Introduction to the Fact that All Prophets Preached Islam
مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام
Chercheur
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
Maison d'édition
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
Genres
مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام
2 / 553
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللهم صل عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئًا.
ثم إِنَّ الله تعالى خلق الخلق لأجل معرفته، وليأمرهم بعبادته، ولا سعادة لأحد في الدُّنْيَا والآخرة إلا بمعرفة الله ﷿ وعبادته وحده لا شريك له، ولذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب.
فإن العباد وإن كانوا مفطورين عَلَى معرفة الله ومحبته وتألهه فإن كل مولود يولد عَلَى الفطرة، وهي سلامة القلب، وقبوله وإرادته للحق الَّذِي هو الإسلام، وتهيؤه له، لكنهم محتاجون أشد الحاجة إِلَى ما يحمل به قوتهم العلمية والعملية، وهو العِلْم النافع والعمل الصالح، وبذلك يصيرون مسلمين بالفعل، بعد أن كانوا مسلمين بالقوة، فلذلك أرسل الله الرسل وأنزل معهم الكتب؛ ليرشدوا الخلق إِلَى ما فيه سعادتهم، وفلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وضمن لهم أن من اتبع هداه الَّذِي أرسل به رسله فلا يضل ولا يشقى، وأنه عَلَى هدًى من ربه، وأنه من المفلحين، فالهدى ضد الضلال، والفلاح ضد حال أهل الشقاء، وكذلك الغي، كما نفى الله تعالى عن نبيه ﷺ أن يكون ضل أو غوى، فَإِذَا جمع بين الضلال والغي، فالضلال من الجهل
2 / 555
وعدم العِلْم، والغي من اتباع الهوى، ذاك فساد في القوة العلمية، وهذا فساد في القوة العملية.
ولن ينجو من ذلك إلا أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
ثم إِنَّ الله تعالى كان يتعاهد الخلق بالأنبياء والرسل، كلما بعد عهد نبوة ورسالة أتبعها بأخرى.
وكان الَّذِي اتفقت عليه دعوة جميع الأنبياء والرسل هو دين الإسلام كما قال نوح أول الرسل: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ (١).
وقال الحواريون للمسيح وهو آخر أنبياء بني إسرائيل: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (٢).
والإسلام هو الاستسلام والانقياد، وهو متضمن لعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع كمال الحب، وكمال الخضوع والذل.
وعبادة الله هي الغاية التي لأجلها خلق الخلق، وبها سعد مَنْ سعد منهم في الدُّنْيَا والآخرة فأما في الآخرة فظاهر معروف، وأما في الدُّنْيَا فقد بسط في موضع آخر ذكر اختلاف الناس في المقصود بالتأله والعبادة وبين ما في تلك الأقوال من الباطل، وأن الصحيح من ذلك أن لا صلاح ولا فلاح، ولا سرور ولا نعيم ولا قرة عين، إلا بأن يكون كمال إرادتهم ومحبتهم، وخشيتهم وتعظيمهم وتألههم لله وحده لا شريك له، وأن ضد ذلك هو عين الفساد، ولا يتسع هذا المكان لبسط هذه الأمور.
_________
(١) يونس: ٧٢.
(٢) آل عمران: ٥٢.
2 / 556
ولما كان النفع الحاصل بإرسال الرسل، وإنزال الكتب أمرًا لا نظير له، قرر الله تعالى الرسالة عَلَى المنكرين لها بهذه الطريقة، وهي شدة الحاجة إليها في غير موضع من القرآن كما في قوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ (١).
ولهذا نسب تعالى منكري إرسال الرسل وإنزال الكتب إِلَى القدح في كماله وعظمته وحكمته، وإلى الجهل به وبأسمائه وصفاته، وأنهم ما قدروه حق قدره.
والمقصود ها هنا أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام، ولهذا ثبت في "الصحيح" عن النبي ﷺ أنه قال: "إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد" (٢) فإنهم كلهم متفقون عَلَى أصول التوحيد وتوابعه، وإنما تختلف شرائعهم في الأحكام العلمية التي يسميها كثير من الناس الفروع، وتنوع الشرائع في ذلك كتنوع الشريعة الواحدة التي فيها ناسخ ومنسوخ. كما كانت القبلة في أول الإسلام إِلَى صخرة بيت المقدس، ثم صارت إِلَى الكعبة.
