الْإِشَارَةُ فِي أُصُول الْفِقْه
تأليف
القَاضِي أبي الْوَلِيد سُلَيْمَان بن خَلَف بن سَعد بن أَيُّوب الْبَاجِيّ الذَّهَبِيّ الْمَالِكِي
الْمُتَوفَّى سنة ٤٧٤ هـ
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي
هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي القرطبي المالكي الأندلسي الباجي.
وُلِد في مدينة بطليوس يوم الثلاثاء، النصف من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة [٤٠٣ هـ].
قال أبو علي الغسانيّ: سمعت أبا الوليد يقول: مولدي في ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة.
ويُنسَب أبو الوليد إلى باجة الأندلس، وقد توهم اليافعي المتوفّى سنة ٧٦٨ هـ فذكر أنه منسوب إلى باجة إفريقية خلافًا لمن سبقه كأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، والحافظ أبو موسى الأصبهاني وابن خلكان، والحميري، والمقري وصديق حسن خان.
ورحل أبو الوليد الباجي إلى المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة ولازم الحافظ أبو ذر الهروي فيها بمكة.
ثم رحل إلى بغداد ولقي الشيخ أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، والصيمري، وغيرهم.
وذهب إلى الشام وسمع من ابن السمسار، وذهب إلى مصر وسمع من أبي محمد بن الوليد وغيره، وذهب الموصل ودرس على الشيخ السمناني الفقه، والأصول، والكلام.
ونقل ابن خلكان وابن كثير أنه تولى قضاء حلب، ثم عاد إلى الأندلس زاهدًا في دنياه وكان يتولى ضرب ورق الذهب، ويعضد الوثائق، قال القاضي عياض: ولقد
1 / 5
حدّثني ثقة من أصحابه، والخبر في ذلك مشهور، أنه كان حينئذ يخرج إلينا إذا جئنا للقراءة عليه، وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه، وعرف، وشهدت تآليفه، فعرف حقه، وجاءته الدنيا، وعظم جاهه، وقربه الرؤساء، وقدره قدره، واستعملوه في الأمانات، والقضاء، وأجزلوا صلاته، فاتسعت حاله وتوفر كسبه حتى مات عن مال وافر. مصنفاته:
١ - كتاب المنتقى شرح الموطأ [ط/ السعادة القاهرة].
٢ - الإشارة [وهو كتابنا].
٣ - الحدود [وهو كتابنا أيضًا].
٤ - الإيماء في الفقه.
٥ - التسديد إلى معرفة التوحيد.
٦ - السراج في الخلاف وغيرها.
٧ - سبيل المهتدين.
توفي ﵀ في المَرِّية وهي مدينة بالأندلس، واختلفوا في سنة وفاته: فالأكثر على أنه توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة [٤٧٤ هـ] وهو قول القاضي عياض [ترتيب المدارك ٤/ ٨٠٨]، وابن بشكوال [الصلة ١/ ١٩٩] والضبي [بغية الملتمس ص/ ٢٨٩]، وابن خلكان [وفيات الأعيان ١/ ٢١٥] والذهبي [تذكرة الحفاظ ٣/ ١١٨٢]، واليافعي [مرآة الجنان ٣/ ١٠٨]، وابن كثير [البداية والنهاية ٢/ ١٢٢]، وابن عساكر [صفة جزيرة الأندلس ص/ ٣٦]، وغيرهم.
وذهب البعض إلى أنه توفي سنة أربع وتسعين وأربعمائة [٤٩٤ هـ] وهو قول ياقوت [معجم الأدبار ١١/ ٢٤٩]، والصلاح الكتبي [فوات الوفيات ١/ ٢٢٤]، وابن فرحون [الديباج المذهب ص/ ١٢١] (^١).
ولذا اعتمدنا قول الأكثر، واللَّه أعلم.
_________
(^١) انظر/ ترجمته في: ترتيب المدارك [٤/ ٨٠٢]، الصلة لابن بشكوال [١/ ١٩٧]، فوات الوفيات [١/ ٢٢٤]، مرآة الجنان [٣/ ١٠٨]، البداية والنهاية [٢/ ١٢٢]، النجوم الزاهرة [٥/ ١١٤]، نفح الطيب [١/ ٣٥٤]، هدية العارفين [١/ ٣٩٧].
