مدخل إلى علوم الشريعة
مدخل إلى علوم الشريعة
Maison d'édition
مركز النخب العلمية
Genres
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأكرم، وآله وصحبه ومن سار على نهجهم الأقوم.
أما بعد:
فهذه سطور مختصرة، وكلمات مقتضبة، أضعها بين يدي طالب العلم الراغب في تعلم أحكام الشريعة والمبتغي دراسة علومها، وهي مقدمات لا بدَّ منها لطالب العلم كي يكون على بصيرة ودراية بما يجب عليه قبل الشروع في الطلب، ويُسهلُ عليه نيل الأرب، وليبارك الله له في علمه، ويسدد على درب العلم خطاه، وقد جاءت هذه السطور على قسمين:
القسم الأول: آداب طالب الحق وما ينبغي أن يتحلى به أثناء الطلب من صفات وخلال جميلة، وما يجب عليه أن يحاذره مما ينافي العلم ويعارضه.
القسم الثاني: نبذة يسيرة عن علوم الشريعة، وأبرز أقسامها وثمرة دراستها، مع جملة من أهم المصطلحات في كل علم.
ولا أنسى أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذه الرسالة، والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه، وأن ينفع به عباده.
وصلى الله على نبينا محمد.
وكتبه
د. عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة جامعة القصيم
1 / 3
القسم الأول
آداب طالب العلم
1 / 4
الأدب قبل الطلب:
إن الأدب والتزام شيم أهل الأخلاق الحسنة هو جمال العلم، وقليلٌ من الأدب مع شيءٍ من العلم، خيرٌ من كثرة علمٍ مع ضعف أدب.
وقد كان السابقون من الأئمة يتعلمون الأدب ويحرصون عليه كحرصهم على العلم نفسه أو أشد، وكانوا يتعلمون الأدب من أشياخهم كما يتعلمون العلم.
قال الحسن بن إسماعيل: سمعت أبي يقول: «كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب، وحسن السمت» (^١).
وقال أبو بكر بن المطوعي: «اختلفتُ إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل، ثنتي عشرة سنة وهو يقرأ (المسند) على أولاده، ما كتبتُ منه حديثًا واحدًا؛ إنما كنتُ أنظر إلى هديه وأخلاقه وآدابه» (^٢).
وكان الأئمة يرون أن الأدب هو مفتاح العلم، وأن القليل منه خيرٌ من العلم الكثير الخالي من الأدب.
قال شريك ﵀: «قليلٌ من الأدب خيرٌ، مِن كثيرٍ مِن العلم» (^٣).
وقال مخلد بن الحسين ﵀: «نحنُ إلى قليلٍ مِن الأدب أحوج مِنَّا إلى كثيرٍ مِن الحديث» (^٤).
_________
(^١) أخرجه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص (٢٨٨).
(^٢) المصدر السابق، الموضع نفسه.
(^٣) أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (٤/ ٣٣٥).
(^٤) أخرجه الرَّامَهُرْمُزِي في المحدث الفاصل ص (٥٥٩).
1 / 5
وكذلك كان ابن المبارك (^١)، والليث بن سعد (^٢) يقولان هذا الكلام لطلاب العلم.
والموفق كلما ارتقى في العلم، ارتقى في الأدب وسما في الأخلاق.
