرت أرواحها لأشياء تافهة أو لقوى شريرة، وربما كان التفاني المطلق لإنسان محبوب، والالتزام غير المشروط بقضية عادلة؛ هي الرسالة التي يوجهها المؤلف لقراء روايته. وربما كان الفدائيون، أو بعضهم على الأقل، هم في تقديره النماذج الرفيعة للتفاني والالتزام والتضحية، وهم الذين يحققون رسالته الأخلاقية البعيدة عن أي برنامج سياسي أو أيديولوجي. (21) وتتجلى هذه المعاني الموحية في النهاية التي ختم بها المؤلف روايته. فقد أحست «تميمة» بأن أسوار الحصار تطوقها من كل ناحية: شقيقها الفاسد جابر يحاول قتلها لإنقاذ شرف العائلة - الذي سبق أن لوثه أكثر من مرة - بعد أن سمع عن تجاربها مع الرجال. ولكنه يخطئها ويقتل أعز صديقة لها، وهي الممرضة المسيحية ماري التي آوتها في بيتها. ومن جهة أخرى لا يدرك «هاني» أن تميمة التي باحت له بسر علاقتها القديمة مع الصحافي رمزي قد قدمت له أصدق دليل على ثقتها فيه وحبها له، ولهذا يلطمها على وجهها لطمة قاسية. ولا تنتظر تميمة حتى يهدأ غضبه، ولا تترك نفسها نهبا لأي أمل في أن يعتذر لها، بل تصمم على الخروج النهائي من حياته. وتمضي تميمة في سبيلها، بينما يصعد الإسرائيليون عدوانهم الغادر المتكرر على الجنوب اللبناني. وتزحف أنهار حشود اللاجئين نحو الشمال، وتزلزل المظاهرات العارمة أرض بيروت، لكن إلى أين تمضي تميمة؟
لقد تعرفت في أثناء عملها في نقابة عمال الميناء على عدد من الفلسطينيين الطيبين البسطاء. وها هو أحدهم يسقط شهيدا في عز شبابه، فيسرع أبوه ليشغل مكانه في صفوف الفدائيين. وتلحق به تميمة لتنضم إليهم، وتكتشف أن مكانها الآن مع الذين يتحدون كل القوانين. وتصمم على أن تصارع جميع الأعراف والمعايير التي باسمها حرمها المجتمع من حقها في الحياة، وقتل صديقتها الوفية، وحطم حبها الوحيد (ص289). تأكد لها أن كفاح الفدائيين هو نموذج الثورة الشاملة على المجتمع الجامد المتعفن، وأن الثورة الاجتماعية المتجددة تبدأ بالثورة على النفس (أنسمع هنا أيضا صدى الآية الكريمة:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ؟) ولما كانت الشخصيات الفلسطينية التي يقدمها المؤلف شخصيات نقية بسيطة من العمال لا من المثقفين والمنظرين، فإنه يجري الكلمات المعبرة عن الاحتجاج على القوانين والتمرد على الأعراف والتقاليد على لسان تميمة المثقفة الحائرة المحبطة، وإن كان يبعدها كما يبعد نفسه عن اليأس والقنوط؛ إذ يجعلها تقول في النهاية إنها لا تستطيع في الحقيقة أن تتصور أن تكون هذه هي النهاية (ص290).
والسؤال الذي يتحتم أن يكون قد دار في عقلها وفي عقول القراء هو هذا السؤال: لماذا تصورت تميمة هذا؟ وجوابه البسيط أن ثورة التغيير مستمرة ولا بد أن تستمر، حتى تفتح الأبواب والنوافذ على أضواء الأمل في لبنان، لبنان الموحد المتحرر من الطائفية والتعصب، وأمة عربية حية ومتقدمة بالعلم والحرية والاستنارة والوحدة والثورة المتجددة ... إن توفيق يوسف عواد - رحمه الله وأرضاه - يقدم لنا في هذه الرواية تحذيرا وبشارة (لاحظ أن بطلة روايته اسمها تميمة ...) تحذير من الطائفية والتفرق والتشرذم، وبشارة بوجود عربي متماسك ومتطور وواثق بنفسه وبعمقه التاريخي والحضاري العريق. والمفارقة المذهلة والمحزنة معا هي أن الأديب الذي أطلق نفير تحذيره قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنوات، قد سقط صريعا لهذه الحرب نفسها، وشاء له القدر أن يكون ممن باعوا أرواحهم ولم يؤجروها. (22) وأخيرا نصل إلى «أولاد حارتنا» ... وبحث المستشرق الكبير عن هذه الرواية الفريدة الشائكة تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» يرجع إلى سنة 1975م. ولا بد أن أشير هنا وقبل عرض نبذة عن هذا البحث (الذي كتبه صاحبه بقلم المؤرخ وصارت له مع الزمن قيمة تاريخية) إلى أنه، على مبلغ علمي، أول تقييم نقدي يتنبأ بأن الرواية جديرة بأن تضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذي تعتز به البشرية من الأدب العالمي، وأن كاتبها يحقق تلك الفكرة التي كان أمير شعراء الألمان «جوته» (1749-1832م) أول من قال بها، وهي فكرته عن الأدب العالمي الذي رأى في أواخر أيامه، وفي أحد أحاديثه الرائعة مع تلميذه «أكرمان»، أن أوانه قد آن، وأنه لم يعد لما يسمى بالأدب القومي أو الوطني مكان، وأنه هو نفسه قد تعلم كيف ينظر في آداب الشعوب المختلفة ويجد فيها ما يمتعه وينفعه من حق وخير وجمال. ولعل الأجدر بالذكر مما سبق أن «شتيبات» لا يكتفي في بحثه بتحليل الرواية والإشادة بروعتها، وإنما يوحي في خاتمته بأنها ستحظى بأرفع قدر من الإعجاب والتقدير عندما تترجم إلى اللغات الأوروبية الحديثة؛ لأن ترجمتها في رأيه «ستظل أملا نتطلع إليه ونتمناه». وربما لا يكون من قبيل المبالغة - بعد أن ترجمت هذه الرواية وأخواتها إلى معظم اللغات الحية - أن أفسر هذه العبارة والفقرة الأخيرة التي وردت فيها بأنها تنطوي على نبوءة صادقة ونافذة من حجب الغيب - بحصول صاحبها على أرفع جائزة أدبية عالمية، وأنه هو الذي شرف هذه الجائزة قبل أن تشرفه وتشرفنا معه.
ويبدأ البحث بسطور تشيد بواقعية نجيب محفوظ التي تجلت بأوضح صورة في «ثلاثيته» الشهيرة، وبتوقفه عن الكتابة بعد الانتهاء منها وقبل قيام ثورة يوليو 1952م بأشهر قليلة، ثم عودته إلى الكتابة في سنة 1957م بهذه الرواية التي أثارت احتجاج الدوائر المحافظة، ولم يقدر لها حتى اليوم أن تصدر في مصر على شكل كتاب، وإن كانت طبعتها الأولى قد ظهرت ضمن مطبوعات دار الآداب البيروتية في شهر يناير سنة 1967م، ثم لدى الدار نفسها في طبعتها الثانية سنة 1972م.
Page inconnue
يبدأ الباحث تحليله للرواية بهذه العبارات: «إن نجيب محفوظ يقدم في الحقيقة عملا غير عادي. فهذه الرواية (...) تتناول موضوعا جبارا، وهو تاريخ البشرية من حيث هو تاريخ النجاة والخلاص الإلهي، بدءا بخلق العالم وطرد آدم وحواء من الجنة، ومرورا بظهور الأنبياء، وانتهاء إلى مشكلات العصر الحاضر. وهي في تناولها هذا تنقل تاريخ النجاة إلى نطاق حي من أحياء القاهرة القديمة ، وبهذا تخلصه من البعد الأسطوري لتقربه قربا مباشرا من جمهور القراء ...»
ويقدم البحث وصفا مفصلا للحارة التي تقع فيها الأحداث، والشخصيات المحركة لها، بدءا ب «الجبلاوي» في البيت الكبير وأبنائه من بعده: إدريس = إبليس، وأدهم = آدم، وولدي آدم همام = هابيل الذي يقتله شقيقه قدري = قابيل، إلى الفتوات الذين يعيثون في أرجاء الحارة ظلما وفسادا، والرجال الذين ينهضون من حين إلى حين لرفع البؤس عن الناس وقهر الظلم: جبل = موسى، ورفاعة = يسوع، وقاسم = محمد الذي ينجح في تحطيم نفوذ الفتوات بالقوة، ويأمر لأول مرة بتوزيع ريع الوقف - الذي وقفه الجبلاوي على أبنائه وذريتهم - على جميع سكان الحارة دون تفرقة بينهم في العشيرة أو الجنس. ولكن الذي يحدث بعد موته، مثلما حدث بعد موت سلفيه، هو عودة ناظر الوقف والفتوات إلى سلطتهما القديمة، ورجوع الظلم والبؤس سيرتهما الأولى؛ لأن البشر سرعان ما ينسون تعاليم روادهم الكبار ...
