ـ[إرْشَادُ السَّارِي لِشرح صَحِيح البخَاري]ـ
المؤلف: أحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني القتيبي المصري، أبو العباس، شهاب الدين (المتوفى: ٩٢٣هـ)
الناشر: المطبعة الكبرى الأميرية، مصر
الطبعة: السابعة، ١٣٢٣ هـ
عدد الأجزاء: ١٠
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
تجد بهذا الكتاب الإلكتروني - وليس في المطبوع -:
• نص الصحيح، موزعا على مواضعه من الشرح، ومشكولا
• ترقيم الكتب والأبواب والأحاديث، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي
• أطراف الأحاديث (عند أول ورود للحديث)
Page inconnue
[مقدمة الشارح]
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول أحمد بن محمد الخطيب القسطلاني غفر الله له آمين:
الحمد لله الذي شرح بمعارف عوارف السنة النبوية صدور أوليائه، وروّح بسماع أحاديثها الطيبة أرواح أهل وداده وأصفيائه، فسرّح سرّ سرائرهم في رياض روضة قدسه وثنائه، أحمده على ما وفق من إرشاده وأسدى من آلائه وأشكره على فضله المتواتر الكامل الوافر، وأسأله المزيد من عطائه وكشف غطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الفرد المنفرد في صمدانيته بعز كبريائه، واصل من انقطع إليه إلى حضرة قربه وولائه ومدرجه في سلسلة خاصته وأحبائه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المرسل بصحيح القول وحسنه رحمة لأهل أرضه وسمائه، الماحي للمختلق الموضوع بشوارق بوارق لألائه، فأشرقت مشكاة مصابيح الجامع الصحيح من أنوار شريعته وأنبائه ﷺ وعلى آله وأصحابه وخلفائه آمين.
وبعد فإنّ علم السنة النبوية بعد الكتاب العزيز أعظم العلوم قدرًا وأرقاها شرفًا وفخرًا، إذ عليه مبنى قواعد أحكام الشريعة الإسلامية، وبه تظهر تفاصيل مجملات الآيات القرآنية، وكيف لا ومصدره عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فهو المفسر للكتاب وإنما ... نطق النبي لنا به عن ربه
وإن كتاب البخاري الجامع قد أظهر من كنوز مطالبها العالية إبريز البلاغة، وأبرز وحاز قصب السبق في ميدان البراعة وأحرز، وأتى من صحيح الحديث وفقهه بما لم يسبق إليه ولا عرّج أحد عليه، فانفرد بكثرة فرائد فوائده وزوائد عوائده، حتى جزم الراوون بعذوبة موارده، فلذا رجح على غيره من الكتب بعد كتاب الله، وتحرّكت بالثناء عليه الألسن والشفاه، ولطالما خطر في الخاطر المخاطر أن أعلق عليه شرحًا أمزجه فيه مزجًا وأدرجه ضمنه درجًا، أميز فيه الأصل من الشرح بالحمرة والمداد واختلاف الروايات بغيرهما، ليدرك الناظر سريعًا المراد، فيكون باديًا بالصفحة مدركًا باللمحة كاشفًا بعد أسراره لطالبيه، رافع النقاب عن وجوه معانيه
1 / 2
لمعانيه، موضحًا مشكله فاتحًا مقفله مقيدًا مهمله، وافيًا بتغليق تعليقه، كافيًا في إرشاد الساري لطريق تحقيقه، محررًا لرواياته معربًا عن غرائبه وخفياته، فأجدني أحجم عن سلوك هذا المسرى، وأبصرنى أقدّم رجلًا وأؤخر أخرى، إذ أنا بمعزل عن هذا المنزل، لا سيما وقد قيل إن أحدًا لم يستصبح سراجه ولا استوضح منهاجه ولا اقتعد صهوته ولا افترع ذروته، ولا تبوّأ خلاله ولا تفيأ ظلاله، فهو درّة لم تثقب ومهرة لم تركب، ولله درّ القائل:
أعيى فحول العلم حل رموز ما ... أبداه في الأبواب من أسرار
فازوا من الأوراق منه بما جنوا ... منها ولم يصلوا إلى الأثمار
ما زال بكرًا لم يفض ختامه ... وعراه ما حلّت عن الأزرار
حجبت معانيه التي أوراقها ... ضربت على الأبواب كالأستار
من كل باب حين يفتح بعضه ... ينهار منه العلم كالأنهار
لا غرو أن أمسى البخاري للورى ... مثل البحار لمنشأ الأمطار
خضعت له الأقران فيه إذ بدا ... خرّوا على الأذقان والأكوار
ولم أزل على ذلك مدّة من الزمان، حتى مضى عصر الشباب وبان، فانبعث الباعث إلى ذلك راغبًا، وقام خطيبًا لبنات أبكار الأفكار خاطبًا، فشمرت ذيل العزم عن ساق الحزم، وأتيت بيوت التصنيف من أبوابها، وقمت في جامع جوامع التأليف بين أئمته بمحرابها، وأطلقت لسان القلم في ساحات الحكم بعبارة صريحة واضحة، وإشارة قريبة لائحة، لخصتها من كلام الكبراء الذين رقت في معارج علوم هذا الشأن أفكارهم، وإشارات الألباء الذين أنفقوا على اقتناص شوارده أعمارهم، وبذلت الجهد في تفهم أقاويل الفهماء المثار إليهم بالبنان، وممارسة الدواوين المؤلفة في هذا الشأن، ومراجعة الشيوخ الذين حازوا قصب السبق في مضماره، ومباحثة الحذاق الذين غاصوا على جواهر الفرائد في بحاره، ولم أتحاش عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن، قصدًا لنفع الخاص والعام، راجيًا ثواب ذي الطول والإنعام، فدونك شرحًا قد أشرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء نوره اللامع، وصدع خطيبه على منبره السامي بالحجج القواطع، القلوب والمسامع، أضاءت بهجته فاختفت منه كواكب الدراري، وكيف لا وقد فاض عليه النور من فتح الباري. على أنني أقول كما قال الحافظ أبو بكر البرقاني:
وما لي فيه سوى أنني ... أراه هوى وافق المقصدا
وأرجو الثواب بكتب الصلاة ... على السيد المصطفى أحمدا
وبالجملة فإنما أنا من لوامع أنوارهم مقتبس، ومن فواضل فضائلهم ملتمس، وخدمت به الأبواب النبوية والحضرة المصطفوية، راجيًا أن يتوّجني بتاج القبول والإقبال، ويجيزني بجائزة الرضا في الحال والمآل. وسميته (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري). والله أسال التوفيق والإرشاد إلى سلوك طرق السداد، وأن يعينني على التكميل، فهو حسبي ونعم الوكيل.
وهذه مقدمة، مشتملة على وسائل المقاصد يهتدي بها إلى الإرشاد السالك والقاصد، جامعة لفصول، هي لفروع قواعد هذا الشرح أصول.
الفصل الأوّل
في فضيلة أهل الحديث وشرفهم في القديم والحديث
أقول مستمدًا من الله الإعانة على التوفيق للإيضاح والإبانة: روينا عن ابن مسعود
1 / 3
﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "نضر الله امرءًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". رواه الشافعيّ والبيهقي وكذا أبو داود والترمذيّ بلفظ: "نضر الله امرءًا سمع منّا شيئًا فبلغه كما سمعه فربّ مبلغ أوعى من سامع". وقال الترمذي: حسن صحيح. وعن أبي سعيد الخدريّ ﵁ عن النبي ّ-ﷺ أنه قال في حجة الوداع: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فربّ حامل فقه ليس بفقيه" الحديث. رواه البزار بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه من حديث زيد بن ثابت، وكذا روي من حديث معاذ بن جبل والنعمان بن بشير وجبير بن مطعم وأبي الدرداء وأبي قرصافة وغيرهم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وبعض أسانيدهم صحيح، كما قاله المنذري، وقوله نضر الله بتشديد الضاد المعجمة وتخفف، والنضرة: الحسن والرونق، والمعنى خصّه الله تعالى بالبهجة والسرور لأنه سعى في نضارة العلم وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. وأيضًا فإن من حفظ ما سمعه وأدّاه كما سمعه من غير تغيير، كأنه جعل المعنى غضًّا طريًّا، وخصّ الفقه بالذكر دون العلم إيذانًا بأنّ الحامل غير عار عن العلم إذ الفقه علم بدقائق العلوم المستنبطة من الأقيسة. ولو قال غير عالم لزم جهله. وقوله ربّ وضعت للتقليل، فاستعيرت في الحديث للتكثير. وقوله إلى من هو أفقه منه صفة لدخول رب استغنى بها عن جوابها، أي رب حامل فقه أدّاه إلى من هو أفقه منه لا يفقه ما يفقهه المحمول إليه.
وعن ابن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: "اللهَّم ارحم خلفائي" قلنا يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: "الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس". رواه الطبرانّي في الأوسط. ولا ريب أنَّ أداء السنن إلى المسلمين نصيحة لهم من وظائف الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين. فمن قام بذلك كان خليفة لن يبلغ عنه. وكما لا يليق بالأنبياء ﵈ أن يهملوا أعاديهم ولا ينصحوهم، كذلك لا يحسن لطالب الحديث وناقل السُّنن أن يمنحها صديقه ويضعها عدوّه، فعلى العالم بالسُّنَّة أن يجعل أكبر همه نشر الحديث، فقد أمر النبي ﷺ بالتبليغ عنه حيث قال: "بلغوا عني ولو آية" الحديث رواه البخاري ﵀. قال المظهري أي بلغوا عني أحاديثي ولو كانت قليلة. قال البيضاوي ﵀ قال: "ولو آية" ولم يقل ولو حديثًا لأن الأمر بتبليغ الحديث يفهم منه بطريق الأولوية، فإن الآيات مع انتشارها وكثرة حملتها تكفل الله تعالى بحفظها وصونها عن الضياع والتحريف اهـ.
وقال إمام الأئمة مالك رحمه الله تعالى: بلغني أن العلماء يسألون يوم القيامة عن تبليغهم العلم كما تسأل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقال سفيان الثوري: لا أعلم علمًا أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوّع بالصلاة والصيام لأنه فرض كفاية. وفي حديث أسامة بن زيد ﵁ عن النبي ﷺ أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين". وهذا الحديث رواه من الصحابة عليّ وابن عمر وابن عمرو وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة ﵃، وأورده ابن عديّ من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرّح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البرّ، لكن يمكن أن يتقوّى بتعدّد طرقه ويكون حسنًا كما جزم به ابن كيكلدي العلائي، وفيه تخصيص حملة السُّنَّة بهذه المنقبة العلية، وتعظيم لهذه الأمة المحمدية وبيان لجلالة قدر المحدّثين وعلوّ مرتبتهم في العالين، لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين وتأويل الجاهلين، بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
وقال النووي في أوّل تهذيبه: هذا إخبار منه ﷺ بصيانة هذا العلم وحفظه وعدالة ناقليه، وأن الله تعالى يوفق له في كل عصر خلفًا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر. وهكذا وقع
1 / 4
ولله الحمد، وهو من أعلام النبوّة، ولا يضرّ كون بعض الفسّاق يعرف شيئًا عن علم الحديث، فإن الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أنَّ غيرهم لا يعرف شيئًا منه اهـ.