قال الحسن ﵀: «كان الرجل يطلب العلم؛ فلا يلبث أن يُرَى ذلك في تخشعه وهديه ولسانه وبصره ويده» (^٣)، وفي هذا يقول الشاعر:
الْعِلْمُ نُورٌ وَجَهْلُ الْمَرْءِ غَيْهَبُهُ ... فَلَيْتَنَا نَحَوَ نُورِ الْعِلْمِ نَسْتَبِقُ
فَراقدُ العلمِ أَخْلَاقٌ تُزَيِّنُهُ ... فَإِنْ جَمَعْتَهُمَا لِلْمَجْدِ تَنْطَلِقُ
فَلَيْسَ يُجْدِى عَلِيمٌ دُونَمَا خُلُقٍ ... وَلَيْسَ يُجْدِى خَلُوقٌ بَاتَ يَخْتَلِقُ
وَاهًَا لِكُلِّ عَلِيمٍ بَاتَ تُجْمِلُهُ ... نَفْسٌ خَلُوقٌ وَبِالأَهْوَاءِ لَا تَثِقُ
وهنالك أصنافٌ من الآداب وصورٌ من محاسن الأخلاق ينبغي لطالب العلم أن يتحلى بها: أدبه مع نفسه، وأدبه مع أستاذه، وأدبه مع زملائه، وأدبه مع عامة الناس، وسنتحدث في هذه العجالة عن هذه الأنواع من الآداب بالتفصيل:
_________
(^١) أخرجه عنه ابن المقرئ في معجمه ص (٢٦٨)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (٣٢/ ٤٤٥).
(^٢) أخرجه أبو طاهر السلفي في الخامس والثلاثين من المشيخة البغدادية ص (٦٨).
(^٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق (١/ ٢٦) رقم (٧٩)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (٣٢١) رقم (٥٠٢)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/ ٢٥٨) رقم (٣١٥)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (٧/ ٦٢)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ١٤٢) رقم (١٧٥).
1 / 6
النوع الأول: أدب طالب العلم مع نفسه:
هناك آدابٌ جمةٌ ينبغي لطالب العلم أن يتأدب بها مع نفسه التي بين جنبيه، وكثير منها متعلق بواجباته الدينية، التي هي حقوق لله تعالى، وإنما نُسِبَت إليه؛ لأنه يُطالب أن يقيمها في نفسه، ويتحلى بها في أقواله وأفعاله، وسمته وهديه، ومن أهمها:
(أولًا: إخلاص النية لله ﷿:
اعلم يا طالب العلم أن الإخلاص سِرٌّ بين العبد وربه لا يعلمه مَلَكٌ فيكتبه، ولا بشر فيفسده، ولا هوًى فيميله؛ فإن قصدت بطلب العلم وجه الله والأجر والثواب منه ورفع الجهل عن نفسك وعن إخوانك المسلمين؛ فاعلم أن ذلك توفيقٌ إلهيٌّ، وعطاءٌ رباني فاحمد الله على ذلك، وداوم النظر في قلبك، وجاهد نفسك في مراقبة الإخلاص.
قال الحسن البصري ﵀: «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْر؛ ٍ إِذَا قَالَ قَالَ لله، وَإِذَا عَمِلَ يَعْمَلُ لله ﷿» (^١)؛ ولهذا ينبغي أن تكون مقاصد الطلب كما يلي:
١ - إصلاح القلب والعمل بالعلم:
من أجمل ثمرات العلم أنه يصلح القلب والباطن، وهذا الإمام ابن جماعة ﵀ يرشدك ويهمس في أذنيك ويقول: «حُسْنُ النِّيَّةِ في طَلَبِ العِلْمِ بِأَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ الله تَعَالى، وَالعَمَلَ بِهِ، وَتَنْوِيرَ قَلْبِهِ، وَتَحْلِيَةَ بَاطِنِهِ،
_________
(^١) أخرجه ابن المبارك في الزهد (٢/ ١٧)، وابن أبي شيبة في مصنفه (٧/ ١٩٦).
1 / 7
وَالْقُرْبَ مِنْ الله تَعَالى يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالتَّعَرُّضَ لِمَا أَعَدَّ اللهُ لأَهْلِهِ مِنْ رِضْوَانِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ» (^١).
فهذه من أعظم مقاصد الطلب، والمقصود أن التقرب إلى الله بالعلم من أزكى العبادات وأحبها إلى الله.
٢ - رفع الجهل عن النفس:
٣ - نشر العلم ونفع الغير والإحسان إلى عباد الله:
بهدايتهم وتعليمهم الدين فهذا من أعظم أنواع الإحسان، وقد قال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:١٩٥].
