L'Islam en Abyssinie
الإسلام في الحبشة: وثائق صحيحة قيمة عن أحوال المسلمين في مملكة إثيوبيا من شروق شمس الإسلام إلى هذه الأيام
Genres
تمهيد
علاقة الحبشة بالعرب
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
الخاتمة
تمهيد
علاقة الحبشة بالعرب
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
الخاتمة
الإسلام في الحبشة
الإسلام في الحبشة
Page inconnue
وثائق صحيحة قيمة عن أحوال المسلمين في مملكة إثيوبيا من شروق شمس الإسلام إلى هذه
الأيام
تأليف
يوسف أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمة الإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خير الآنام، الذي جاء بالهدى ودين الحق، فأنار بنور هديه غياهب الظلام، وحل بشريعته عقدة التباغض بين الخلق، وأحل محلها المحبة والوئام، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الكرام، الذين أقاموا العدل وحكموا به، فكانوا للفضيلة خير أئمة، وللهداية نعم الأعلام، فقضوا بفضل قضائهم على الشرور والآثام، ونشروا بالخير على البسيطة أجنحة السلام.
رضي الله عنهم وأرضاهم ما توالت الأيام.
أما بعد، فإنا نغتنم فرصة عطف الشعوب الإسلامية، في مختلف الأقطار، على مساعدة الحبشة، فنبين لهم حال الإسلام والمسلمين في الحبشة، من وقت أن هاجر إليها طائفة من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هربا من ظلم قريش، إلى هذه الأيام؛ علهم بعد أن يقرءوا هذه الوثائق الصحيحة، يطالبون «النجاشي» العاهل الشرقي العظيم «جلالة هيلاسلاسي» تلقاء هذا العطف العام، بأن يتوجه بعد أن تضع الحرب أوزارها، إلى إصلاح شئون المسلمين في بلاده، وإلى كف الأذى عنهم، وأن يتركهم يتمتعون بثمرة قوتهم ونشاطهم وذكائهم، وأن يماثل بينهم وبين أبناء الحبشة المسيحيين في العدل، فيفك عن أعناق المسلمين ما وضعه فيها أسلافه من أغلال الضغط على حريتهم في الدين والتجارة والصناعة والزراعة، وأن يمنع عدوان الروس الجبابرة عن أموالهم - إلا بحق - وأن يصون أرواحهم وأعراضهم، فإنه إن فعل ذلك سما بمملكته الشرقية أدبيا واقتصاديا، وسلم من نقد الناقدين وألسنة الناقمين، ولا نخاله إلا فاعلا ذلك إن شاء الله تعالى.
Page inconnue
وحسبنا الله ونعم الوكيل، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
تمهيد
قام بعض الكتاب يذكر المسلمين بما للحبشة عليهم من حق قديم، أوجبه عليه ما فعلوه مع المسلمين المهاجرين من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حينما هاجروا إلى الحبشة هربا من أذى كفار مكة، فأجارهم النجاشي وأحسن مثواهم.
وقالوا: إن ما فعلته الحبشة مع المهاجرين يعد مكرمة خالدة لا يجب أن تنسى.
ونحن وإن كنا ممن يحفظون الجميل ويخضعون للحق، إلا أننا أحببنا أن نبين للمسلمين ارتباط الحبشة بالإسلام - قديما وحديثا - على الوجه الصحيح؛ ليعرفوا ما لهم وما عليهم نحوها، حتى يكونوا على بينة من الأمر، وليدركوا بأن عطفهم على الحبشة لم يكن ردا لجميل سابق لها على الإسلام، بل لأنها دولة شرقية تحاربها دولة غربية.
وإن شئت فقل: لأن الإنسان جبل بطبعه على الانتصار للضعيف.
ويصح أن يكون هذا هو السبب الأقوى؛ لأنه يشترك معنا في العطف عليها كثير من الناس، على اختلاف أديانهم وتباين أوطانهم.