على أنه قد يقال ما يعرفه الفسّاق من العلم ليس بعلم حقيقة لعدم عملهم، كما أشار إليه المولى سعد الدين التفتازانيّ في تقرير قول التلخيص: وقد ينزل العالم منزلة الجاهل، وصرّح به الإمام الشافعي في قوله: ولا العلم إلا مع التقى ولا العقل إلا مع الأدب. ولعمري إن هذا الشأن من أقوى أركان الدين وأوثق عُرى اليقين. لا يرغب في نشره إلا صادق تقيّ ولا يزهده إلا كل منافق شقيّ. قال ابن القطان: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث. وقال الحاكم: لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام ولتمكن أهل الإلحاد والبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاصي ﵁ أن رسول الله قال: "العلم ثلاثة آية محكمة أو سُنّة قائمة أو فريضة عادلة وما سوى ذلك فهو فضل". رواه أبو داود وابن ماجة. قال في شرح المشكاة: والتعريف في العلم للعهد وهو ما علم من الشارع وهو العلم النافع في الدين، وحينئذ العلم مطلق فينبغي تقييده بما يفهم منه المقصود، فيقال علم الشريعة معرفة ثلاثة أشياء والتقسيم حاصر، وبيانه أن قوله آية محكمة يشتمل على معرفة كتاب الله تعالى وما يتوقف عليه معرفته، لأن المحكمة هي التي أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه، فكانت أمّ الكتاب، فتحمل المتشابهات عليها وترد إليها، ولا يتم ذلك إلا للماهر الحاذق في علم التفسير والتأويل، الحاوي لمقدّمات يفتقر إليها من الأصلين وأقسام العربية، وقوله سُنّة قائمة، معنى قيامها ثباتها ودوامها بالمحافظة عليها من قامت السوق إذا نفقت، لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات ويتنافس فيه المخلصون بالطلبات، ودوامها إما أن يكون بحفظ أسانيدها من معرفة أسماء الرجال والجرح والتعديل، ومعرفة الأقسام من الصحيح والحسن والضعيف المتشعب منه أنواع كثيرة، وما يتصل بها من المتممات مما يسمى علم الاصطلاح مما يأتي في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى. وإما أن يكون بحفظ متونها من التغيير والتبديل بالإتقان وتفهم معانيها واستنباط العلوم منها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في هذا الشرح بعون الله سبحانه، لأن جلّها بل كلها من جوامع كلمه التي خصّ بها لا سيما هذه الكلمة الفاذّة الجامعة مع قصر متنها وقرب طرفيها علوم الأوّلين والآخرين. وقوله أو فريضة عادلة أي مستقيمة مستنبطة من الكتاب والسُّنة والإجماع. وقوله: "وما سوى ذلك فهو فضل" أي لا مدخل له في أصل علوم الدين، بل ربما يستعاذ منه حينًا كقوله: "أعوذ بك من علم لا ينفع" ولله درّ أبي بكر حميد القرطبيّ فلقد أحسن وأجاد حيث قال:
نور الحديث مبين فادن واقتبس ... واحد الركاب له نحو الرضا الندس
واطلبه بالصين فهو العلم إن رفعت ... أعلامه برباها يا ابن الدلس
فلا تضعْ في سوى تقييد شارده ... عمرًا يفوتك بين اللحظ والنفس
وخل سمعك عن بلوى أخي جدل ... شغل اللبيب بها ضرب من الهوس
ما إن سمت بأبي بكر ولا عمر ... ولا أتت عن أبي هرّ ولا أنس
إلا هوى وخصومات ملفقة ... ليست برطب إذا عدت ولا يبس
فلا يغرك من أربابها هذر ... أجدى وجدك منها نغمة الجرس
أعرهم أذنًا صمًّا إذا نطقوا ... وكن إذا سألوا تعزى إلى خرس
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر ... يجلو بنور هداه كل ملتبس
نور لمقتبس خير لملتمس ... حمى لمحترس نعم لمبتئس
1 / 5
فاعكف ببابهما على طلابهما ... تمحو العمى بهما عن كل ملتمس
ورد بقلبك عذبًا من حياضهما ... تغسل بماء الهدى ما فيه من دنس
واقف النبيّ وأتباع النبيّ وكن ... من هديهم أبدًا تدنو إلى قبس
والزم مجالسهم واحفظ مجالسهم ... واندب مدارسهم بالأربع الدرس
واسلك طريقهم واتبع فريقهم ... تكن رفيقهم في حضرة القدس
تلك السعادة إن تلمم بساحتها ... فحط رحلك قد عوفيت من تعس
ومن شرف أهل الحديث ما رويناه من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة". قال الترمذي حسن غريب.
وفي سنده موسى بن يعقوب الزمعيّ قال الدارقطني إنه تفرّد به، وقال ابن حبان في صحيحه في هذا الحديث بيان صحيح. على أن أولى الناس برسول الله ﷺ في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال غيره المخصوص بهذا الحديث نقلة الأخبار الذين يكتبون الأحاديث ويذبّون عنها الكذب آناء الليل وأطراف النهار. وقال الخطيب في كتابه شرف أصحاب الحديث قال لنا أبو نعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله ﷺ أكثر ما يعرف لهذه العصابة نسخًا وذكرًا. وقال أبو اليمن بن عساكر: ليهن أهل الحديث كثرهم الله تعالى هذه البشرى، فقد أتم الله تعالى نعمه عليهم بهذه الفضيلة الكبرى، فإنهم أولى الناس بنبيّهم ﷺ وأقربهم إن شاء الله تعالى وسيلة يوم القيامة إلى رسول الله ﷺ، فإنهم يخلدون ذكره في طروسهم، ويجددون الصلاة والتسليم عليه في معظم الأوقات في مجالس مذاكرتهم وتحديثهم ودروسهم، فهم إن شاء الله تعالى الفرقة الناجية جعلنا الله تعالى منهم وحشرنا في زمرتهم آمين.
الفصل الثاني
في ذكر أوّل مَن دوّن الحديث والسُّنن ومَن تلاه في ذلك سالكًا أحسن السُّنن
اعلم أنه لم يزل الحديث النبويّ والإسلام غض طريّ والدين محكم الأساس قويّ، أشرف العلوم وأجلّها لدى الصحابة والتابعين وأتباعهم خلفًا بعد سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ التنزيل إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الحديث عنه، فتوفرت الرغبات فيه وانقطعت الهمم على تعلمه، حتى رحلوا المراحل ذوات العدد، وأفنوا الأموال والعدد، وقطعوا الفيافي في طلبه وجابوا البلاد شرقًا وغربًا بسببه، وكان اعتمادهم أوّلًا على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه، ولا معوّلين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم. فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرّقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوحات ومات معظم الصحابة وتفرّق أصحابهم وأتباعهم، وقلّ الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل أن يلتبس بالحق، احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وأجالوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا لتقييده ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها، ودوّنوا دواوين ظهرت شفوفها، فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العالمون قبلة، فجزاهم الله ﷾ عن سعيهم الحميد أحسن ما جزى به علماء أمّة وأحبار ملّة. وكان أوّل من أمر بتدوين الحديث وجمعه بالكتابة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه خوف اندراسه، كما في الموطأ رواية محمد بن الحسن "أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر ما كان من
1 / 6
حديث رسول الله ﷺ أو سنته، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء".
وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أهل الآفاق "انظروا: إلى حديث رسول الله ﷺ فاجمعوه". وعلّقه البخاريّ في صحيحه. فيستفاد منه كما قال الحافظ ابن
حجر ابتداء تدوين الحديث النبويّ. وقال الهرويّ في ذم الكلام: "ولم تكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظًا ويأخذونها لفظًا إلا كتاب الصدقات، والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء، حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن محمد فيما كتب إليه أن انظر ما كان من سنّة أو حديث فاكتبه".
وقال في مقدمة الفتح: وأوّل من جمع في ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حده، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، وصنّف الإمام مالك بن أنس الموطأ بالمدينة، وعبد الملك بن جريح بمكة، وعبد الرحمن الأوزاعيّ بالشام، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من الأئمة في التصنيف كلٌّ على حسب ما سنح له، وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتب على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وأبي بكر بن شيبة وأحمد بن منيع وأبي خيثمة والحسن بن سفيان وأبي بكر البزار وغيرهم، ومنهم من رتب على العلل بأن يجمع في كل متن طرقه واختلاف الرواة فيه، بحيث يتضح إرسال ما يكون متصلًا أو وقف ما يكون مرفوعًا أو غير ذلك، ومنهم من رتبه على الأبواب الفقهية وغيرها ونوّعه أنواعًا وجمع ما ورد في كل نوع وفي كل حكم إثباتًا ونفيًا في باب فباب، بحيث يتميز ما يدخل في الصوم مثلًا عما يتعلق بالصلاة، وأهل هذه الطريقة منهم من تقيد بالصحيح كالشيخين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيد بذلك كباقي الكتب الستة. وكان أوّل من صنف في الصحيح محمد بن إسماعيل البخاري أسكننا الله تعالى معه في بحبوحة جنانه بفضله الساري، ومنهم المقتصر على الأحاديث المتضمنة للترغيب والترهيب، ومنهم من حذف الإسناد واقتصر على المتن فقط كالبغوي في مصابيحه واللؤلؤي في مشكاته.
وبالجملة فقد كثرت في هذا الشأن التصانيف، وانتشرت في أنواعه وفنونه التآليف، واتسعت دائرة الرواية في المشارق والمغارب، واستنارت مناهج السُّنة لكل طالب.
الفصل الثالث
في نبذة لطيفة جامعة لفرائد فوائد مصطلح الحديث عند أهله وتقسيم أنواعه وكيفية تحمله وأدائه ونقله مما لا بدّ للخائض في هذا الشرح منه لما علم أن لكل أهل فنّ اصطلاحًا يجب استحضاره عند الخوض فيه
وأوّل من صنف في ذلك القاضي أبو محمد الرامهرمزي في كتابه المحدّث الفاضل، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، ثم أبو نعيم الأصبهاني، ثم الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية في قوانين الرواية، وكتاب الجامع لآداب الشيخ والسامع، ثم القاضي عياض في الإلماع، والحافظ القطب أبو بكر بن أحمد القسطلاني في المنهج المبهج عند الاستماع لمن رغب في علوم الحديث على الاطلاع، وأبو جعفر الميانجي في جزء سمّاه ما لا يسع المحدّث جهله، ثم الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، فعكف الناس عليه وساروا بسيره، فمنهم الناظم له والمختصر والمستدرك عليه، والمقتصر والعارض له والمنتصر، فجزاهم الله تعالى خيرًا.