ويستطرد الكاتب محللا بعض صور الرواية، ثم يتوقف عند الجزء الذي يعقب عصر الأنبياء لكي يصل إلى مرامي مؤلفها وأهدافه، ويسلط الضوء على شخصية الساحر عرفة الذي يرمز للعلم الحديث الذي لا ينتسب لدين أو وطن. ويستأنف عرفة الصراع الذي بدأه جبل ورفاعة وقاسم مع الفتوات لكي يوفر لأولاد الحارة حياة لائقة بالبشر. إنه يريد أن يحقق الشروط العشرة التي نصت عليها وصية الجبلاوي (الوصايا العشر) وإن لم يكن في الواقع من رجال الجبلاوي. وعندما ييأس من بلوغ هدفه، يتسلل إلى بيت الجبلاوي الكبير لكي يكتشف سر وصية الوقف، ويتورط عن غير قصد في قتل الخادم العجوز الذي يحرس الوصية ويلوذ بالفرار مذعورا.
ويتبين بعد ذلك أن الواقف المسن كان لا يزال على قيد الحياة، ولكنه مات متأثرا بالصدمة. ويطارد الفتوات عرفة فيتمكن من إنقاذ نفسه بإلقاء الزجاجة السحرية التي اخترعها على مطارديه، وهي سلاح متفجر يفوق كل ما عداه من أسلحة. غير أن الناظر - رمز الطاغية الشرقي - يسخره لخدمته، ويتخلص الناظر من الفتوات بفضل الزجاجة السحرية، ولكنه يفعل هذا لمصلحته، لا لمصلحة الحارة. بهذا يصبح عرفة فتوته الجديد، وفي النهاية يتمكن عرفة من الهرب، ولكن أتباع الناظر يلقون القبض عليه ويقتلونه قتلة فظيعة. ويتجه أولاد الحارة في البداية إلى إدانة عرفة فيتهمونه بقتل الجبلاوي وبأن سلاحه العجيب هو الذي جعل من الناظر طاغية لا يقهر. لكن بعد موت عرفة يشيع الأمل في الصدور، فقد تمكن مساعده «حنش» من النجاة بنفسه، ولعله قد تمكن أيضا من إنقاذ كراسة عرفة السحرية. وكلما اشتدت حملة الناظر على عرفة وقوي اتهامه بقتل الجبلاوي مضى الناس يقولون: لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر. وهكذا أخذ بعض شبان الحارة يختفون تباعا لكي يتعلموا السحر على يد حنش استعدادا ليوم الخلاص الموعود ...
لم يترتب على اقتحام عرفة (العلم) لبيت الجبلاوي (العالم في الدين والميتافيزيقا) إلا أسوأ النتائج: مقتل الخادم العجوز، وموت الجبلاوي، وتسخير عرفة في خدمة الناظر، وانتصار هذا الناظر انتصارا مطلقا في القهر والجبروت. هنا تطل هذه الأسئلة الملحة برءوسها: هل فشل عرفة لأنه لم يتحرر بعد من إيمانه بالجبلاوي؟ أم يرجع فشله إلى محاولته النفاذ في عالم الميتافيزيقا الذي ليس للعلماء (الطبيعيين) أن يبحثوا فيه عن شيء؟ أم يرجع في النهاية إلى تجرئه على المساس بأقدس المقدسات؟
وعندما يصل عرفة في خدمته للناظر إلى الدرك الأسفل، تظهر امرأة تحمل إليه الرسالة الوحيدة التي وجهها الجبلاوي إليه: «اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عني أن جده مات وهو راض عنه.» وتبقى حقيقة هذه الرسالة غامضة، ولا نستطيع أن نقطع بأنها لم تكن إلا حلما من أحلام عرفة، ولكنها هي التي تشجعه على اتخاذ قراره بالهرب من خدمة الناظر، كما تمهد للتحول النهائي الذي تسوده روح التفاؤل. لقد وثق من رضاء جده عنه، واطمأن إلى أنه لم يغضب لاقتحامه بيته وقتل خادمه. ولكنه يفهم منها كذلك أن رضاه ينطوي على سخطه على عمله في خدمة الناظر. وربما كان التفسير القريب لهذا أن عالم الدين والميتافيزيقا قد انتهى، ولكن العالم (بكسر اللام ) - وهو صاحب الحق في المستقبل - يعترف بالقيم الروحية والمعايير الأخلاقية التي أخذها عنه. (23) لا شك في أن الإشكالية التي أثارت النقد، بل الاحتجاج والثورة على الرواية، تكمن في نقل التاريخ المقدس - أي تاريخ النجاة والخلاص والهدي على أيدي الرسل والأنبياء عليهم السلام - إلى مستوى الحارة التي تزدحم بالفتوات، ويرزح أهلها تحت أثقال الفقر والقهر والجهل والمرض والقذارة، ومن ثم «علمنته» أو إضفاء النزعة الدنيوية عليه وتصغير مقاييسه، وإطفاء هالات الجلال والقداسة التي تحيط به، وعرضه على جمهور القراء عرضا يقرب إليهم أحداثه، وإن كان في الوقت نفسه يؤثر فيهم تأثير الصدمة.
ومع أن الرموز الحية في هذه الرواية واضحة أكثر مما ينبغي للرموز الفنية (لأن الرمز يتسم بالضرورة بقدر من الغموض ويشع دلالات ومعاني متعددة، بينما هو هنا أحادي البعد صريح الدلالة) فإن الكاتب يتعمق تحليل هذه الرموز التاريخية والمتعالية في الوقت نفسه على التاريخ (مثل جبل ورفاعة وقاسم وعرفة الساحر أو العالم) ويناقش أفكار نجيب محفوظ الأساسية ومواقفه من الدين والميتافيزيقا والعلم والعقلانية، وشوقه إلى المجتمع العادل السعيد الذي يقهر الموت أو على الأقل ينسي الناس مأساة العدم الزاحف عليهم لا محالة: «إذا حسنت أحوال الناس قل شره - أي الموت - فازدادت الحياة قيمة وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصا على الحياة السعيدة المتاحة ... سيجمع الناس السحرة ليتوفروا لمقاومة الموت، بل سيعمل بالسحر كل قادر، هنالك يهدد الموت الموت.» (ص354 من الطبعة البيروتية). ويعلق المستعرب الكبير على العبارات السابقة قائلا: إن الثورة على الموت ليس لها طابع ميتافيزيقي فحسب، وإنما هي كذلك رمز متطرف على الكفاح العقلاني والواقعي من أجل حياة أفضل، وهو كفاح يعنيه نجيب محفوظ بكل ما في هذه الكلمة من قوة. وليس «أولاد حارتنا» هم أبطال روايته، وإنما هم المقصودون بخطابها وحديثها إليهم، فلا بد لهم أن يعرفوا أن الجهد المبذول لتأمين السلامة والعدالة تمهيدا لخلق الحياة الجديدة جهد يسعى إلى نجاتهم وخلاصهم، وأن نضال الموت نفسه - الذي يتحتم على كل إنسان أن يعانيه بمفرده - له من ناحية أخرى معنى اجتماعي. ففي مقدور الفرد أن يستمد الشجاعة في مناضلته (أي الموت) وقهر أشكاله وصوره المختلفة - من فقر وجوع ومرض وجهل وتخلف ... إلخ، من خلال تضامنه مع الآخرين.
بهذا تنتهي الرواية نهاية واعدة تفيض بالأمل في المستقبل - هذا إذا أمكن كسب الأغلبية لمتابعة الطريق الذي بين لهم عرفة معالمه ...
ويختم الأستاذ بحثه بقوله إنه لا يعرف في الأدب العربي الحديث عملا تناول مثل هذه المشكلات المهمة على هذا النحو المثير الذي تناولتها به «أولاد حارتنا» (ويقصد بذلك مشكلات تأثير الدين والعلم في الحياة، وإيجاد مجتمع عقلاني تختفي منه مآسي الفقر والذل والبطش ... إلخ، فتهون على الإنسان مأساة وجوده وعدم وجوده ... إلى غير ذلك من المشكلات المهمة التي عالجها نجيب محفوظ بصور متعددة المعاني والإيحاءات، وبصدق وعمق وموضوعية تميز كل أعماله. ولذلك يتمنى «شتيبات» في السطرين الأخيرين من بحثه - كما سبق القول - أن تترجم الرواية إلى اللغات الأوروبية وتضاف إلى ذخيرة البشرية من الأدب العالمي. ولقد ترجمت مع غيرها من أعمال الأديب الكبير إلى ما يقرب من أربعين لغة حية، وحصل - كما نعلم جميعا - على الجائزة المرموقة التي شرفت به، وتحققت نبوءة المستشرق المنصف بعد كتابة بحثه بما يزيد على عشر سنوات (يمكنك إذا شئت أن تطلع على النص الكامل لهذا البحث في كتابي المتواضع «شعر وفكر»، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص355-372)). (24) وفي النهاية يشرفني أن أضع بين يدي القارئ هذه الدراسات والبحوث العشرة للمستشرق الألماني الكبير عن الإسلام والمسلمين. وإذا كنت لم أتقيد بترجمتها ترجمة حرفية، فقد التزمت غاية الدقة والأمانة في عرضها، ولم أغفل فقرة واحدة ولا حقيقة واحدة وردت فيها. كما عرضت في التمهيد لهذا الكتاب ملخصا وافيا لعشر مقالات أخرى تسجل اهتمام الأستاذ «شتيبات» بنشأة الوعي القومي وبداية النضال من أجل الوحدة العربية، وبحركات الاستقلال والتحرر وبعض النظم الثورية في البلاد العربية وغير ذلك من المشكلات المتصلة بالتعليم ونكبة فلسطين، بالإضافة إلى تقديم عملين روائيين من الأدب العربي الحديث يعبران عن مدى انشغال العقل والوجدان العربي في النصف الثاني من القرن العشرين بالتقدم والاستنارة والتجديد والتغيير نحو الأفضل والأعدل. وقد حرصت في هذا التمهيد على أن أبدأ بعرض أقدم هذه المقالات والبحوث - من حيث زمن كتابتها - وأنتهي بأحدثها، وذلك على العكس مما فعلت مع المقالات والبحوث عن الإسلام والمسلمين.