والدين واحد، ثم ختم الله الشرائع والملل بالشريعة العامة الكاملة، الحنيفية المحمدية، المحتوية عَلَى جميع محاسن الشرائع، المتضمنة لجميع مصالح العباد في المعاش والمعاد، فأكمل الله بها دينه الذى ارتضاه لنفسه، وختم بها العِلْم الَّذِي أنزله من السماء عَلَى رسله، فلذلك تضمنت جميع محاسن الشرائع المتقدمة، وزادت عليها أمورًا عظيمة وأشياء كثيرة، من العلوم النافعة والأعمال الصالحة، التي خص بها هذه الأمة، وفضلهم بها عَلَى من قبلهم من الأمم.
ولذلك أوجب الله عَلَى جميع من بلغته هذه الدعوة من جميع الأمم الانقياد إليها ولم يقبل من أحد منهم دينا سواها.
_________
(١) آل عمران: ١٧٩.
(٢) أخرجه البخاري (٣٤٤٣)، ومسلم (٢٣٦٥) بمعناه من حديث أبي هريرة.
2 / 557
ولما كانت هذه الشريعة خاتمة الشرائع، وعليها تقوم الساعة، ولم يكن بعدها شريعة ولا رسالة أخرى، تبين ما تبدل منها، وتجدد ما درس من آثارها، كما كانت الشرائع المتقدمة تجدد بعضها آثار بعض، وتبين بعضها ما تبدل من بعض، تكفل الله بحفظ هذه الشريعة، ولم يجمع أهلها عَلَى ضلالة، وجعل منهم طائفة قائمة بالحق لا تزال ظاهرة عَلَى من خالفها حتى تقوم الساعة، وأقام لها من يحملها ويذب عنها بالسيف واللسان والحجة والبيان، فلهذا أقام الله تعالى لهذه الأمة من خلفاء الرسل وحَمَلَةِ الحجة في كل زمان من يعتني بحفظ ألفاظ الشريعة وضبطها، وصيانتها عن الزيادة والنقصان، ومن يعتني بحفظ معانيها ومدلولات ألفاظها، وصيانتها عن التحريف والبهتان. والأولون أهل الرواية، وهؤلاء أهل الدارية والرعاية، وقد ضرب النبي ﷺ مثل الطائفتين. كما ثبت في "الصحيحين" (١) عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلُ غَيْثٍ أَصَابَ الْأَرْضَ، فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةً قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ نَاسًا فَشَرِبُوا وَرَعُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلَأً، فَلِذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقَّهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَنَفَعَ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
فمثَّل النبي ﷺ العِلْم والإيمان الَّذِي جاء به بالغيث يصيب الأرض.
وهذا المثل كقوله تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا﴾ (٢).
فمثل تعالى ما أنزله من العلم والإيمان إلى القلوب بالماء الذي أنزله من
_________
(١) أخرجه البخاري (٧٩)، ومسلم (٢٢٨٢)، من حديث أبي موسى الأشعري.
(٢) الرعد: ١٧.
2 / 558
السماء إِلَى الأرض، وهو ﷾ يمثل العِلْم والإيمان تارة بالماء كما في هذه الآية، وكما في المثل الثاني المذكور في أول سورة البقرة (١)، وتارة يمثله بالنور كما في المثل المذكور في سورة النور (٢)، والمثل الأول المذكور في سورة البقرة (٣)، وكذلك في هذه الآية التي في سورة الرعد (٤)، ذكر مثلًا ثانيًا يتعلق بالنار وهو قوله: ﴿وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ (٥) فإن الماء والنور مادة حياة الأبدان، ولا يعيش حيوان إلا حيث هما موجودان، كما أن العِلْم والإيمان مادة حياة القلب، وهما للقلوب كالماء والنور، فَإِذَا فقدهما القلب فقد مات.