وإذا علم هذا فليعلم أنهم قسموا السنن المضافة له ﷺ قولًا وفعلًا أو تقريرًا، وكذا وصفًا وخلقًا ككونه ليس بالطويل ولا بالقصير، وأيامًا كاستشهاد حمزة وقتل أبي جهل، إلى متواتر، ومشهور، وصحيح، وحسن، وصالح، ومضعف وضعيف، ومسند، ومرفوع، وموقوف، وموصول، ومرسل، ومقطوع، ومنقطع، ومعضل، ومعنعن، ومؤنن، ومعلق، ومدلس، ومدرج، وعال، ونازل، ومسلسل، وغريب، وعزيز، ومعلل، وفرد، وشاذ، ومنكر،
1 / 7
ومضطرب، وموضوع، ومقلوب، ومركب، ومنقلب، ومدبج، ومصحف، وناسخ، ومنسوخ، ومختلف.
فالمتواتر الذي يرويه عدد تحيل العادة تواطؤهم على الكذب من ابتدائه إلى انتهائه، وينضاف لذلك أن يصحب خبرهم إفادة العلم لسامعه، كحديث "من كذب عليّ متعمدًا" فنقل النوويّ أنه جاء عن مائتين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
والمشهور وهو أوّل أقسام الآحاد ما له طرق محصورة بأكثر من اثنين، كحديث "إنما الأعمال
بالنيّة" لكنه إنما طرأت له الشهرة من عند يحيى بن سعيد، وأوّل إسناده فرد، وهو ملحق بالمتواتر عندهم، إلا أنه يفيد العلم النظريّ.
والصحيح ما اتصل سنده بعدول ضابطين بلا شذوذ، بأن لا يكون الثقة خالف أرجح منه حفظًا أو عددًا مخالفة لا يمكن الجمع، ولا علة خفية فادحة مجمع عليها، أي إسناده ضعيف لا أنه مقطوع به في نفس الأمر، لجواز خطأ الضابط الثقة ونسيانه. نعم يقطع به إذا تواتر، فإن لم يتصل بأن حذف من أوّل سنده أو جميعه لا وسطه فمعلق، وهو في صحيح البخاريّ يكون مرفوعًا وموقوفًا، يأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي، والمختار لا يجزم في سند بأنه أصح الأسانيد مطلقًا غير مقيد بصحابيّ، تلك الترجمة لعسر الإطلاق، إذ يتوقف على وجود درجات القبول في كل فرد فرد من رواة السند المحكوم له، فإن قيد بصاحبها ساغ، فيقال مثلًا أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه عن علي ﵁ إذا كان الراوي عن جعفر ثقة، وأصح أسانيد الصدّيق ﵁ إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر، وأصح أسانيد عمر ﵁ الزهريّ عن سالم عن أبيه عن جدّه، وأصح أسانيد أبي هريرة ﵁ الزهريّ عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وأصح أسانيد ابن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح أسانيد عائشة عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ﵂ وعنهم أجمعين. ويحكم بتصحيح نحو جزء نص على صحته من يعتمد عليه من الحفاظ النقاد، أو لم ينص على صحته معتمد، فالظاهر جواز تصحيحه لمن تمكنت معرفته وقوي إدراكه كما ذهب إليه ابن القطان والمنذريّ والدمياطيّ والسبكي وغيرهم، خلافًا لابن الصلاح، حيث منع لضعف أهل هذه الأزمان.
والحسن ما عرف مخرّجه من كونه حجازيًّا شاميًّا عراقيًّا مكيًّا كوفيًّا، كان يكون الحديث عن راوٍ قد اشتهر برواية أهل بلده، كقتادة في البصريين، فإن حديث البصريين إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفًا، بخلافه عن غيره. والمراد به الاتصال، فالمنقطع والمرسل والمعضل لغيبة بعض رجالها لا يعلم مخرج الحديث منها لا يسوغ الحكم بمخرجه، فالمعتبر الاتصال، ولو لم نعرف المخرج، إذ كل معروف المخرج متصل ولا عكس، وشهرة رجاله بالعدالة والضبط المنحط عن الصحيح، ولو قيل هذا حديث حسن الإسناد أو صحيحه فهو دون قولهم حديث حسن صحيح أو حديث حسن، لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد لاتصاله وثقة رواته وضببطهم دون المتن، لشذوذ أو علة. وما قيل فيه حسن صحيح أي صح بإسناد وحسن بآخر.
والصالح دون الحسن، قال أبو داود وما كان في كتابي السنن من حديث فيه وهن شديد، فقد بيّنته، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح. وبعضها أصح من بعض اهـ. قال الحافظ ابن حجر لفظ صالح في كلامه أعمّ من أن يكون للاحتجاج أو للاعتبار، فما ارتقى إلى الصحة ثم إلى الحسن فهو بالمعنى الأوّل، وما عداهما فهو بالمعنى الثاني، وما قصر عن ذلك فهو الذي فيه وهن شديد.
والمضعف ما لم يجمع على ضعفه بل في متنه أو سنده تضعيف لبعضهم وتقوية للبعض الآخر وهو أعلى من الضعيف وفي البخاري منه.
والضعيف ما قصر عن درجة الحسن وتتفاوت درجاته في الضعف بحسب بعده من شروط الصحة.
والمسند ما اتصل سنده من رواته إلى منتهاه رفعًا ووقفًا.
والمرفوع ما أضيف إلى النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير متصلًا كان أو منقطعًا، ويدخل فيه المرسل ويشمل الضعيف.
والموقوف ما قصر على الصحابيّ قولًا أو فعلًا ولو منقطعًا، وهل يسمى أثرًا؟ نعم. ومنه قول الصحابي: كنا نفعل ما لم يضفه إلى النبي ﷺ،
1 / 8
فإن أضافه إليه كقول جابر: كنّا نعزل على عهد رسول الله ﷺ، فمن قبيل المرفوع وإن كان لفظه موقوفًا لأن غرض الراوي بيان الشرع. وقيل لا يكون مرفوعًا. وقول الصحابي من السنة كذا أو أمرنا بضم الهمزة، أو كنا نؤمر أو نهينا أو أبيح، فحكمه الرفع أيضًا، كقول الصحابي: أنا أشبهكم صلاة به ﷺ، كتفسير تعلق بسبب النزول، وحديث المغيرة: "كان أصحاب رسول الله ﷺ يقرعون بابه بالأظافير" صوّب ابن الصلاح رفعه، وقال الحاكم موقوف، وقول التابعي فمن دونه يرفعه أو رفعه أو مرفوعًا أو يبلغ به أو يرويه أو ينمّيه بفتح أوّله وسكون ثانيه وكسر ثالثه، أو يسنده أو يأثره مرفوع بلا خلاف، والحامل له على ذلك الشك في الصيغة التي سمع بها، أهي: قال رسول الله ﷺ أو النبيّ أو نحو ذلك، كسمعت أو حدّثني، وهو ممّن لا يرى الإبدال أو طلبًا للتخفيف وإيثارًا للاختصار أو للشك في ثبوته أو ورعًا، حيث علم أن المرويّ بالمعنى فيه خلاف، وفي بعض الأحاديث قول الصحابي عن النبي ﷺ يرفعه، وهو في حكم قوله عن الله تعالى، ولو قال تابعيّ كنّا نفعل، فليس بمرفوع ولا بموقوف إن لم يضفه لزمن الصحابة، بل مقطوع. فإن أضافه لزمنهم احتمل الوقف، لأن الظاهر اطّلاعهم عليه وتقريرهم واحتمل عدمه لأن تقرير الصحابيّ قد لا ينسب إليه بخلاف تقريره ﷺ، وإذا أتى شيء عن صحابي موقوفًا عليه مما لا مجال للاجتهاد فيه كقول ابن مسعود: من أتى ساحرًا أو عرّافًا فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ، فحكمه الرفع تحسينًا للظن بالصحابة. قاله الحاكم.
والموصول ويسمى المتصل ما اتصل سنده رفعًا ووقفًا لا ما اتصل للتابعي، نعم يسوغ أن يقال متصل إلى سعيد بن المسيب أو إلى الزهري مثلًا.
والمرسل ما رفعه تابعي مطلقًا أو تابعي بكبير إلى النبي ﷺ، وهو ضعيف لا يحتج به عند الشافعي والجمهور، واحتج به أبو حنيفة ومالك وأحمد في المشهور عنه، فإن اعتضد بمجيئه من وجه آخر مسندًا أو مرسلًا آخر أخذ مرسله العلم عن غير رجال المرسل الأوّل، احتج به. ومن ثم احتج الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب، لأنها وجدت مسانيد من وجوه. أُخر. قال النووي: إنما اختلف
أصحابنا المتقدمون في معنى قول الشافعي إرسال سعيد بن المسيب عندنا حسن على قولين، أحدهما أنه حجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل لأنها وجدت مسندة، ثانيهما أنها ليست بحجة عنده بل كغيرها، وإنما رجح الشافعي بمرسله، والترجيح بالمرسل جائز. قال الخطيب: والصواب الثاني.
وأما الأول فليس بشيء لأن في مراسيل سعيد ما لم يوجد بحال من وجه يصح، وأما مرسل الصحابيّ كابن عباس وغيره من صغار الصحابة عنه ﷺ مما لم يسمعوه منه فهو حجة، وإذا تعارض الوصل والإرسال بأن تختلف الثقات في حديث فيرويه بعضهم متصلًا وآخر مرسلًا، كحديث "لا نكاح إلا بولي" رواه إسرائيل وجماعة عن أبي إسحق السبيعي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي ﷺ. ورواه الثوري وشعبة عن أبي إسحق عن أبي بردة عن النبي ﷺ، فقيل الحكم للمسند إذا كان عدلًا ضابطًا، قال الخطيب وهو الصحيح، وسئل عنه البخاري فحكم لمن وصل، وقال الزيادة من الثقة مقبولة، هذا مع أن المرسل شعبة وسفيان ودرجتهما من الحفظ والإتقان معلومة، وقيل الحكم للأكثر، وقيل للأحفظ، وإذا قلنا به وكان المرسل الأحفظ فلا يقدح في عدالة الواصل وأهليته على الصحيح، وإذا تعارض الرفع والوقف بأن يرفع ثقة حديثًا وقفه ثقة غيره، فالحكم للرافع لأنه مثبت وغيره ساكت، ولو كان نافيًا، فالمثبت مقدّم وتقبل زيادة الثقات مطلقًا على الصحيح، سواء كانت من شخص واحد، بأن رواه مرّة ناقصًا ومرّة أخرى وفيه تلك الزيادة، أو كانت الزيادة من غير من رواه ناقصًا، وقيل بل مردودة مطلقًا، وقيل مردودة منه مقبولة من غيره، وقال الأصوليون إن اتحد المجلس ولم يحتمل غفلته عن تلك الزيادة غالبًا ردّت، وإن احتمل قبلت عند الجمهور، وإن جهل تعدد المجلس، فأولى بالقبول من صورة اتحاده، وإن تعددت يقينًا قبلت اتفافًا.
