Introduction to the Study of Juristic Schools and Doctrines
المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية
Maison d'édition
دار النفائس للنشر والتوزيع
Numéro d'édition
الثانية
Année de publication
١٤١٨ هـ - ١٩٩٨ م
Lieu d'édition
الأردن
Genres
المدخل إلى دراسة المدارس والمذاهب الفقهية
تأليف
الدكتور عمر سليمان الأشقر
Page inconnue
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 2
المَدْخَل إلَى دراسةِ المدارِسِ والمذاهِب الفقهيَّة
1 / 3
حُقُوقُ الطَّبع محَفوظَة
الطبعة الثَّانِيَة
١٤١٨ هـ - ١٩٩٨ م
دَار النفائس للنشر والتوزيع
العبدلي - مُقَابل عمَارَة جَوْهَرَة الْقُدس
هَاتِف: ٦٩٣٩٤٠ - فاكس: ٦٩٣٩٤١
ص. ب: ٢١١٥١١ - عمان ١١١٢١
الْأُرْدُن
[إِن دَار النفائس للنشر والتوزيع - الْأُرْدُن، هِيَ صَاحِبَة الْحق وَحدهَا فِي طباعة مؤلفات الدكتور عمر سُلَيْمَان الْأَشْقَر وَلَا صِحَة لما تزعمه بعض دور النشر من حُصُولهَا على إِذن من الْمُؤلف بطباعة مؤلفاته، وَعَلِيهِ فَلَا يجوز لأي جِهَة أَن تطبع أَو تترجم أَو تصور كتب الْمُؤلف الْمَذْكُور أَو جُزْءًا مِنْهَا، وسوف نقوم بالإجراءات القانونية المتبعة للحفاظ على حقوقنا]
1 / 4
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى الدين القويم والصراط المستقيم، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه وسلك سبيله إلى يوم الدين وبعد:
فإن المقصد من وراء هذا المؤلف إعانة طلبة العلم على التعرف إلى المدارس الفقهية والمذاهب الفقهية، بحيث يصبح مدخلًا لدراسة هذين الموضوعين.
وقد دعاني إلى تدوين هذا الكتاب ما رأيته من قصور لدى كثير من الطلبة في كليات الشريعة في المرحلة الجامعية الأولى، وفي المراحل المتقدمة في الدراسات العليا فيما يتعلق بالمدارس الفقهية والمذاهب الفقهية، وهذا القصور يظهر في دراستهم كما يظهر في أبحاثهم، ورسالتهم، وأكثر ما يتبدى هذا القصور في الدائرة التي يشملها المذهب، وطريقة تحقيق المذهب، والكتب التي تحققه، ولذا فإن هذا البحث يعد مدخلًا مفيدًا لدراسة المذاهب الفقهية، يعين الدارسين والباحثين على أن يكونوا أكثر علمًا بهذه المذاهب، وأكثر دقة في تحديد المذاهب، وأكثر قدرة في الرجوع إلى الكتب المعتمدة في كل مذهب.
وقد تم هذا البحث في ثلاثة أبواب:
الباب الأول يتناول بالدراسة المدارس الفقهية، وقد مهدت لهذا الباب ببيان المراد من هذا المصطلح، كما بينت أن هذه المدارس انقسمت إلى ثلاثة أقسام.
وعقدت فيه ثلاثة فصول للحديث عن كل مدرسة من هذه المدارس التي وجدت عبر التاريخ الإسلامي، وعقدت في كل فصل من الفصول الثلاثة عدة مباحث للتعريف بكل مدرسة، وتحدثت عن الأصول التي تقوم عليها هذه المدارس، والمحاسن التى تتصف بها، والمؤاخذات التي أخذت على كل
1 / 5
منها، وعقدت فصلًا رابعًا للموازنة بين المدراس الثلاثة.
وعقدت الباب الثاني للحديث عن المذاهب الفقهية، وقسمت هذا الباب إلى فصلين، الفصل الأول مخصص للتعريف بالمذاهب الفقهية.