1 / 6
وصف المخطوط
لقد اعتمدنا في تحقيق هذا الكتاب بالإضافة إلى النسخة المطبوعة بالمطبعة التونسية سنة ١٣٤٤ هـ، ومطبعة التلبسي بتونس ١٣٦٨ هـ، والمنار بتونس، وما طبع على هامش قرة العين للشيخ الخطّاب في مصر وبيروت والهند على: النسخة الأزهرية بمكتبة الأزهر تحت رقم ١٧٠ خصوص وتقع في [١٤٥ ق] مسطراته مختلفة.
ونرجو من طلبة العلم العفو، والدعاء لنا، على هذا العمل الضعيف الحقير.
طالب العلم
أبو عبد اللَّه محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي الشهير بـ[محمد فارس]
1 / 7
لوحة [أ] من النسخة الخطية من ورقة الأزهرية
1 / 9
ل/ ب/ من نفس الورقة الملصوقة / الأزهرية
1 / 10
اللوحة الأخيرة - النسخة الأزهرية
1 / 11
بَابُ أَقْسَامِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ
أدلة الشرع على ثلاثة أضرب: أصل: ومعقول أصل، واستصحاب حال.
فأما الأصل: فهو الكتاب والسُّنّة وإجماع الأمة.
وأما معقول الأصل: فهو لَحْنُ الخطاب، وفَحْوَى الخطاب، ومعنى الخطاب، والحصر.
وأما استصحاب الحال، فهو: استْصحاب حال الأصل.
فصل
إذا ثبت ذلك، فالكتاب على ضربين: مجاز وحقيقة.
فأما المجاز (^١): فكل لفظ تجوز به عن موضوعه، فعلى أربعة أضرب.
زيادة كقوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ [النساء: الآية ١٥٥].
ونقصان: كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: الآية ٨٢].
وتقديم وتأخير: كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (٤)﴾ [الأعلى: الآية ٤].
واستعارة كقوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ﴾ [البقرة: الآية ٩٣].
وكقوله ﷿: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: الآية ٢٤].
قال مُحَمَّدُ بْنُ خويز منداد من أصحابنا ودَاوُدُ الأَصْفَهَانِيُّ: إِنه لا يصح وجود المَجَاز في القرآن وقد بينا ذلك.
_________
(^١) انظر نهاية السول ٢/ ١٤٥، والبحر المحيط للزركشي ٢/ ١٥٨، والمستصفى ١/ ٣٤١، والأحكام ٤/ ٤٣٧.
1 / 54
فَصْلٌ
وأَمَّا الحقيقة (^١)، فكل لفظ بَقِيَ على موضوعه، فعلى ضربين: مفصّل، ومجمل.
فأما المفصّل فهو ما فهم المراد به من لفظه، ولم يفتقر في بيانه إلى غيره، وهو على ضربين: محتمل، وغير محتمل.
فأما غير المحتمل، فهو: النص ما رفع في بيانه إِلى أبعد غاياته، نحو قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٨].
فهذا نص في الثلاثة لا يحتمل غير ذلك، فإذا ورد وجب المصير إليه والعمل به إِلا أن يرد ناسخ أو معارض.
فَصْلٌ
المحتمل (^٢) فهو احتمال معنيين فزائدًا، وهو على ضَرْبَيْنِ: أحدهما: ألا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها، نحو قولك: "لون" للذي يقع على السواد والبياض، وغيرهما من الألوان وقوعًا واحدًا، ليس هو في واحد منها أظهر منه في سائرها، فهذا قال من يلزمك أمره: اصبغ هذا الثوب لونًا، فإِن كان على سبيل التخيُّر، فأيّ لون صبغت الثوب كنت ممتثلًا لأمره، وإن أراد بذلك لونًا بعينه لم يمكنك امتثال أمره إلَّا بعد أن يبيّن اللون الذي أراد، ولا يجوز أن يتأخَّر البيان عن وقت الحاجة إلى امتثال الفعل.
والثاني: أن يكون اللفظ في أحد محتملاته أَظْهَرَ منه في سائرها كأَلْفَاظِ الظاهر والعموم، وغير ذلك.
فَصْلٌ
فأما الظاهر: فهو ما سبق إلى فهم سامعه معناه الذي وضع له، ولم يمنعه من العلم به من جهة اللغة مانع، كألفاظ الأوامر نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: الآية ١١٠]، وقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: الآية ٥]، فهذا
_________
(^١) انظر نهاية السول ٢/ ١٤٥، والمستصفى ١/ ٣٤١، الأحكام لابن حزم ٤/ ٤٣٧.