٤ - الدفاع عن الشريعة من خلال بث العلم ورد شبه المبطلين:
هذه المقاصد الأربعة هي ثمرة العلم، ومن أخذها بحقها أحبه الله، وجعل له القبول والهيبة بين الناس، قال ابن عباس ﵂: «لو أَنَّ حَمَلَة العلم أخذوه بحقه وما ينبغي؛ لأحبهم الله وملائكته والصالحون، ولهابهم الناس، ولكن طلبوا به الدنيا؛ فأبغضهم الله، وهانوا على الناس» (^٢).
يقصد بذلك: من جَرَّدَ نيته لغير الله، وأراد بطلب العلم الدنيا، أما من قصد بالعلم مقصدًا من المقاصد الأربعة السابقة، أو أراد بذلك الحصول على منصبٍ يخدم من خلاله المسلمين أو أراد بالعلم عملًا يُغني به نفسه عن سؤال الناس، ويؤدي به النفقة الواجبة لأهله، فلا يدخل في مقام الذم، وإن فاته مقصود العلم الأعظم.
_________
(^١) المصدر السابق ص (١١٢).
(^٢) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/ ٦٥٥) رقم (١١٣٦).
1 / 8
وعن أبي يوسف ﵀ قال: «يا قوم أريدوا بعلمكم الله؛ فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع، إلا لم أقم حتى أعْلُوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعْلُوهم، إلا لم أقم حتى أفتضح» (^١).
معالجة النية:
مما اتفق عليه المخلصون أن النية لا تستقيم للعبد إلا بطول تعاهد وكثرة مجاهدة.
قال سفيان الثوري ﵀: «ما عالجتُ شيئًا أشد علي من نيتي؛ إنها تتَقَلَّبُ عليَّ» (^٢).
وليس معنى ذلك أن يعزف طالب العلم عن الطلب وينقطع عنه؛ بحجة أن نيته غير خالصة، فهذا مدخلٌ من مداخل الشيطان ليصرف العبد عن العلم الشرعي، بل الواجب على طالب العلم أن يمضي في طريق الطلب، ويتدرج في سلم العلم، ويجاهد نفسه في تصحيح النية في أول الطلب وأثناء الطلب، بل في جميع مراحل الطلب، وهذه المجاهدة تعين الطالب على الإخلاص وإرادة وجه الله ﷿.
ومع دوام المجاهدة والاجتهاد في طلب الإخلاص يوفق العبد للنية الصالحة وحسن العمل؛ لأن العلم بطبيعته يربي على الإخلاص:
قال إسحاق بن راهويه ﵀: «سألتُ وكيعًا عن الرجل يطلب العلم، ومن نيته أن يذاكر به ويحدث به أو نحو ذلك، أتراه يأثم في ذلك؟ قال: لا
_________
(^١) المجموع شرح المهذب (١/ ٢٨)
(^٢) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ٣١٧) رقم (٦٩٢).
1 / 9
يا ابن أخي، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: طلبنا هذا العلم، وما لنا فيه نية، ثم جاءت النية والعمل بعد» (^١).
عقوبة من طلب العلم لغير الله:
من طلب العلم رياءً وسمعةً وشهرةً، أو لينال به غرضًا من عرض الدنيا فهو متوعد بالعذاب، بل ورد أنه من أول من تسعر به النار يوم القيامة:
فعن أبي هريرة ﵁ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (^٢).
_________
(^١) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٢/ ٢٦٧) رقم (١٨١٨).
(^٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٥١٣) رقم (١٩٠٥).
1 / 10
وجاء في رواية: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» (^١).
(ثانيًا: العمل بالعلم:
إن غاية العلم وثمرته أن يعمل به الإنسان رجاء ثواب الله، وليفوز بجنته، ولينجو من عذابه.
وقد صنف الإمام الخطيب البغدادي ﵀ كتابًا بعنوان «اقتضاء العلم العمل»، تحدث فيه عن لزوم العمل بالعلم كما هو واضح من عنوانه، وهو جدير بالدراسة والمراجعة والمطالعة.