وحسبك ما فعلته «جمعية عصبة الأمم» من العطف الجدي على الحبشة، وإن كان بعضه مشابا بشيء من المصلحة الخاصة.
أما إيواء الصحابة المهاجرين وإكرامهم، فالفضل فيه يرجع إلى شخص واحد من الحبشة فقط، وهو «النجاشي أصحمة»،
Page inconnue
1
فقد كان رجلا عالما بالتوراة والإنجيل، مصدقا بالبشارة براكب الجمل.
فلما جاءه المهاجرون أكرم مثواهم وحماهم من الشعب الحبشي وبطارقته.
ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وحسن إسلامه، ولم يعتنق الإسلام من الحبشة يومئذ سواه، وقد ستر إسلامه عن قومه حتى مات، وهذا ما دعى مؤرخي الإفرنج إلى عدم اقتناعهم بأنه أسلم.
وقد نعي للنبي
صلى الله عليه وسلم
فصلى عليه صلاة الغائب، ولم يصل عليه أحد في الحبشة؛ لأن موته كان بعد عودة المهاجرين كلهم إلى المدينة.
أما البطارقة - من قسيسين ورهبان - فقد لحق المهاجرين منهم من الأذى والتخويف ما لحقهم، كما هو ثابت في كتب الحديث والسير، مما كان بعضه سببا في ارتداد أحد المهاجرين عن الإسلام، وهو «عبيد الله بن جحش»، وقد اعتنق النصرانية لينجو بها من الاضطهاد.
وقد همت البطارقة بإحداث ثورة على النجاشي لعطفه على المهاجرين كما ستراه مفصلا فيما بعد.
Page inconnue
ثم لا يخفى على المؤرخ المدقق أن عداوة الشعب الحبشي للعرب قديمة العهد، نشأت من وقت أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة، ويبيعونهم أرقاء في جزيرة العرب وغيرها.
وزادت هذه العداوة بعد عام الفيل، وما جره من الويل على جنود الحبشة، واستعانة العرب بعد ذلك بالفرس على طرد الحبشة من اليمن، بعد أن استعمروها نحو 70 سنة.
فلما دخل العرب المسلمون بعد ذلك إلى الحبشة يدعونهم إلى الإسلام، وجدوا منهم أعداء ألداء.
ثم دار بينهم النضال من القرن الأول الهجري إلى يومنا هذا، مما سنوضحه جليا في هذا الكتاب بمعونة الله تعالى وحسن توفيقه.
علاقة الحبشة بالعرب
ترجع علاقة الحبشة بالعرب إلى عصر عريق في القدم، يبتدئ من وقت أن عرف العرب حاجتهم إلى الرقيق؛ ليرعى إبلهم ويحلب نياقهم ويقوم بخدمتهم.
وقد كانت سفن اليمن تسطو على سواحل الحبشة، تتخطف نساءهم وأبناءهم، وتبيعهم عبيدا في أنحاء جزيرة العرب وغيرها.
ودلنا على ذلك قدم عهد العبيد والإماء الأحباش في بلاد العرب، يتخذون من الرجال رعاة، ومن الإماء خدما للبيوت.
وكانوا إذا استولدوا أمة أبقوا أولادها على الرق، إلا من ظهرت نجابته وشجاعته منهم، فإنهم كانوا يلحقونه بأنسابهم، كخفاف بن ندبة أبوه «عمير السلمي»، وعنترة بن زبيبة أبوه «شداد العبسي»، وغيرهما ممن اشتهروا بالفروسية في القرن الأول قبل الهجرة.
1
Page inconnue
فإذا عرفت ذلك أدركت كيف نشأت عداوة الحبشة من القدم لقوم يسطون عليهم بين آونة وأخرى؛ يخطفون أبناءهم ونساءهم، ثم يبيعونهم سلعا ويسترقونهم.