(^٢) انظر البرهان ١/ ٤١٩، الأحكام للآمدي ٣/ ٧، والمستصفى ١/ ٣٤٥، البحر المحيط للزركشي ٣/ ٤٥٥.
1 / 55
اللفظ إِذا ورد وجب حمله على الأمر، وإِن كان يجوز أن يراد به الإِباحة نحو قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ [المَائدة: الآية ٢]، والتعجيز نحو: ﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠)﴾ [الإسراء: الآية ٥٠].
والتهديد نحو قوله تعالى: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [فصلت: الآية ٤٠].
والتعجب نحو قولك: أحسن يزيد وقد قيل ذلك في قوله تعالى: ﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا﴾ [مريم: الآية ٣٨]، والتكوين نحو قوله تعالى: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: الآية ٦٥] إلا أنه أظهر في الأمر منه في سائر محتملاته، فيجب أن يحمل على أنه أَمْرٌ إِلا أن ترد قرينة تدل على أن المراد به غير الأمر، فيُعْدَل عن ظاهره إِلى ما يدل عليه الدليل.
فَصْلٌ
إِذا ثبت ذلك، فالأمر اقتضاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء والقهر، وهو على ضربين: وجوب وندب.
فالوجوب: ما كان في تركه عِقَاب من حيث هو ترك له على وجه ما، نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: الآية ١١٠] والندب: ما كان في فعله ثواب، ولم يكن في تركه عِقَاب من حيث هو ترك له على وجه ما، نحو قوله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: الآية ٣٣].
إلَّا أن لفظ الأمر في الوجوب أظهر منه في الندب.
فإذا ورد لفظ الأمر عَارِيًا من القرائن وجب حَمْله على الوجوب، إِلا أن يدل الدليل على أن الندب مراد به، فيحمل عليه.
وقال القاضي أبو بكر: يتوقف فيه، ولا يحمل على وجوب، ولا ندب حتى يدل الدليل على المراد به.
وقال أبو الحسينُ بْنُ المُنْتَابِ وأبو الفرج: يحمل على الندب، ولا يُعْدل عنه إلى الوجوب إلا بدليل.
والدليل على ما نقوله قوله -تعالى- لإبليس: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: الآية ١٢]، فوبخه وعاقبه لَمَّا لم يمتثل أمره بالسجود لآدم، ولو لم يكن مقتضاه الوجوب لما عاقبه، ولا وَبَّخَهُ على ترك ما لا يجب عليه فعله.
1 / 56
فَصْلٌ
إذا وردت لفظة "افعل" بعد الحَظر اقتضت الوجوب أَيضًا على أصلها، وقال جماعة من أصحابنا: إِنها تقتضي الإباحة، وبه قال بعض أصحاب الشَّافِعِيّ والدليل على ما نقوله إنا قد أجمعنا على أن لفظ الأمر بمجرده يقتضي الوجوب، وهذا لفظ الأمر مجردًا، فوجب أن يقتضي الوجوب، وتقدم الحظر على الأمر لا يخرجه عن مقتضاه، كما أن تقديم الأمر على الحظر لا يخرجه عن مقتضاه.
فَصْلٌ
الأمر المطلق لا يقتضي الفور وإليه ذهب القَاضِي أَبُو بكرِ البَاقِلانِيُّ، وذكر مُحَمَّد بْنُ خُوَيْزِ مِنْدَاد أنه مذهب المغاربة من المالكية وقال أكثر المالكية، من البغداديين إِنَّه يقتضي الفور.
والدليل على ما نقوله إن لفظة "افعل" لا تتضمن الزمان إلا كتضمن الأخبار عن الفعل للزمان، ولو أَن مخبرًا يخبر أنه يقوم لم يكن كاذبًا إِذا وجد منه قيامه متأخرًا، فكذلك من أمر بالقيام لا يكون تاركًا لما أمر به إِذا وجد منه القيام متأخرًا، فإذا ثبت ذلك، فإن الواجب على التَّراخي حالة يتعيَّن وجوب الفعل فيها، وهو إِذا غلب على ظَنِّهِ فوات الفعل، وتجري إِباحة تأخير الفعل للمكلف مَجْرَى إِبَاحَةِ تعزير الإِمام للجاني، وتأديب المعلّم للصَّبِي إِذا لم يغلب على الظن هَلَاكه، فإِذا غلب على الظن هلاكه حرم ذلك.