ولا شك عندي في أن القارئ سيتعرف من خلال هذه البحوث والمقالات على موضوعية المنهج التاريخي وأمانته، وسيشهد بنفسه على الإنصاف والتعاطف العقلي والوجداني للمستشرق الكبير مع قضايا العرب والمسلمين، كما سيشعر بأن سطوره تنبض في مواضع عديدة بالتفهم والمشاركة، وتشف عن أمل كاتبها في أن ينجح العرب في تحقيق مشروعاتهم في التنمية والتقدم، وحلمهم بالوحدة التي هي طوق النجاة الوحيد في خضم أعاصير التحديات التي تهب عليهم من كل اتجاه ...
Page inconnue
ومن الطبيعي أن يختلف القارئ العربي مع المؤلف في بعض آرائه، وأن يوجه النقد إلى جانب أو آخر من أفكاره ووجهات نظره. ويقيني أن المؤرخ الكبير سيرحب بالاختلاف في الرأي ما دام يقوم على أساس الحوار الحر النزيه ويتوخى الوصول إلى الحقيقة، فلا قوام لأي فكر أو بحث بغير النقد الذي يبعث فيهما أنفاس الحياة ويحولهما مع الزمن إلى فعل مؤثر ومغير ... (25) وفي الختام أقول للقارئ الكريم، الذي اطلع على شيء من إنتاجي السابق، إنني قد حرصت في كل ما قدمت من قبل على أن أحصر نفسي في حدود الفلسفة الغربية والأدب العالمي - لا سيما الأدب الألماني - وأن أبتعد بها عن ميدان الدراسات الإسلامية والعربية، لإيماني من ناحية بضرورة تحديد الكاتب أو الباحث لحدوده، ولعلمي ويقيني من ناحية أخرى بأن غيري من الإخوة الباحثين المتخصصين أقدر مني على الخوض في بحار ذلك الميدان الشاسع. وقد أقدمت على العمل في هذا الكتاب، وبذلت ما بذلت في سبيل تحقيق نصوصه والتثبت من حقائقه - بقدر ما استطعت - لسببين؛ أولهما: أن أشارك بجهد شديد التواضع في مواجهة حملات التشويه والافتراء الضارية على الإسلام والمسلمين والعرب، وهي الحملات الكاذبة التي أرجو أن يفطن العقل الغربي نفسه ذات يوم قريب إلى أنها تخجله وتنفي عنه فضيلته الكبرى التي ميزته منذ عهد الإغريق، وهي فضيلة التمسك بالحقيقة والبحث عنها والإعلاء من شأنها فوق كل شيء ومهما تكن التضحيات، والثاني هو إهداء زهرة حب ووفاء للأستاذ والمعلم الذي يغمرني برعايته وفضله منذ ما يقرب من نصف قرن، لعلها أن ترسم على وجهه الطيب الحنون ابتسامة رضى وسعادة، وتحمل إليه - وهو يرقد على فراش المرض في برلين - أخلص تمنيات تلميذه وصديقه بالشفاء والهناءة.
أشكره - سبحانه - على عونه وتوفيقه، وأستغفره وأسأله الصفح عن القصور والتقصير، إنه نعم المولى ونعم النصير، إليه ألجأ، وإليه المصير.
عبد الغفار مكاوي
الفصل الأول
حياة فريتس شتيبات وأعماله
«لم أعرف في حياتي، ويقينا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»
عبد الغفار مكاوي
ولد أوتو هيرمان فريتس شتيبات
1
في اليوم الرابع والعشرين من شهر يونيو سنة 1923م بمدينة كيمنتز (بمحافظة سكسونيا)، وانتقل مع أسرته بعد سنوات قليلة إلى برلين مع انتقال أبيه للعمل بها في إدارة مطبعة «ريتشارد لود فيج». عاش الصبي مع أسرته في حي «فيد ينج»، والتحق بمدرسة ماكينزين - التي تغير اسمها بعد ذلك فصارت تحمل اسم الفيلسوف والناقد والكاتب المسرحي ليسينج - ولم يكد يحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية في سنة 1940م حتى بدأ أبوه في إعداده لتولي شئون المطبعة، وأخذ يدربه على فنون الطبع وصف الحروف وتوزيع الأحبار والألوان، ولكنه سمح له في الوقت نفسه - لحسن حظه وحظ الاستشراق، وتخفيفا من أعباء العمل اليدوي المؤلم والأبكم - بأن يلتحق بالجامعة لدراسة المادة التي يختارها.
Page inconnue
ودفعه حبه للغات الغريبة والبعيدة إلى أن يبدأ بدراسة اللغتين الصينية واليابانية، ثم لم يلبث أن تخلى عنهما وانصرف إلى الدراسات العربية والإسلامية في «سيمنار اللغات الشرقية» الذي كان يقدم دروسا لغوية وعملية قبل أن يضم في العهد النازي إلى جامعة برلين القديمة ويدخل في إطار الدراسة الجامعية. وهناك تعرف الطالب الشاب على أستاذه الذي لازمه حتى رحيله، وهو المستعرب الكبير فالتر براونه (1900-1989م) الذي أدى أمامه في نهاية شهر أكتوبر سنة 1941م أول امتحان له في اللغة العربية - وقد كان من حسن حظ المستشرق الشاب أن يعفى من سخرة التجنيد ولعنة القتال في إحدى الجبهات التي فتحتها ألمانيا الهتلرية في الحرب العالمية الثانية - غير أن الجيش سرعان ما استدعاه في شهر يناير سنة 1942م للعمل مترجما في قسم البحوث بوزارة الطيران في برلين، واستفاد من فترة وجوده بالعاصمة في مواصلة دراسته للعلوم الإسلامية، وذلك قبل أن ينقل القسم السابق الذكر إلى منطقة بافاريا في الجنوب الألماني.
عايش «شتيبات» تجربة الاستسلام المطلق لبلاده وإعلان انتهاء الحرب (في الثامن من شهر مايو سنة 1945م) وإن لم يذق نعمة الراحة أو السلام ... فقد قضى ثلاثة أشهر في معسكر اعتقال أمريكي، واضطر إلى العمل مترجما في سلاح الطيران الأمريكي لمدة ثلاثة شهور أخرى. وقد نشر الخراب أجنحته السوداء في كل مكان وراح يفرخ صغاره البشعة - الجوع والفوضى والذل والدمار - في العاصمة بوجه خاص وفي سائر المدن والقرى الألمانية. وانكسرت كل الأحلام فلم يستطع حتى أن يفكر في الرجوع إلى برلين للبحث عن مصير المطبعة التي كان يملكها ويديرها أبوه، دع عنك مواصلة دراسته في جامعتها، فلم يكن لطموح الإنسان في ذلك الزمن العصيب أن يتجاوز محاولة البقاء على قيد الحياة.
ولم تكد محاكم الحلفاء تصدر قرارها، في السادس عشر من شهر ديسمبر في المنطقة المحتلة من قبل الأمريكيين، حتى انخرط في العمل الصحافي، وأخذ يكتب منذ ذلك الحين مجموعة من التقارير عن أحوال الشرق الأدنى في مجلة «أرشيف أوروبا»، وذلك بعد حضور بعض التدريبات المؤهلة للعمل الصحافي في جامعة «ميونيخ»، وواصل نشر هذه التقارير في الأقسام الخاصة بالسياسة الخارجية في عدد من الجرائد كالصحيفة الجديدة وميركور وغيرهما - ويكفي أن نذكر بعض عناوين تلك التقارير والتحقيقات التي لم يتوقف بعد ذلك عن كتابتها ونشرها على مدى سنوات طويلة تالية في منابر مختلفة: وضع مصر في الإمبراطورية البريطانية (1946-1947م)، تطور وضع الدردنيل (1947م)، قضية فلسطين أمام الأمم المتحدة (1948م) إيران بين القوى العظمى (من 1941 إلى 1948م) - وغني عن الذكر أن هذه التقارير الصحافية المبكرة قد اتسمت بكل ما يميز كتاباته ودراساته اللاحقة: بالموضوعية العلمية النزيهة، ووضوح الأسلوب وبساطة العرض، والغوص إلى الجذور التاريخية للتطورات الحديثة والمشكلات والقضايا المعاصرة، والتعاطف الشديد مع بلاد وشعوب المشرق العربي والإسلامي، بعيدا كل البعد عن الاستعلاء على «الآخر» الشرقي - والمسلم بوجه خاص - الذي وصم الكثير من بحوث المستشرقين والمستعربين وجعلها تدور في فلك الأطماع الاستعمارية والتوسعية في ذلك الوقت ومنذ بداية حركة الاستشراق الغربي نفسه.
