بسم الله الرحمن الرحيم
قال العبد الفقير إلى الله تعالى، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي:
الحمد لله الذي أرشد لابتكار هذا النمط وتفضل بالعفو عما صدر عن العبد على وجه السهو والغلط، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة لا وكس فيها ولا شطط، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أفضل من عليه جبرئيل بالوحي
1 / 13
هبط، ﷺ، وعلى آله وصحبه الذين هم لأتباعه خير فرط.
هذا كتاب غريب الوضع، عجيب الصنع، لطيف المعنى، طريف المبنى، لم تسمح قريحة بمثاله، ولم ينسج ناسج على منواله، في علم لم أسبق إلى ترتيبه، ولم أتقدم إلى تهذيبه، وهو أصول النحو، الذي هو بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة
1 / 14
إلى الفقه، وإن وقع في متفرقات كلام بعض المؤلفين، وتشتت في أثناء كتب المصنفين، فجمعه وترتيبه صنع مخترع، وتأصيله وتبويبه وضع مبتدع، لأبرز في كل حين للطالبين، ما تبتهج به أنفس الراغبين.
وقد سميته بـ (الاقتراح في علم أصول النحو)
ورتبته على مقدمات وسبعة كتب.
واعلم أني قد استمديت في هذا الكتاب كثيرا من كتاب الخصائص لابن جني، فإنه وضعه في هذا المعنى، وسماه
1 / 15
أصول النحو، لكن أكثره خارج عن هذا المعنى، ليس مرتبا، وفيه الغث والسمين، والاستطرادات، فلخصت منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى، بأوجز عبارة، وأرشقها، وأوضحها، معزوا إليه، وضممت إليه نفائس أخر، ظفرت بها في متفرقات كتب اللغة، والعربية، والأدب، وأصول الفقه، وبدائع استخرجتها بفكري.
ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم، كما ستراه واضحا بينا، إن شاء الله تعالى.
ثم بعد تمامه رأيت الكمال ابن الأنباري قال في كتابه (نزهة الأنباء في طبقات الأدباء):
" علوم الأدب ثمانية: اللغة،
1 / 16
والنحو، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم ".
ثم قال: " وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما: علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه، من قياس العله، وقياس الشبه، وقياس الطرد، إلى غير ذلك على حد أصول الفقه، فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به، لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول ".
هذه عبارته.
1 / 17
فتطلبت هذين الكتابين، حتى وقفت عليهما فإذا هما لطيفان جدا، وإذا في كتابي هذا من القواعد الفقهيه والفوائد، ما لم يسبق إليه أحد، ولم يعرج في واحد منهما عليه.
فأما الذي في أصول النحو، فإنه في كراستين صغيرتين، سماه (لمع الأدلة) ورتبه على ثلاثين فصلا:
الأول: في معنى أصول النحو وفائدته.
الثاني: في أقسام أدلة النحو.
الثالث: في النقل.
الرابع: في انقسام النقل.
الخامس: في شرط نقل المتواتر.
السادس: في شرط نقل الآحاد.
السابع: في قبول نقل أهل الأهواء.
الثامن: في قبول المرسل والمجهول.
التاسع: في جواز الإجازة.
العاشر: في القياس.
الحادي عشر: في تركيب القياس.
الثاني عشر: في الرد على من أنكر القياس.
1 / 18
الثالث عشر: في حل شبه تورد على القياس.
الرابع عشر: في أقسام القياس.
الخامس عشر: في قياس الطرد.
السادس عشر: في كون الطرد شرطا في العله.
السابع عشر: في كون العكس شرطا في العله.
الثامن عشر: في جواز تعليل الحكم بعلتين فصاعدا.
التاسع عشر: في إثبات الحكم في محل النقل، بماذا يثبت: بالنقل أم بالقياس؟
العشرون: في العلة القاصرة.
الحادي والعشرون: في إبراز الإخالة والمبارزة عند المطالبة.
الثاني والعشرون: في الأصل الذي يرد إليه الفرع، إذا كان مختلفا فيه.