وقد عرضت في المبحث الأول من هذا الفصل للكيفية التي تكونت بها المذاهب الفقهية.
وعرفت فيه المذهب في اللغة والاصطلاح.
كما بينت فيه خطأ الذين نسبوا إلى إمام المذهب كل ما يضمه المذهب من اجتهادات.
وعرضت في المبحث الثاني إلى جهود الأئمة في تصحيح مذاهبهم.
وبينت في المبحث الثالث السبب في صعوبة معرفة الصحيح من المذهب.
وخصصت المبحث الرابع للحديث عن الجهود التي قام بها علماء كل مذهب في تصحيح مذاهبهم وتهذيبها.
وقد عقدت لهذا المبحث خمسة مطالب.
بينت في المطلب الأول جهودهم في فقه أقوال إمام المذهب وتحديد مذهبه.
وذكرت في المطلب الثاني الطرق التي اتبعها علماء كل مذهب في تحقيق المذهب، وبينت في المطلب الثالث الخطأ الذي وقع فيه الذين كانوا يتخيرون من الأقوال بالتشهي والهوى.
وذكرت في المطلب الرابع نموذجًا لجهود مصححي المذهب.
وفي المطلب الخامس عرض لاجتهاد علماء المذهب، وفيه ذكر لبعض ضوابط اجتهاد هؤلاء العلماء، وقد عرضت في المطلب السادس لمسألة مهمة جدًّا، وهي مدى صحة القياس على قول إمام المذهب.
وقد خصصت الفصل الثاني للحديث عن المذاهب الأربعة التي لها أتباع حتى
1 / 6
اليوم، وقد ترجمت فيه لكل واحد من الأئمة الأربعة، موجزا قواعد مذهبه، متحدثًا عن علمه وفضله وشيوخه وتلامذته وتقدير أهل العلم له، مبينًا مدى انتشار مذهبه، متحدثًا عن أهم المصطلحات التي تدور على السنة علماء المذهب، ملقيًا الضوء على مدونات المذهب والكتب المعتمدة فيه.
وفي الباب الثالث حديث عن موقف المسلم من الأئمة، وبيان حكم تقليدهم.
وقد عرفت في هذا الباب التقليد، وبينت حكمه، ورددت قول من أوجبه من وجوه كثيرة، وبينت في ختام هذا الباب الحالات التي يجوز التقليد فيها.
أرجو أن أكون قد قدمت في هذا الكتاب لطلاب العلم ما يوسع منهم الآفاق، ويرشد إلى الصواب، ويسدد المسار، ويقوِّم الانحراف، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
د. عمر سليمان الأشقر
كلية الشريعة - الجامعة الأردنية
عمان
1 / 7
الباب الأول
المدارس الفقهية
تمهيد: التعريف بالمدارس الفقهية.
* الفصل الأول: مدرسة أهل الحديث.
* الفصل الثاني: مدرسة أهل الرأي.
* الفصل الثالث: مدرسة أهل الظاهر.
* الفصل الرابع: موازنة بين المدارس الفقهية.
1 / 9
تمهيد: التعريف بالمدارس الفقهية
تبلورت الاتجاهات الفقهية في عصر التدوين والأئمة المجتهدين في القرن الثاني الهجري، وشكَّل كل منها تيارا في الأمة الإسلامية، له زعماؤه وأتباعه، ووضع علماء كل اتجاه أصولا ومعالم ميزت طريقهم عن غيره، وبذلك تكونت المدارس الفقهية.
ولا يراد بالمدرسة الفقهية بناءٌ يتدارس فيه الفقه، ولكن يقصد بها طريقة ينتهجها الفقيه، فيأخذها عنه غيره، ويتابعونه عليها، وبذلك تصبح تيارًا ومسلكًا، يُعْرَفُون بها دون غيرهم.