وقوله تعالى: ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (٦) شبه القلوب الحاملة للعلم والإيمان بالأودية الحاملة للسيل، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا، كوادٍ كبير يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير يسع علمًا قليلًا، كواد صغير يسع ماءً قليلًا، فحملت القلوب من هذا العِلْم بقدرها، كما سألت الأودية من الماء بقدرها.
فهذا تقسيم للقلوب بحسب ما تحمله من العِلْم والإيمان إِلَى متسع وضيق.
والذي ذكره النبي ﷺ في حديث أبي موسى تقسيم لها بحسب ما يرد عليها من العِلْم والإيمان إِلَى قابل لإنبات الكلأ والعشب، وغير قابل لذلك وجعلها ثلاثة أقسام:
قسم قبل الماء، فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والفهم والفقه في الدين، والبصر بالتأويل، واستنباط أنواع المعارف والعلوم من النصوص، وهؤلاء مثل:
_________
(١) البقرة: ٢٢.
(٢) النور: ٣٥.
(٣) البقرة: ١٧.
(٤) الرعد: ١٦.
(٥) الرعد: ١٧.
(٦) الرعد: ١٧.
2 / 559
الخلفاء الأربعة، وأبيِّ بن كعب، وأبي الدرداء، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عباس.
ثم كالحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد.
ثم كمالك، والليث، والثوري، والأوزاعي، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ومحمد بن نصر المروزي.
وأمثالهم من أهلم العِلْم بالله وأحكامه، أوامره ونواهيه.
وكذلك مثل أويس، ومالك بن دينار، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وأبي سليمان، وذي النون، ومعروف، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله، والحر بن أسد.
وأمثالهم من أهل العِلْم بالله وأسمائه وصفاته، وأيامه وأفعاله.
وقسم حفظ الماء، وأمسكه حتى ورد الناس فأخذوه فانتفعوا به، وهؤلاء هم الذين لهم قوة الحفظ والضبط، والإتقان، دون الاستنباط والاستخراج، وهؤلاء كسعيد بن أبي عروبة، والأعمش، ومحمد بن جعفر غندر، وعبد الرازق، وعمرو الناقد، ومحمد بن بشار بندار، ونحوهم.
وقسم ثالث وهم شر الخلق، ليس لهم قوة الحفظ، ولا قوة الفهم، لا دارية ولا رواية، وهؤلاء الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسًا.
والمقصود ها هنا أن الله تعالى حفظ هذه الشريعة بما جعل لها من الحملة: أهل الدارية، وأهل الرواية، فكان الطالب للعلم والإيمان يتلقى ذلك ممن يدركه من شيوخ العِلْم والإيمان، فيتعلم الضابط القرآن والحديث ممن يعلم ذلك، ويتعلم الفقه في الدين من شرائع الإسلام الظاهرة، وحقائق الإيمان الباطنة ممن يعلم ذلك.
وكان الأغلب عَلَى القرون الثلاثة المفضلة جمع ذلك كله، فإن الصحابة تلقوا عن النبي ﷺ جميع ذلك، وتلقاه عنهم التابعون، وتلقى عن التابعين تابعوهم، فكان الدين حيئذ مجتمعًا، ولم يكن قد ظهر الفرق بين
2 / 560
مسمى الفقهاء وأهل الحديث، ولا بين علماء الأصول والفروع، ولا بين الصوفي والفقير والزاهد، وإنما انتشرت هذه الفروق بعد القرون الثلاثة، وإنما كان السَّلف يسمون أهل العِلْم والدين القراء، ويَقُولُونَ: يقرأ الرجل إذا تنسك.
وكان العالم منهم يتكلم في جنس المسائل المأخوذة من الكتاب والسنة، وسواء كانت من المسائل الخبرية العلمية، كمسائل التوحيد والأسماء والصفات، والقدر والعرش والكرسي، والملائكة والجن وقصص الأنبياء، ومسائل الأسماء والأحكام، والوعد والوعيد، وأحوال البرزخ، وصفة البعث والمعاد، والجنة والنار ونحو ذلك.