احتلال الحبشة لليمن
ذكر مؤرخو العرب خبر احتلال الحبشة لليمن بروايات مطولة، خلاصتها أن أحد ملوك اليمن واسمه «ذو نواس» كان يهوديا، وكان يحمل الناس على اعتناق اليهودية.
وكان أهل نجران نصارى وفيهم قليل من اليهود، فجاء إلى ذي نواس يهودي يتظلم من نصارى نجران، ويزعم أنهم قتلوا ابنا له.
فغضب ذو نواس وغزاهم وقتل منهم خلقا كثيرا، وحمل من بقي منهم على الدخول في اليهودية، فأبوا.
فصنع لهم أخدودا في الأرض وملأه نارا ثم عرضهم عليه، فمن دخل في اليهودية خلى سبيله، ومن أبى ألقاه في الأخدود، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه الكريم بقوله:
قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود .
2
فأفلت منهم رجل يدعى «ذو ثعلبان» حتى أتى «قيصر» ملك الروم يستنصره على ذي نواس، فأرسله إلى ملك الحبشة، وكتب إليه يأمره بنصرته.
فأرسل ملك الحبشة معه جيشا بقيادة رجل اسمه «أرياط»، فدخل اليمن واحتلها باسم «النجاشي» ملك الحبشة بعد أن قتل وسبى وخرب البلاد، فولاه «النجاشي» ما ضمه إليه من أرض اليمن.
Page inconnue
وكان عسكره رجل داهية يسمى «أبرهة الأشرم»، نازعه الملك ثم اقتتلا، فقتله أبرهة واستقل بالأمر، فأقره «النجاشي» على ملك اليمن.
وهكذا استنجدت العرب بالحبشة على رفع ظلم نالها من عاهلها، فاحتلت بلادها، فكانت كما قال الشاعر:
المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار
لأن أبرهة حينما تم له الأمر، بنى في «صنعاء» كنيسة سماها القليس، وكتب إلى «النجاشي»: «إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها، وسأصرف إليها حاج العرب.»
وكانت العرب في جاهليتها تحج إلى البيت العتيق بمكة، وشاع بينهم ما عزم عليه «أبرهة»، فجاء رجل من «بني فقيم» فدخل القليس وأحدث فيه نكاية في «أبرهة».
فبلغ أبرهة ذلك، فأقسم ليهدمن البيت الذي تحج إليه العرب.
ثم جهز جيشا من الحبشة، وسار في مقدمته راكبا الفيل حتى بلغ «الطائف»، فأرسلت معه «ثقيف» دليلا اسمه «أبو رغال» يدله على «مكة»، فسار حتى إذا بلغ مكانا بقرب مكة يدعى «المغمس»؛ هلك أبو رغال، والعرب ترجم قبره فيه إلى الآن.
أما أبرهة فأقام في «المغمس»، وأرسل نفرا من جيشه فاستاقوا إبل مكة، وفيهم مائتا بعير لعبد المطلب سيد قريش.
ثم إن أبرهة استقدم عبد المطلب إليه، وهو جد النبي محمد
Page inconnue
صلى الله عليه وسلم ، وكان رجلا عظيما وسيما، فأجله أبرهة وأخبره أنه جاء ليهدم البيت، وأنه لا يريد حربا.
ثم سأل عبد المطلب عن حاجته، فقال: «حاجتي أن ترد إلي إبلي.»
قال أبرهة: «أتطلب إبلك وتترك بيتا لدينك ودين آبائك؟»
فقال: «أنا رب الإبل، وللبيت رب يمنعه.»
فرد عليه إبله، وذهب عبد المطلب إلى مكة وأمر قريشا أن تعتصم بشعاب الجبال.
ثم أمسك بحلقة باب الكعبة، يسأل الله قهر الحبشة وخذلانهم وهو يقول:
لاهم إن المرء يم
نع رحله فامنع رحالك
إلى أن قال:
جروا جموع بلادهم
Page inconnue
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع
بتنا فأمر ما بدا لك
ثم لحق بقومه إلى شعب الجبال، ينظر ما يفعله أبرهة.