وسَيُسأل الإنسان يوم القيامة عن علمه ماذا صنع به، وهل عمل به أم لا؟
فعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (^٢).
قال علي بن أبي طالب ﵁ قال: «هتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل» (^٣)، ومعنى: (هتف)؛ أي نادى وصاح (^٤).
قال أبو قلابة ﵀: «إذا أحدث الله لك علمًا فأحدث لله عبادةً، ولا يكن همك أن تحدث به الناس» (^٥).
_________
(^١) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٩٣) رقم (٢٣٨٢)، وقال: حسنٌ غريب.
(^٢) أخرجه الترمذي في سننه (٤/ ٦١٢) رقم (٢٤١٧)، وقال: (حديث حسن صحيح).
(^٣) اقتضاء العلم العمل ص (٣٥، ٣٦) رقم (٤٠).
(^٤) المعجم لعبد الخالق بن أسد الحنفي ص (٣٥٤)
(^٥) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (٢/ ٢٨٣)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (٣٢٩) رقم (٥٢٧)، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل ص (٣٤، ٣٥) رقم (٣٨).
1 / 11
وإذا عَمِلَ المسلم بعلمه فاز برضا الله تعالى، ونال جنته:
اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ ... لَا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ
وَالْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَقَوَى اللَّهِ زِينَتُهُ ... وَالْمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ
تَعَلَّمِ الْعِلْمَ وَاعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ ... لَا يُلْهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ وَالْجَدَلُ (^١)
وقد كان السلف ﵏ من أكثر الناس حرصًا على العمل بالعلم، ومبادرةً لتطبيقه في واقع حياتهم.
عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله ﷺ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِئُونَ مِنْ رَسُولِ الله ﷺ عَشْرَ آيَاتٍ، وَلَا يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الْأُخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنَ الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ فَإِنَّا عُلِّمْنَا الْعَمَلَ وَالْعِلْمَ. قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعًا، وأنه سيرث القرآن بعدنا قوم يشربونه شرب الماء لا يجاوز هذا، وأشار بيده إلى حنكه» (^٢).
وقد مثّل السلف نماذج رائعة في المبادرة بالامتثال وسرعة تطبيق العلم:
فالإمام أبو حنيفة ﵀ كان لا يقول بجواز المسح على الجوربين، ثم رجع إلى الجواز قبل موته بثلاثة أيام أو بسبعة، ومسح على جوربيه في مرضه، وقال لعواده: فعلت ما كنت أنهى عنه (^٣).
_________
(^١) اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي ص (٣٨).
(^٢) أخرجه أحمد في مسنده (٣٨/ ٤٦٦) رقم (٢٣٤٨٢)، وابن أبي شيبة في المصنف (٦/ ١١٧) رقم (٢٩٩٢٩).
(^٣) ينظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي (١/ ٥٢)، والجوهرة النيرة على مختصر القدوري للزبيدي (١/ ٢٨).
1 / 12
وهذا الإمام مالك ﵀: نقل عنه ابن وهب قال: «سمعتُ مالكًا سُئِلَ عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خَفَّ الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، فقال: وماهي؟ قلت: حدثنا الليث ابن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله ﷺ يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه. فقال: إن هذا الحديث حسن، وما سمعتُ به قط إلا الساعة. ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع» (^١).
وأما الإمام الشافعي؛ فالمثال فيه أوضح وأكبر؛ فقد اشتهر عنه المذهب القديم في العراق، والجديد في مصر، وقد رجع في مذهبه الجديد عن مذهبه القديم إلا مسائل يسيرة أوصلها بعضهم إلى سبع عشرة مسألة، وأوصلها آخرون إلى نيف وثلاثين مسألة، وذلك لوقوفه على الدليل الصحيح.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل ﵀، لم يكتب عن النبي ﷺ حديثًا إلا بعد ما عمل به، قال الْمَرْوَذِي: قال لي أحمد: «ما كتبتُ حديثًا عن النبي ﷺ إلا وقد عملتُ به، حتى مَرَّ بي الحديث: أن النبي ﷺ احتجم، وأعطى أبا طيبة دينارًا، فأعطيتُ الحجام دينارًا حتى احتجمت» (^٢).