أو من أعمال الجوارح، كالطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج والجهاد، وأحكام المعاوضات والمناكحات والحدود والأقضية والشهادة ونحو ذلك.
أو من المسائل العملية، سواء كانت من أعمال القلوب كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل والزهد والتوبة والشكر والصبر ونحو ذلك، وإن كان يكون لبعضهم في نوع من هذه الأنواع من مزيد العِلْم والمعرفة، والحال ما ليس له في غيره مثله.
كما كان يقال في أئمة التابعين الأربعة:
سعيد بن المسيب إمام أهل المدينة.
وعطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة.
وإبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة.
والحسن البصري إمام أهل البصرة.
كان يقال: أعلمهم بالحلال والحرام سعيد بن المسيب، وأعلمهم بالمناسك عطاء، وأعلمهم بالصلاة إبراهيم، وأجمعهم الحسن.
2 / 561
وكان أهل الدراية والفهم من العُلَمَاء إذا اجتمع عند الواحد منهم من ألفاظ الكتاب والسنة ومعانيهما، وكلام الصحابة والتابعين ما يسره الله له، جعل ذلك أصولًا وقواعد يبني عليها ويستنبط منها، فإن الله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان، والكتاب فيه كلمات كثيرة، هي قواعد كلية وقضايا عامة، تشتمل أنواعًا عديدة، وجزئيات كثيرة، ولا يهتدي كل أحد إِلَى دخولها تحت تلك الكلمات؛ بل ذلك من الفهم الَّذِي يؤتيه الله من يشاء في كتابه.
وأما الميزان فهو الاعتبار الصحيح، وهو من العدل والقسط الَّذِي أمر الله بالقيام به، كالجمع بين المتماثلين لاشتراكهما في الأوصاف الموجبة للجمع والتفريق بين المختلفين؛ لاختلافهما في الأوصاف الموجبة للفرق، وكثيرًا ما يخفى وجه الاجتماع والافتراق ويدق فهمه.
وأما أهل الرواية إذا اجتمع عندهم من ألفاظ الرسول، وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم في التفسير والفقه وأنواع العلوم، لم يتصرفوا في ذلك؛ بل نقلوه كما سمعوه، وأدوه كما حفظوه، وربما كان لكثير منهم من التصرف والتميز في صحة الحديث وضعفه من جهة إسناده، وروايته ما ليس لغيرهم.
فصل: وكان العِلْم والدين يتلقاه التابع عن المتبوع سماعًا وتعلمًا، وتأدبًا واقتداء.
وكان الحديث يحفظ في القلوب حفظًا، فكان الشيخ يحدث أصحابه من حفظه، وربما حدث من حِفْظِه وكتابه، وأصحابه يسمعون ذلك ويحفظونه عنه وربما كتبوه، ولم تكن الكتب قد صنفت في زمن الصحابة والتابعين، وإنما صنفت بعد ذلك في زمان أتباع التابعين، فصنف ابن جريج في التفسير والحديث والفقه.
وصنف سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، وصنف مالك، وابن المبارك، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي، وهشيم، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وابن وهب، وغيرهم.
2 / 562
وهؤلاء يجمعون في كتبهم ما روي عن النبي ﷺ وعن الصحابة والتابعين، ثم جرد طوائفه آخرون الحديث المسند عن النبي ﷺ ولم يخلطوه بشيء من الآثار كما فعل موسى بن قرة، والإمام أحمد، وإسحاق وبقي بن مخلد، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهم.
ثم صنف قوم المسند الصحيح عن النبي ﷺ، وأسقطوا ما عداه من الضعيف، كما فعل البخاري ومسلم.
وصنف أيضًا في الصحيح ابن حبان، وابن خزيمة، والحاكم، وابن السكن، وغيرهم، ولا يبلغ تصحيح هؤلاء تصحيح الشيخين.