بعد الحصول في سنة 1951م على منحة من الحكومة الأمريكية وقضاء سنة دراسية في مدرسة الصحافة التابعة لجامعة مونتانا، وبعد حضور بعض الحلقات الدراسية والاستماع لمحاضرات بعض مشاهير المستشرقين في جامعة ميونيخ (مثل بابنجر وشبيتالر) قرر شتيبات الرجوع إلى برلين لإتمام دراسته بجامعتها. كانت الأحوال قد تغيرت بعد الاحتلال الروسي لشطر المدينة الذي تقع فيه الجامعة القديمة. وكان على العالم الشاب أن ينتظر حتى تفتح «جامعة برلين الحرة» - التي أسست عام 1948م في الشطر الغربي للمدينة - أبوابها للطلاب ويستكمل بناء «المعهد الشرقي» التابع للجامعة الجديدة. واستأنف شتيبات دراسته للعلوم الإسلامية والتاريخ الإسلامي في هذا المعهد، وعلى يد الأستاذ نفسه الذي سبق أن أخذ العلم - مع الحب والرعاية - على يديه (وهو المستعرب فالتر براونه الذي سبق ذكره)، وواصل دراسته حتى أتمها في شهر يوليو 1954م برسالة الدكتوراه الأولى عن «الوطنية والإسلام عند مصطفى كامل - مساهمة في التاريخ الفكري للحركة الوطنية المصرية» (وقد ظهر ملخص لها من مائة صفحة في العدد الرابع من مجلة عالم الإسلام لسنة 1956م، ص241-343).
واستبدت به الرغبة في زيارة الشرق الأدنى والبقاء به فترة طويلة تمكنه من التعرف عن قرب على ثقافته وتراثه وأحواله وناسه. وجاءت الفرصة الثمينة عندما كلفته إدارة «معهد جوته» المركزية في ميونيخ في شهر نوفمبر سنة 1955م بالسفر لمدة أربع سنوات إلى القاهرة على رأس بعثة المعهد لتدريس اللغة الألمانية ببعض مدارسها الثانوية (بالإضافة إلى «مدرسة الألسن» التي كانت الدراسة بها في ذلك الحين دراسة مسائية حرة)، والمشاركة في تأسيس فرع معهد جوته بالعاصمة المصرية. لم يكن من الممكن أن يحلم المستشرق الشاب بفترة أنسب من هذه الفترة التي قضاها بالقاهرة (من 1955 إلى 1959م) ولا أحفل منها بالأحداث الكبرى والطموحات والآمال العظمى في تاريخ المنطقة العربية: من انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس إلى العدوان الثلاثي الغادر في سنة 1956م، ومن تأسيس للجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا وسقوط الملكية في العراق (1958م) إلى إعلان استقلال المغرب وتونس (1956م) وحرب التحرير الجزائرية التي بدأت بطولاتها ومآسيها في سنة 1954م وانتهت بالتحرر المجيد في سنة 1962م، وكل هذا في ظل المشروع الناصري الطموح لتحقيق الوحدة العربية، وصعود موجات الأمل والاستبشار الموارة بالحلم العربي الكبير الذي لم تكن قد خيمت عليه بعد كوابيس الهزيمة واليأس والإحباط.
كانت سنوات مفعمة بالنشاط والنجاح والرضا الموفور: مشاركة فعالة في تأسيس معهد جوته، وإشراف على بعثة تدريس اللغة الألمانية المكونة من أكثر من أربعة وعشرين عضو هيئة تدريس، ومهمة التفتيش على تدريس اللغة في بعض المدارس المصرية من قبل وزارة التعليم، مع الاهتمام المتزايد بنظام التعليم في مصر وتاريخه وتطوره ، والمشكلات والقضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة به التي صبت بعد ذلك في نهر رسالته الثانية ل «دكتوراه التأهيل» التي خصصها لدراسة نظام التعليم في مصر منذ عصر محمد علي.
لا شك في أن السنوات التي عاشها شتيبات في ظل العهد الناصري كانت من أخصب تجارب حياته كعالم وإنسان. ومن يطلع اليوم على المقالات التي كتبها في تلك الفترة ونشرها في «أرشيف أوروبا» (كالمساعي الأمنية في الشرق الأوسط 1955م، وطريق الأمة الجزائرية 1961م، وثورة عبد الناصر والبداية من جديد 1962م) أو في الكتاب السنوي للجمعية الألمانية للسياسة الخارجية (مثل الدول العربية في الشرق الأوسط، وقضية فلسطين وإسرائيل، وسياسة تركيا والدول العربية، وحركات الاستقلال في المغرب العربي، والدول العربية بين الشرق والغرب، والدول العربية قبل حرب 1967م، وبين الحل السياسي والحرب المدمرة، وقد كتبت كلها ونشرت بين سنتي 1955 و1975م) أقول إن هذه المقالات - التي لخصت بعضها في التمهيد السابق - تقدم الشهادة الصادقة على عمق النظرة العلمية والإنسانية، ففيها نلمس التعاطف الشخصي الذي لا ينفصل عن المنهج العقلي النزيه، والتوثيق الدقيق المقترن بالتحليل التاريخي الأمين. وإذا كانت الأيام والأحداث قد كشفت بعد ذلك عن مصادر لم يتوصل إليها أو مواد تاريخية وشخصية لم يتيسر له الاطلاع عليها؛ فإنها - أي هذه المقالات - تظل محتفظة بقيمتها العلمية العالية، وتبقى مآثر طيبة لإنسان توحد فيه العلم الخالص مع الخلق المثالي الرفيع.
رجع شتيبات إلى برلين في أواخر سنة 1959م وعين في منتصف ديسمبر في وظيفة معيد بقسم الدراسات الإسلامية بمعهد العلوم الدينية بجامعة برلين الحرة، وقد كلف - على مدى أربع سنوات - بتدريس اللغة العربية، فاستطاع أن يستغل وقت الفراغ الطويل في إنجاز بعض المقالات التي سبقت الإشارة إليها، بالإضافة إلى بحث عن جمال عبد الناصر، نشرته لجنة اليونسكو في فيينا سنة 1964م، وبحث آخر مطول عن العالم العربي في عصر القومية، نشر سنة 1964م أيضا ضمن كتاب للأستاذ فرانز تيشنر عن تاريخ العالم العربي. وأخيرا قدم رسالته الكبرى لدكتوراه التأهيل التي سبقت الإشارة إليها عن «التراث والنزعة العلمانية في نظام التعليم الحديث في مصر حتى سنة 1952م، مساهمة في التاريخ العقلي والاجتماعي للشرق الإسلامي». ومن المؤسف حقا أن هذه الرسالة المهمة لم تنشر قط على صورة كتاب، وإن كان قد نشر منها بعد ذلك فصلان ضمن كتابين بالإنجليزية والألمانية في عامي 1968 و1969م، عن مشروعات التعليم الوطني قبل الاحتلال البريطاني، وعن طه حسين وديموقراطية التعليم في مصر.
وعاوده الحنين للحياة مرة أخرى في العالم العربي. وشاء له حسن الحظ أن يتولى إدارة المعهد الشرقي التابع لجمعية الاستشراق الألمانية في بيروت من شهر أكتوبر 1963 إلى شهر سبتمبر 1968م. أتاحت له بيروت أن يعيش في ظل التعددية السياسية والدينية، والحرية الثقافية والفنية والأكاديمية والصحافية التي لا نظير لها في العالم العربي كله. ولم يكن لجمعية الاستشراق الألمانية أن تجد مكانا في الشرق الأدنى أنسب من هذه المدينة لتأسيس المعهد الشرقي التابع لها والقائم بنشر رسالته الثقافية منذ سنة 1961م إلى اليوم؛ هذه المدينة التي يتجاور فيها الشرق والغرب، ويتعايش المسلم والمسيحي، ويتنافس عدد من أفضل الجامعات العربية على نشر الوعي والمعرفة، وتسري روح الحرية الجسورة المتجددة في كل عقل وكل شارع وكل ركن فيها.