وقد جاء الوعيد الشديد على من لم يعمل بعلمه، عن أسامة بن زيد ﵂،
_________
(^١) أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (١/ ٣١، ٣٢)، ومن طريقه الخليلي في الإرشاد (١/ ٤٠٠) رقم (٩٧).
(^٢) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ١٤٤) رقم (١٨٤).
1 / 13
عن النبي ﷺ قال: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ (^١) أَقْتَابُ بَطْنِهِ (^٢)، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (^٣).
قال أبو الدرداء ﵁: «إنك لن تكون عالمًا حتى تكون متعلمًا، ولن تكون متعلمًا حتى تكون بما علمت عاملًا» (^٤).
وقال ابن رسلان ﵀:
وَعَالِمٌ بِعِلْمِهِ لَمْ يَعْمَلَنْ ... مُعَذَّبٌ مِنْ قَبْلِ عُبَّادِ الصَّنَمْ
(ثالثًا: خشية الله والخوف منه:
العلم النافع هو الذي يربي النفس، ويطهرها من الصفات الرديئة، ويورث الخشية لله، والتواضع لخلقه، فيكون صاحبه مثالًا حسنًا في الناس، وقدوةً صالحةً في الأقوال والأفعال (^٥).
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨].
_________
(^١) اندلق: من الاندلاق، وهو خروج الشيء من مكانه وكل شيء ندر خارجًا فقد اندلق. ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (٢/ ٣١)، تهذيب اللغة للأزهري (٩/ ٤٥).
(^٢) الأقتاب: جمع قتب، وهي الأمعاء. ينظر: غريب الحديث لأبي عبيد (٢/ ٣٠)، وتهذيب اللغة للأزهري (٩/ ٦٩).
(^٣) أخرجه البخاري (٤/ ١٢١) رقم (٣٢٦٧)، ومسلم (٤/ ٢٢٩٠) رقم (٢٩٨٩).
(^٤) أخرجه وكيع في كتاب الزهد ص (٤٧٠) رقم (٢٢٠)، والدارمي في سننه (١/ ٣٣٧) رقم (٣٠١)، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (٣١٥) رقم (٤٨٨).
(^٥) موارد الظمآن لدروس الزمان (٤/ ٥١٦) بتصرف.
1 / 14
«أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر» (^١).
قال عبد الله بن مسعود ﵁: «ليس العلم رواية الحديث، ولكن العلم الخشية» (^٢).
وقال يحيى بن أبي كثير ﵀: «العالم من خشي الله، وخشية الله الورع» (^٣).
وقال مالك ﵀: «إن العلم ليس بكثرة الرواية، إنما العلم نور يجعله الله في القلب» (^٤).
(رابعًا: البعد عن المعاصي:
يجب على طالب العلم أن يبتعد عن معصية الله تعالى، وأن يتجنب موارد المهالك، ويحذر مسالك الموبقات، فإن المعاصي تهلك صاحبها، وترديه في وادٍ سحيق.
وما من مصيبة تحل بالعبد إلا بسبب معصية ارتكبها، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى:٣٠].
_________
(^١) تفسير ابن كثير (٦/ ٤٨٢).
(^٢) أخرجه يحيى بن سلام في تفسيره (٢/ ٧٨٦).
(^٣) أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (٣٢٢) رقم (٥٠٥) وأبو نعيم في حلية الأولياء (٣/ ٦٧).
(^٤) أخرجه الرَّامَهُرْمُزِي في المحدث الفاصل ص (٥٥٨)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (٢/ ١٧٤) رقم (١٥٢٦).
1 / 15
قال ابن الجوزي ﵀: «واعلم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله» (^١).
وليس شيء أنفع لطالب العلم في حفظ علمه، وقوة فهمه واستحضاره وإدراكه من خشية الله والابتعاد عن المعاصي.