وقد نسبت المدارس في بداية الأمر إلى المدائن التي نشئت فيها، فالمدينة المنورة هي مهد مدرسة أهل الحديث، والكوفة مهد مدرسة أهل الرأي، ثم خرجت كل واحدة من المدرستين من مهدها، فشكلت تيارًا له أتباعه في مختلف ديار الإسلام، فعرفت مدرسة أهل المدينة بمدرسة أهل الحديث، ومدرسة الكوفة باسم مدرسة أهل الرأي، وكل من اطلعنا على قوله من أهل العلم رأيناه يقصر المدارس الفقهية على هاتين المدرستين.
ولكننا نرى الظاهريين أتباع داود الظاهري قد استقلوا ببعض الأصول، مما يجعلنا نعدهم مدرسة مستقلة، وبذلك تصبح المدارس الفقهية في نظرنا ثلاث مدارس:
١ - مدرسة أهل الحديث.
٢ - مدرسة أهل الرأي.
٣ - مدرسة أهل الظاهر.
1 / 11
الفصل الأول مدرسة أهل الحديث
المبحث الأول: مهد مدرسة الحديث وامتدادها
كان مهد مدرسة الحديث في أول نشأتها بالحجاز، وفي المدينة المنورة بالذات، وعُرفَت بمدرسة المدينة؛ لأنها مهد السنة، ومأوى الفقهاء، وبها سلالة الصحابة الذين عاصروا الرسول ﷺ، وحفظوا عنه الحديث وتناقلوه، واقتدوا به في أفعاله وتصرفاته، فكان من الطبيعي أن يتأثر فقهاء هذه المدرسة بفقهاء الصحابة الأوائل، وعلماء التابعين الذين استوطنوا المدينة، ونهجوا نهج الصحابة
وعلماء التابعين الذين كانوا يمثلون مدرسة المدينة كثيرون، وأشهرهم الفقهاء السبعة (^١)، وقد كونوا المدرسة الفقهية الأولى، ووضعوا الأسس الأولى للمنهج الفقهي، وعملوا على نفاذ الحياة بأسرها -ومنها الحياة التشريعية- على القواعد الدينية والخلقية، التي استمدوها من القرآن الكريم (^٢).
وقد انتهت رياسة مدرسة المدينة إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول ابن تيمية: "مالك أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص والعام- ما لا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام" (^٣).
وقد ضَمَّن الإمام مالك كتابه (الموطأ) ذلك المنهج الذي تلقاه عمن قبله، وقد تلقاه أولئك عن الصحابة.
_________
(^١) انظر كتابنا: تاريخ الفقه الإسلامي، ص ٨٥. وسيأتي ذكرهم قريبا.
(^٢) مناهج الاجتهاد في الإسلام، لمحمد سلام مدكور: ١٠٠، نشرته جامعة الكويت.
(^٣) صحة عمل أهل المدينة، لشيخ الإسلام ابن تيمية.
1 / 13
المبحث الثاني: مكانة مدرسة المدينة
لقد كان لمدرسة المدينة مكانة كبيرة عند الحكام والمحكومين، فخلفاء بني أميَّة كانوا يرجِّحون علماءَ الحجاز وقولهم على أهل الشام وقولهم، وكذلك كان المنصور والمهدي والرشيد -وهم سادات خلفاء بني العباس- يرجِّحون علماء الحجاز وقولهم على علماء أهل العراق، وعندما وجد فيهم من عدل إلى الآراء المشرقية كثر الإحداث فيهم وضعفت الخلافة (^١).
ويذكر مؤرخ الإسلام الذهبي وغيره أن الرشيد أراده على الخروج معه إلى بغداد فأبى (^٢).
وذكر الذهبي في ترجمة الإمام مالك أن أبا جعفر المنصور قال للإمام مالك: "قد طلبت هذا الشأن في زمن بني أمية، فقد عرفته، فأمَّا أهل العراق فأهل إفك وباطل، وأما أهل الشام فأهل جهاد، وليس فيهم كبير علم، وأما أهل الحجاز ففيهم بقية علم" (^٣).