أما أبرهة، فلما أصبح تهيأ لدخول مكة بجيشه ليهدم البيت، وركب فيله ووجهه إلى مكة، فبرك ولم يقم فضربوه وآذوه فلم يقم، فوجهه إلى ناحية أخرى فقام، فأداروه نحو مكة فبرك.
في هذه الساعة الرهيبة، أرسل الله على أبرهة وجيشه جيشا من جنوده
وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر .
3
Page inconnue
وهذا الجيش طيور صغيرة جاءت تحمل حجارة دقيقة في أرجلها ومناقيرها، وألقتها على أبرهة وجيشه، فكانت لا تصيب أحدا إلا أهلكته.
فارتد أبرهة ومن معه يتساقطون هلكى.
وفي قصتهم نزلت «سورة الفيل» وهي قوله تعالى:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
فلما هلك أبرهة ومن معه من الحبشة، قام بملك اليمن بعده ابنه «يكسوم» وكان جبارا، فأذل العرب وأذاقهم أمر أنواع الظلم في اليمن انتقاما لأبيه وقومه.
فذهب سيف بن ذي يزن إلى «كسرى» واستنصره على الحبشة، وحسن له ضم اليمن إلى ملكه لما فيها من خير، فأرسل معه جيشا قويا تمكن من سحق من في اليمن من الحبشة واحتلها، وسبى ما بقي من نسائهم وأولادهم، فازداد بهذا حقد الحبشة على العرب؛ لأنهم كانوا سبب إجلائهم عن اليمن بعد أن احتلوها نحو 70 سنة، مع إبادة رجالهم واسترقاق نسائهم وذراريهم.
هجرة الصحابة إلى الحبشة وما لاقوه فيها من كرم «النجاشي» وأذى البطارقة
إن ما جبل عليه أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكارم الأخلاق وحفظ الجميل واحتمال الأذى في بدء الإسلام، جعلهم يذكرون ما نالهم من «النجاشي» من كرم وحسن جوار، ويكتمون ما لحقهم من بطارقة الحبشة من الأذى والتهديد والتخويف.
Page inconnue
ولهذا لم ينشر المسلمون عن ذلك شيئا، ولم يخوضوا فيه، ولكن الحقيقة لا تخفى على الباحث المدقق.
وسترى بعد أن نسرد حديث الهجرة إلى الحبشة ملخصا من كتب السير والحديث، أن إقامة الصحابة الطاهرين - رضوان الله عليهم - في الحبشة في هجرتهم كانت محفوفة بالمكاره.
ولولا «النجاشي أصحمة» وقوة سلطانه لأكرهوا على الدخول في النصرانية أو القتل، أو أعيدوا إلى «مكة» لكفار قريش يفعلون بهم ما يشاءون.
الهجرة الأولى
لما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
ما لحق أصحابه الذين أسلموا من قومه وأقاربه من الأذى والتعذيب، أشار عليهم بالهجرة من مكة إلى الحبشة، وقال لهم: إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه.
4
فخرج من المسلمين أحد عشر رجلا وأربع نساء، وعبروا البحر الأحمر إلى الحبشة، واستجاروا بالنجاشي فأجارهم، وعلم منهم ببعثة النبي
صلى الله عليه وسلم
Page inconnue
فأكرم مثواهم، وذلك في السنة الخامسة من النبوة.
أما البطارقة
5
من قومه، فكانوا شديدي التعصب لدينهم، فعز عليهم أن تقام في مدينتهم المسيحية شعائر دين آخر،
6
فأخذوا يهددون المهاجرين ويحرضونهم على التنصر، فثبت الله المسلمين على إيمانهم، إلا واحدا، وهو «عبيد الله بن جحش»، فإنه لضعف إسلامه ارتد تحت عوامل الضغط، ودخل في دين النصرانية، فلما تنصر كلفه البطارقة بأن يحرض المسلمين على التنصر، فكان إذا مر بالمسلمين من أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول: «فتحنا وصأصأتم.» أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر.