كان هذا المعهد الشرقي قد أسس في سنة 1961م بمبادرة من المستشرق هانز روبرت رومر (1915-1997م) الذي تولى إدارته ورعاية شئونه لمدة عامين، استجاب بعدهما لدعوة من جامعة فرايبورج لشغل كرسي العلوم الإسلامية وتاريخ الشعوب الإسلامية بها، ولم يترك الأستاذ بيروت إلا بعد أن رشح شتيبات لجمعية الاستشراق ليكون خلفا له؛ إذ لم ينس أنه قد أثار إعجابه الشديد بمواهبه الإدارية والعلمية عندما تعرف عليه بالقاهرة في منتصف الخمسينيات. وواجه شتيبات بعد حضوره إلى بيروت أربع مهام جسام كان عليه أن ينهض بها: نقل المعهد من مقره القديم (في الدور الثاني من عمارة الصمدي في شارع مدام كوري في حي رأس بيروت) إلى المبنى الجديد الذي انتقل إليه منذ شهر يونيو 1964م ولم يزل يشغله إلى اليوم الحاضر (في فيلا فرج الله بحي زقاق البلاط)، وشراء وتأثيث مقر صيفي للعاملين بالمعهد (دمر خلال الحرب الأهلية)، وتزويد المكتبة بالمراجع والدوريات والأجهزة والمعدات الضرورية، وتنظيم خطة النشر التي توالى ظهور مجلداتها المهمة في التراث الإسلامي والتاريخ العربي تحت عنوان: «نصوص ودراسات بيروتية»، مع الاهتمام بمواصلة نشر سلسلة المخطوطات الشرقية التي كان قد بدأها المستشرق المعروف «هلموت ريتر» في إسطنبول من سنة 1928 إلى سنة 1949م وعرفت بسلسلة «المكتبة الإسلامية». وليس من قبيل المبالغة أن نشيد بالدور الكبير الذي قام به هذا المعهد وما يزال يقوم به في نشر التراث العربي الإسلامي، وتوثيق العلاقات العلمية والإنسانية بين الباحثين الألمان والعرب، وحفز المستعربين الشبان على المزيد من الاهتمام بالقضايا العربية الحديثة والمعاصرة، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ حركة القومية العربية، والحوار بين الأديان وغيرها من القضايا والمشكلات التي انعكست على بحوث صاحب هذه السيرة سواء في أثناء وجوده في بيروت أو بعد رحيله عنها بسنوات طويلة.
Page inconnue
ويرجع شتيبات في أواخر عام 1968م إلى الجامعة الحرة في برلين ومعهد العلوم الإسلامية والدينية فيها، ويعين في الثالث من سبتمبر من العام نفسه أستاذا مساعدا قبل أن يشغل في الثاني من شهر يوليو 1969م كرسي الأستاذية خلفا لأستاذه «فالتر براونه» صاحب الكتاب المشهور في الدوائر العلمية: الشرق الإسلامي بين الماضي والمستقبل، تحليل تاريخي ولاهوتي لوضعه في العالم المعاصر (بيرن وميونيخ 1960م). وسرعان ما أصبح هذا المعهد - بعد الإصلاح الشامل لنظام التعليم في ألمانيا الاتحادية في أواخر الستينيات - مركزا متوهجا بالحوار الحي بين علماء الأديان والفلاسفة وعلماء الاجتماع والاستشراق، بحيث تضافرت في هذا الحوار المستمر نزاهة العلم الموضوعي الخالص والالتزام السياسي والاجتماعي، مع تزايد اهتمام الرأي العام بمعرفة الشرق العربي والإسلامي بعد نكبة يونيو 1967م، وتصاعد حركة المقاومة والتحرير الفلسطينية، وتفجر أزمة النفط في أوائل السبعينيات. ولا بد أن تلك المحاورات والمحاضرات قد تأثرت من ناحية أبلغ التأثر بتراث التوجه الحضاري في دراسة الشرق الإسلامي وعلومه - وهو التوجه الذي يرجع إلى المستشرق البرليني ك. بيكر (1876-1933م) الذي تتلمذ عليه براونه أستاذ شتيبات - كما تأثرت من ناحية أخرى بتيار «الاشتراكية الدينية المناضلة» الذي اشتهر به الفيلسوف البروتستنتي العظيم باول تليش (1886-1965م) الذي كان البيت الذي استقر به المعهد يحمل اسمه، والذي انطلق في كل تجاربه الفلسفية والوجودية العميقة من الإيمان بالطابع الديني الجوهري للحضارة بكل ظواهرها وتجلياتها في العالم الحاضر على اختلاف أنظمته وحركاته ومشكلاته؛ «إذ ما من شيء فيه لا يعبر عن الوضع الديني.»
هكذا انعكست تأثيرات هذا التراث الممتد في دراسة الدين والتاريخ الحضاري على تفكير صاحب هذه السيرة وبحوثه، وتجلت في اهتمامه بحاضر العالم الإسلامي ومستقبله، وحرصه على الرؤية التاريخية الكلية والشاملة لمجالات الحياة بلا استثناء، والمعرفة الدقيقة بالتراث الديني والعقلي والاجتماعي والظروف التاريخية الكامنة وراء تحولاته الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار قبل كل شيء أن الشرق ليس مجرد موضوع عجيب جذاب، أو عالم مثير للغرابة وحب الاستطلاع، وإنما هو «جزء من عالمنا»، وشريك للغرب في رحلة الفكر والعمل والضمير والتحضر البشري. ومن ثم جاء العنوان الدال للكتاب الذي نحن بصدده، والذي يضم الدراسات والمقالات التي سنعرضها على هذه الصفحات وهو «الإسلام شريكا». فدراسة الشرق الإسلامي كشريك للغرب المسيحي تقوم على أساس من الوجود والسؤال والأمل الذي يوحد بينهما وحدة ضرورية؛ أضف إلى ذلك أن دراسة تاريخ هذا الشرق كطرف أو شريك في مصير واحد تؤدي حتما إلى المعرفة النقدية بتاريخ الغرب نفسه.
وهكذا أسس في برلين مركز مرموق لدراسات الشرق الأدنى الحديث مع كل ما يتصل به من علوم التراث والتاريخ والسياسة والاقتصاد في جامعة برلين الحرة، وساعدت منحة سخية من مؤسسة فولكس فاجن منذ سنة 1976م على مده بالطاقات العلمية والمادية الكافية.
ولقد صمد هذا المركز العلمي وحافظ على هويته ورسالته العلمية والأخلاقية الرفيعة في وجه رياح التغير العاصفة في العالم الإسلامي منذ إطلاق صيحة الصحوة الإسلامية، وقيام الثورة الإسلامية في إيران (1979-1980م) وهبوب أعاصير التطرف مع الحركة المسماة - خطأ وظلما - بالأصولية الإسلامية، وتزايد أعداد المهاجرين من الدول العربية والإسلامية إلى أوروبا الغربية، بحيث أثارت هذه التحولات اهتمام الرأي العام الغربي والعالمي، وأزاحت إلى الظل معظم الجهود المخلصة التي بذلت في سبيل الدرس المحايد والمتأني للشرق. وانبرى شتيبات في العديد من مقالاته ومحاضراته (ابتداء من محاضرته عن الدور السياسي للإسلام التي ألقاها في المؤتمر الحادي والعشرين للمستشرقين الألمان الذي عقد في التاسع والعشرين من شهر مارس سنة 1980م في برلين) انبرى لمواجهة هذه التحديات، وراح يحذر من التبسيطات السياسية المتسرعة لموضوع «الإسلام»، ويدعو إلى فهمه وتفسيره داخل السياق المعقد للمشكلات العالمية. وربما يكفي هذا النص المقتبس من المحاضرة المشار إليها لتوضيح رؤيته السمحة ومنهجه التاريخي والحضاري المتكامل. «ليس الإسلام هو القوة الأصلية الدافعة للموجات الإسلامية الجديدة التي نلاحظها اليوم في العالم. لا شك في أن الديانة المشتركة هي أساس الشعور بالتضامن بين جميع الشعوب الإسلامية. ولكن الشيء المشترك بين الحركات الإسلامية الراهنة لهذه الشعوب لا يأتي من ديانتها، وإنما يأتي من موقفها التاريخي الذي تشاركها فيه شعوب كثيرة غير إسلامية، وهو موقف الاعتمادية أو التبعية للأمم الصناعية في الغرب، وبحثها اليائس عن توجه خاص يمكن أن يساعدها على التحرر من تلك التبعية.»
وواضح من هذا النص أن نظرته للشرق المسلم كشريك للغرب - تضمهما وحدة الوجود في هذا العالم ووحدة المصير البشري - لم تتغير عما كانت عليه، وأن إيمانه بقوة الدين وقدرته على تجميع البشر لم تتأثر بحملات التحيز والتشويه والإساءة للإسلام والمسلمين. ولعل وقوفه في صف المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا، ودعوته لقيام تنظيم موحد يجمع شملهم، لعله أن يكون أبلغ دليل على سماحته العلمية والإنسانية التي تجلت في عدد كبير من دراساته عن الشرق الأدنى، وفي أحكامه المنصفة على بعض ردود الفعل من جانب المسلمين على افتراءات سلمان رشدي في روايته المريبة «آيات شيطانية» (ومن هذه الدراسات على سبيل المثال طبيعة الأمل في نظر المسلم، وصورة الإنسان في الإسلام أو خليفة الله على الأرض، والإيمان يقدم الأمل في الخلاص والنجاة، والمناقشات الدائرة في الكتابات الشعبية الإسلامية)، وكلها دراسات تؤكد اهتمامه بالدين بالمعنى الضيق أو بمعناه «الوجودي» ومدى تأثيره وأهميته في تاريخ الشعوب الإسلامية وأساليب مواجهتها للموت والعدم.
