Introduction to Sahih al-Bukhari
المدخل إلى صحيح البخاري
Maison d'édition
دار توقيعات-لندن
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٤٠ هـ - ٢٠١٩ م
Lieu d'édition
المملكة المتحدة
Genres
الجَامِعُ المُسْنَدُ الصَّحِيحُ المُخْتَصَرُ مِنْ أُمُورِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَسُنَنِهِ وَأَيَّامِهِ
لِلإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ البُخَارِيِّ
الطَّبْعَةُ السُّلْطَانِيَّةُ فِي تِسْعِ مُجَلَّدَاتٍ مَعَ مُجَلَّدٍ لِلمُقَدِّمَةِ
طُبِعَ الأَصْلُ فِي المَطْبَعَةِ الأَمِيرِيَّةِ بِمِصْرَ سَنَةَ ١٣١٣/ ١٨٩٥ بِأَمْرٍ مِنَ السُّلْطَانِ العُثْمَانِيِّ عَبْدِ الحَمِيدِ الثَّانِي
وَأَعَادَتْ دَارُ تَوْقِيعَاتٍ طِبَاعَتَهُ طِبْقَ الأَصْلِ بِطَرِيقَةِ الفَاكْسِيمِيل سَنَةَ ١٤٤٠/ ٢٠١٩
مُقَدِّمَةُ الطَّبْعَةِ السُّلْطَانِيَّةِ
المَدْخَلُ إِلَى صَحِيحِ البُخَارِيِّ
مُحَمَّدٌ أَبُو الهُدَى اليَعْقُوبِيُّ
الطَّبْعَةُ الأُولَى ١٤٤٠/ ٢٠١٩
جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَةٌ لِدَارِ تَوْقِيعَاتٍ - المَمْلَكَةُ المُتَّحِدَةُ
1 / 4
مقدمة الناشر
بعدَ حمدِ الله تعالى، والصلاةِ والسلامِ على خيرِ خلقِه سيدِنا محمدٍ وآلِه وصحبِه، تشرُف دارُ توقيعات للنشر، بأن تقدم للعالم الإسلامي الطبعة السلطانية لصحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى، وهي التي أمر بطباعتها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وانتهت المطبعة الأميرية ببولاق في مصر من طباعتها سنة ١٣١٣، وخرجت في تسعة أجزاء بحرف جميل، وتنضيد أنيق، وحلة قشيبة.
وبما أن صحيح البخاري هو أصحُّ كتابٍ للمسلمين بعد القرآن الكريم، فقد وجَّه السلطانُ عبد الحميد الثاني ﵀ كلَّ اهتمامه لإخراج طبعةٍ صحيحةٍ مُتقَنةٍ منه.، تكون مرجعًا للأمة الإسلامية، وأصدر الأمر بالبدء بطباعته على نفقته الخاصة. وأرسل إلى مصر من خزانته المُلوكية النسخةَ اليونينية الخطية الأصلية النادرة، لمقابلة الطبعة وتصحيحها.
وبعد انتهاء الطبع قام شيخ الأزهر الشيخ حسونةُ النواوي، وستةَ عشرَ من العلماء الأعلام بتصحيحها ومقابلتها كلمةً كلمةً. على النسخة اليونينية التي أرسلها السلطان.، وأعدُّوا جداول بالخطأ والصواب، أُرفقت مع كل جزء من أجزائها التسعة. ثم قام شيخ الإسلام محمد جمال الدين أفندي، ولجنةٌ أخرى من كبار علماء الدولة العثمانية في إستنبول، بمراجعة الطبعة ثانيةً وإجازتها. إنها مأثَرةٌ من مآثر السلطان عبد الحميد الثاني ﵀، زادها حُسنًا بأنه جعل تلك الطبعة وقفًا عامًّا للمسلمين.
1 / 7
لقد مرت مائةٌ وسبع وعشرون سنةً منذ صدور تلك الطبعة، ولا تزال هي أفضل طبعة لصحيح البخاري على الإطلاق، تتحدى بدقتها، وحسن إخراجها أحدثَ أساليب الطباعة والتحقيق. ولم تستطع آلات الطبع الحديثة، ولا الحروف الجديدة المخترعة، ولا المجامعُ العلمية التي تأسست خلال هذه المدة أن تُخرج طبعةً أفضل منها، لا في صحة النص ودقة الضبط، ولا في جمال الإخراج وأناقة التنضيد.