7
فهال النجاشي هذا الأمر، وأحاط المهاجرين بسور من عنايته، ومنع البطارقة من التعرض لهم.
Page inconnue
فثار البطارقة عليه وكادوا يخلعونه، ولولا أن الله نصره عليهم لأفسدوا عليه أمره.
8
وخشي المسلمون عاقبة هذه الثورة، وأشيع أن قريشا أجابت دعوة النبي
صلى الله عليه وسلم
وأسلمت، فأحب المهاجرون اغتنام فرصة السلامة، فعاد أكثرهم إلى «مكة»، وكان مكثهم في الحبشة في هذه الهجرة نحو ثلاثة أشهر، فلما قدموا إلى «مكة» وجدوا عنت قريش يزداد، كما ازداد عدد المسلمين أيضا، فعادوا إلى الحبشة ثانية كما سيأتي.
الهجرة الثانية
ولما كانت قريش لا تكف عن أذى المسلمين، اجتمع عدد كبير ممن أسلموا يبلغ 80 رجلا، عدا النساء والأطفال، وقصدوا الحبشة ثانية، فرحب بهم النجاشي، وأسكنهم مجتمعين ليقيموا شعائر دينهم، وأسلم هو على يد جعفر بن أبي طالب؛ لأنه كان مع المهاجرين في هذه المرة.
هنالك خشي كفار قريش أن يكون هذا العدد من المهاجرين قوة للتبشير بالإسلام في الحبشة، وأنهم إذا تم لهم ذلك عادوا بجيش من الحبشة كبير لحربهم ونصرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن غزوة الحبشة لليمن ولمكة لا تزال عالقة بأذهانهم، فضلا عن أن جيش الحبشة إذا جاء هذه المرة يكون لنصرة دين الله، فلا يصده الله عن «مكة»، كما صد جيش أبرهة الذي كان يقصد هدم بيته وأهلكه.
وفي رواية أخرى أن قريشا أرادت إرجاعهم إلى مكة ليقتلوهم بقتلى واقعة بدر.
Page inconnue
فجمعت قريش هدايا نفيسة لتقدم إلى النجاشي، وهدايا أخرى لتقدم إلى البطارقة، وأرسلوها مع عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وأفهموهما أن يتفقا مع البطارقة على أن يساعدوهما في رد المهاجرين إلى قومهم.
فلما قدما إلى الحبشة قدما الهدايا إلى البطارقة، وأخبراهم بما وفدا من أجله، وطلبا إليهم أن يحولوا بين المهاجرين وبين النجاشي حتى لا يسمع كلامهم؛ لئلا يتأثر بفصاحتهم، وحسن ما يسمع من كلامهم.
ثم قدما إليهم الهدايا التي للنجاشي، فأوصلها البطارقة إليه.
فاستدعى عمرا وعبد الله وشكرهما، وسألهما عن حاجتهما، فقال عمرو: «أيها الملك، إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم، من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.»
فلما سكت تكلم البطارقة، وحاولوا إقناع النجاشي بوجوب ردهم إلى قومهم، وإبعادهم عن بلاده، ووجدوا بقدوم عمرو وعبد الله فرصة ثمينة تريحهم من هؤلاء الضيوف الذين يدينون بغير دينهم.
ولما كان النجاشي كما علمت قد أسلم وكتم إسلامه عن أصحابه، وكان في قدرته أن يرد وفد قريش بدون أن يسمع حجة المهاجرين، ولكنه أراد أن يسمع أصحابه دعوة الإسلام؛ رغبة منه في أن تلين قلوب بعضهم إليه.