فَصْلٌ
إِذا نسخ وجوب الأمر جاز أن يحتج به على الجواز، ومنع من ذلك القاضي أَبُو مُحَمَّدٍ.
والدليل على ما نقوله إن الأمر بالفعل يقتضي وجوب الفعل وجوازه، والجواز ألزم بالفعل؛ لأنه قد يكون جائزًا، ولا يكون واجبًا ومحال أن يكون واجبًا ولا يكون جائزًا، لأنه مستحيل أن يُؤْمَرَ بفعل ما لا يجوز له فعله.
ومعنى الجائز ههنا ما وافق الشرع.
فإِذا ثبت ذلك ونسخ الوجوب خاصة بقي على حكمه في الجواز؛ لأن النسخ لم يتعلق بالجواز، وإنما يتعلق بالوجوب دونه.
1 / 57
فَصْلٌ
المسافر والمريض مأموران بصيام رمضان مخيَّران بين صومه وصوم غيره.
وقال بعض أصحابنا: المسافر مخاطب بالصوم، دون المريض.
وقال الكَرْخِيُّ: المسافر والمريض غير مخاطبين بالصوم.
والدليل على ما نقوله إن المسافر لو صام أُثِيبَ على فِعْلِهِ وَنَاب صومه عن فرضه، فلو كان غير مخاطب بصومه، لَمَا أُثِيبَ عَلَيْهِ كالحائض لَمَّا لم تخاطب بالصوم لم تُثَبْ عليه [في حال حيضها].
فَصْلٌ
لا خلاف بين الأُمَّة أن الكفار مخاطبون بالإيمان. والظاهر من مذهب مالك ﵀ أنهم مخاطبون بالصوم والصلاة والزَّكاة، وغير ذلك من شرائع الإِسلام (^١)، وقال مُحَمَّدٌ بْنُ خُوَيزَ مِنْدَاد: لَيْسُوا مخاطبين بشَيء من ذلك.
والدليل على ما نقوله قوله تعالى: ﴿سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢)﴾ [المدثر: الآية ٤٢] إلى قوله تعالى: ﴿مَعَ الْخَائِضِينَ﴾ [المدثر: الآية ٤٥] فأخبر اللَّه تعالى أن العذاب حق عليهم بترك الإيمان والصوم والصدقة والصلاة.
فَصْلٌ
إِذا قال الصحابي: أمرنا رسول اللَّه ﷺ بكذا وكذا أو نهانا عن كذا وكذا وجب حمله على الْوُجُوب وحُكي عن أبي بكر بن داود أنه قال: "لا يُحمل على الوجوب" حتى ينقل إلينا لفظ الرسول ﷺ وما قاله ليس بصحيح، لأن معرفة الأمر لا تعرف من غير طريقة اللغة، وإِذا كنا نحتج في اللغة والتمييز بين الأمر وغيره، بقول امْرئٍ القَيْسِ والنَّابِغَةِ، فبأن نحتج بقول أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَولَى وَأحَق لكونهما من أفصح العرب، ولما يقترن بذلك من أمور الدين والفضل، واللَّه تعالى أعلم.
مَسَائِلُ النَّهْيِ
الذي ذهب إليه أهل السُّنَّة أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده (^٢) والنهي ينقسم إلى قسمين:
_________
(^١) انظر البرهان ١/ ١٠٧، والبحر المحيط للزركشي ١/ ٣٧٧.
(^٢) انظر المستصفى ١/ ٨١ - ٨٣، المنخول ١١٤ - ١١٥.
1 / 58
نهي على وجه الكراهة، ونهي على وجه التحريم.
إلا أن النهي إذا ورد وجب حمله على التحريم إلا أن يقترن به قرينة تصرفه عن ذلك إلى الكراهية، والنهي إذا ورد دل على فساد المنهي عنه، وبه قال جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم.
وقال القاضي أَبُو بكر البَاقِلانِي: لا يدل على ذلك.
والدليل على ما نقوله اتفاق الأمة من الصحابة فَمَن بعدهم على الاستدلال بمجرد النهي في القرآن والسنة على فساد العقد المنهي عنه كاستدلالهم على فساد عقد الربا بقوله تعالى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة: الآية ٢٧٨].