وصنف أصحاب السنن والجوامع الكتب المرتبة عَلَى الأبواب، ولما انتشرت الكتب والتصانيف توسع الناس في الرواية، فصاروا يقرءون عَلَى الشيوخ قراءات ويسمى ذلك العرض. وصار الشيوخ يناولون أصحابهم كتبًا يعرفون ما فيها، ويأذنون لهم في روايتها عنهم، وكان هذا وهذا من عمل أهل الحجاز وغيرهم.
وقد كانوا قبل تصنيف الكتب يفعلون ذلك أيضًا أحيانًا في أحاديث يكتبونها في صحف.
وأنكر العرض والمناولة طائفة من علماء العراق، كما أنكروا الشهادة عَلَى مثل ذلك، فإنهم أنكروا الشهادة عَلَى الوصية المختومة، وعلى كتاب القاضي حين يقرءوه عليه، ويعلم ما فيه، ووافقهم طائفة من الفقهاء في الشهادة دون الرواية، فصارت الأقوال ثلاثة:
أحدها: المنع من الرواية بما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه بخطه، وهؤلاء يمنعون الزيادة بما ناوله بخطه أيضًا.
وأما الشهادة بما قرئ عليه فأقر به، فلا يحفظ قولهم في ذلك، وهذا القول كان قديمًا مشهورًا عن أهل العراق، وكان مالك وغيره ينكره عليهم.
2 / 563
ومنهم طوائف يجيزون العرض دون المناولة.
والثاني: جواز الرواية بالعرض والمناولة، وأن ذلك بمنزلة السماع من لفظ الراوي، وجواز الشهادة عَلَى ما قرئ عليه فأقر به، وعلى الكتاب المختوم أيضًا، وهذا قول علماء أهل الحجاز وغيرهم.
وها هنا سببان يتعين الفرق بينهما:
أحدهما: صحة ما قرأه عَلَى الشيخ أو ناوله إياه أو وجده بخطه. وكذلك صحة ما وجد من الوصايا والأقارير بخط الرجل، وجواز العمل بذلك والحكم به.
والثاني: جواز الرواية والشهادة بذلك.
فأما الأول: فإن مالكًا وغيره من علماء الحجاز يرون أن ما عرض عَلَى الرجل فأقر به، وما كتبه بخطه بمنزلة ما قاله بلسانه في الصحة والثبوت وفي ذلك كله، فإنهم يرون صحة العرض والمناولة، ويرون قبول كتاب القاضي وغيره إذا علم أنه كتابه بالشهادة، وإن لم يشهدوا بما فيه، وهذا أيضًا هو الثابت عن الإمام أحمد، فإن مذهبه جواز العرض والمناولة، ومذهبه جواز الرواية من الكتاب إذا عرف الخط، وإن لم يكن بخطه، وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه.
وكذلك مذهبه جواز العمل بالوصية من غير إشهاد عليها، وكذلك الخط وإن لم يكن بخطه.
وكذلك مذهبه أن الحاكم والشاهد يعملان بما يجدان بخطهما، وإن لم يذكراه، وهذا أكثر الروايات عنه.
والرواية التي قال فيها لا يعمل بذلك -حتى يكون الكتاب تحت حرزه- هو من الاستظهار ليتيقن أنه خطه، وإلا فهو إِنَّمَا يعمل بخطه لا بحفظه.
وكذلك خرَّج أصحابه من كلامه جواز العمل بكتاب القاضي إذا شهد به
2 / 564
شاهدان، وإن لم يقرأ عليهم، كما هو مذهب مالك والزهري، وقول أبي يوسف، وأبي عبيد، ومحمد بن نصر المروزي، واختيار السرخسي من الشافعية.
وكانت سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين، وسنة قضاة الإسلام بالحجاز والعراق قبول الكتاب، وإن لم يشهد عَلَى ما فيه.
وأول من طلب الشهود عَلَى الكتاب بعض القضاة في أوائل الدولة العباسية، كسوار بالبصرة، وابن أبي ليلى بالكوفة، وقد ذكر ذلك البخاري في "صحيحه" وغيره من العُلَمَاء؛ بل كانوا يقبلون الكتاب مع واحد ثقة إذا عرف الخط أيضًا.