1 / 9
والمقطوع ما جاء عن تابعي من قوله أو فعله موقوفًا عليه وليس بحجة.
والمنقطع ما سقط من رواته واحد قبل الصحابيّ، وكذا من مكانين وأكثر، بحيث لا يزيد كل ما سقط منها على راوٍ واحد.
والمعضل ما سقط من رواته قبل الصحابيّ اثنان فأكثر، مع التوالي، كقول مالك قال رسول الله ﷺ، ولعدم التقيد باثنين، قال ابن الصلاح إن قول المصنفين قال رسول الله ﷺ من قبيل المعضل، ومنه أيضًا حذف لفظ النبي والصحاب معًا، ووقف المتن على التابعي، كقول الأعمش عن الشعبي "يقال للرجل يوم القيامة عملت كذا وكذا فيقول ما عملته فتنطق جوارحه" الحديث.
والمعنعن الذي قيل فيه فلان عن فلان، من غير لفظ صريح بالسماع أو التحديث أو الإخبار أتى عن رواة مسمين معروفين موصول عند الجمهور، بشرط ثبوت لقاء المعنعنين بعضهم بعضًا ولو مرة، وعدم التدليس من المعنعن، لكن في شرطية ثبوت اللقاء بينهما. وكذا طول الصحبة ومعرفة الرواية للمعنعن عن المعنعن عنه خلف، صرح باشتراط اللقاء علي بن المديني وعليه البخاري، وجعلاه شرطًا في أصل الصحة، وعزاه النووي للمحققين، وهو مقتضى كلام الشافعي، ولم يشترطه مسلم بل أنكر اشتراطه في مقدمة صحيحه، وادّعى أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه.
والمؤنن قول الراوي حدثنا فلان أن فلانًا قال، وهو كعن في اللقاء والمجالسة والسماع مع السلامة من التدليس.
والمعلق ما حذف من أوّل إسناده لا وسطه، مأخوذ من تعليق الجدار لقطع اتصاله، وسبق ويأتي حكمه إن شاء الله تعالى في الفصل التالي بعون الله سبحانه.
والمدلس بفتح اللام المشددة ثلاثة:
أحدها، أن يسقط اسم شيخه ويرتقي إلى شيخ شيخه أو من فوقه، فيسند عنه ذلك بلفظ لا يقتضي الاتصال، بل بلفظ موهم له، فلا يقول أخبرنا وما في معناها، بل يقول عن فلان أو قال فلان أو أن فلانًا، موهما بذلك أنه سمعه ممّن رواه عنه، وإنما يكون تدليسًا إذا كان المدلس قد عاصر الذي روى عنه أو لقيه ولم يسمع منه أو سمع منه ولم يسمع ذلك الذي دلسه عنه، فلا يقبل ممن عرف بذلك إلا ما صرح فيه بالاتصال، كسمعت. وفي الصحيحين من حديث أهل هذا القسم المصرح فيه بالسمع كثير، كالأعمش والثوري وما فيهما من حديثهم بالعنعنة ونحوها، محمول على ثبوت السماع عند المخرج من وجه آخر، ولو لم نطلع عليه تحسينًا للظن بصاحبي الصحيح.
ثانيها، تدليس التسوية بأن يسقط ضعيفًا بين شيخيهما الثقتين، فيستوي الإسناد كله ثقات، وهو شر التدليس، وكان بقية بن الوليد أفعل الناس له.
ثالثها، تدليس الشيوخ، بأن يسمي شيخه الذي سمع منه بغير اسمه المعروف، أو ينسبه أو يصفه بما لم يشتهر به تعمية، كيلا يعرف، وهو جائز لقصد تيقظ الطالب واختباره ليبحث عن الرواة.
والمدرج كلام يذكر عقب الحديث متصلًا، يوهم أنه منه، أو يكون عنده متنان بإسنادين فيرويهما بأحدهما، كرواية سعيد بن أبي مريم "لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تنافسوا" أدرج ابن أبي مريم ولا تنافسوا من متن آخر. أو يسمع حديثًا من جماعة مختلفين في إسناده أو متنه فيرويه عنهم على الاتفاق، أو يسوق الإسناد فيعرض له عارض فيقول كلامًا من قبل نفسه، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام من متن الحديث فيرويه عنه كذلك، ويكون في المتن تارة في أوّله كحديث أبي هريرة "أسبغوا الوضوء فإن أبا القاسم ﷺ قال ويل للأعقاب من النار" فأسبغوا، من قول أبي هريرة والباقي مرفوع. ويكون أيضًا في أثنائه وفي آخره وهو الأكثر، كحديث ابن مسعود أنه ﷺ علّمه التشهد في الصلاة، فقال التحيات لله الخ. أدرج فيه أبو خيثمة. زهير بن معاوية أحد رواته عن الحسن بن الحر هنا كلامًا لابن مسعود، وهو فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد.
والعالي خمسة: المطلق، وهو القرب من رسول الله ﷺ بعدد قليل بالنسبة إلى سند آخر يرد بذلك الحديث بعينه بعدد كثير، أو بالنسبة لمطلب الأسانيد والقرب من إمام من أئمة الحديث ذي
صفة عالية كالحفظ والضبط كمالك والشافعي، والقرب بالنسبة لرواية الشيخين وأصحاب
1 / 10
السنن والعلو بتقدم وفاة الراوي، سواء كان سماعه مع متأخر الوفاة في آن واحد أو قبله، والعلوّ بتقدّم السماع، فمن تقدم سماعه من شيخ أعلى ممن سمع من ذلك الشيخ نفسه بعده.
والنازل كالعالي بالنسبة إلى ضد الأقسام العالية.
والمسلسل ما ورد بحالة واحدة في الرواة أو الرواية وأصحها قراءة سورة الصف.
والغريب ما انفرد راوٍ بروايته أو برواية زيادة فيه عمّن يجمع حديثه كالزهري أحد الحفاظ في المتن أو السند، وينقسم إلى غريب صحيح كالأفراد المخرجة في الصحيحين، وإلى غريب ضعيف وهو الغالب على الغرائب، وإلى غريب حسن. وفي جامع الترمذي منه كثير.
والعزيز ما انفرد بروايته اثنان أو ثلاثة دون سائر رواة الحافظ المروي عنه.
والمعلل ولا يقال المعلول، خبر ظاهره السلامة لجمعه شروط الصحة، لكن فيه علة خفية فيها غموض تظهر للنقاد أطباء السنة الحاذقين بعللها عند جمع طرق الحديث والفحص عنها، كمخالفة راوي ذلك الحديث لغيره ممّن هو أحفظ وأضبط وأكثر عددًا وتفرّده وعدم المتابعة عليه، مع قرائن تنبّه على وهمه في وصل مرسل أو رفع موقوف أو إدراج حديث في حديث، أو لفظة أو جملة ليست من الحديث أدرجها فيه، أو وهم بإبدال راوٍ ضعيف بثقة، ويقع في الإسناد والمتن، فالأوّل كحديث يعلى بن عبيد عن الثوري عن عمرو بن دينار "البيعان بالخيار" صرح النقاد بأن يعلى غلط إنما هو عبد الله بن دينار لا عمرو بن دينار، وشذّ بذلك عن سائر أصحاب الثوري، وسبب الاشتباه اتفاقهما في اسم الأب وفي غير واحد من الشيوخ، وتقاربهما في الوفاة. وأما علة المتن فكحديث مسلم من جهة الأوزاعي عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس أنه حدّثه أنه قال صلّيت خلف النبي ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أوّل قراءة ولا في آخرها، فقد أعلّ الشافعي ﵁ وغيره هذه الزيادة التي فيها عدم البسملة، بأن سبعة أو ثمانية خالفوا في ذلك واتفقوا على الاستفتاح بالحمد لله رب العالمين، ولم يذكروا البسملة. والمعنى أنهم يبدؤون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنهم يتركون البسملة. وحينئذ فكأن بعض رواته فهم من الاستفتاح نفي البسملة، فصرّح بما فهمه وهو مخطىء في ذلك. ويتأيد بما صح عن أنس أنه سئل أكان النبي ﷺ يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم، فقال للسائل إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك، على أن قتادة ولد أكمه وكاتبه لم يعرف، وهذا أهم في التعليل، وهذا من أغمض أنواع علوم الحديث وأدقها ولا يقوم به إلا ذو فهم ثاقب وحفظ واسع ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية
بالأسانيد والمتون، وقد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة على دعواه كالصيرفيّ في نقد الدينار والدرهم.
والفرد يكون مطلقًا بأن ينفرد الراوي الواحد عن كل واحد من الثقات وغيرهم، ويكون بالنسبة إلى صفة خاصة، وهو أنواع: ما قيد بثقة، كقول القائل في حديث قراءته ﷺ في الأضحى والفطر بقاف واقتربت، لم يروه ثقة إلا ضمرة بن سعيد، فقد انفرد به عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد الليثي صحابيه، أو ببلد معين كمكة والبصرة والكوفة. كقول القائل في حديث أبي سعيد الخدري المروي عند أبي داود في كتابيه السنن، والتفرد، عن أبي الوليد الطيالسي عن همام عن قتادة عن أبي نضرة عنه، أمرنا رسول الله ﷺ أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر. لم يرو هذا الحديث غير أهل البصرة. قال الحاكم إنهم تفردوا بذكر الأمر فيه من أول الإسناد الخ، ولم يشركهم في لفظه سواهم. وكذا قال في حديث عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي ﷺ أن قوله ومسح رأسه بماء غير فضل يده، سنّة غريبة تفرّد بها أهل مصر لم يشركهم أحد. ولا يقتضي شيء من ذلك ضعفه إلا أن يراد تفرّد واحد من أهل البصرة، فيكون من الفرد المطلق. والثالث ما قيد براوٍ مخصوص حيث لم يروه عن فلان إلا فلان، كقول أبي الفضل بن طاهر عقب الحديث المروي في السنن الأربعة من طريق سفيان
1 / 11
بن عيينة عن وائل بن داود عن ولده بكر بن وائل عن الزهري عن أنس، أن النبي أولم على صفية بسويق وتمر. لم يروه عن بكر إلا وائل، ولم يروه عن وائل غير ابن عيينة فهو غريب.