وينهى النَّبِيُّ ﷺ: "عَنْ بَيعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَب مُتفَاضِلًا" واحتجاج ابْنُ عُمَرَ في تحريم نكاح الْمُشْرِكَاتِ وفساده بقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ﴾ [البقرة: الآية ٢٢١]، وغير ذلك مما لا يحصى كثرة.
أَبْوَابُ الْعُمُومِ وَأَقْسَامُهُ
قد ذكرنا أن المحتمل الظاهر في أحد محتملاته منه على ضربين: أوامر، وعموم.
وقد تكلمنا في الأوامر، والكلام ههنا في العموم، وله ألفاظ خمسة:
منها لفظ الجمع كالمسلمين والمؤمنين والأبرار والفجار، وألفاظ الجنس كالحيوان والإبل، وألفاظ النفي، كقوله: ما آذاني من أحد، والألفاظ الْمُبهَمَة كـ"مَنْ" فيما يعقل، "وما" فيما لا يعقل، و"أى" فيهما، و"متى" في الزمان، و"أين" في المكان، والاسم المفرد إذا دخل عليه الألف والسلام نحو قولنا: الرجل والإنسان والمشرك.
فهذا إِذا ورد اقتضى أمرين:
أحدهما: أن يراد به واحد بعينه، وذلك لا يكون إِلا بقرينة عهدٍ.
والثاني: أن يراد به جميع الجنس، فإذا ورد عاريًا من القرائن حمل على جميع الجنس، والدليل على ذلك اتفاقنا على أنه معرفة ولا بد أن يكون معرفة بالعهد، أو باستيعاب الجنس، فهذا لم يكن عهد حُمِلَ على استيعاب الجنس، وإلا كان نَكِرةً.
1 / 59
ومن ألفاظ العموم والإضافة إِلى ما تصح الإضافة إليه من ألفاظ العموم، كقوله ﵇: "فِي سَائِمَةِ الغَنَمِ الزَّكَاةُ".
فَصْلٌ
فإذا ثبت ذلك وورد شيء من ألفاظ العموم المذكورة، وجب حملها على عمومها إلَّا أن يدل الدليل على تخصيص شيء منها، فيصير إلى ما يقتضيه الدليل، وقال القاضي أبو بكر: "يتوقف فيها ولا تحمل على عموم، ولا خصوص حتى يدل الدليل على ما يراد به.
وقال أبو الحسن بْنُ الْمُنْتَابِ: يحمل على أقلّ ما تقتضيه الألفاظ.
والدليل على ما نقوله ما قدمناه من كونها معرفة وإنما تكون معرفة إذا اقتضت استغراق الجِنْسِ، فيتميز ما يقع تحتها من غيره ولو لم يرد بها جميع الجنس لكانت نكرة لأنه لا يتميز المراد بها من غيره، إِذ قد بَقِيَ من جنسه ما يقع عليه هذا اللفظ.
ولذلك قلنا: إِن لفظ الجمع إِذا كان نكرة لا يقتضي من جنسه ما لم يرد باللَّفظ.
ولذلك قلنا: إِن لفظ الجمع إِذا كان نكرة لا يقتضي استغراق الجنس، لأنه لو اقتضى استغراق الجنس لكان معرفة.
فَصْلٌ
وَإِذا دل الدليل على تخصيص ألفاظ العموم بقي على ما يتناوله اللفظ العام، بعد التخصيص على عمومه، أَيضًا يحتج به كما كان يحتجّ به لو لم يخصص بشيء منه، وذلك نحو قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: الآية ٥].
فإن هذا اللفظ يقتضي قَتْلَ كل مشرك، ثم خصّ ذلك بأن منع من قتل من (دفع) الجزية من أهل الكتاب، فبقي الباقي على ما كان عليه من وجوب القتل، يحتج به في وجوب قتل المشركين غير من قد خرج بالتخصيص المذكور.
وكذلك لو ورد تخصيص آخر لبقي باقي اللفظ العامّ على ما كان عليه قبل التخصيص، ويجوز أن يَرِدَ التخصيص والبيان مع اللفظ العام، ويجوز تأخيره عنه إلى وقت فعل العِبادة، ولا يجوز أن يتأخَّر عن ذلك الوقت.
1 / 60
فَصْلٌ
أقلّ الجمع اثنانِ عند جماعة من أصحاب مالك ﵀ وذكر القاضي أبُو بَكْرٍ أنه مذهب مالك.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ: أقل الجمع ثلاثة.
والدليل على ما نقوله قوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: الآية ٧٨] إلى قوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: الآية ٧٨] وقوله: ﴿فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ﴾ [الشعراء: الآية ١٥].