وهذه الأقوال في مذهب مالك، وقد صرح أصحاب أحمد أن من قوله قبول الكتاب بمجرد معرفة الخط والختم، وهو قول محمد بن نصر وغيره من فقهاء أهل الحديث.
وأما الثاني: وحو جواز الرواية والشهادة بذلك، فها هنا ثلاثة أشياء: عرض، ومناولة، وشهادة.
فأما العرض: فَإِذَا قرئ عَلَى العالم فأقر به جاز أن يرويه عنه، وإن لم يأذن له في روايته عند الجمهور، وليس في ذلك إلا خلاف شاذ ولا يكاد يثبت، وإن لم يقر به بل سكت فهل له أن يرويه عنه؟ فيه قولان.
والجمهور عَلَى جواز روايته عنه، ويكون سكوته كإقراره.
وتنازعوا: هل يجوز له في روايته عنه أن يقول: حدثني، وأخبرني، أو لا يجوز ذلك؟
يقول: قرأت عَلَى فلان فلم ينكر عليَّ. قوله هذا حكاية عن الإمام أحمد.
وكذلك تنازعوا فيما إذا عرض عَلَى الشيخ فأقر له به، هل يقول في الرواية عنه: ثنا، وأخبرنا، أو لا يقول ذلك، بل يقول: قرأت عَلَى فلان فأقر به، أو يقول: أخبرنا، ولا يقول: حدثنا؟ عَلَى ثلاثة أقوال:
2 / 565
وكلام الإمام أحمد في ذلك مختلف، وطرق أصحابه مختلفة في حكاية الروايات عنه في ذلك.
وأما المناولة: إذا ناوله شيئًا معينًا يعلمه، وقال له: اروه عني، فالجمهور عَلَى جواز ووايه عنه.
وتنازعوا: هل يقول في الرواية بالمناولة: حدثنا، وأخبرنا، أو لا يجوز ذلك؟
بل يقول: قال فلان أو عن فلان، أو أعطانى فلان، أو ناولني ونحو ذلك، عَلَى قولين:
وقد قيل بجواز أن تقول: أخبرني، ولا يجوز أن تقول: حدثني، وهو ظاهر كلام أحمد.
وإن ناوله شيئًا، وقال: هو سماعي، ولم يأذن له في روايته عنه، ففي جواز روايته عنه قولان.
وأما الشهادة عَلَى الخط: فإن قرأه عليه وأقر به، فلا ريب في صحة الشهادة به.
وأما إِن لم يقرأه عليه، ولم يعلم ما فيه، فهل يجوز له أن يشهد به إذا أمره بذلك؟ كمن كتب كتابًا وختمه، وقال لرجل: اشهد بماء فيه، عَلَى قولين:
وكثير من الفقهاء يمنعون تحمل صحة هذه الشهادة، وهو منصوص الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور، وذهب طائفة إِلَى صحة تحملها كالزهري وأبي يوسف وأبي عبيد، وهو قول أبي بكر الرازي وغيره.
وقد خرّج طائفة من أصحاب أحمد صحة هذه الشهادة من نصه، عَلَى جواز العمل بها، وليس ذلك بلازم، فإن جواز العمل بها يقتضي صحة الحكم بالخط المعروف، ولا يلزم من ذلك تحمل الشهادة عليه بما لم يسمعه منه، ألا ترى أنه إذا وجد حدثنا بخط من يعرفه، جاز له أن يعتمد عليه في العمل وتصحيحه، وليس له أن يروي عنه؛ لأنّه لم يتحمله عنه، ولم يسمعه منه، ولهذا منع طائفة من العُلَمَاء من الرواية بالمناولة، وجوزوا العمل
2 / 566
بها كما نُقِلَ ذلك عن الأوزاعي وغيره، وأيضًا فالحكم يعمل بالخط إِن يعرفه والشاهد في حال التحمل لم يعرف ما تحمله البتة، ولا سمعه من لفظه، ولا قرأه من خطه، فكيف يصح تحمله لما لم يعلمه بحال.