وكذا قال الترمذي إنه حسن غريب. قال وقد رواه غير واحد عن ابن عيينة عن الزهريّ يعني بدون وائل وولده، قال وكان ابن عيينة ربما دلسهما، والحكم بالتفرّد يكون بعد تتبّع طرق الحديث الذي يظن أنه فرد هل شارك راويه آخر أم لا، فإن وجد بعد كونه فردًا أن راويًا آخر ممن يصلح أن يخرج حديثه للاعتبار والاستشهاد به وافقه، فإن كان التوافق باللفظ سمي متابعًا، وإن كان بالمعنى سمي شاهدًا، وإن لم يوجد من وجه بلفظه أو بمعناه فإنه يتحقق فيه التفرّد المطلق حينئذ. ومظنة معرفة الطرق التي يحصل بها المتابعات والشواهد وتنتفي بها الفردية الكتب المصنفة في الأطراف، وقد مثل ابن حبان لكيفية الاعتبار بأن يروي حماد بن سلمة حديثًا لم يتابع عليه عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ، فينظر هل روى ذلك ثقة غير أيوب عن ابن سيرين، فإن وجد علم به أن للحديث أصلًا يرجع إليه، وإن لم يوجد ذلك فثقة غير ابن سيرين، رواه عن أبي هريرة، وإلا فصحابي غير أبي هريرة رواه عن النبي ﷺ، فأي ذلك وجد علم به أن للحديث أصلًا يرجع إليه، وإلا فلا. وكما أنه لا انحصار للمتابعات في الثقة كذلك الشواهد، فيدخل فيهما رواية من لا يحتج بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضعفاء، وفي البخاري ومسلم جماعة من الضعفاء ذكراهم في المتابعات والشواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك. وكذا قال الدارقطني فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. وقال النووي في شرح مسلم "وإنما يدخلون الضعفاء لكون التابع لا اعتماد عليه وإنما الاعتماد على من قبله " اهـ.
قال شيخنا ولا انحصار له في هذا، بل قد يكون كلٌّ من المتابع والمتابع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوة، ومثال المتابع والشاهد ما رواه الشافعي في الأم عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه. فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". فإنه في جميع الموطآت عن مالك بهذا السند بلفظ فإن غمّ عليكم فاقدروا له. وأشار البيهقي إلى أن الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك فنظرنا فإذا البخاري روى الحديث في صحيحه، فقال حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي حدّثنا مالك به بلفظ الشافعي سواء، فهذه متابعة تامة في غاية الصحة لرواية الشافعي، ودلّ هذا على أن مالكًا رواه عن عبد الله بن دينار باللفظين معًا وقد توبع فيه عبد الله بن دينار من وجهين عن ابن عمر، أحدهما أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة عن عبيد الله بن عمر عن نافع، فذكر الحديث، وفي آخره فإن غمّ عليكم فاقدروا ثلاثين. والثاني أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن جدّه ابن عمر بلفظ فإن غمّ عليكم فكملوا ثلاثين. فهذه متابعة لكنها ناقصة، وله شاهدان أحدهما من حديث أبي هريرة رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة بلفظ فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين. وثانيهما من حديث ابن عباس، أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس بلفظ حدّثنا ابن دينار عن ابن عمر سواء. وإنما أطلت الكلام في هذا لكثرة ما في البخاري منه والله سبحانه الموفق والمعين.
والشاذ ما خالف الراوي الثقة فيه جماعة الثقات بزيادة أو نقص فيظن أنه وهم فيه. قال ابن الصلاح الصحيح التفصيل، فما خالف فيه المنفرد من هو أحفظ وأضبط فشاذ مردود، وإن لم يخالف بل روى شيئًا لم يروه غيره وهو عدل فصحيح أو غير ضابط، ولا يبعد عن درجة الضابط فحسن، وإن بعد فشاذ منكر. ويكون الشذوذ في السند كرواية الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس ﵄، أن رجلًا توفي على عهد رسول الله ﷺ ولم يدع وارثًا إلى مولى هو أعتقه الحديث. فإن حماد
1 / 12
بن زيد رواه عن عمرو مرسلًا بدون ابن عباس، لكن قد تابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره. ويكون في المتن كزيادة يوم عرفة في حديث "أيام التشريق أيام أكل وشرب" فإن الحديث من جميع طرقه بدونها، وإنما جاء بها موسى بن علي (بالتصغير) ابن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر، كما أشار إليه ابن عبد البر. على أنه قد صحح حديث موسى هذا ابنا خزيمة وحبان والحاكم، وقال على شرط مسلم، وقال الترمذي حسن صحيح. وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة.
والمنكر الذي لا يعرف متنه من غير جهة راويه فلا متابع له ولا شاهد، قاله البرديجي. والصواب التفصيل الذي ذكره ابن الصلاح في الشاذ، فمثال ما انفرد به ثقة يحمل تفرّده حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد ﵄ رفعه
"لا يرث المسلم الكافر" فإن مالكًا خالف في تسمية راويه عمر بضم العين، غيره، حيث هو عندهم عمرو بفتحها. وقطع مسلم وغيره على مالك بالوهم فيه. ومثال ما انفرد به ثقة لا يحمل تفرده حديث أبي ذكير يحيى بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعًا: كلوا البلح بالتمر. الحديث تفرد به أبو ذكير وهو شيخ صالح أخرج له مسلم في صحيحه، غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحمل تفرده، وقد ضعفه ابن معين وابن حبان، وقال ابن عدي أحاديثه مستقيمة سوى أربعة عدّ منها هذا.
والمضطرب ما روي على أوجه مختلفة متدافعة على التساوي في الاختلاف من راوٍ واحد، بأن رواه مرة على وجه وأخرى على آخر مخالف له، أو رواه أكثر بأن يضطرب فيه راويان فأكثر، ويكون في سند رواته ثقات، كحديثًا "شيبتني هود وأخواتها"، فإنه اختلف فيه على أبي إسحق، فقيل عنه عن عكرمة عن أبي بكر، ومنهم من زاد بينهما ابن عباس، وقيل عنه عن أبي جحيفة عن أبي بكر، وقيل عنه عن البراء عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي ميسرة عن أبي بكر، وقيل عنه عن مسروق عن عائشة عن أبي بكر، وقيل عنه عن علقمة عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر، وقيل عنه عن عامر بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن مصعب بن سعد عن أبيه عن أبي بكر، وقيل عنه عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. وقد يكون الاضطراب في المتن، وقل أن يوجد مثال سالم له كحديث نفي البسملة، حيث زال الاضطراب عنه بحمل نفي القراءة على نفي السماع، ونفي السماع على نفي الجهر كما قرر في موضعه من المطوّلات. ثم إن الاضطراب سواء كان في السند أو في المتن موجب للضعف لإشعاره بعدم ضبط الراوي.
والموضوع هو الكذب على رسول الله ﷺ، ويسمى المختلق الموضوع، وتحرم روايته مع العلم به إلا مبينًا، والعمل به مطلقًا وسببه نسيان أو افتراء أو نحوهما، ويعرف بإقرار واضعه أو قرينة في الراوي والروي، فقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها. وروينا عن الربيع بن خيثم التابعي الجليل أنه قال إن للحديث ضوءًا كضوء النهار يعرف، وظلمة كظلمة الليل تنكر.
والمقلوب كحديث متنه مشهور براو كسالم أبدل بواحد من الرواة نظيره في الطبقة كنافع ليرغب فيه لغرابته، أو قلب سند لمتن آخر مروي بسند آخر بقصد امتحان حفظ المحدث، كقلب أهل بغداد على البخاري رحمه الله تعالى مائة حديث امتحانًا، فردّها على وجوهها كما سيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمته.
والمركب كإبدال نحو سالم بنافع كما مر، أو الذي ركب إسناده لمتن آخر ومتنه لإسناد متن آخر.
والمنقلب الذي ينقلب بعض لفظه على الراوي فيتغير معناه، كحديث البخاري في باب أن رحمة الله قريب من المحسنين عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة ﵁ رفعه،
"اختصمت الجنة والنار إلى ربّهما" الحديث. وفيه أنه ينشىء للنار خلقًا صوابه كما رواه في موضع آخر من طريق عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة بلفظ، فأما الجنة فينشىء الله لها خلقًا، فسبق لفظ الراوي من الجنة إلى النار، وصار منقلبًا. ولذا جزم ابن القيم بأنه غلط، ومال إليه البلقيني حيث أنكر هذه الرواية، واحتج بقوله ولا يظلم ربك أحدًا.
والمدبج
1 / 13
بالموحدة والجيم رواية القرينين التقاربين في السن والإسناد، أحدهما عن الآخر، كرواية كلٌّ من أبي هريرة وعائشة عن الآخر، وكرواية التابعي عن تابعي مثله كالزهري وعمر بن عبد العزيز وكذا من دونهما.
والمصحف الذي تغير بنقط الحروف أو حركاتها أو سكناتها، كحديث جابر رمي أُبيّ يوم الأحزاب على أكحله، صحفه غندر فقال أبي بالإضافة، وإنما هو أُبيّ بن كعب وأبو جابر استشهد قبل ذلك في أُحُد.
والناسخ والمنسوخ ويعرف النسخ بتنصيص الشارع عليه كحديث بريدة "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" أو بجزم الصحابي بالتأخر كقول جابر في السنن، كان آخر الأمرين من النبي ﷺ ترك الوضوء مما مسّت النار أو بالتاريخ، فإن لم يعرف فإن أمكن ترجيح أحدهما بوجه من وجوه الترجيح متنًا أو إسنادًا لكثرة الرواة وصفاتهم تعين المصير إليه، وإلا فيجمع بينهما، فإن لم يمكن يوقف عن العمل بأحدهما.
والمختلف أن يوجد حديثان متضادان في المعنى بحسب الظاهر، فيجمع بما ينفي التضاد، كحديث "لا عدوى ولا طيرة" مع حديث "فرّ من المجذوم" وقد جمع بينهما بأن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها، ولكن جعل الله تعالى مخالطة المريض للصحيح سببًا لإعدائه وقد يتخلف.