وحُكِيَ أنه مذهب الخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ، وأنشد في ذلك قول النَّابِغَة: [السريع]
وَمَهْمَيَنْ قَذَفَبَنْ مِرْتَيْنْ ... ظَهْرَاهُمَا مِثْل ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ
فَصْلٌ
إِذا ورد لفظ الجمع المذكور لم تدخل فيه جماعة المؤنث إلا بدليل، لأن لكل طائفة لفظًا يختص بها في مقتضى اللُّغة.
قال اللَّه ﷿: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [الأحزاب: الآية ٣٥].
وقال بعض أهل اللغة: إن "الواو" في الجمع السالم تدل على خمسة أشياء: على التذكير، والسَّلامة، والرفع، والجمع، ومن يفعل، فلا يجوز أن يَقَعَ تحته المؤنث إلا بدليل، كما لا يقع تحته مَا لا يعقل إِلا بدليل.
فَصْلٌ
إِذا ثبت ذلك فقد يرد أول الخبر عامًّا، وآخره خاصًّا، ويرد آخره عامًا، وأوله خاصًّا.
فيجب أن يحمل كل لفظ على مقتضاه، ولا يعتبر سواه، وذلك نحو قوله ﷾: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: الآية ٢٢٨].
وهذا عامّ في كل مطلقة مدخول بها رجعية كانت أو بائنة.
ثم قال بعد ذلك: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا﴾ [البقرة: الآية ٢٢٨].
1 / 61
وهذا خاصّ بالرجعيات وما خصّ أوله، وعمّ آخره قوله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: الآية ١].
فَصْلٌ
إِذا تعارض لفظان خاصّ وعام بني العام على الخاص، سواء كان الخاص متقدمًا أو متأخرًا.
وقال أَبُو حَنِيفَة: إذا كان العام متأخرًا فنسخ الخاص المتقدِّم.
والدليل على ذلك ما روِيَ عن النبي ﷺ أنه قال: "لا صَلاةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ" (^١).
فاقتضى ذلك نفي كل صلاة بعد العصر، ثم قال: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاةَ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا" (^٢).
فأخرج هذا اللفظ الخاصّ الصوات المنسيات من جملة الصلوات المنهي عنها بعد العصر، وقال أبو حنيفة: وإذا كان العام متفقًا عليه، والخاص مختلفًا قدم العامّ على الخاصّ، والدليل على ما نقُوله إن الخاص يتناول الحكم على وجه لا يحتمل التأويل، والعام يتناول على كل وجه محتمل التأويل، فكان الخاص أولى.
فَصْلٌ
إذا تعارض لفظان على وجه لا يمكن الجمع بينهما، فإِن عُلِمَ التاريخ فيهما نسخ المتقدِّم بالمتأخر، وإِن جهل ذلك نظر في ترجيح أحدهما على الآخر، بوجه من وجوه الترجيح التي تأتي بعد هذا، فإِن أمكن ذلك وجب المصير إلى ما يرجَّح، فإِن تعذَّر الترجيح في أحدهما ترك النظر فيهما، وعدل إلى سائر أدلة الشرع، فما دلّ عليه الدليل أخذ به، وإن تعذر في الشرع دليل على حكم تلك الحادثة، كان الناظر مخيرًا في أن يأخذ بأي اللفظين شاء الحاظر أو المبيح، إِذ ليس في العقل حَظْر ولا إِباحة.
فَصْلٌ
يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وعليه جمهور الفقهاء، ويجوز تخصيص عموم السنة بالقرآن، وتخصيص عموم القرآن، وخبر الآحاد بالقياس الجليّ
_________
(^١) أخرجه البخاري في صحيحه ٢/ ٦١، ومسلم في صحيحه ١/ ٥٦٧.
(^٢) أخرجه مسلم في صحيحه ١/ ٤٧١.
1 / 62
والخفي، لأن ذلك جمع بين دليلين، ومتى أمكن الجَمْع بين دليلين كان أولى من اطِّرَاح أحدهما، والأخذ بالآخر، لأن الأدلة إِنما اقتضت الأخذ بها، والحكم بمقتضاها، فلا يجوز اطراح شيء منه ما أمكن استعماله.