قال وكيع ﵀: «استعينوا على الحفظ بترك المعصية» (^٢).
وقال ابن حبان ﵀: «وإن من أجود ما يستعين المرء به على الحفظ الطبع الجيد مع الهمة، واجتناب المعاصي» (^٣).
وقال النووي -متحدثًا عن آداب طالب العلم-: «وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره» (^٤).
ومن ركن إلى المعصية، واستمرأ الذنوب نسي علمه واختلط ذهنه وعوقب بكثرة النسيان:
قال ابن مسعود ﵁: «إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها» (^٥).
ورحم الله الإمام الشافعي حين قال:
_________
(^١) صيد الخاطر ص (٤٥٠، ٤٥١).
(^٢) أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء ص (٣٩).
(^٣) المرجع السابق الموضع نفسه.
(^٤) المجموع شرح المهذب (١/ ٣٥).
(^٥) أخرجه الدارمي في مسنده (١/ ٣٧٩) رقم (٣٨٨)، وأبو داود في الزهد ص (١٦٨) رقم (١٦٩)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (١/ ٦٧٥) رقم (١١٩٥)، وزهير بن حرب في كتاب العلم ص (٣١) رقم (١٣٢)، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل ص (٦١).
1 / 16
شَكَوتُ إِلى وَكيعٍ سوءَ حِفظي ... فَأَرشَدَني إِلى تَركِ المَعاصي
وَأَخبَرَني بِأَنَّ العِلمَ نورٌ ... وَنورُ الله لا يُهدى لِعاصي
(خامسًا: العبادة والذكر:
إن استدامة ذكر الله واستغفاره والثناء عليه من أجمل صور العبودية، وأسباب نقاء القلب وصحته وصفائه وطمأنينته ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨].
إن ذكر الله يعمر القلب نورًا ويملؤه سرورًا، بل إن القلب من دونه في ظلام وظلمة؛ لأن «في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البته إلا ذكر الله ﷿، فإذا صار شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويفني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًّا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، فإذا كان غافلًا عن ذكر الله ﷿ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جِدَتِه، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته» (^١).
وطالب العلم أولى الناس بالمحافظة على ذكر الله تعالى، وأن يكون له رصيد من السنن والنوافل والصيام وقيام الليل، وقراءة القرآن الكريم.
ويقبح بطالب العلم أن يكون مقصرًا في عباداته، فعن أبي عصمة عاصم بن عصام البيهقي قال: «بِتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء
_________
(^١) الوابل الصيب ص (١٣٩ - ١٤٠).
1 / 17
فوضعه، فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له وِرْدٌ مِن الليل؟!» (^١).
بل كان السلف ﵏ يستعينون على حفظ العلم بالعبادة ويتقربون إلى الله بها ليفتح لهم مغاليق العلم.
قال إبراهيم بن إسماعيل: «كان أصحابنا يستعينون على طلب الحديث بالصوم» (^٢).
(سادسًا: الإقبال على الله بكثرة الدُّعاء:
إن الدعاء هو لُب التَّعبد، وخالص العِبادة؛ لما ينطوي عليه من الافتقار التام لله، والذُّل بين يديه، وهو أنفع عبوديات القلب وأكثرها تأثيرًا فيه، ولا سيما إذا حضر قلب الداعي، واستحضر معاني ما يدعو به، فإذا كانت تلك الدعوات والابتهالات مما أخبر الله ﷿ به من أدعية صفوة خلقه كانت أنجع شيءٍ للقلب؛ لما تشتمل عليه من مجامع الدعاء، وصدق التذلل، واستحضار معاني الربوبية؛ ولهذا كانوا يُصدِّرون أدعيتهم بقولهم: «ربنا».
