وهذا الخبر قد أتى على جميع ما ذكرناه فإن (الطاهرة قلوبهم) قد عم طهارتها من كل الآفات، (والبرية أيديهم) أراد بذلك طهارة الأعضاء الظاهرة، وانما خص اليد لأنها معظم ما تقع به الأفعال، فهي الآلة الكبيرة، ثم ذكر فعل الطاعات، ثم ذكر من جملتها الغضب لله، ووصفه بأشد ما يكون من الغضب، فإن النمر أشد الحيوانات غضبا، ويقال: لبس جلد النمر إذا كثر غضبه، وكذلك المؤمن هو شديد الغضب على أعداء الله، وفي زماننا هذا قد انطمس الغضب على أعداء الله من القلوب، حتى صار الغاضب على أعداء الله سبحانه مستخفا به، مسخورا عليه لكثرة الميل إلى أهل المعاصي، والركون من علماء السوء إلى أرباب الدنيا، فإذا كان العالم هو الباخس لهذا النوع من الطاعة فغيره ليس هو له بضاعة، وهكذا جميع الذنوب يعظم في النفوس استنكارها، ويكبر على العقل الدخول فيها، فإذا ترك النهي عنها واعتيدت، سهلت وخف استقباحها، فإن تزيا بها من يتعلق بالعلم وينسب إليه صارت طاعة في غالب الأحوال، فإن العلم يقتضي العمل، هذه قضية مثبتة في كل قلب، فمتى شوهد العالم عاملا بشيء عد ذلك من جملة علمه، وصار حجة لغيره على منكره، وكثيرا ما شاهدنا في زماننا هذا، وسمعنا وعلمنا من كثرة الإنكار على المؤمن، متى اشتد غضبه على المحرم، حتى أن الأكثر يعد ذلك جرحا فيه، وقدحا في عقله، وخروجا منه إلى طريق الجاهلين، لما كثر التلبس بمخالطة الظالمين، ومداهنة الفاسقين، والمصاحبة لأعداء رب العالمين، طمعا في الدنيا، وايثارا للأولى على الآخرى، ولو انتقد الواحد منا دنياه انتقاد البصير، ونظر إليها بطرف حسير، ولمسها بيد الاضطرار، وعاشرها معاشرة اختبار لا اختيار، وتفكر في الموت وما بعده، من تغير البنية وفساد الآلة، وتنكر الجوارح الحسية عن عاداتها المعتادة، بحيث يصير المشتهى منفورا، والمحبوب مكروها، ثم في المصير إلى ضيق اللحد وظلمة القبر، ثم السؤال والبعث، والحشر بعد النشر، والحساب والعقاب والثواب، لوقف من ذلك على علم نافع شاف، لجميع الأدواء رافع كاف.
فنسأل الله أن يطهر قلوبنا بماء التبصر، وأن ينورها بضياء التفكر، وأن يجعلنا نقادا لضرائب القلوب، أطباء لأدواء الذنوب، قبل أن يكون الناقد وحده هو الملك الديان، والطبيب العارف بطبها هو مالك الغضبان، ونستغفر الله من جميع الأسواء، ونعوذ به من ركوب الهوى، ونصلى ونسلم على محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين.
Page 107