وأخيرا لا ننسى جهوده العملية بين سنتي 1992 و1993م - أي بعد إتمام الوحدة الألمانية - التي توجت بإنشاء «مركز العلوم الإنسانية المختص بدراسة الشرق الحديث» (وهو الذي يزهو به اليوم حي نيكولاسيه في برلين)، وحققت مساعيه السابقة لتجميع التخصصات العلمية المختلفة لدراسة الشرق دراسة تاريخية ودينية شاملة وقائمة على الإيمان بأن الشرق والإسلام شريكان لا غنى عن معرفتهما لكي يعرف الغرب نفسه وتاريخه، كما سبق القول. وهكذا أثبت الرجل العظيم - حتى بعد إحالته إلى المعاش في سنة 1988م، وقبل أن يقعده المرض الشديد منذ سنة 1988م - كيف يمكن أن يجمع الإنسان بين القدرة العلمية الخارقة والمهارة العملية الفائقة والاهتمام الدافئ الحميم بكل من اتصل به أو عرفه من الزملاء والأصدقاء والتلاميذ. ولكم يشرفني ويسعدني في ختام هذا التقديم أن أدلي بشهادتي عنه، بصفتي تلميذا سابقا تعلم على يديه في القاهرة وبرلين، وصديقا لم ينقطع حتى الوقت الحاضر عن الاتصال به والاطمئنان عليه. هذه الشهادة تقول بكلمات مختصرة يمكن أن يفسدها أي إسهاب أو إطناب: «لم أعرف في حياتي، ويقينا لن أعرف في أيامي الباقية، من هو أطيب ولا أنبل منك، أيها الأخ الأكبر والمعلم المثالي الأكمل.»
الفصل الثاني
ملاحظات عن دور البحث العلمي في حوار الأديان1
(1996م) «إن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر في إطار سياق تاريخي.»
فريتس شتيبات
Page inconnue
ليس من قبيل المبالغة أن أقول إن هذا المعهد كان له تأثير هائل على الدراسات الشرقية، لا في لبنان والعالم العربي وحدهما، بل كذلك في ألمانيا ذاتها. لقد قدم تيسيرات فنية عديدة للباحثين الألمان والعرب على السواء. وإذا كان المستشرقون الألمان يعتزون بتراث طويل وعريق في دراسة اللغات والحضارات الشرقية، فلا بد من القول إن معظم جهودهم قد اتجهت إلى الماضي. وقد استطاع المعهد الشرقي في بيروت أن يقدم للمستشرقين الألمان فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن فرصة العمل في بيئة شرقية، وأن يلفت أنظارهم إلى الشرق الحي، وينبههم إلى أن لغات وحضارات الماضي كانت وما تزال واقعا ينبض بالحياة ويؤكد تأثيرها المستمر بأشكال وصور مختلفة على ميادين الفكر والعمل والحياة اليومية والمشكلات والقضايا الملحة في الوقت الراهن. وهكذا يمكن القول إن المعهد الشرقي قد ساهم بدور ملحوظ في الاهتمام المتزايد بدراسة الشرق الحديث من مختلف جوانبه وآفاقه المترامية.
والتوسع في آفاق البحث والدراسة، لا سيما إذا تطرق لموضوعات معاصرة، لا يمكن أن يخلو من المخاطر والمآزق. والواقع أن حجة العلماء الذين يرفضون التعرض لمثل هذه الموضوعات تتلخص في الغالب في أن تناول الشئون المعاصرة يمكن أن يجر الباحث للانزلاق في السياسة. تلك بالطبع حجة مشروعة. فالحق أن جهد الباحث العلمي يمكن أن يفقد الكثير من قيمته، إن لم يفقد كل قيمته، إذا رجحت في ميزان عمله كفة الأغراض السياسية كفة البحث الخالص عن الحقيقة. ولكن لا يمكن من ناحية أخرى أن ننكر أن على العلماء والباحثين - شأنهم في هذا شأن بقية المواطنين - واجبا يقتضي منهم خدمة الصالح العام من خلال المعرفة التي حصلوها في تخصصاتهم المختلفة. صحيح أن البحث عن الحقيقة لا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكون تابعا لأي اهتمام آخر غير البحث عن الحقيقة، أضف إلى هذا أنه لا ينبغي على هؤلاء الباحثين أن يدعوا الصدق المطلق لمعارفهم، وأن عليهم في هذه الحدود أن يشاركوا بإرادتهم واختيارهم في تكوين الرأي العام. ومن حسن الحظ أن عددا كبيرا من شباب الباحثين قد بدءوا السير في هذا الاتجاه.
أود الآن أن أقدم بعض الملاحظات المتصلة بمجال تخصصي في الدراسات الإسلامية عن قضيتين يدور حولهما النقاش العام بشأن الشرق الأوسط، وأعتقد أن هاتين القضيتين من الأهمية بحيث ينبغي على الباحثين المتخصصين أن يدلوا فيهما بدلوهم: (1)
وصف الإسلام بأنه عقبة كبرى أمام السلام العالمي في عصرنا. (2)
مشكلة الحوار بين الأديان، وبالأخص بين الإسلام والمسيحية.
ولست أضيف جديدا إذا قلت إننا نلاحظ منذ سنوات قليلة ميلا شديدا ومفاجئا في الغرب إلى اعتبار الإسلام خطرا يهدد العالم الحر، بل اعتباره مصدر الإزعاج الباقي للسلام على الأرض. لقد بدأت هذه الظاهرة مع تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية.
وتفسير هذه الظاهرة يفرض نفسه بنفسه، فمن الناس من يشعر ببساطة بالحاجة الدائمة لمواجهة خطر أو عدو يهدده، وإذا كان الخطر الشيوعي قد انحسر، فإن الإسلام والمد الإسلامي هما البديل المناسب. ولدي يقين مؤكد بأن الدوافع الكامنة وراء هذا الموقف دوافع غير عقلانية. ولهذا أعتقد أنه لا ينبغي أن تترك هذه الظاهرة بغير تفسير وتعليق دقيق، لا سيما إذا تبنتها جهات محترمة أو ارتفعت بها أصوات مؤثرة.
ولعل أهم المناقشات التي دارت في هذا السياق على المستوى الأكاديمي قد افتتحتها مقالة نشرت في مجلة «الشئون الخارجية» الأمريكية في العام الماضي (1993م). وعنوان هذه المقالة هو «صدام الحضارات» ومؤلفها هو صمويل ب. هنتنجتون أستاذ علم الحكومات ومدير معهد جون أولين للدراسات الاستراتيجية في جامعة هارفارد.
2
ويسعى مؤلف المقال إلى وضع نموذج يساعد على فهم العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك على أساس افتراض مؤداه أن «المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم الجديد لن يكون في المقام الأول أيديولوجيا ولا اقتصاديا، وأن التقسيمات الكبرى بين أبناء البشر وكذلك المصادر الأساسية للصراع ستكون كلها حضارية» (ص22 من المقال المذكور) ويحدد هنتنجتون سبع أو ثماني حضارات كبرى ستشكل صورة العالم على نطاق واسع. هذه الحضارات في رأيه هي الحضارة الغربية، والصينية الكونفوشيوسية، واليابانية، والإسلامية، والهندية، والسلافية الأرثوذوكسية، والأمريكية-اللاتينية، وربما أمكن إضافة الحضارة الأفريقية إليها. ويذكر صاحب المقال أن «أهم» العوامل التي تميز الحضارات بعضها عن بعض هو عامل «الدين» (ص25).
Page inconnue
لن أستطيع الدخول في تفصيلات المناقشات التي أعقبت نشر مقال هنتنجتون، ولا أن ألخص الانتقادات التي وجهت للفرض الذي طرحه. يكفي القول في هذا السياق إن هنتنجتون يؤكد نقطة مهمة بتشديده على أهمية تحديد الهوية الذاتية في توجه البشر ومواقفهم من الحياة، وكذلك على أهمية الحضارة والدين بوصفهما عنصرين أساسيين في تحديد تلك الهوية. فلا شك في أن الناس يشعرون بالحاجة الشديدة إلى الاعتماد على القوى التي لا تأتي من الخارج، وإنما تنبع من داخلهم وتعبر عن شخصيتهم الأصيلة المتفردة، ويستندون فيها إلى «سند من تراثهم الخاص» كما يقول أستاذي فالتر براونه.
3
وفي تقديري أن هنتنجتون يبالغ مبالغة شديدة في حديثه عن تأثير هذين العاملين على الممارسة السياسية في العالم. فمن الصحيح - فيما يتعلق بالإسلام - أن اقتناع المسلمين جميعا بأنهم يكونون جماعة أو «أمة»، قد وحد بينهم على الدوام في الشعور بالتضامن والتكافل. ولكن من الصحيح أيضا أن العالم الإسلامي الرحب تعيش فيه شعوب وفئات اجتماعية مختلفة المشاعر والمصالح. وأغلب الظن أن هذه الشعوب والفئات المتعددة ليست على استعداد للتضحية بمصالحها الحيوية في سبيل وحدة إسلامية أعظم. وليس هذا من قبيل المصادفة؛ لأن الدين الإسلامي يتيح للأفراد والجماعات مجالا واسعا وأفقا رحبا للتفسير. ولا توجد كذلك في الإسلام سلطة عليا لتقرير ما هو التفسير الصحيح، فليس فيه «بابا» ولا «دالاي لاما»، لا مجمع كنسي ولا مجلس مسكوني، والمؤمنون يتمتعون بحرية واسعة في هذا الشأن (أي في حرية التفسير) ما داموا يسعون بإخلاص وصدق للوصول إلى الحقيقة. ومن الممكن، والحال كذلك، أن يتوصل المؤمنون إلى استنتاجات مختلفة عن الموقف الصحيح من قضية معينة، كأن تكون هذه القضية هي قبول أو رفض الحضارة الغربية أو أي حضارة غيرها. وهنالك من جهة أخرى مشاعر الانتماء والتوحد في مصير مشترك، وهي مشاعر تتجاوز حدود الجماعة الدينية ولها مع ذلك تأثير قوي لا يستهان به. وأضرب لهذا مثلا واحدا من العلاقات القوية والحميمة التي تربط بين المسلمين والمسيحيين العرب، وهو مثل لا يفسح له نموذج هنتنجتون عن الحضارات القائمة على الدين أي مكان فيه. لقد تحدى هنتنجتون نقاده أن يقدموا نموذجا أفضل من نموذجه. ويبدو لي أن تقسيم البشر إلى مجتمعات صناعية وأخرى غير صناعية أو في سبيلها إلى التصنيع - وهو الذي تثار حوله المناقشات تحت شعار «الصراع بين الشمال والجنوب» أو غيره من الشعارات - يمكن أن يفي بهذا الغرض.