لقد أبدع الإمامُ شرفُ الدِّينِ عليُّ بنُ مُحمَّدٍ اليُونِينيُّ (-٧٠١) في تصحيح نسخته ومقابلتها على أصحِّ الأصول الخطية، وتَتَبَّعَ كل اختلاف بين هذه الأصول فأثبته، من خلال نظام دقيق لتحقيق النص وإثبات الفروق، جعل فيه لكل نسخة من النسخ التي اعتمد عليها رمزًا، فكان بذلك مبدعًا في ميدان التوثيق، ورائدًا في مجال التحقيق.
وصرف الإمام اليونيني عمره في دراسة صحيح البخاري وتدريسه ومقابلته، حتى قابله في سنة واحدة إحدى عشرةَ مرةً. وجمع سنة ٦٦٧ هـ أبرز علماء دمشق، وعقد لهم مجالس لقراءة صحيح البخاري وتصحيحه.، حضرها إمام النحاة الشهير محمد ابن مالك (-٦٧٢) صاحب الألفية، وتمت القراءة والمقابلة والتصحيح في واحدٍ وسبعين مجلسًا، نتج عنها أصح نسخة من صحيح البخاري تُسَمَّى: النسخة اليونينة.
لقد أخرجت الطبعة السلطانية كنوز تلك النسخة اليونينية بإتقان، ونقلت رموزها بدقة بالغة، وهو أمرٌ لم تتمكن من القيام به أي طبعة أخرى حتى الآن.
وقد زادت الطبعة السلطانية دقةً وتحريرًا بمقابلتها على نسخة أخرى فائقة الأهمية، هي النسخة البصرية، وهي فرعٌ عن النسخة اليونينية، نسخها بخط يده العلامة الشيخ عبد الله بن سالمٍ البصري (-١١٣٤)، وهو عالم شهير، أقرأ صحيح البخاري في جوف الكعبة عدة مراتٍ، وألَّف شرحًا له. واعتنى بنسخته من صحيح البخاري،
1 / 8
وأمضى نحو عشرين سنةً في مقابلتها وتصحيحها. وقام المصححون في مطبعة بولاق بالاستفادة من جواهر نسخته، ومراجعة الطبعة السلطانية عليها.
وبعد انتهاء التصحيح والمقابلة أعيدت النسخة اليونينية من مصر إلى إستنبول، ولكنها فُقدت بعد ذلك، ولم يُعثَر لها إلى هذا اليوم على أي أثر، كما أن مصير النسخة البصرية التي كانت مِلكًا للشيخ طاهر سنبل في المدينة المنورة لا يزال سرًّا غامضًا.
هذه الأحداث جعلت من الطبعة السلطانية طبعةً فريدةً في دقتها العلمية، نادرةً في قيمتها التاريخية، لأنها تمثل خلاصة الجهود التي بذلها العلماء لتصحيح صحيح البخاري خلال سبعمائة سنة. وزاد في ندرتها أنه لم يطبع منها غيرُ ألف نسخة، فأصبحت بذلك تحفةً أثريةً لا تقدر بثمن.
وقد أحببنا في دار توقيعات أن نعيد إصدارها لسببين: الأول: أنها أصحُّ الطبعات على الإطلاق، فينبغي أن تكون في متناوَل العلماء، وبين أيدي القراء. الثاني: لإحياء ذكرى السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله تعالى، والتذكير بمآثره في خدمة الإسلام.، ومنها طبع صحيح البخاري.
واعتمدنا في إعادة الطباعة على نسخة أصلية من الطبعة السلطانية في مكتبة الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي حفظه الله تعالى، ذات جلد أصلي مذهَّبٍ تُحَلِّيه طُغَراءُ السلطان، وشعار الدولة العثمانية، تعرف باسم (بخاري سَراي) أي نسخة القصر.
لقد جرت عدةُ محاولات في العقود السابقة لإعادة إصدار الطبعة السلطانية مع إضافات عديدة، وتحسينات مفيدة، اجتهد الناشرون في اختيارها لتحسين الطبعة وتيسير المراجعة فيها.