وأكثر أدعية القرآن كذلك، تأتي مُصدَّرة بالتوسل إلى الله بربوبيته، والدَّاعي حينما يدعو الله مُتوسلًا بربوبيته يَحسن له استحضار معنى تربية الله العامة، وهي: الخلق والتدبير، ومعنى التربية الخاصة، وهي: ولايته لخيار خلقه، ولطفه بهم وإصلاحه لدينهم ودنياهم، وذلك لإقبالهم على ربهم، وضراعتهم بين يديه.
_________
(^١) أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص (٣٣٠) رقم (٥٣٠)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ١٤٣) رقم (١٧٨).
(^٢) أخرجه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (١/ ١٤٣) رقم (١٧٧).
1 / 18
ويَحْسنُ بالداعي أن يدعو بدعاء الراسخين في العلم؛ لأنه سبحانه حينما أثنى عليهم ذكر دعوتهم: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران:٨]، فتوسلوا إلى الله بربوبيته أن يمنحهم استقامة القلوب وثباتها على مراضي الله، وحفظها من الزيغ، والنكوص عن الهداية (^١).
(سابعًا: استحضار مِنَّة الله وفضله:
إن طالب العلم الموفق هو من يديم استحضار مشاهد مِنَنِ ربه عليه، التي لا يحصيها كتاب ولا يعدها عاد؛ لأنها قد طوقت المؤمن طوقًا يملأ الأرض والسماء، فهو الذي أفاض عليه نعمًا أعلاها نعمة الاهتداء التي يعجز اللسان عن الوفاء بقدرها، إذ أخرجه ربه بها من ظلمة الضلال إلى نور الهداية وفسيح الإيمان، «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ» (^٢).
لذا عتب الله على من غفل عن مشاهدة مننه، فقال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات:١٧].
إنها التربية القرآنية التي تُجرد القلب من الاستعلاء وتمحو عنه مسارب الإدلال، وتملؤه إجلالًا لله واعترافًا بفضله ومنته، كما فقه ذلك أولو العزم والفضل من أمثال عمر ﵁ حينما طُعن وقال له عبدالله بن عباس ﵂ مواسيًا: «يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وَلَئِنْ كَانَ ذَاكَ، لَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ الله ﷺ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ، ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَ أَبَا بَكْرٍ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُ،
_________
(^١) ينظر: المواهب الربانية من الآيات القرآنية للسعدي ص (٥٦ - ٥٨).
(^٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٩٤) رقم (٢٥٧٧) من حديث أبي ذر ﵁.
1 / 19
ثُمَّ فَارَقْتَهُ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، ثُمَّ صَحِبْتَهُمْ فَأَحْسَنْتَ صُحْبَتَهُمْ، وَلَئِنْ فَارَقْتَهُمْ لَتُفَارِقَنَّهُمْ وَهُمْ عَنْكَ رَاضُونَ»، قال: «أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ الله ﷺ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله تَعَالَى مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ صُحْبَةِ أَبِي بَكْرٍ وَرِضَاهُ، فَإِنَّمَا ذَاكَ مَنٌّ مِنَ الله جَلَّ ذِكْرُهُ مَنَّ بِهِ عَلَيَّ، وَأَمَّا مَا تَرَى مِنْ جَزَعِي فَهُوَ مِنْ أَجْلِكَ وَأَجْلِ أَصْحَابِكَ، وَالله لَوْ أَنَّ لِي طِلَاعَ الأَرْضِ (^١) ذَهَبًا لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ الله ﷿، قَبْلَ أَنْ أَرَاهُ» (^٢).
إن استحضار العبد لمنة الله عليه يزيل من القلب غبش العُجب، ويغسله من درن الإدلال، ويطهره من الدنس ليكون وعاءً نظيفًا يتزكى بالإيمان ويرتفع بأعمال القلوب، وينتفع بأعمال الجوارح، أما إذا وُجدت هذه الأعمال مع شوائب العجب والإدلال بالعمل، فإنها تسحق قلب صاحبها سحقًا، فلا تبقي فيه خيرًا ولا تذر، قال الله تعالى في الحديث القدسي عن من أدلَّ بعمله: «قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» (^٣).