ومن الأنواع رواية الآباء عن الأبناء، وهو كرواية الأكابر عن الأصاغر، ورواية الأبناء عن الآباء، ويدخل في رواية الابن عن أبيه عن جدّه، وأكثر ما انتهت الآباء فيه إلى أربعة عشر أبًا، والسابق اللاحق وهو من اشترك في الرواية عنه راويان متقدم ومتأخر تباين وقت وفاتيهما تباينًا شديدًا فحصل بينهما أمر بعيد، وإن كان المتأخر غير معدود من معاصري الأوّل ومن طبقته. ومن أمثلة ذلك أن البخاري حدث عن تلميذه أبي العباس السراج بأشياء في التاريخ وغيره، ومات سنة ست وخمسين ومائتين، وآخر مَن حدّث عن السراج بالسماع أبو الحسين الخفات ومات سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة، ومنه أن الحافظ السلفي سمع منه أبو عليّ البرداني أحد مشايخه حديثًا رواه عنه ومات على رأس الخمسمائة، ثم كان آخر أصحابه بالسماع سبطه أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي، وكانت وفاته سنة خمسين وستمائة.
ومن فوائده تقرير حلاوة الإسناد في القلوب والإخوة والأخوات، فمن أمثلة الاثنين هشام وعمرو ابنا العاصي وزيد ويزيد ابنا ثابت، ومن الثلاثة سهل وعباد وعثمان بنو حنيف بالتصغير،
ومن الأربعة سهيل وعبد الله الذي يقال له عباد ومحمد وصالح بنو أبي صالح ذكوان السمان، وفي الصحابة عائشة وأسماء وعبد الرحمن ومحمد بنو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، وأربعة ولدوا في بطن وكانوا علماء وهم محمد وعمر وإسماعيل، ومن لم يسمّ بنو أبي إسماعيل السلمي، ومن الخمسة الرواة سفيان وآدم وعمران ومحمد وإبراهيم بنو عيينة، ومن الستة محمد وأنس ويحيى ومعبد وحفصة وكريمة أولاد سيرين وكلهم من التابعين. من لم يرو عنه إلا واحد كرواية الحسن البصري عن عمرو بن تغلب في صحيح البخاري، فإن عمرًا لم يرو عنه غير الحسن قاله مسلم والحاكم، من له أسماء مختلفة ونعوت متعددة وفائدته الأمن من جعل الواحد اثنين، وتوثيق الضعيف وتضعيف الثقة والاطلاع على صنيع المرسلين، ومن أمثلته محمد بن السائب الكلبي المفسّر هو أبو النضر الذي روى عنه ابن إسحق وهو حماد بن السائب الذي روى عنه أبو أسامة، وهو أبو سعيد الذي يروي عنه عطية العوفي موهمًا أنه الخدري، وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد، والمفردات من الأسماء فمن الصحابة سندر بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة آخره راء، وكلدة بالدال المهملة، وفتحات ابن الحنبل بمهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة فموحدة فلام، ووابصة بموحدة مكسورة فمهملة ابن معبد. ومن غير الصحابة تدوم بفوقية مفتوحة ودال مهملة مضمومة ابن صبح، أو بالتصغير الحميري وسعير بالمهملتين مصغرًا ابن الخمس بكسر الخاء المعجمة وسكون الميم بعدها مهملة، والمفردات من الألقاب سفينة مولى رسول الله ﷺ. ومن غير الصحابة مندل بن علي العنزي واسمه فيما قيل
1 / 14
عمرو، ومشكدانة بضم أوّله وثالثه وبعد الميم شين معجمة وهي وعاء المسك. ومن الكنى أبو العبيد بضم المهملة ثم موحدة مفتوحة تصغير عبد، وأبو العشراء بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة الدارمي، ومن الأنساب اللبقيّ بفتح اللام والموحدة وكسر القاف علي بن سلمة. والكنى تسعة أقسام كنية لصاحب كنية أخرى غيرها ولا اسم له غيرها، أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحرث أحد الفقهاء السبعة كنيته أبو عبد الرحمن، أو تكون الكنية اسمه ولا كنية له كأبي بلال الأشعريّ بن شريك، أو تكون الكنية لقبًا وله اسم وتكنية غيرها كأبي تراب لعليّ بن أبي طالب أبي الحسن، وأبي الزناد لعبد الله ين ذكوان أبي عبد الرحمن. أو يكون له كنية أخرى غيرها أو أكثر من غير سبب لذلك. فمن أمثلة ذلك ذو الكنيتين عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج يكنى أبا خالد وأبا الوليد، ومن الثلاثة منصور الفراوي يكنى أبا بكر وأبا الفتح وأبا القاسم، وكان يقال له ذو الكنى، أو تكون كنيته لا خلاف فيها وفي اسمه اختلاف كأبي بصرة الغفاري، قيل في اسمه جميل بفتح الجيم، وقيل بالحاء المهملة المضمومة وفتح الميم وهو الأصح، أو يكون مختلفًا في كنيته دون اسمه كأبيّ بن كعب، قيل في كنيته أبو المنذر وقيل أبو الطفيل، أو يكون في كلٍّ من اسمه وكنيته خلف كسفينة مو رسول الله ﷺ وهو لقب، وقيل في اسمه صالح، وقيل عمير، وقيل مهران، وكنيته قيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو البحتري، أو اتفقا عليهما معًا كأبي عبد الله مالك بن أنس، أو يكون بكنيته أشهر منه باسمه كأبي إدريس الخولانيّ اسمه عائذ الله.
وفائدة هذا النوع البيان، فربما ذكر الراوي مرة بكنيته ومرة باسمه فيتوهم التعدّد مع كونهما واحدًا، والألقاب نوع مهم قد تأتي في سياق الأسانيد مجردة عن الأسماء فيظن أنها أسماء فيجعل ما ذكر باسمه في موضع وبلقبه في موضع آخر شخصين، والذي في البخاري منه: الأحول عامر بن سليمان، الأزرق إسحق بن يوسف، الأعرج عبد الرحمن بن هرمز، الأعمش سليمان بن مهران، الأغر أبو عبد الله سلمان، الباقر محمد بن علي بن حسين أبو جعفر، الحبر عبد الله بن عباس، البطين مسلم بن عمران، بندار محمد بن بشار، البهيّ عبد الله بن بشار، الحذاء خالد بن مهران، ختن المقري بكر بن خلف، دحيم عبد الرحمن بن إبراهيم. ذو البطن أسامة بن زيد، ذو اليدين الخرباق، الرشك يزيد الضبعي، سعدان اللخميّ سعيد بن يحيى بن صالح، سلمويه سليمان بن صالح المروزي، سنيد مصغرًا اسمه الحسين، شاذان الأسود بن عامر، عارم محمد بن الفضل السدوسي، عبدان عبد الله بن عثمان، عبدة بن سليمان اسمه عبد الرحمن، عبيد بن إسماعيل هو عبيد الله، عويمر أبو الدرداء اسمه عامر، غندر محمد بن جعفر، فليح بن سليمان قيل اسمه عبد الملك، قتيبة بن سعيد قيل اسمه يحيى، كاتب المغيرة اسمه وراد، الماجشون أبو سلمة، مسدد اسمه عبد الملك، النبيل أبو عاصم الضحاك بن مخلد أبو الزناد لقب وكنيته أبو عبد الرحمن، ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق ﵄.
والأنساب معرفتها مهمة فكثيرًا ما يكون نسبه لقبيلة أو بطن أو جدّ أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك مما أكثره مجهول عند العامة معلوم عند الخاصة، فربما يقع في كثير منه التصحيف ويكثر الغلط والتحريف، والذي في البخاري منها: الأشجعي عبيد الله بن عبد الرحمن، الأويسي عبد العزيز بن عبد الله، الأنصاري شيخ البخاري محمد بن عبد الله بن المثنى، البدري أبو مسعود عقبة بن عمرو، البراء أبو العالية نسب إلى بري السهام، التيمي سليمان، الثقفي عبد الوهاب بن محمد بن عبد المجيد، الزبيدي محمد بن الوليد، الزبيري أبو أحمد محمد بن عبد الله الأسدي، الزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، السبيعي عمرو بن عبد الله أبو إسحق، السعيدي عمرو بن يحيى بن سعيد، الشعبي عامر بن شراحيل، الشيباني أبو إسحق سليمان بن أبي سليمان، الصنابحي عبد الرحمن بن عسيلة، العدني عبد الله بن الوليد، العقدي عبد الملك بن عمرو أبو عامر، العمري
1 / 15
عبيد الله بن عمر بن حفص، الفروي إسحق بن محمد، الفريابي محمد بن يوسف، الفزاري أبو إسحق إبراهيم بن محمد الدمشقي، القمي هو يعقوب بن عبد الله له موضع واحد في الطب، المجمر نعيم بن عبد الله، المحاربي عبد الله بن محمد، المسعودي اسمه عبد الرحمن بن عبد الله، المعمري أبو سفيان محمد بن حميد، المقبري أبو سعيد كيسان وابنه سعيد، المقدمي محمد بن أبي بكر، المقري أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، الملائي أبو نعيم الفضل بن دكين.
ومن الرواة من نسب إلى غير أبيه كيعلى ابن مية نسب إلى جدّته واسم أبيه أمية، ومعاذ ومعوذ
وعوذ بنو عفراء هي أمهم وأبوهم الحرث بن رفاعة، وعبد الله ابن بحينة هي أمه وأبوه مالك، وعبد الله بن أُبي ابن سلول هي أم أُبيّ، ومنهم من نسب إلى زوج أمه كالمقداد بن الأسود. وقد ينسب الراوي إلى نسبة يكون الصواب خلاف ظاهرها كأبي مسعود عقبة بن عمرو البدري، إذ إنه لم ينسب لشهوده بدرًا في قول الجمهور وإن عدّه البخاري فيمن شهدها، بل كان ساكنًا بها، وكسليمان بن طرخان التيمي ليس من تيم بل نزل بها.
وأما المبهمات في الحديث وتكون في الإسناد والمتن من الرجال والنساء، ويتوصل لمعرفتها بجمع طرق الحديث غالبًا. مثاله في السند إبراهيم بن أبي عبلة عن رجل عن واثلة، فالرجل هو الغريق بفتح الغين المعجمة، وفي المتن حديث أبي سعيد الخدري في ناس من أصحاب النبي ﷺ مرّوا بحيّ فلم يضيفوهم فلدغ سيدهم فرقاه رجل منهم، الراقي هو أبو سعيد الراوي المذكور. وما في البخاري من هذا النوع يأتي مفسرًا في مواضعه من هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعون الله تعالى.