الثالث والعشرون: في إلحاق الوصف بالعلة مع عدم الإخالة.
الرابع والعشرون: في ذكر ما يلحق بالقياس، ويتفرع عليه من وجوه الاستدلال.
الخامس والعشرون: في الاستحسان.
السادس والعشرون: في المعارضة.
السابع والعشرون: في معارضة النقل بالنقل.
الثامن والعشرون: في معارضة القياس بالقياس.
التاسع والعشرون: في استصحاب الحال.
1 / 19
الثلاثون: في الاستدلال بعدم الدليل بالشيء على نفيه.
وأما الذي في جدل النحو، فإنه في كراسة لطيفة، سماه بـ (الإغراب في جدل الإعراب) ورتبه علىثني عشر فصلا:
الأول: في السؤال.
الثاني: في وصف السائل.
الثالث: في وصف المسئول به.
الرابع: في وصف المسئول منه.
الخامس: في وصف المسئول عنه.
السادس: في الجواب.
السابع: في الاستدلال.
الثامن: في الاعتراض علىلاستدلال بالنقل.
التاسع: في الاعتراض على الاستدلال بالنقل.
العاشر: في الاعتراض على الاستدلال باستصحاب الحال.
الحادي عشر: في ترتيب الأسئلة.
الثاني عشر: في ترجيح الأدلة.
انتهى.
1 / 20
وقد أخذت من الكتاب الأول اللباب وأدخلته معزوا إليه في خلل هذا الكتاب، وضممت خلاصة الثاني في مباحث العلة.
وضممت إليه من كتابه الثاني (الأنصاف في مباحث الخلاف) جملة.
ولم أنقل من كتابه حرفا إلا مقرونا بالعزو إليه ليعرف مقام كتاب من كتابه ويتميز عند أولي التمييز جليل نصابه.
وإلى الله الضراعة في حسن الختام والقبول، فلا ينفع العبد إلا ما من بقبوله، والسلام.
1 / 21
الكلام في المقدمات
فيها مسائل
1 / 23
الأولى
أصول النحو: علم يبحث فيه عن أدلة النحو الإجمالية، من حيث هي أدلته، وكيفية الاستدلال بها، وحال المستدل.
فقولي (علم)، أي صناعة فلا يرد ما أورد على التعليل به في حد أصول الفقه، من كونه يلزم عليه فقده، إذا فقد العالم به، لأنه صناعة مدونة، مقررة وجد العالم به، أم لا.
وقولي (عن أدلة النحو) يخرج كل صناعة سواه، وسوى النحو.
1 / 25
وأدلة النحو الغالبة أربعة.
قال ابن جني في الخصائص: " أدلة النحو ثلاثة: السماع، والإجماع، والقياس ".
وقال ابن الأنباري في أصوله:" أدلة النحو ثلاثة: نقل، وقياس، واستصحاب حال ".
فزاد الاستصحاب ولم يذكر الإجماع، فكأنه لم ير الاحتجاج به في العربية، كما هو رأي قوم.
وقد تحصل مما ذكراه أربعة، وقد عقدت لها أربعة كتب.
وكل من الإجماع والقياس لا بد له من مستند من السماع كما هما في الفقه كذلك، ودونها الاستقراء والاستحسان، وعدم النظير، وعدم الدليل، المعقود لها الكتاب الخامس.
1 / 26
وقولي (الإجمالية) احتراز في البحث عن التفصيلية، كالبحث عن دليل خاص بجواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وبجواز الإضمار قبل
الذكر في باب الفاعل والمفعول، وبجواز مجيء التمييز مؤكدا، ونحو ذلك، فهذه وظيفة علم النحو نفسه، لا أصوله.
وقولي (من حيث هي أدلته) بيان لجهة البحث عنها، أي البحث عن القرآن بأنه حجة في النحو، لأنه أفصح الكلام، سواء كان متواترا أم آحادا، وعن السنة كذلك بشرطتها الآتي، وعن كلام من يوثق بعربيته كذلك وعن إجماع أهل البلين كذلك، أي إن كلا مما ذكر يجوز الاحتجاج به دون غيره، وعن القياس وما يجوز من العلل فيه وما لا يجوز.