نعم، يجوز له أن يشهد أن هذا كتابه الَّذِي تبه وختمه، أو يشهد عَلَى الخط إذا فتحه وعرفه، ولعل مراد كثير ممن قال بقبول الختاب المختوم المشهود عليه وأن يقرأ عَلَى الشهود أن الشاهد يشهد أن هذا كتاب فلان، فيفيد ذلك أنه كتابه، ويكون العمل بالخط، وتخريج هذا عن أحمد في كتاب القاضي ونحوه، من نصوصه المستفيضة في العمل بالخطوط أولى من تخريج صحة الشهادة بما تضمنه الكتاب المختوم.
لكن يقال: تخرج صحة الشهادة عَلَى الكتاب المختوم من صحة الرواية بالمناولة، إِن ناوله كتابًا لا يعلم الطالب ما فيه، وأذن له في روايته، فإنه يجوز له أن يقول إذا قرأه: أجزت فلانًا بكذا كما تقدم، ولكن كثيرًا من العُلَمَاء يجعل باب الرواية أسهل من باب الشهادة، ويرى التوسع في الرواية بما لا يتسع بمثله في الشهادة، ولأجل هذا فرق أهل القول الثالث في أصل المسألة بين بابي الرواية والشهادة، فجوزوا الرواية بالعرض والمناولة، دون الحكم بالكتاب المختوم والشهادة به، وهذا قول الشافعي وغيره، وهو المشهور عند المتأخرين من أصحاب أحمد.
وفرقوا بينهما بأن الرواية مبناها عَلَى المسامحة، فإنه لا يشترط لها العدالة في الباطن، ويقبل فيها قول النساء والعبيد، وحديث العنعنة ونحو ذلك بخلاف الشهادة في كلام أحمد إيماء إِلَى فرق آخر وهو أن الشهادة قد يخفى تغيرها وزيادتها ونقصها، بخلاف الحديث، فإنه قد ضبط وحفظ، فلا يكاد يخفى تغيره، وهذا لأنّ الطعن في رواية ما في الكتاب والشهادة، تارة يعلل بعدم الوثوق بالكتاب لاحتمال تزويره، والزيادة فيه والنقص منه.
2 / 567
وبسبب هذا قال من قال: إِن الرواية من الكتاب كالمنقطعة؛ لأنها مأخوذة عن مجهول، وتارة يعلل بالطعن في صحة تحمل الرواية والشهادة لانتفاء السماع، والذين يجيزون ذلك يحتجون بكتابة النبي ﷺ إِلَى الملوك وغيرهم، وبعمل خلفائه من بعده بالمكاتبات ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسطه.
وهذه المناولة التي ذكرناها هي أن يناوله شيئًا معينًا من رواياته قد عرفه، ويخبره أنه من رواياته، ويأذن له في روايته عنه، أو يكتب إِلَيْهِ بخطه الإذن في رواية شيء معين من رواياته.
فأما الإجازة المطلقة، وهو أن يقول: أجزت لك جميع ما يصح عندك من مروياتي، أو يكتب إِلَيْهِ بذلك، فهذا فيه نزاع بين من يرى صحة المناولة المعينة، والذي نقله أبو بكر الخطيب وغيره عن أهل المدينة العمل به، وقد أنكره جماعة ممن يرى صحة المناولة المعينة، كأحمد بن صالح المصري، ولذلك نقل حنبل عن الإمام أحمد ما يدل عَلَى كراهته، وممن أنكر ذلك البرقاني وأبو بكر الرازي، وطائفة من الفقهاء والمحدثين، وأكثر أصحاب الشافعي وأحمد عَلَى جوار ذلك، وتوسعوا في ذلك حتى جوزوا الإجازة المطلقة لكل أحد، وهي التي تسمى الإجازة العامة، وجوزوا الإجازة للمعدوم.
وهذا كما توسع المتأخرون في السماع، فإن المتقدمين كانوا لا يسمعون إلا من أهل المعرفة والحفظ، حتى تنازعوا في صحة الرواية عمن يحدث من كتابه، ولا يحفظ حديثه، فمنعه مالك ويحيى بن معين وغيرهما، ورخص فيه آخرون إذا كانت كتبه محفوظة، وأهل المغرب إِلَى الآن يشددون في ذلك، وبسبب ذلك صارت أسانيدهم نازلة.