لذلك أبى أن يبت في الأمر قبل أن يسمع كلام المهاجرين، وهم الخصم الثاني.
9
ولذلك طلب المهاجرين، فلما حضروا مجلسه قال لهم: «ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟»
10
Page inconnue
فتكلم جعفر بن أبي طالب، يصف له فضائل الإسلام، وكان خطيب القوم وأشدهم جرأة، وقال: «أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ...»
وعدد عليه أمور الإسلام.
ثم قال: فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث.
فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالو بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
11
فصدقهم «النجاشي» وأمنهم، وأبى أن يسلمهم إلى عمرو ورفيقه.
فاختلى عمرو بالبطارقة، وقال لهم: سأغدو على «النجاشي» بما يدعوه إلى إبعادهم عن بلادكم، فإنهم يقولون في «عيسى بن مريم» غير ما تقولون، فكونوا معي وشدوا أزري. فوعدوه خيرا.
ثم غدا إلى «النجاشي» وقال له: إن هؤلاء يقولون في المسيح غير ما عندكم فيه.
فأحضر المهاجرين وقال لجعفر: هل معك مما جاء به نبيك عن الله من شيء فتقرؤه علي؟ فقال: نعم. وتلا عليه من أول سورة مريم إلى قوله تعالى:
ويوم أبعث حيا .
Page inconnue
فلما سمع البطارقة هذا القول، وعلموا أنه جاء مصدقا لما في الإنجيل أخذوا، فقال «النجاشي»: إن هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة.
ثم أخذ عودا من الأرض، وقال لجعفر: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود.
فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم.
12
وقال لعمرو ورفيقه: انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما. ورد عليهما الهدايا، وقال للمهاجرين: اذهبوا، فأنتم آمنون.
13
فأقام المسلمون في جواره رغم إرادة البطارقة، حتى بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
في طلبهم، فعادوا إلى المدينة، فتكون مدة إقامتهم بأرض الحبشة نحو 16 سنة، وذلك في سنة 8ه/629م.
كيف كانت البطارقة تؤذي المهاجرين
Page inconnue
روى البخاري في صحيحه، عن عائشة - رضي الله عنها: أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة، فيها تصاوير، فذكرتا ذلك للنبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: «إن أولئك، إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك أشرار الخلق عند الله يوم القيامة.»
فنعلم من هذا أن البطارقة كانوا يحرضون المسلمين والمسلمات على دخول كنائسهم؛ ليحملوهم على اعتناق النصرانية، وكانت نتيجة ذلك ارتداد «عبيد الله بن جحش»، وهل يوجد أذى أكبر من هذا الأذى للمسلمين، أليس هو من نوع الأذى الذي هاجروا من مكة بسببه؟
وأكبر من هذا ما صرحت به السيدة الجليلة «أسماء بنت عميس» - رضي الله عنها - وكانت في الحبشة مع زوجها «جعفر بن أبي طالب» - رضي الله عنه - فقد أبانت ما كان يلحق المهاجرين من الأذى والتخويف في الحبشة، وقد أثبته صاحب «التاج» من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - نقلا عن «البخاري» و«مسلم» قال: «إن أسماء بنت عميس حين جاءت من الحبشة، دخلت على السيدة «حفصة» أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - تزورها، فدخل عمر فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس. قال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه (أي التي ركبت البحر وهاجرت إلى الحبشة). قالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم بالهجرة (أي بالهجرة إلى المدينة مع رسول الله)، فنحن أحق برسول الله منكم.
فغضبت، وقالت: كذبت يا عمر، كلا، والله كنتم مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء (أي البعداء في النسب، البغضاء في الدين) في الحبشة، وذلك في الله ورسوله، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك.
Page inconnue
فلما جاء النبي
صلى الله عليه وسلم
قلت: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا.
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان.»