المؤتلف والمختلف وهو ما تتفق صورته خطأ وتختلف صفته لفظًا وهو مما يقبح جهله بأهل الحديث، ومنه في البخاري الأحنف بالحاء المهملة والنون، وبالخاء المعجمة والمثناة التحتية، مكرز بن حفص بن الأحنف، له ذكر في الحديث الطويل في قصة الحديبية. وبشار بالموحدة والمعجمة المشدّدة والد بندار شيخ البخاري والجماعة، وبقية من فيه بهذه الصورة بالتحتية والسين المهملة المخففة وبتقديم السين وتثقيل التحتية أبو المنهال سيار بن سلامة التابعي، إلى غير ذلك مما لا نطيل بسرده لا سيما مع الاستغناء بذكره في هذا الشرح إن شاء الله تعالى بعونه. وإذا علم هذا فليعلم أن شرط الراوي للحديث أن يكون مكلفًا عدلًا متقنًا ويعرف إتقانه بموافقة الثقات، ولا تضرّ مخالفته النادرة، ويقبل الجرح إن بان سببه للاختلاف فيما يوجب الجرح بخلاف التعديل فلا يشترط، ورواية العدل عمن سماه لا تكون تعديلًا، وقيل إن كانت عادته أن لا يروي إلا عن عدل كالشيخين فتعديل وإلا فلا، ولا يقبل مجهول العدالة وكذا مجهول العين الذي لم تعرفه العلماء، وترفع الجهالة عنه رواية اثنين مشهورين بالعلم. والصحابة كلهم عدول، وقبل المستور قوم ورجحه ابن الصلاح. ولا يقبل حديث مبهم ما لم يسمّ إذ شرط قبول الخبر عدالة ناقله، ومن أبهم اسمه لا تعرف عينه فكيف تعرف عدالته ولا يقبل من به بدعة كفر، أو يدعو إلى بدعة، وإلا قبل لاحتجاج البخاري وغيره بكثير من المبتدعين غير الدعاة، ويقبل التائب. وينبغي أن يعرف من اختلط من الثقات في آخر عمره لفساد عقله وخرفه ليتميز من سمع منه قبل ذلك فيقبل حديثه أو بعده فيرد، ومن روى عنه منهم في الصحيحين محمول على السلامة، وقد أعرضوا عن اعتبار هذه الشروط في زماننا لإبقاء سلسلة الإسناد فيعتبر البلوغ والعقل والستر والإتقان ونحوه. ولألفاظ التعديل مراتب أعلاها ثقة أو متقن أو ضابط أو حجة، ثانيها خير صدوق مأمون لا بأس به وهؤلاء يكتب حديثهم، ثالثها شيخ وهذا يكتب حديثه للاعتبار، رابعها صالح الحديث فيكتب وينظر فيه. ولألفاظ التجريح مراتب أيضًا أدناها لين الحديث يكتب وينظر اعتبارًا، ثانيها ليس بقوي وليس بذاك، ثالثها مقارب الحديث أي
رديئه، رابعها متروك الحديث وكذاب ووضاع ودجال وواهٍ وواه بمرّة بموحدة مكسورة فميم مفتوحة وراء مشددة أي قولًا واحدًا لا تردّد فيه، وهؤلاء ساقطون لا يكتب
1 / 16
عنهم، وفي رواية من أخذ على الحديث (يعني أجرة) تردّد. وفي المتساهل في سماعه وإسماعه كمن لا يبالي بالنوم فيه، أو يحدّث لا من أصل مصحح، أو كثير السهو في روايته إن حدّث من غير أصل، أو أكثر الشواذ والمناكير في حديثه، ومن غلط في حديثه فبيّن له وأصرّ عنادًا ونحوه سقطت روايته، ويستحب الاعتناء بضبط الحديث وتحقيقه نقطًا وشكلًا وإيضاحًا من غير مشق ولا تعليق بحيث يؤمن معه اللبس أو إنما يشكل المشكل ولا يشتغل بتقييد الواضح. وصوَّب عياض شكل الكل للمبتدىء وغير المعرب، ورأى بعض مشايخنا الاقتصار في ضبط البخاري على رواية واحدة لا كما يفعله من ينسخ البخاري من نسخة الحافظ شرف الدين اليونينيّ، لما يقع في ذلك من الخلط الفاحش بسبب عدم التمييز ويتأكد ضبط الملبس من الأسماء، لأنه نقل محض لا مدخل للإفهام فيه، كبريد بضم الموحدة، فإنه يشتبه بيزيد بالتحتية فضبط ذلك أولى لأنه ليس قبله ولا بعده شيء يدل عليه، ولا مدخل للقياس فيه، وليقابل ما يكتبه بأصل شيخه أو بأصل أصل شيخه المقابل به أصل شيخه أو فرع مقابل بأصل السماع، وليعن بالتصحيح بأن يكتب صح على كلام صح رواية، ومعنى لكونه عرضة للشك أو الخلاف. وكذا بالتضبيب ويسمى التمريض بأن يمدّ خطًّا أوّله كرأس الصاد ولا يلصقه بالممدود عليه على ثابت نقلًا فاسد لفظًا أو معنىً أو ضعيف أو ناقص، ومن الناقص موضع الإرسال. وإذا كان للحديث إسنادان فأكثر كتب عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ح مفردة مهملة إشارة إلى التحويل من أحدهما إلى الآخر، ويأتي مبحثها إن شاء الله تعالى في أوائل الشرح. وإذا قرأ إسناد شيخه المحدّث أوّل الشروع وانتهى عطف عليه بقوله في أوّل الذي يليه، وبه قال حدثنا ليكون كأنه أسنده إلى صاحبه في كل حديث.
وأنواع التحمل أعلاها السماع من لفظ الشيخ سواء قرأ بنفسه أو قرأ غيره على الشيخ، وهو يسمع ويقول فيه عند الأداء أخبرنا، والأحوط الإفصاح. فإن قرأ بنفسه قال قرأت على فلان، وإلا قال قرىء على فلان وأنا أسمع. ثم الإجازة المقرونة بالمناولة بأن يدفع إليه الشيخ أصل سماعه أو فرعًا مقابلًا عليه، ويقول هذا سماعي أو روايتي عن فلان فاروه عني وأجزت لك روايته. ثم الإجازة وهي أنواع أعلاها لمعين كأجزتك البخاري مثلًاَ أو أجزت فلانًا الفلاني جميع فهرستي ونحوه، أو أجزته بجميع مسموعاتي أو مروياتي، أو أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي أو لأهل الإقليم الفلاني. ويقول المحدث بها أنبأنا أو أنبأني، ثم المكاتبة بأن يكتب مسموعه أو مقروءه جميعه أو بعضه لغائب أو حاضر بخطه أو بإذنه مقرونًا ذلك بالإجازة أولًا، ثم الإعلام بأن يقول له هذا الكتاب رويته أو سمعته مقتصرًا على ذلك من غير إذن، وهذه جوّزها كثير من الفقهاء والأصوليين منهم ابن جريج وابن الصباغ. ثم الوصية بأن يوصي الراوي عند موته أو سفره لشخص بكتاب يرويه، فجوّزه محمد بن سيرين وعلّله عياض بأنه نوع من الإذن، والصحيح عدم الجواز إلا إن كان
له من الموصي إجازة فتكون روايته بها لا بالوصية. ثم الوجادة بأن يقف على كتاب بخط يعرفه لشخص عاصره أولًا فيه أحاديث يرويها ذلك الشخص ولم يسمعها ذلك الواجد ولا له منه إجازة، فيقول وجدت أو قرأت بخط فلان كذا ثم يسوق الإسناد والمتن.
(تنبيه): وشرط صحة الإجازة أن تكون من عالم بالمجاز، والمجاز له من أهل العلم المجاز به صناعة، وعن ابن عبد البر الصحيح أن الإجازة لا تقبل إلا لماهر بالصناعة حاذق فيها يعرف كيف يتناولها، وما لا يشكل إسناده لكونه معروفًا معينًا وإن لم يكن كذلك لم يؤمن أن يحدث المجاز عن الشيخ بما ليس من حديثه أو ينقص من إسناده الرجل والرجلين، وقال ابن سيد الناس أقل مراتب المجيز أن يكون عالمًا بمعنى الإجازة العلم الإجمالي من أنه روى شيئًا، وأن معنى إجازته لذلك الغير في رواية ذلك الشيء عنه بطريق الإجازة المعهودة لا العلم التفصيليّ بما روى، وبما يتعلق بأحكام الإجازة. وهذا العلم الإجمالي حاصل فيما رأيناه من عوّام الرواة، فإن انحط راوٍ في الفهم عن هذه الدرجة، ولا إخال
1 / 17
أحدًا ينحط عن إدراك هذا إذا عرف به فلا أحسبه أهلًا لأن يتحمل عنه بإجازة ولا سماع، قال وهذا الذي أشبرت إليه من التوسع في الإجازة هو طريق الجمهور، قال شيخنا: وما عداه من التشديد فهو منافٍ لما جوّزت الإجازة له من بقاء السلسلة، نعم لا يشترط التأهل حين التحمل ولم يقل أحد بالأداء بدون شرط الرواية، وعليه يحمل قولهم أجزت له رواية كذا بشرطه، ومنه ثبوت المرويّ من حديث المجيز، وقال أبو مروان الطبنيّ أنها لا تحتاج لغير مقابلة نسخة بأصول الشيخ، وقال عياض: تصح بعد تصحيح روايات الشيخ ومسموعاته وتحقيقها وصحة مطابقة كتب الراوي لها والاعتماد على الأصول المصححة، وكتب بعضهم لمن علم منه التأهيل أجزت له الرواية عني، وهو لما علم من إتقانه وضبطه غنيّ عن تقييدي ذلك بشرطه انتهى. وليصلح النيّة في التحديث بحيث يكون مخلصًا لا يريد بذلك عرضًا دنيويًّا بعيدًا عن حب الرياسة ورعوناتها، وليقرأ الحديث بصوت حسن فصيح مرتل، ولا يسرطه سردًا لئلا يلتبس أو يمنع السامع من إدراك بعضه، وقد تسامح بعض الناس في ذلك وصار يعجل استعجالًا يمنع السامع من إدراك حروف كثيرة بل كلمات، والله تعالى بمنه وكرمه يهدينا سواء السبيل.