مجمل القول أن العيب الذي يؤخذ على حجة هنتنجتون عن الحضارات هو أن هذه الحضارات ليست متجانسة بل ولا محددة تحديدا كافيا للتمييز القاطع بينها. والظاهر أن استخدام مفهوم الحضارة مع مفهوم الدين الملازم له باعتبارهما يمثلان الخط الأساسي للتفرقة بين أطراف الصراع الكبرى في عالم اليوم، الظاهر أن هذا لن يساعد كثيرا على تفهم هذه الصراعات.
وينبغي أن نذكر وجها آخر من وجوه الاعتراض على نموذج هنتنجتون. فإعطاء الدين هذا الوزن الكبير واعتباره العامل المحدد لتكوين الجماعات يمكن أن يؤدي إلى نتائج بالغة الخطورة، خصوصا أن هنتنجتون ينظر في الأساس إلى الصراع على أنه يعني الحرب: «إن خطوط الحدود الخاطئة التي تفصل بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك في المستقبل،
4
والحرب العالمية القادمة، إذا قامت مثل هذه الحرب، ستكون حربا بين الحضارات.» ويبدو له (أي لهنتنجتون) بوضوح من سيكون هو العدو الأول للغرب في مثل هذا الصدام بين الحضارات. إنه في نظره هو الإسلام الذي يملك «حدودا دموية»، بل إنه يرى أن «الإسلام والصين الكونفوشيوسية» يشكلان ارتباطا عسكريا لمواجهة القوة العسكرية للغرب (راجع المقال السابق ذكره عن صدام الحضارات ص22، 34، 35، 47).
أود الآن أن أكرر رأيي في أن الحضارة والدين، وإن لم يكونا هما العاملين الوحيدين في تكوين الهوية الجماعية للبشر، فلا شك في أنهما يقومان بدور مهم في تكوين هذه الهوية. ولو سلم الرأي العام في الغرب «المسيحي» - وفقا لتصور هنتنجتون - بأن الإسلام هو عدوه الطبيعي، لما استنتج المسلمون من ذلك سوى أن عليهم ألا يتوقعوا من الغرب غير العدوان عليهم. ذلك على التحديد هو الذي يمكن أن يدفع المسلمين كافة، بصرف النظر عن الاختلافات القائمة بينهم في المشاعر والمصالح، إلى اتخاذ موقف عدائي موحد ضد الغرب، إن هنتنجتون، حتى ولو أخذ حضارات أخرى في الاعتبار، إنما يضع في الواقع إطارا نظريا لاستنفار كل من الإسلام والمسيحية تجاه الآخر. وهكذا نجده يتنبأ بنبوءة يتوقع لها أن تتحقق.
ليس من الخطر الشديد فحسب أن نعطي للدين الدور الأساسي في تحديد تكون الجماعات في نظام عالمي مهيأ للحرب. إنني مقتنع كذلك بأن هذا ببساطة خطأ فادح في التفكير. ولكي أكون أكثر تحديدا فإنني أقول إنه لا المسيحية ولا الإسلام، بحكم طبيعتيهما وماهيتيهما، يريدان الحرب. ونحن نعلم من التاريخ أن كليهما قد استغل في بعض العهود لتبرير الحرب وتعبئة جماهير المؤمنين بهما للقتال. ولكن لا ينبغي أبدا أن نعتبر أن ذلك كان هو هدفهما الحقيقي، ذلك أن ظاهرة الحرب الدينية يجب دائما أن تفسر في إطار سياق تاريخي. وقد ذكرت من قبل أن ظهور عداوة عامة من جانب الغرب تجاه الإسلام يمكن كذلك أن يدفع المسلمين من جانبهم إلى اتخاذ موقف عدواني موحد ضد الغرب. غير أن رد الفعل هذا لن يكون نابعا من نزعة عدوانية أساسية في داخل الإسلام، بل سيكون نتيجة مترتبة على مجموعة من العوامل التاريخية وعلى الأفعال وردود الأفعال من كلا الطرفين.
إن هنتنجتون يبني آراءه، بقصد أو بغير قصد، على افتراض مؤداه أن الأديان يواجه بعضها البعض بطريقة لا بد أن تؤدي بالضرورة إلى كل أنواع الصراع، بما في ذلك الصراعات العنيفة. وأنا في الحقيقة أرفض هذا الافتراض رفضا تاما: صحيح أن الأديان يمكن أن تقود إلى الصراع، ولكن حدوث هذا ليس أمرا حتميا. وإذا أردنا للصراع ألا يتفجر، فينبغي أن نفكر تفكيرا هادئا في هاتين «الاستراتيجيتين»: (1)
Page inconnue
تجنب تكوين التكتلات السياسية التي تساعد على تفجر الصراعات المصبوغة باللون الديني. (2)
وأن نعمل على زيادة التفاهم المتبادل وإيجاد الأرض المشتركة بين أتباع الديانات المختلفة بغية التقليل من إمكانات الصراع.
وقد سبق أن أبديت بعض الملاحظات عن الاستراتيجية الأولى، أما عن الثانية فأود أن أشير بصددها إلى النشاط الملحوظ في تبادل المعلومات والخبرات والآراء الذي يطلق عليه في هذه الأيام اسم حوار الأديان.
ويعد حوار الأديان في نظر دوائر واسعة من الرأي العام أمرا جديرا بالثناء، كما أن هناك من يقول إن مساندته «تصرف سياسي سليم» ... ولكن هذه المواقف لا ينبغي أن تقودنا إلى الظن بأنه ليس في حاجة إلى التشجيع. فبينما يحمل مؤيدوه عن طريق الكلام في أغلب الأحيان أفكارا سطحية عنه، نجد من ناحية أخرى مقاومة رهيبة له، وهي مقاومة ترتكز على اقتناعات عميقة الجذور في الوجدان. ونستطيع أن نميز في أصحاب هذا الفريق بين مجموعتين؛ إحداهما ترى أن حوار الأديان عمل عقيم ، والأخرى تخشى أن يؤدي هذا الحوار إلى تخريب الدين الذي تؤمن به. ولنبدأ «حوارنا» معهما بالفريق الأول.
يمكننا أن نميز، بين أصحاب الرأي القائل بعقم الحوار بين الأديان، مجموعتين اثنتين. فالمجموعة الأولى تزعم أن الدين - بما هو دين - شيء لا وزن له، ومن ثم فإن رفض أصحابها للدخول في حوار الأديان هو نتيجة منطقية لموقفهم الذي لا يمكن قبوله من الناحية التاريخية ولا يستحق مجرد مناقشته. أما أصحاب المجموعة الثانية فيحترمون الدين، أو على الأقل دينهم، أشد الاحترام، ولكنهم يرفضون الدخول في حوار مع أصحاب الأديان الأخرى. وقد قام أحد زملائي المستشرقين منذ وقت قريب بنشر كتاب عن تاريخ العقيدة الإسلامية، وهو كتاب بالغ الأهمية يصف المؤلف في مقدمته الحوار بين الأديان بأنه ظاهرة دالة على «روح العصر»، وإن كان هو نفسه لا يحب أن ينخرط فيها أو يلتزم بها. وهو يشرح أسباب هذا الموقف الرافض بقوله: إنه لشيء «مرعب» أن يحاول معلمو الدين «أن يجدوا، أو يخترعوا، أقصى ما يمكنهم إيجاده أو اختراعه من سمات مشتركة بين أديان العالم، وذلك رغبة منهم في إلغاء أسباب التوتر عن طريق الافتعال السطحي للتجانس بينها»؛ ولهذا نجده يقول عن نفسه: «إنه يحجم عن التسرع باكتشاف أوجه تناظر أو تشابه بين كل من الإسلام والمسيحية»؛ لأن مثل هذه المحاولة تقود، من حيث المبدأ، إلى الضلال.
5
يتضح من هذه النصوص المقتبسة أن الآراء التي يعبر عنها أصحاب هذه المجموعة تمتد جذورها في موقفهم الذي ربما لا ينكر وجود سمات مشتركة بين الأديان، ولكنه يعتبر هذه السمات أقل أهمية بكثير من الخلافات القائمة بينها.