14
فانظر كيف قالت: «كنا نؤذى ونخاف» وأقسمت على صدقها، وانظر كيف عد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هجرتهم إلى الحبشة هجرة مستقلة لهم ثوابها، وهجرتهم بعد ذلك إلى المدينة هجرة ثانية.
وما ذاك إلا لما كان يلحقهم في الحبشة من أذى البطارقة وأصحابهم.
Page inconnue
هذا، وإذا تصورنا موقف أولئك المهاجرين الأخيار حين دعاهم «النجاشي» إلى مجلسه المرة بعد المرة، وقد رأوا عمرا وعبد الله رسولي كفار قريش أتيا لأخذهم، وسمعوا البطارقة يحرضون «النجاشي» على تسليمهم لعدوهم.
وأسمعنا دقات قلوب المهاجرات الطاهرات فرقا من أن يسمح «النجاشي» بردهن إلى قومهن، يسومونهن سوء العذاب، لهلعت قلوبنا جزعا من هول ذلك الموقف المريع.
فأي حق بعد ذلك للحبشة على المسلمين المهاجرين حتى نذكره لهم؟ وهم لم يكرموهم ولم يتعففوا عن أذاهم.
وايم الحق لولا «النجاشي» المسلم ما استطاعوا أن يعيشوا في الحبشة يوما واحدا.»
الإسلام في الحبشة من بعد الهجرة
انتهى بما تقدم كلامنا عن علاقة الحبشة بالعرب في الجاهلية، وما حدث في هجرة بعض الصحابة - رضي الله عنهم - إلى الحبشة وعودتهم منها جميعا إلى المدينة، بدون أن يتركوا للإسلام أي أثر فيها.
ونحن ذاكرون بعون الله حال الإسلام في الحبشة، من بعد الهجرة إلى هذه الأيام.
أول سرية إسلامية للحبشة
أراد أمير المؤمنين «عمر بن الخطاب» - رضي الله عنه - أن يعجم عود الحبشة لينشر فيها الدعوة الإسلامية، فوجه سرية من المسلمين في سنة 20ه بقيادة «علقمة بن مجزز المدلجي»، فلم توفق إلى شيء وأصيبت، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحدا للغزو.
1
Page inconnue
احتلال السواحل الحبشية اقتصاديا
تركت الحبشة وشأنها بعد سرية «علقمة»، ولم يرسل إليها المسلمون حملات للفتح بقوة السيف، ولكن أخذوا في احتلالها اقتصاديا، فتدفق سيل التجار المسلمين على سواحل الحبشة واستوطنوها، وجعلوا يحتلونها شيئا فشيئا، فأخذوا جزيرة «دهلك» ثم «مصوعا» و«الزيلع»،
2
ودأبوا على ذلك حتى أصبحت جميع سواحل الحبشة في قبضة يدهم، وأدخلوا في الإسلام كثيرا من القبائل الوثنية.
مناعة بلاد الحبشة
كانت مملكة الحبشة قبل الإسلام وقاعدتها مدينة «أكسوم» على جانب عظيم من القوة والسطوة، قوية الشكيمة، وحسبنا دليلا على قوتها تمكنها من احتلال اليمن مدة 70 سنة تقريبا.
وقد زاد في سطوتها مناعة أرضها، وما وهبها الله - سبحانه وتعالى - من الحواجز الطبيعية التي تجعلها بعيدة المنال عن الفاتحين.
فإن تلك الجنة الفيحاء التي تشمل الهضبة الحبشية محصنة بطبيعتها بجبال شاهقة، وأودية سحيقة، ومسالك وعرة، وصحار قاحلة، وأجواء مختلفة.
من أجل ذلك لم يحاول الخلفاء الراشدون، ولا من جاء بعدهم من ملوك الإسلام فتحها عنوة، في الوقت الذي اكتسحت فيه جنودهم بلاد الشام والعراق ومصر، وجاوزت بلاد فارس.
ولكن شاء الله أن ينشر فيها دينه عن طريق السلم.
Page inconnue