1 / 9
ولكن ما يميز طبعتنا هذه هو أنها نسخةٌ طبقُ الأصل عن الطبعة السلطانية، طُبعت بطريقة الفاكسيميل محاكاةً للأصل. واختير لذلك ورقٌ فاخرٌ مُقَهَّرٌ.، وتمَّ الاعتناء بالتسفير والتذهيب، كما جرت العادة في النسخ التي تُقدَّم إلى خزائن الملوك. واستُعمل لونُ الذهب بدل اللون الأسود في الخطوط العريضة للعناوين وبدايات الأحاديث، وحُذفت عبارة: (وقف لله تعالى لا يباع ولا يشرى) من أعلى الصفحات، ووُضعت طُغَراءُ السلطان عبد الحميد، وشعارُ الدولة العثمانية في عهده على طرفي الجلد.، كما كان في النسخ الفاخرة من الطبعة الأصلية.
وأرفقنا مع هذه الطبعة السلطانية كتاب المَدْخَل إِلى صَحِيحِ البُخَارِيِّ تأليف الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي، وهو كتاب يُعَدُّ سَفَطَ جوهرٍ يشتمل على لآلئَ ودررٍ من الأبحاث التي لا يستغني عنها قارئُ صحيح البخاري.
وإننا في دار توقيعات للنشر إذ نضع هذه الطبعة السلطانية، والتحفة النفسية الخزائنية من صحيح البخاري بين أيدي المحبين للنبي ﵊ من كافة طبقات المجتمع، وهي أول كتاب نصدره، لنشكر كل من أعاننا على إخراج هذه التحفة الثمينة في هذه الحلة القَشيبة، سائلين الله تعالى أن يتقبل منا جميعًا صالح الأعمال، إنه سميع قريب مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
غرة شهر شوال سنة ١٤٤٠
دار توقيعات للنشر - لندن
1 / 10
مقدمة المؤلف
صحيحُ الحمدِ مرفوعٌ إلى الله تعالى سالمًا من كلِّ عِلَّة، على أن جعلنا من خيرِ أمةٍ أُخْرِجَتْ للناس وأفضلِ مِلَّة. نحمدُه على ما اتصل إلينا من آلائه، حمدًا يزيدُنا قربًا لديه.، ونشكرُه على ما تواتر من نعمائه، شكرًا جامعًا مُسْنَدًا إليه. أنعمَ علينا بنعمة الإيمان والإسلام، وأكرمَنا ببعثة سيدنا محمد ﵊، وامتنَّ علينا بذلك في الكتاب العزيز فقال ﷾: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ [سورة آل عمران: ١٦٤].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبيِّكَ ورسولك سيدِنا مُحَمَّدٍ الذي رَفَعْتَ ذِكْرَهُ عَلِيًّا، وأبقيتَ حديثَهُ مَروِيًّا، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ..
أما بعد، أيدك الله تعالى بالعلم، وزانك بالعمل، وحلاك بالسنة، وأيدك بالتوفيق، فهذا كتاب المدخل إلى صحيح البخاري، أضعه بين يديك، وهو مقدمات هامَّةٌ يحتاج إليها قارئ كتابِ الجامع المُسْنَدِ الصحيح المختصرِ من أمور رسولِ الله ﷺ وسننِه وأيامِه، للإمام الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمه الله تعالى، المعروفِ اختصارًا باسم الجامع الصحيح أو صحيح البخاري، نقدمه لجمهور القراء والطلبة والباحثين مقترنًا بمناسبتين اثنتين:
الأولى: عقدُ مجالسِ السماع للحديث النبوي الشريف، لقراءة صحيح البخاري روايةً في مسجد آشتون المركزي في منطقة مانشستر بإنجلترة.
1 / 11
والثانية: إعادة إصدار الطبعة السلطانية النفيسة لصحيح البخاري، وهي أصح الطبعات، ليكون هذا الكتاب مفتاحًا للصحيح، ودليلًا لمن يريد قراءته.
وقد رأينا الحاجة الماسة لكتاب مختصر سهل قريب المأخذ يكون عمدةً لقارئ الجامع الصحيح في ترجمة مؤلفه ومعرفة أحواله وتسهيل قراءة صحيحه، فوفقنا الله تعالى لتأليف هذا الكتاب الذي يجمع ستة كتبٍ في مجلَّد واحد هي:
١. حياة الإمام البخاري.
٢. التعريف بالجامع الصحيح.
٣. التعريف بالنسخة اليونينة والطبعة السلطانية.