فَصْلٌ
وقد يقع التخصيص بمعان من أفعال النبي ﷺ وإقراره على الحكم، وما جرى مَجْرَى ذلك ولا يقع التخصيص بمذهب الراوي، وذلك مثل ما روى ابْنُ عُمَرَ عن النبي ﷺ أنه قال: "الْمُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَفتَرَقَا".
وقال ابْنُ عُمَر: التفريق بالأبدان.
وذهب بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي إِلى أنه يقع التخصيص بذلك.
وذهب مالك ﵀ إلى أنه لا يقع به التخصيص، وهو الصحيح، لأن الأحكام لا تؤخذ إِلا من قول صاحب الشرع، ولا يجوز أن يطرح قول صاحب الشرع لقول غيره.
فَصْلٌ
هذا الكلام في اللفظ العالمين الوارد ابتداء.
فأمَّا الوارد على سبب فَإِنَّه على ضَرْبَيْن مستقلّ بِنَفْسِهِ، وغير مستقلّ بِنَفْسِهِ.
فأما المستقلّ بنفسه، مثل ما روى النبي ﵇ أَنَّه (سُئِلَ عن بِئْرِ بضَاعَةَ)، فقال: "المَاءُ طَهُورُ لا ينَجِّسُهُ شَيءٌ".
فمثل هذا اللفظ العام اختلف أصحابنا فيه، فروي عن مالك ﵀ أنه يقصر على سببه، ولا يحمل على عمومه، وروي عنه أَيضًا أنه يحمل على عمومه، ولا يقتصر على سببه.
وإليه ذهب إِسْمَاعِيلُ القاضي، وأكثر أصحابنا.
الدليل على ذلك أن الأحكام متعلّقة بلفظ صاحب الشرع دون السبب، لأن لفظ صاحب الشرع لو انفرد لتعلّق به الحكم، والسبب لو انفرد لم يتعلّق به حكم، فيجب أن يكون الاعتبار بما يتعلّق به الحكم دون ما لا يتعلّق به.
1 / 63
وأَمَّا ما لا يستقل بنفسه، فمثل ما سُئِلَ رسول اللَّه ﷺ عن بيع الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ؟ قَالُوا: نَعَمْ قال: فَلا إِذَا" (^١).
فمثل هذا الجواب لا يقتصر على سببه، ويعتبر به في خصوصه وعمومه، ولا خلاف في ذلك.
بَابُ أَحْكَامِ الاسْتِثْنَاءِ
ومما يتصل بالتخصيص ويجري مجراه الاستثناء هو على ضربين:
استثناء يقع به التخصيص.
واستثناء لا يقع به التخصيص، فأما الذي يقع به التخصيص، فعلى ثلاثة أضرب:
استثناء من الجنس.
واستثناء من غير الجنس.
واستثناء من الجملة.
فأما الاستثناء من الجنس، فكقولك: رأيتُ النَّاس إلا زيدًا.
وأما الاستثناء من الجملة فكقولك: رأيت زيدًا إِلا يده.
وأما الاستثناء من غير الجنس، فلا يقع به التخصيص؛ لأنه لا يخرج من الجملة بعض ما تناولته.
وقال مُحَمَّد بْنُ خُوَيز مِنْدَاد: لا يجوز ودليلنا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: الآية ٩٢].
والخطأ لا يقال فيه للمؤمن أن يفعله، ولا ليس له أن يفعله، لأنه ليس بداخل تحت التكليف.
وقد قال النابغة [البسيط]:
وَقَفْتُ فِيهَا أصِيلًا كَيْ أُسَائِلَهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلا أَوَارِيّ لأيّا مَا أُبَينُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
_________
(^١) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٦٢٤، والشافعي في المسند ٢/ ١٥٩، وأبو داود في السنن ٣/ ٦٥٤ - ٦٥٧، والترمذي في السنن ٣/ ٥٢٨، والنسائي في المجتبى من السنن ٢/ ٧٦١.
1 / 64
فَصْلٌ
الاستثناء المتصل في جمل من الكلام معطوف بعضها على بعض، يجب رجوعها إلى جميعها عند جماعة من أصحابنا.
وقال القاضي أبو بكر: فيه مذهب بالوقف.
وقال المتأخرون من أصحاب أَبِي حَنِيفَةَ: يرجع إِلَى أقرب مذكور إليه، مثال ذلك قوله تعالى: ﴿فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً﴾ إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: الآيتان ٤، ٥].