كما يذكر ابن تيمية أن سائر أمصار المسلمين كانوا منقادين لعلم أهل المدينة، لا يعدُّون أنفسهم أكفاءهم في العلم، كأهل الشام ومصر، مثل الأوزاعي ومن قبله ومن بعده من الشاميين، ومثل الليث بن سعد ومَنْ قبله، ومَنْ بعده من المصريين، وتعظيمهم لعمل أهل المدينة، واتباعهم لمذاهبهم القديمة ظاهر بَيِّنٌ، وكذلك علماء أهل البصرة، كأيوب، وحماد بن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم (^٤). وقد كان كبار العلماء يقدِّمون علماء أهل المدينة على غيرهم، وقد فضل الشافعي الإمامَ مالك على أبى حنفية في مناظرة جرت بينه وبين محمد بن الحسن.
_________
(^١) صحة عمل أهل المدينة: ٣٢.
(^٢) الإكمال في أسماء الرجال. انظر مشكاة المصابيح: ٣/ ٩٨٧. إحياء علوم الدين: ١/ ٢٧.
(^٣) تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث سنة: ١٧١ - ١٨٠.
(^٤) صحة عمل أهل المدينة: ٢٦.
1 / 14
ففي تاريخ الإسلام للذهبي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت الشافعي يقول: "قال لي محمد بن الحسن أيما أعلم صاحبنا أو صاحبكم؟ (يريد بصاحبنا الإمام أبي حنيفة، وبصاحبكم الإمام مالك).
قلت: أنشدك الله من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم.
قلت: من أعلم بالسنة؟ قال: اللهم صاحبكم.
قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة والمتقدمين؟ قال: صاحبكم.
قلت: لم يبق إلى القياس، والقياس لا يكون إلا على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الأصول فعلى أي شيء يقيس! " (^١)
وقد فضَّل الإمام أحمد الإمام مالكا على سفيان الثوري، مع أن سفيان كان أعلمَ أهل العراق بالفقه والحديث.
فقد قالوا للإمام أحمد: من أعلم بسنة رسول الله ﷺ مالك أم سفيان؟
فقال: بل مالك.
فقيل له: أيما أعلم بآثار أصحاب رسول الله ﷺ مالك أم سفيان؟
فقال: بل مالك.
فقيل له: أيما أزهد مالك أم سفيان؟
فقال: هذه لكم (^٢).
لقد كان مذهب أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم كما يقول ابن تيمية "أصح مذاهب أهل المدائن الإسلامية شرقًا وغربا في الأصول والفروع" (^٣)، ويقول ابن تيمية في موضع آخر: "في القرون التي أثنى
_________
(^١) تاريخ الإسلام للذهبي. حوادث سنة ١٧١ - ١٨٠. وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي: ٨/ ٧٦، ١١٢.
(^٢) صحة عمل أهل المدينة: ٣٩.
(^٣) صحة عمل أهل المدينة: ص ١٧.
1 / 15
عليها الرسول ﷺ كان مذهب أهل المدينة أصح مذاهب أهل المدائن، فإنهم كانوا يتأسون بأثر رسول الله ﷺ أكثر من سائر الأمصار، وكان غيرهم من أهل الأمصار دونهم في العلم بالسنة النبوية واتباعها، ولهذا لم يذهب أحد من علماء الإسلام إلى أن إجماع أهل مدينة من المدائن حجة يجب اتباعها غير المدينة" (^١).
المبحث الثالث: انتشار مذهب أهل المدينة
لم يزل علماء أهل المدينة منذ عهد الخلفاء الراشدين يخرجون إلى مختلف أمصار المسلمين؛ لنشر العلم، وقد كان عمر بن عبد العزيز يرسل إلى علماء المدينة يسألهم، ويستفتيهم.