(لطيفة): أنبأني الحافظ نجم الدين ابن الحافظ تقيّ الدين وقاضي القضاة أبو المعالي محب الدين المكيان بها، والمحدّث العلامة ناصر الدين أبو الفرج المدني بها، قالوا: أخبرنا الإمام زين الدين بن الحسين وآخرون عن قاضي القضاة أبي عمر عبد العزيز عن قاضي القضاة بدر الدين الكنانيّ، قال: قرأت على الأستاذ أبي حيان محمد بن يوسف بن عليّ، قال حدّثنا الأستاذ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير، قال أبو عمرو منه إجازة، قال حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الأزدي، قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن حسن بن عطية ح، قال أبو حيان وأنبأنا الأصولي أبو الحسين ابن القاضي أبي عامر بن ربيع عن أبي الحسن أحمد بن عليّ الغافقي، قال أخبرنا عياض ح، قال أبو حيان وكتب لنا الخطيب أبو الحجاج يوسف بن أبي ركانة عن القاضي أبي القاسم
أحمد بن عبد الودود بن سمجون، قال وعياض أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، قال أخبرنا أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني، قال حدّثنا الحافظ عبد العزيز بن أحمد بن محمد الكناني الدمشقي، حدّثنا أبو عصمة نوح بن الفرغاني، قال: سمعت أبا المظفر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن قتّ الخزرجي وأبا بكر محمد بن عيسى البخاري، قال سمعنا أبا ذر عمار بن محمد بن مخلد التميمي يقول: سمعت أبا المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن الفضل البخاري يقول: "لما عزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمداني عن قضاء الريّ ورد بخارى سنة ثمان عشرة وثلاثمائة لتجديد مودة كانت بينه وبين أبي الفضل البلعمي فنزل في جوارنا، فحملني معلمي أبر إبراهيم إسحق بن إبراهيم الختلي إليه فقال له أسالك أن تحدث هذا الصبي عن مشايخك، فقال ما لي سماع، قال فكيف وأنت فقيه فما هذا، قال لأني لما بلغت مبلغ الرجال تاقت نفسي إلى معرفة الحديث ورواية الأخبار وسماعها، فقصدت محمد بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب التاريخ والمنظور إليه في علم الحديث، وأعلمته مرادي وسألته الإقبال على ذلك، فقال لي يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده والوقوف على مقاديره، فقلت عرّفني رحمك الله حدود ما قصدتك له ومقادير ما سألتك عنه، فقال لي: اعلم أن الرجل لا يصير محدّثًا كاملًا في حديثه إلاّ بعد أن يكتب أربعًا مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع، فإذا تمت له كلها كان عليه أربع، وابتلي بأربع، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع، وأثابه في الآخرة بأربع. قلت له فسّر لي رحمك الله ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات من قلب صافٍ بشرح كافٍ وبيان شافٍ طلبًا للأجر الوافي، فقال: نعم، الأربعة التي يحتاج إلى كتبها هي أخبار الرسول ﷺ وشرائعه والصحابة ﵃ ومقاديرهم
1 / 18
والتابعين وأحوالهم وسائر العلماء وتواريخهم مع أسماء رجالهم وكناهم وأمكنتهم وأزمنتهم، كالتحميد مع الخطب، والدعاء مع التوسّل، والبسملة مع السورة، والتكبير مع الصلوات. مثل المسندات والمرسلات والموقوفات والمقطوعات، في صغره وفي إدراكه وفي شبابه وفي كهولته، عند فراغه وعند شغله وعند فقره وعند غناه، بالجبال والبحار والبلدان والبراري، على الأحجار والأخزاف والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق، عمن هو فوقه وعمّن هو مثله وعمّن هو دونه. وعن كتاب أبيه يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره لوجه الله تعالى طلبًا لمرضاته، والعمل بما وافق كتاب الله ﷿ منها، ونشرها بين طالبيها ومحبّيها، والتأليف في إحياء ذكره بعده، ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع هي من كسب العبد أعني معرفة الكتابة واللغة والصرف والنحو، مع أربع هي من إعطاء الله تعالى، أعني القدرة والصحة والحرص والحفظ، فإذا تمت له هذه الأشياء كلها هان عليه أربع: الأهل والمال والولد والوطن، وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء وملامة الأصدقاء وطعن الجهلاء وحسد العلماء. فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله ﷿ في الدنيا بأربع: بعز القناعة وبهيبة النفس وبلذة العلم وبحياة الأبد. وأثابه في الآخرة بأربع: بالشفاعة لمن أراد من إخوانه، وبظل العرش يوم لا ظل إلا ظله، وبسقي من أراد من حوض نبيه ﷺ،
وبمجاورة النبيين في أعلى علييّن في الجنة، فقد أعلمتك يا بني مجملًا لجميع ما سمعت من مشايخي متفرقًا في هذا الباب، فأقبل الآن إلى ما قصدت إليه أو دع. فهالني قوله فسكت متفكرًا وأطرقت متأدبًا فلما رأى ذلك مني قال: وإن لم تطق حمل هذه المشاق كلها فعليك بالفقه يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارّ ساكن لا تحتاج إلى بُعد الأسفار ووطء الديار وركوب البحار، وهو مع ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقيه دون ثواب المحدّث في الآخرة، ولا عزه بأقل من عز المحدّث. فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث وأقبلت على دراسة الفقه وتعلمه إلى أن صرت فيه متقدّمًا، ووقفت منه على معرفة ما أمكنني من تعلمه بتوفيق الله تعالى ومنّته، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبيّ يا أبا إبراهيم. فقال له أبو إبراهيم إن هذا الحديث الواحد الذي لا يوجد عند غيرك خير للصبي من ألف حديث نجده عند غيرك. انتهى".
وقد قال الخطيب البغدادي الحافظ إن علم الحديث لا يعلق إلاّ بمن قصر نفسه عليه ولم يضم غيره من الفنون إليه. وقال إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى أتريد أن تجمع بين الفقه والحديث، هيهات. والله ﷾ وليّ التوفيق والعصمة وله الحمد على كل حال وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الفصل الرابع
فيما يتعلق بالبخاري في صحيحه من تقرير شرطه وتحريره وضبطه وترجيحه على غيره كصحيح مسلم ومن سار كسيره والجواب عما انتقده عليه النقاد من الأحاديث ورجال الإسناد وبيان موضوعه، وتفرده بمجموعه، وتراجمه البديعة المثال، المنيعة المنال وسبب تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له في الأبواب وتكراره وعدة أحاديثه الأصول والمكرّرة حسبما ضبطه الحافظ ابن حجر وحرره
وهذا الفصل أعزّك الله تعالى لخصته من مقدّمة فتح الباري، مستمدًّا من سيح فضله الجاري، أنبأتني المسندة أُم حبيبة زينب بنت الشوبكي المكية، أخبرنا البرهان بن صديق الرسام، أخبرنا أبو النون يونس بن إبراهيم عن أبي الحسن بن المقير عن أبي المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري، قال أخبرنا أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي، قال في جزء شروط الأئمة له: اعلم أن البخاري ومسلمًا ومن ذكرنا بعدهما لم ينقل عن واحد منهم أنه قال شرطت أن أخرّج في كتابي مما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سير كتبهم فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم، واعلم أن شرط البخاري
1 / 19
ومسلم أن يخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، وإن كان للصحاب راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن له إلاّ راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه.
ثم قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن عليّ الأديب الشيرازي بنيسابور، قال: قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله يعني الحاكم في كتابه المدخل إلى الإكليل القسم الأوّل: من المتفق عليه اختيار البخاري ومسلم وهو الدرجة الأولى من الصحيح. ومثاله الحديث الذي يرويه الصحابيّ المشهور عن رسول الله ﷺ، وله راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور، وله رواة من الطبقة الرابعة. ثم يكون شيخ البخاري ومسلم حافظًا متقنًا مشهورًا بالعدالة، فهذه الدرجة من الصحيح اهـ. وتعقب ذلك الحافظ ابن طاهر فقال: إن الشيخين لم يشترطا هذا الشرط ولا نقل عن واحد منهما أنه قال ذلك، والحاكم قدّر هذا التقدير وشرط لهما هذا الشرط على ما ظن، ولعمري إنه لشرط حسن لو كان موجودًا في كتابيهما، إلا أنّا وجدنا هذه القاعدة التي أسّسها الحاكم منتقضة في الكتابين جميعًا، فمن ذلك في الصحابيّ أن البخاري أخرج حديث قيس بن أبي حازم عن مرداس
الأسلميّ، يذهب الصالحون أوّلًا فأوّلًا، وليس لمرداس راوٍ غير قيس. وأخرج مسلم حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب، ولم يرو عنه غير ابنه سعيد. وأخرج البخاري حديث الحسن البصريّ عن عمرو بن تغلب "إني لأعطي الرجل والذي أدع أحبّ إليّ" الحديث. ولم يرو عن عمرو غير الحسن في أشياء عند البخاري على هذا النحو. وأما مسلم فإنه أخرج حديث الأغر المزني "إنه ليغان على قلبي" ولم يرو عنه غير أبي بردة في أشياء كثيرة اقتصرنا منها على هذا القدر، ليعلم أن القاعدة التي أسّسها الحاكم لا أصل لها. ولو اشتغلنا بنقض هذا الفصل الواحد في التابعين وأتباعهم وبمن روى عنهم إلى عصر الشيخين لأربى على كتابه المدخل، إلا أن الاشتغال بنقض كلام الحاكم لا يفيد فائدة اهـ.
وقال الحافظ أبو بكر الحازمي: هذا الذي قاله الحاكم قول من لم يمعن الغوص في خبايا الصحيح، ولو استقرأ الكتاب حق استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة لدعواه، وقد اتفق الأمة على تلقي الصحيحين بالقبول، واختلف في أيّهما أرجح. وصرّح الجمهور بتقديم صحيح البخاري، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقضه. وأما ما نقل عن أبي عليّ النيسابوري أنه قال ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم، فلم يصرح بكونه أصح من صحيح البخاري، لأنه إنما نفى وجود كتاب أصح من كتاب مسلم، إذ المنفي إنما هو ما تقتضيه صيغة أفعل من زيادة صحة في كتاب شارك كتاب مسلم في الصحة، يمتاز بتلك الزيادة عليه ولم ينفِ المساواة. كذلك ما نقل عن بعض المغاربة أنه فضل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فذلك فيما يرجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب. ولم يفصح أحد بأن ذلك راجع إلى الأصحّيّة، ولو صرّحوا به لرد عليهم شاهد الوجود، فالصفات التي تدور عليها الصحة في كتاب مسلم أتمّ منها في كتاب البخاري وأشد، وشرطه فيها أقوى وأسد. أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة، واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة، وألزم البخاري بأنه يحتاج أن لا يقبل المعنعن أصلًا، وما ألزمه به ليس بلازم، لأن الراوي إذا ثبت له اللقاء مرة لا يجري في روايته احتمال أن لا يكون سمع، لأنه يلزم من جريانه أن يكون مدلسه، والمسألة مفروضة في غير المدلس. وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط، فلأن الرجال الذين تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددًا من الرجال الذين تكلم فيهم من رجال البخاري، مع أن البخاري لم يكثر من إخراج حديثهم، بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم وميز جيدها من موهومها، بخلاف مسلم، فإن أكثر من تفرّد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه ممن تقدّم عصره من التابعين ومن بعدهم، ولا ريب أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدّم عنهم. وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال
1 / 20