فأوقد يا طالب العلم في ذهنك شرارة الشعور بمنة الله وتزكيته لك، ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور:٢١].
_________
(^١) أي: ما يَمْلؤُها حتَّى يَطْلُعَ عنها ويَسِيل. ينظر: النهاية في غريب الحديث (٣/ ١٣٣).
(^٢) أخرجه البخاري (٥/ ١٢) رقم (٣٦٩٢) من حديث المسور بن مخرمة ﵁.
(^٣) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٢٣) رقم (٢٦٢١) من حديث جندب ﵁.
1 / 20
(ثامنًا: التحلي بخصال المروءة:
إِنَّ مما يزين طالب العلم ويُجمله التحلي بـ (المروءة): كمكارم الأخلاق، وطلاقة الوجه، وإفشاء السلام، وتحمل الناس، والأنفة من غير كبرياء، والعزة في غير جبروت، والشهامة في غير عصبية، ولا جاهلية. وعليه فتنكَّب خوارم المروءة، في طبع، أو قول، أو عمل، من حرفة مهينة، أو خلة رديئة، كالعجب، والرياء، والبطر، والخيلاء، واحتقار الآخرين، وغشيان مواطن الريب، كل ذلك مما يفسد العلم على طالبه (^١).
(تاسعًا: الوسطية وعدم الغلو:
الشريعة الإسلامية جاءت بالوسطية، بين الغلو والجفاء، وبين الإفراط والتفريط، قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:١٤٣].
وقد جاء تحذير أهل الكتاب من الغلو في الدين كما في قول الله سبحانه: ﴿يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾ [النساء:١٧١].
ثم جاء تحذيرنا عن هذا المرض العُضَال الذي وقع فيه اليهود والنصارى، عن ابن عباس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» (^٢).
_________
(^١) حلية طالب العلم ص (١٤٩) بتصرف.
(^٢) أخرجه النسائي (٥/ ٢٦٨) رقم (٣٠٥٧)، وابن ماجه (٢/ ١٠٠٨) رقم (٣٠٢٩)، وأحمد (٣/ ٣٥١) رقم (١٨٥١)، وابن خزيمة (٤/ ٢٧٤) رقم (٢٨٦٧)، والحاكم في المستدرك (١/ ٦٣٧) رقم (١٧١١)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين».
1 / 21
ذلك لأن الغلو مُهلكٌ ويؤدي بالإنسان إلى الضلال والانحراف عن جادة الحق، فعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، قَالَهَا ثَلَاثًا» (^١).
فعاقبة الغلو وخيمة، ومآله قبيح، انظر إلى النصارى كيف آل بهم الغلو في نبي الله عيسى ﵇ إلى جعله إلهًا وربًا! وكيف آل الغلو بالخوارج حتى أوقعهم في تكفير المسلمين واستحلال دمائهم، حتى كفروا كبار الصحابة ومنهم علي بن أبي طالب ﵁، وما زال منهج الخوارج باقيًا في الأمة يضعف في عصر ويقوى في عصر آخر، وقد بلغ في هذا العصر أشده تكفيرًا للمسلمين واستهانةً بالدماء، وتشويهًا لصورة الإسلام في أقطاب الدنيا، فنسأل الله أن يكفي المسلمين شرورهم ويهديهم صراطه المستقيم.
فعلى المسلم أن يأخذ الأمر باعتدالٍ ورَوِيَّة، ويحذر الشذوذ والغلو، وأن يرفق بنفسه وإخوانه، وأن يتحبب إلى خلق الله ويحببهم لدين الله.
فعن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» (^٢).
وعن عائشة ﵂، عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَاّ زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَاّ شَانَهُ» (^٣).
_________
(^١) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٥٥) رقم (٢٦٧٠).
(^٢) أخرجه أحمد في المسند (٢٠/ ٣٤٦) رقم (١٣٠٥٢). وهذا الحديث وإن كان فيه مقال، لكنه حسن بشواهده.
(^٣) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٠٤) رقم (٢٥٩٤).
1 / 22