وطلب أبو جعفر المنصور من علماء الحجاز أن يذهبوا إلى العراق، وينشروا فيه العلم، فقدم عليهم هشام بن عروة، ومحمد بن إسحاق، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وربيعة ابن أبى عبد الرحمن، وحنظلة ابن أبى سفيان الجمحي، وعبد العزيز ابن أبي سلمة الماجشون، وغير هؤلاء، وكان أبو يوسف يختلف في مجالس هؤلاء، ويتعلم منهم الحديث، وأكثر عمن قدم من الحجاز (^٢).
وقد رحل الناس من فجاج الأرض إلى الإمام مالك، فقد أخذ (الموطأ) عن الإمام مالك أهل الحجاز والشام والعراق، ومن أصغر من أخذ عنه الشافعي (^٣).
وقد رحل تلاميذ الإمام أبى حنيفة إلى الإمام مالك، وأخذوا عنه العلم، وقد ذكر ابن تيمية مسائل سأل عنها أبو يوسف الإمام مالك (^٤).
_________
(^١) صحة عمل أهل المدينة: ٢٠.
(^٢) صحة عمل أهل المدية: ٢٦.
(^٣) صحة عمل أهل المدينة: ٣٦.
(^٤) صحة عمل أهل المدية: ٢٥.
1 / 16
المبحث الرابع: ظهور مدرسة أهل الحديث في بغداد
لم تكن مدرسة أهل الحديث محصورة في إطار المدينة المنورة، ولا في إطار الحجاز، بل كان العلماء المنادون بها، والقائمون عليها منتشرون في كل قطر، ولكن أهل المدينة كانوا إلى عهد الإمام مالك أقوم بها من غيرهم، وبعد موت الإمام مالك وأمثاله من علماء الحجاز برزت بغداد من بين المدائن كأبرز معقل لأهل الحديث، لأنه قد سكن بها من أفشى السنة، وأظهر حقائق الإسلام، مثل أحمد بن حنبل، وأبي عبيد، وأمثالهما من فقهاء أهل الحديث، وظهرت بها السنة في الأصول والفروع منذ ذلك الوقت، وانتشرت السنة منها إلى الأمصار، وظهر في المشرق علماء أعلام، أمثال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه وأصحابه، وأصحاب عبد الله بن المبارك، وصار إلى المغرب من عِلم أهل المدينة ما نقل إليهم من علماء الحديث، فصار في بغداد وخراسان والمغرب من العلم ما لا يكون مثله إذ ذاك بالحجاز والبصرة (^١).
المبحث الخامس: أشهر علماء أهل الحديث
آلت زعامة مدرسة أهل الحديث إلى الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، يقول الشهرستاني: "أصحاب الحديث هم أهل الحجاز، هم أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعى، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب داود بن علي الأصفهاني" (^٢).
ونقل البيهقي في كتابه (المدخل) عن يحيى بن محمد العنبري قوله: "طبقات أصحاب الحديث خمسة: (المالكية، والشافعية، والحنبلية، والرهاوية،
_________
(^١) راجع صحة عمل أهل المدينة: ٣٢.
(^٢) الملل والنحل، للشهرستاني: ١/ ٢٠٦.
1 / 17
والخزمية) (^١)، ومراده بالرهاوية أصحاب الإمام إسحاق بن راهويه، وبالخزمية أتباع محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكانا من كبار علماء الحديث.
وليس مراد الشهرستاني ويحيى بن محمد أن أهل الحديث محصورون في هؤلاء، بل مراده أن هؤلاء هم أهل الحديث الذين لهم أتباع في العصور التي كان فيها هذان العالمان، ولا يزال لمالك والشافعي وأحمد أتباع إلى اليوم، وقد انقرض من عداهم.
أمَّا أهل الحديث المشهورون الذين لهم أتباع في هذا القرن الثاني والثالث فهم كثير، وأشهرهم في القرن الثاني الهجري: يحيى بن سعيد القطان، ووكيع بن الجراح، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن مهدي، والأوزاعي، والليث بن سعد (^٢).
