نحن لا نعقل إلا هذه القراءة وهي محدثة، والمشبهة يقولون نحن لا نعقل إلا هذه القراءة وهي محدثة القرآن ثم يثبتون قدمها؟ يقال لهم: لا يمنع أن يكون الإنسان في حال السماع فيسمع الشيئين المختلفين شيئا واحدا، ثم بالدليل يفرق بينهما، كالناظر إلى السواد والأسود، فإنه في حال المشاهدة لا يشاهد إلا شيئا واحدا، ثم بالدليل يفرق بينهما فيعلم أن السواد عرض لا يقوم بنفسه، والأسود الموصوف بذلك السواد جسم بخلافه، فكذلك في ملتنا أيضا. ونحن قد ثبت عندنا أن كلام الله تعالى قديم أزلي بالأدلة التي قد ذكرنا بعضها، والقديم أبدا ما كان موجودا ويكون أبدا موجودا، ولا يوصف تارة بالوجود وتارة بالرداءة، ولا يضاف إلى المخلوقين، ثم وجدنا القراءة بخلاف ذلك، ففرقنا بينهما، وكما أن الذكر غير المذكور، والعلم غير المعلوم، فإن أحدنا إذا ذكر الله عز وجل، لا يقال إن ذكره قديم لقدم المذكور، ولا علمه قديم لقدم المعلوم، بل هما شيئان مختلفان، فالذكر مخلوق لأنه صفة المخلوق لم توجد قبله، وعلمنا أيضا بالله عز وجل كذلك، فإن الصفة لا تتقدم على الموصوف، فكذلك أيضا قراءتنا وكتابتنا مخلوقة، لأنهما صفتان لم تتقدم علينا، فمن زعم من المشبهة الحلولية أن الكتابة قديمة موجودة قبل الكاتب، والقراءة قديمة موجودة قبل القارئ، يقال له:
فعلى ما ذا يستحق القارئ العقوبة إن كان جنبا، وينال الثواب إن كان طاهرا وهو ما لم يأت بشيء؟ فدل على أن الذي يأتي به ويستحق عليه ما ذكرناه هو القراءة المأمور بها عند الطهارة. قال الله تعالى: فاقرؤا ما تيسر من القرآن (المزمل: من الآية 20) والمنهى عنه عند النجاسة لما روى ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن» والقديم لا يكون تارة طاعة، وتارة معصية؛ لأن الطاعة والمعصية هي ما يكون للمخلوق على فعلها قدرة، والصفة القديمة الذاتية لا توصف بأنها مقدورة لله عز وجل، فأولى وأحرى أن لا تكون مقدورة للمخلوق، وقد أخبر الرب عز وجل أن ما بين السماء والأرض مخلوق، فقال عز وجل: خلق السماوات والأرض وما بينهما (الفرقان: من الآية 59) وهذه الكتابة نشاهدها بين السماء والأرض، فمن قال بقدمها كذب الرب عز وجل في خبره، ولأن الرب عز وجل أخبر أن كلامه لا ينفد ولا يفنى، فقال عز وجل: ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله (لقمان: من الآية 27) فأخبر أن كلامه لا يفنى، ولا ينفد، ولا يكون له أول ولا آخر، ثم نجد هذه القراءة تفنى وتنفذ، ولها أول وآخر، والكتابة في المصاحف كذلك أيضا.
ولقد حكى أن عثمان رضي الله عنه أحرق جميع المصاحف المخالفة لمصحفه، أترى أنه أحرق القرآن؟.
Page 383