1 / 27
وقولي (وكيفية الاستدلال بها)، أي عند تعارضها ونحوه، كتقديم السماع على القياس واللغة الحجازية على التميمية إلا لمانع، وأقوى العلتين على أضعفهما، وأخف الأقبحين على أشدهما قبحا، إلى غير ذلك. وهذا هو المعقود له من الكتاب السادس.
وقولي (وحال المستدل)، أي المستنبط للمسائل من الأدلة المذكورة، أي صفاته وشروطه، وما يتبع ذلك من صفة المقلد والسائل. وهذا هو الموضوع له الكتاب السابع.
وبعد أن حررت هذا الحد بفكري وشرحته، وجدت ابن الأنباري قال: " أصول النحو أدلة النحو التي تفرعت منها فروعه وأصوله، كما أن أصول الفقه أدلة الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله.
1 / 28
وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل والارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الديل، فإن المخلد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب، ولاينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب ".
هذا جميع ما ذكره في الفصل الأول بحروفه.
1 / 29
المسألة الثانية
للنحو حدود شتى، وأليقها بهذا الكتاب قول ابن جني (في الخصائص):
" هو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من إعراب وغيره كالتثنية، والجمع، والتحقير، والتكسير، والإضافة، والنسب، والتركيب، وغير ذلك ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شد بعضهم عنها رد به إليها.
وهو في الأصل مصدر شائع، أي نحوت نحوا، كقولك، قصدت قصدا ثم خص به انتحاء هذا هذا القبيل من العلم، كما أن الفقه،
1 / 30
في الأصل مصدر فقهت الشيء، أي عرفته، ثم خص به علم الشريعة من التحليل والتحريم، وكما أن بيت الله خص به الكعبة، وإن كانت البيوت كلها لله، وله نظائر في قصر ما كان شائعا في جنسه على أحد أنواعه. وقد استعملته العرب ظرفا، وأصله المصدر. انتهى.
وقال صاحب (المستوفي):" النحو صناعة علمية ينظر لها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم لتعرف النسبة بين صيغة النظم وصورة المعنى، فيتوصل بإحداهما إلى الأخرى ".
وقال الخضراوي:
" النحو علم بأقيسة تغيير ذوات
1 / 31
الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لغة لسان العرب ".
وقال ابن عصفور:
" النحو علم مستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها ".
وانتقده ابن الحاج بأنه ذكر ما يستخرج به النحو وتبيين ما يستخرج به الشيء ليس تبيينا لحقيقة النحو، وبأن فيه المقاييس شيء غير النحو، وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو.
1 / 32
وقال صاحب (البديع):
" النحو صناعة علمية يعرف بها أحوال كلام العرب من جهة ما يصح ويفسد في التأليف ليعرف الصحيح من الفاسد ".
وبهذا يعلم أن المراد بالعلم المصدر به حدود العلوم: الصناعة، ويندفع الإيراد الأخير على كلام ابن عصفور.
وقال ابن السراج في (الأصول):
" النحو علم استخرجه المتقدمون من استقراء كلام العرب ".
1 / 33
المسألة الثالثة
(حد اللغة، وهل هي بوضع الله أو البشر)
قال في (الخصاص):
" حد اللغة: أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ".
واختلف هل هي بوضع الله أو البشر؟ على مذاهب:
أحدها: وهو مذهب الأشعري أنها بوضع الله.
واختلف على هذا: هل وصل إلينا علمها بالوحي إلى نبي من أنبيائه، أو بخلق أصوات في بعض الأجسام تدل عليها، واسماعها لمن عرفها ونقلها، أو بخلق العلم الضروري في بعض العباد بها؟
على ثلاثة مذاهب، أرجحها الأول، ويدل له ولأصل المذهب قوله تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها، أي أسماء المسميات.
1 / 34