ومن مشاهيرهم في القرن الثالث الهجري: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وأبو زرعة الرازي، وابن جرير الطبري، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن قتيبة الدينوري (^٣).
المبحث السادس: السبب في تسميتهم بأهل الحديث
يقول الشهرستاني: "وإنما سموا بأصحاب الحديث؛ لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرا أو أثرا" (^٤) وكانوا يكرهون الخوض بالرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بدًّا.
_________
(^١) إعلام الموقعين: ٢/ ٢٨٤.
(^٢) الحديث والمحدثون، لأبي زهرة: ٣٨٧، وانظر مفاتيح الفقه الحنبلي: ١/ ٥٥.
(^٣) الحديث والمحدثون: ٣٤٢، وانظر مفاتيح الفقه الحنبلي: ١/ ٥٥.
(^٤) الملل والنحل، للشهرستاني: ١/ ٢٠٦.
1 / 18
ومدرسة أهل الحديث كان لها فضل السبق إلى تدوين السنة، وقد كابد علماء الحديث في سبيل جمع الحديث وتدوينه الشيء الكثير. وقد جمعوا السنة، وخلصوها مما شابها، ودونوها، وجمعوا مع السنة آثار فقهاء كلِّ بلد من الصحابة والتابعين، ودونوا المدونات التي تبحث في رجال الحديث، ووضعوا القواعد والضوابط التي يحكم بها على عدالة الرجال، وبذلك دُوِّنَ فن مصطلح الحديث، والجرح والتعديل.
المبحث السابع: أصول أهل الحديث في بيان الأحكام
لم يكن من طريقة أهل الحديث أن يقلدوا رجلا بعينه في كل ما يذهب إليه، ولذلك نجدهم اتبعوا منهجا واضحا للتوصل إلى الحكم الصحيح، من خلال ما وجدوه من الأحاديث والآثار، وقد بين الدهلوي أصول هذا المنهج ومعالمه (^١):
١ - إذا وجدوا في المسألة قرآنا ناطقا، فإنهم لا يجيزون التحول منه إلى غيره، فإذا كان القرآن محتملا لوجوه، فالسنة قاضية عليه.
٢ - فإذا لم يجدوا حكم المسألة في كتاب الله، فإنهم يأخذون بسنة رسول الله ﷺ، ولا يفرقون في هذا بين السنة المستفيضة الدائرة بين الفقهاء وغير المستفيضة، ولا يشترطون مجيء الحديث من رواية أهل بلد أو أهل بيت أو بطريقة خاصة، كما أنهم لا يشترطون عمل الصحابة بالحديث، أو عمل التابعين، كل ما يشترطونه هو صحة الحديث.
ومتى صح الحديث فلا يتبعون خلافه، فلا اعتبار للآثار، ولا لآراء المجتهدين، إذا خالفت الحديث.
٣ - وإذا أفرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثا، أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم،
_________
(^١) الإنصاف في أسباب الاختلاف، للدهلوي: ص ٤٧.
1 / 19
ولا بلد دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم. فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المتبع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علما، أو أورعهم ورعًا، أو أكثرهم ضبطًا، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئا يستوي فيه قولان، فهي مسألة ذات قولين.
٤ - فإن عجزوا عن ذلك تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب، إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر.
1 / 20
الفصل الثاني مدرسة أهل الرأي
المبحث الأول: المراد بأهل الرأي
المراد بالرأي العلم بالشيء على سبيل الظن والاعتقاد، وقد خصَّه الفقهاء بالنظر وإعمال الفكر في الوقائع التي لم يرد بها نص، وكثيرا ما استعمل الصحابة كلمة رأي في اجتهاداتهم، التي ظهر أنها مبنية على اعتبار المصلحة، أو قائمة على أساس من القياس أو الاستحسان ونحوهما، بل شمل الرأي عندهم تفسير النصوص، وبيان وجه الدلالة منها، ومن ذلك تفسير أبى بكر لمعنى الكلالة في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ﴾ (^١).