وأما أكثر المتأخرين، فإنهم يسمعون عَلَى الشيوخ الذين لا يعرفون ما يقرأ
2 / 568
عليهم ويستجيزونهم، وهذا لأنّ مقصودهم من الإسناد حفظ السلسلة والعلو، وليس المقصود من الرواية عن هؤلاء تلقي العِلْم عنهم وضبطه كما كان السَّلف، فإن هذه الكتب والأجزاء التي تسند عن هؤلاء الشيوخ معروفة محفوظة، بل منقولة بالتواتر لا يُحتاج في نقلها إِلَى ذلك الشيخ، وصار هذا كالذي يحفظ القرآن، ويقرأه عَلَى شيخ عالي الإسناد، فإنه يستفيد بذلك علو الإسناد فقط، وإلا فنقل القرآن والقراءات كلاهما متواتر، لا يحتاج فيه إِلَى هذا الشيخ، فكذلك الحديث إِنَّمَا يعمد فيه عَلَى ما يعرفه الحفاظ، وما ﴿يحققونه﴾ (*) من الكتب المعتمد عليها، والخطوط الموثوق بها.
وتكون الرواية عن هؤلاء الشيوخ لأجل علو الإسناد، واتصال سلسلته؛ فإن الإسناد من خصائص هذه الأمة، مع أن في السماع فوائد جمة من نشر السنة النبوية وإظفارها، وبعث الهمم عَلَى الاشتغال بها دراية ورواية، وغير ذلك من المصالح.
فصل: وكان المقصود من ذكر هذه المقدمة، أنه وقع السؤال عن جماعة من شيوخ الرواية الذين أدركناهم بالسماع والإجازة بالشام ومصر، وعن شيء من (رواياتهم) (**) العالية، وكان السائل قدره أعلى من أن يسلك به المسلك المعتاد من الاقتصار عَلَى ذكر الإسناد، فإن ذلك يقع كثيرًا لمن يقنع بظواهر الرسوم دون حقائق الإيمان والعلوم، فذكرنا قبل ذلك هذه المقدمة لتكون الأشياء مبنية عَلَى أصولها، ويبين بذلك مقصود الرواية، وأنها وسيلة إِلَى الدراية والرعاية.
وقد قال الحسن البصري ﵁: همة السفهاء الرواية، وهمة الحكماء الرعاية.
والرعاية هي: القيام بحقوق الرواية من العمل والتعليم، فهي ثمرة الدراية.
_________
(*) غير واضحة بالأصل وتشبه أن تكون ما أثبتناها، وفي نسخة: "وما يحتفون به".
(**) رواتهم: "نسخة".
2 / 569
والحكماء هم: أهل الحكمة، والحكمة هي معرفة الدين والعمل به كما قاله مالك والليث وغيرهما من السَّلف.
وكذلك ذكره ابن قتببة وغيره، فالحكماء هم خواص العُلَمَاء كما كان الفضيل بن عياض ﵁ يقول: العُلَمَاء كثير، والحكماء قليل.
وقال له رجل: العُلَمَاء ورثة الأنبياء، فَقَالَ فضيل: الحكماء ورثة الأنبياء، وإنما قال هذا؛ لأنّه صار كثير من الناس يظن أن العُلَمَاء الممدوحين في الشريعة يدخل فيهم من له لسان علم، وإن لم يكن عنده من حقائق الإيمان ومن العمل بالعلم ما يوجب سعادته.
فبين الفضيل أنه لا يدخل في مدح الله ورسوله للعلماء إلا أهل الحكمة، وهم أهل الدراية والرعاية.
وقد كان السَّلف لا يطلقون اسم العالم إلا عَلَى من عنده علم يوجب له الخشية، كما قال بعضهم: إِنَّمَا العالم من يخشى الله، ولقي بخشية الله علمًا، وهذا مطابق لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (١). والله تعالى أعلم. انتهى. بلغ مقابلة عَلَى أصله.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
...
_________
(١) فاطر: ٢٨.
2 / 570