إن من الواضح أن الأديان يختلف بعضها عن بعض من وجوه كثيرة اختلافات مهمة. ولكننا لو أمعنا النظر فيها عن قرب لتأكد لدينا كذلك أنها تتحد في عدد من السمات المشتركة ذات الأهمية البالغة. وتصدق هذه الملاحظة على مستوى البشرية بوجه عام، ولكنها تصدق بدرجة أكبر على الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام.
إن الدين يستجيب لحاجة عميقة في الإنسان . ولو شئنا أن نعبر عن هذا بمصطلحات الفلسفة الوجودية لقلنا إنها هي الحاجة لقوة الوجود التي تهزم اللا-وجود الذي نلقاه ونعانيه في تجارب الموت، والعذاب، والإخفاق، والظلم، والإثم، وفقدان المعنى. ولو شئنا أن نعبر بلغة بسيطة مألوفة لقلنا إن الدين يستطيع أن يمدنا «بالمعنى الأخير للحياة» ... بمصدر وجودنا وغايته، أي بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين؟ وإلى أين؟ وهو يستطيع أيضا أن يضمن لنا «قيما عالية ومعايير غير مشروطة ... أي علة مسئوليتنا والهدف منها». والأديان «حريصة على سعادة الإنسان»، وذلك بتقديم التوجه الديني الأساسي؛ أي السند، والعون، والأمل، ومنحنا الكرامة الإنسانية، والحرية الإنسانية، والحقوق الإنسانية ... أي الأساس الذي يرتكز عليه العمق النهائي.
6
Page inconnue
والنصوص الأخيرة قد صاغها «هانز كينج» بقلمه، وهو عالم لاهوت كاثوليكي، يؤمن بأن الديانات العالمية تشارك في المبادئ السابقة، وينطلق من هذا الإيمان لوضع مشروعه العظيم عن «أخلاق كوكبية» يمكن أن يتفق على مبادئها جميع المؤمنين في جميع الأديان - بل وأصحاب النزعة الإنسانية من غير المتدينين - ويكونوا تحالفا مشتركا لخير البشرية، ومن فكرة كينج هذه خرج «الإعلان عن الأخلاق العالمية» الذي أقره برلمان الأديان العالمية الذي انعقد في شيكاغو سنة 1993م، وهذا البرلمان ليس مؤسسة رسمية، كما أن أعضاءه لا يمثلون سلطات دينية رسمية. ولكن هذا لا يجرد الإعلان من أهميته، وإنما يؤكد أن أفكار «كينج» تلقى ترحيبا واسعا وتقدم إمكانية حقيقية للتفكير بصورة تتفق اتفاقا كاملا مع المبادئ التي تقوم عليها الأديان المختلفة.
7
ولو رجعنا للحديث عن الأديان الإبراهيمية الثلاثة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، لتأكدنا من وجود أرض مشتركة بينها، تقوم على العلاقة التاريخية التي تربط الأديان الثلاثة، وتدعمها حقيقة كونها ديانات تنتسب إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، كما تتفق جميعها على الإيمان بعقيدة التوحيد. إن المسيحية تعترف بالكتاب المقدس لليهودية، والإسلام يعترف بالكتب المقدسة لليهودية والمسيحية. وقد قامت على مر التاريخ علاقات وثيقة وعميقة بين المؤمنين بالأديان الثلاثة، أدت إلى مناقشات مستفيضة لأفكارهم وإلى تبادل الخبرات والتجارب بينهم. ولا يعني هذا عدم وجود اختلافات أساسية كثيرة بين الديانات الإبراهيمية الثلاث، فالمتوقع من الباحثين المتخصصين في هذه الأديان أن يحددوا هذه الاختلافات، والمتوقع منهم أيضا أن يبينوا أوجه التشابه والتناظر المشتركة بينها.
والواقع أن الاختلاف والتشابه كثيرا ما يكونان متداخلين، ومسألة العلاقة بين الإنسان والله هي أحد الأمثلة الواضحة على هذا التداخل.
8
فاليهودية والمسيحية تسلمان بما جاء في التوراة (سفر التكوين 1، 26-27) من أن الله قد خلق الإنسان على صورته (أي على صورة الله سبحانه). ومن المستحيل على الإسلام الذي يتحاشى النزعة التشبيهية بالإنسان «الأنثروبومورفيزم» ويفزع منها، أن يسلم بالعبارة السابقة. ومع ذلك فقد عرف المسلمون العبارة على صورة حديث شريف ورد فيه ما معناه أن الله قد خلق آدم على صورته. ولكنهم (أي المسلمين) فهموا النص بطريقة مختلفة، إذ قالوا إن الله سبحانه قد اختار أن يسوي آدم على إحدى الصور التي في علمه جل شأنه. وهكذا بقيت الآية الكريمة
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (الشورى: 11) فوق كل نقاش.
هل نستنتج من هذا، فيما يتصل بالعلاقة بين الله والإنسان، وجود فجوة سحيقة بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخريين؟ ربما يبدو الأمر كذلك. ولكننا لو عرفنا أن خلق الإنسان على صورة الله، كما يتصوره اليهود والمسيحيون، لا يمكن أن يفهم منه التشابه في الشكل، بل يجب أن يفسر بوصفه استعارة تدل على علاقة وثيقة وحميمة هي علاقة القرب من الله، فإن المسلمين لن يختلفوا على ذلك. وآية ذلك أن الإمام الغزالي العظيم يذهب إلى وجود «مناسبة باطنة» بين الإنسان والله، أي علاقة قرب لا يصح أن تختلط مع التشابه في المنظر أو الشكل. ويذكرنا الغزالي في هذا السياق بوصية الصوفية: «تخلقوا بأخلاق الله» بما يفترض فيمن يأخذ بهذه الوصية الاستعداد والشوق للقرب من الله.
بيد أن أهم استعارة تشير إلى قرب الإنسان من الله تنطوي على فكرة أن الله قد جعل الإنسان خليفته على الأرض. والجدير بالملاحظة أن هذه الفكرة لا تستند إلى نص حرفي من القرآن الكريم، وإنما تعتمد على تفسير النص. وقد جاء في آيات كثيرة أن الله قد جعل البشر خلفاء على الأرض. وكلمة «الخليفة» تعني «اللاحق» أو «النائب». ومن المعروف أنها قد أطلقت على من رأس الجماعة الإسلامية الكبرى بعد انتقال محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى الرفيق الأعلى، وذلك على معنى «خليفة رسول الله». وربما وجب فهم الاستخدام القرآني لكلمة «خليفة» بمعنى مشابه: فالله قد جعل آدم أو داود على سبيل المثال، أو غيرهما من البشر، «خلفاء» لأشخاص، أو جماعات، أو أجيال عاشت قبلهم. ولا يوجد في القرآن الكريم أي نص يوجب فهم كلمة «الخليفة» بطريقة لا لبس فيها بأنه «نائب» عن الله ؛ إذ إن من الواضح أن الله جل شأنه لا يمكن أن يخلفه أحد أو أن يكون له «خليفة». ومع ذلك كله فإننا نجد لدى بعض العلماء المسلمين اتجاها واضحا، تزايد نموه مع الزمن، لتفسير كلمة «الخليفة» كما وردت في القرآن الكريم بحيث تدل على «نائب الله» في أرضه. وفي الوقت الذي كانت فيه الكلمة لا تشير في البداية إلا إلى «خليفة رسول الله»، تزايد الميل مع مرور الزمن إلى الاستناد للقرآن الكريم في تفسيرها بحيث تعني أن الله سبحانه قد جعل بعض الناس، أو بعض المسلمين، «خلفاء» أو نوابا له على الأرض.
لا شك في أن المجال يتسع لفهم وضع «خليفة» أو «نائب» الله على معان مختلفة. وقد تساءلت من قبل عما إذا كانت الكلمة تشير إلى البشر عامة أو إلى المسلمين فحسب. وأعود إلى الغزالي الذي ذهب إلى أن «المناسبة الباطنة» - أو علاقة القرب الحميم - بين الإنسان والله التي تؤهل الإنسان لكي يكون نائبا لله على الأرض تتضمن بوضوح معنى البشر عامة. وفي العصر الحديث نجد مفكرين مرموقين، مثل محمد عبده ومحمد إقبال، يتخذون موقفا مشابها، حين يؤكدان تفوق الإنسان على سائر المخلوقات. غير أننا نجد «أبو الأعلى المودودي» ينسب صفة «نائب الله» لجماعة المسلمين الذين يلتزمون التزاما صارما بشريعة ثابتة لا تترك لهم سوى قدر ضئيل من حرية تشكيل العالم. كذلك نجد أن أحمد مصطفى المراغي يوجه الأنظار إلى أن إمكان تعيين نائب لله أمر مقصور على فرد واحد أي إلى حاكم معين. ومن جهة أخرى نرى المفكر التركي «زيا جو كالب» يعلن أن «الشعب» (أو «الناس») هم ممثلو الله على الأرض. ويذهب «علي شريعتي» إلى حد اعتبار أن «الناس» والله في القرآن الكريم مترادفان، وأنهما مصطلحان يمكن أن يحل أحدهما محل الآخر في كل ما يتعلق بقضايا المجتمع. إن عبارة «الحكم لله» تعني في رأيه أن الحكم للشعب، كما أن عبارة «المال لله» (أي الملك أو الثروة) معناها أنه ملك للشعب.
Page inconnue