فإنه قال: أقول فيها برأي "الكلالة: ما عدا الولد والوالد.
والمراد بأهل الرأي الذين أكثروا من استعمال الرأي والقياس في بيان الأحكام الشرعية، وليس المراد أنهم لم يكونوا يعتمدون على الكتاب والسنة.
وأصحاب الرأي كما يقول الشهرستاني: (هم أهل العراق، أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومن أصحابه: محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وابن سماعة، وعافية القاضي، وأبو مطيع البلخي، وبشر المريسي" (^٢)
_________
(^١) سورة النساء: ١٧٦.
(^٢) الملل والنحل: ١/ ٢٠٧.
1 / 21
المبحث الثاني: السبب في تسميتهم بأهل الرأي
يقول الشهرستاني: "وإنما سموا أصحاب الرأي؛ لأن أكثر عنايتهم بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار، وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك، فله ما رأى، ولنا ما رأينا" (^١).
ولم تعن هذه المدرسة بالنصوص عناية المدرسة الأولى، وتوسعوا في الرأي، كما توسعوا في النظر في المسائل الفرضية التي لم تقع بعد.
المبحث الثالث: أخطاء أهل الرأي
وقد أحصى ابن القيم أخطاء أهل الرأي فكانت خمسة (^٢):
الأول: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث.
وقد عقد ابن القيم فصلا كبيرا، بين فيه شمول النصوص للأحكام، وأنها مغنية عن الرأي والقياس (^٣)، وقد ساق فيه مسائل كثيرة اختلف فيها السلف الصالح، وقالوا فيها برأيهم، وأعملوا فيها القياس، مع أن النصوص قد بينتها، والقياس الصحيح شاهد أو تابع، وليس مستقلا في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص.
ومن أمثلة ذلك اختلافهم في النباش الذي يسرق أكفان الموتى، هل تقطع يده؟ والصحيح أنه سارق داخل في قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (^٤)، ومن ذلك الاكتفاء بقوله ﷺ: (كل مسكر خمر) عن
_________
(^١) المصدر السابق.
(^٢) إعلام الموقعين: ١/ ٣٩٠.
(^٣) إعلام الموقعين: ١/ ٣٩٢.
(^٤) سورة المائدة: ٣٨.
1 / 22
إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو الحكم.
ومن ذلك الاكتفاء بقوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ (^١) في تناوله لكل يمين منعقدة يحلف بها المسلمون من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع، وقد بين ذلك سبحانه في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ﴾ (^٢)، فهذا صريح في أن كل يمين منعقدة فهذه كفارتها، وقد أدخلت الصحابة في هذا النص الحلف بالتزام الواجبات، والحلف بأحب القربات المالية إلى الله وهو العتق، كما ثبت ذلك عن ستة منهم، ولا مخالف لهم بين بقيتهم (^٣).
الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس.
وقد أورد ابن القيم فيضًا من النصوص ترك فيها القياسيون الأحاديث وأخذوا بالرأي والقياس، فمن ذلك تركهم حديث العرايا، وحديث تغريب الزاني غير المحصن، وحديث عدم إبطال كلام الناسي، والجاهل بالصلاة، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها، وحديث المصراة، وغير ذلك من الأحاديث التي تركوها بالرأي والقياس (^٤).
الثالث: اعتقادهم في كثير من الأحكام الشرعية أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان: هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام.
وقد بين بطلان ما ذهبوا إليه في مبحث طويل، نقل فيه عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية فصلا كبيرا، ضرب فيه كثيرا من الأمثلة التي قال أهل
_________
(^١) سورة التحريم: ٢.
(^٢) سورة المائدة: ٨٩.
(^٣) انظر هذه الأمثلة في إعلام الموقعين: ١/ ٤٢٩.
(^٤) إعلام الموقعين: ١/ ٢٧٤.
1 / 23