الثالثة: المصلحة المرسلة أي المطلقة من الاعتبار والإلغاء وهي حجة عند مالك، ومعنى احتجاجه أنه يأمر بجلبها ويقيس عليها كمصلحة الإقرار من المتهم بالسرقة، فإن مالكا يبيح جلبها بضربه حتى يقر وحجته في العمل بها أن الصحابة - رضي الله عنهم - عملوا بها، فإن من المقطوع به أنهم كانوا يتعلقون بالمصالح في وجوه الرأي ما لم يدل دليل شرعي على منعها ككتابتهم للمصحف ونقطهم وشكلهم له لأجل حفظه من النسيان، وكحرق عثمان - رضي الله عنه - للمصاحف وجمع الناس على مصحف واحد خوف الاختلاف في الدين، فجواز الكتابة والحرق هو الحكم المعمول به لأجل المصلحة المرسلة التي هي الحفظ من النسيان والسلامة من الاختلاف في الدين. وأبى عن الاحتجاج بها كبار أصحاب مالك وجمهور العلماء وقالوا لا يجوز ضرب المتهم بالسرقة ليقر لأنه قد يكون بريئا، وترك الضرب لمذنب أهون من ضرب بريء، وقال الغزالي إنما يجوز العمل بها إذا كانت في محل الضرورة بأن كانت إذا لم تجلب أدى ذلك لهلاك الدين أو النفس أو العقل أو النسب أو المال أو العرض بشرط أن تكون كلية أي عامة على بلاد الإسلام، وأن تكون قطعية الوقوع، مثال استعمالها رمي الكفار المتترسين بأسرى المسلمين في الحرب المؤدي إلى قتل الترس معهم إذا قطع أو ظن ظنا قريبا من القطع بأنهم إن لم يرموا استأصلوا المسلمين بالقتل الترس وغيره، وإن رموا سلم غير الترس من المسلمين فيجوز رميهم لحفظ باقي الأمة، فالحكم هو جواز رمي الكفار مع الترس، والمصلحة المرسلة حفظ سائر المسلمين، وهذه المصلحة واقعة في محل الضرورة لأنها إذا لم تجلب أدى ذلك إلى هلاك نفوس جميع المسلمين ووقوعها قطعي، لأن الرمي يدفعهم عن المسلمين قطعا وهي عامة على المسلمين.
Page 29