والدليل على ذلك أن المعطوف بعضه على بعض بمنزلة المذكور جميعه باسم واحد، ولا فرق عندهم بين من قال: اضرب زيدًا وعمرًا وخالدًا، وبين من قال: اضرب هؤلاء الثلاثة، وإذا كان ذلك كذلك، فلو ورد الاستثناء عقيب جملة مذكورة باسم واحد لرد إلى جميعها، وكذلك إِذا ورده عَقِيبَ ما عطف بعضه على بعض، وقد أجمعنا على أن الاستثناء، واقع على جميع الجملة.
بَابُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ (^١) وَالْمُقَيّدِ (^٢) وَمَا يَتَّصِلُ بِالعَامِّ وَالْخَاصِّ
المطلق والمقيد، ونحن نبيّن حكمهما إن شاء اللَّه.
التقييد يقع بثلاثة أشياء بالغاية والشرط والصفة.
فأما الغاية، فقولك: اضرب عمرًا أبدًا حتى يرجع إلى الحق، فلولا أنه قيد الضرب بالرجوع إِلى الحق لاقْتَضَى ضربه أبدًا.
وأما الشرط فكقولك: من جاءك من النَّاس، فأعطه درهمًا، فقيد ذلك بالشرط.
وأما الصفة، فكقولك: أعط القرشيين المؤمنين، فقيد بصفة الإيمان، ولولا ذلك لاقتضى اللفظ كل قرشي، فإذا ثبت ذلك، وورد لفظ مطلق ومقيد، فلا يخلو من أن يكون من جنس واحد، أو من جنسين، فإن كان من جنس واحد، فلا خلاف في أنه لا يحمل المطلق على المقيد، لأن تقييد الشهادة بالعدالة لا يقتضي تقيُّد رقبة
_________
(^١) انظر التعريف في الأحكام للآمدي ٣/ ٣، ونهاية السول ٢/ ٣١٩، والمستصفى ٢/ ١٨٥.
(^٢) انظر التعريف في الأحكام للآمدي ٣/ ٣، والمستصفى ٢/ ١٨٥، والبحر المحيط للزركشي ٣/ ٤٣٤.
1 / 65
العتق بالأيمان. وأما إِن وإن من جنسين، فلا يخلو أن يتعلق بسببين مختلفين أو بسبب واحد، فإن تعلق بسببين مختلفين نحو أن يقيد الرقبة في القتل بالأيمان ويطلقها في الظهار، فإنه لا يحمل المطلق على المقيّد عند أكثر أصحابنا إِلا بدليل يقتضي ذلك.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب الشَّافِعِيّ: يحمل المطلق على المقيد من جهة وضع اللُّغة.
والدليل على ما نقوله إن الحكم المطلق غير مقيد، وإِطلاق المقيد يقتضي نَفْي التقيد عنه كما أن تقيُّد المطلق يقتضي نفي الإطلاق عنه، فلو وجب تقيد المطلق، لأن من جنسه ما هو مقيد لوجب إطلاق المقيد، لأن من جنسه ما هو مطلق.
وأما إذا كان متعلِّقين بسبب واحد، مثل أن ترد الزَّكاة في موضع مقيّدة بالسَّوْم، وترد في موضع آخر مطلقة، فإِنَّه لا يجب عند أكثر أصحابنا أَيضًا حمل المطلق على المقيد، ومن أصحابنا من أوجب ذلك، وهو من باب دليل الخِطَاب ثِقَة، وقد أجمعنا على أنه لو قال ذلك لوجب تقليده في تعديله، فكذلك إِذا أرسل عنه.
فَصْلٌ
إذا روى الراوي الخبر وترك العمل به لم يمنع ذلك وجوب العمل به عند أكثر أصحابنا.
وقال بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة، إن ذلك يبطل وجوب العمل به.
والدليل على ما نقوله إن خبر النبي ﷺ إذا ورد وجب على الصحابة وغيرهم امتثاله، إلا أن يدل دليل على نسخه، وليس إذا تركه تارك مما يسقط وجوب العمل به عمن بلغه، ولذلك استدللنا بخبر ابن عباس في أن الأمة إِذا أُعتقت تحت عبد، فخيرت بخبر بريرة أنها عتقت تحت عبد فخيرت، وإن كان مذهب ابن عباس أن بيع الأمة طلاقها.
فَصْلٌ
إذا روى الراوي الخبر، فأنكره المروِيّ عنه، فإن ذلك على ضربين:
أحدهما: أن يتوقف فيه، ويَشك هو.
1 / 66