٤. آداب رواية الحديث.
٥. ثبت الأسانيد التي نروي بها الجامع الصحيح.
٦. دعاء ختم الجامع الصحيح.
وقد رتبناه في اثني عشر فصلًا وتمهيد وملحقين، وابتدأنا بترجمة البخاري، وذكر ثناء العلماء عليه. ودراسة عن الصحيح وأقوال الأئمة عليه، واعتناء المسلمين به، ورواياته وطبعاته وأشهر الأسانيد إليه.
وخصصنا النسخة اليونينية بالاعتناء، فتكلمنا عنها وعن أشهر فروعها. ووجهنا إلى الطبعة السلطانية النظر، لأنا نرى لكل من اشتغل بإخراجها حقًّا علينا، فعقدنا تراجم للعلماء والمصححين والمشرفين الذين خدموها، خصوصًا من أمر بطبعها وهو السلطان عبد الحميد الثاني ﵀، ومن أشرف عليه وهو الغازي أحمد مختار باشا.، ومن أجاز بعد المراجعة والتدقيق النشرَ، وهما شيخ الجامع الأزهر العلامة الشيخ حسونة النواوي، وشيخ الإسلام في الدولة العثمانية العلامة محمد جمال الدين
1 / 12
أفندي. واستخرجنا من الأرشيف العثماني مراسلات بين حاجب السلطان وبين مندوبه العالي في مصر تكشف عن كثير من أسرار الطبعة السلطانية.
وعقدنا فصلًا بسطنا فيه فوائد الاشتغال برواية الحديث وحضور مجالس السماع، وفصلًا في آداب رواية الحديث الشريف، وحكم اللَّحْنِ - أي الخطأ - في رواية الحديث الشريف، وأصولَ كتابة البلاغات والسماعات والطِّباق.
وختمنا الكتاب بدعاء ختم الجامع الصحيح، وهو دعاءٌ جمعناه سنة ١٤٢٢، طبع مرتين.، وقرئ في عدة مجالس للختم، أدرجنا فيه ما ورد في صحيح البخاري من أدعية السنة.، ومنتخبات مما ذكره العلماء قبلنا في أدعية ختم البخاري. ومن الأمور المشهورة المجربة عند العلماء أن الدعاء عند ختم قراءة صحيح البخاري مستجاب.
ورغم أن مصادر ترجمة الإمام البخاري محدودة معروفة، إلا أن الباري ﷻ فتح علينا من خلال التأمل في النصوص، والنظر في الروايات، بدرر من الفوائد كالخرائد، وبدائع من التحقيقات فرائد، نرجو أن يكون في شيء منها إرشاد للساري في دروب ترجمة الإمام البخاري، وضياء للساري في مسالك أبواب الجامع الصحيح.
واعتنينا في ثنايا الكتاب بدفع الشكوك المتناثرة، وردِّ الشبه المتفرقة، مما يُوجَّهُ إلى الإمام البخاريِّ وصحيحه، فرددنا عليها، وبيَّنَّا وجوه المغالطة فيها. وقدَّمنا لأجل ذلك بين يدي الكتاب بتمهيدٍ، شرحنا فيه مسألة وجوب العمل بخبر الآحاد، أي وجوب العمل بالحديث الصحيح وإن رواه واحد أو اثنان من الرواة الثقات الحفاظ المتقنين، راجين أن يكون عونًا للقارئ في الدفاع عن صحيح البخاري أمام المغرضين الذين يطعنون في الإسلام، أو يشككون في السنة النبوية المطهرة التي هي المصدر الثاني للدين. وما الذي يبقى من ديننا إذا هدمنا أصح كتاب في السنة، وهو
1 / 13
صحيح البخاري؟ وهل عرفنا معظم أحكام العبادات والمعاملات والأخلاق والفضائل والآداب إلا من أحاديث النبي ﵊؟
ومع كل ذلك فإننا نرى أن أفضل وسيلة للرد على الطاعنين في صحيح البخاري هي تعريف الناس بهذا الكتاب الجليل.، وبيان مزاياه، وعقد المجالس لقراءته ودراسته، ليتخرج جيل من الطلبة والعلماء يشتغلون بروايته وتدريسه والدفاع عنه.
ونشير إلى أننا لم نقصد في كتابنا هذا استقصاء جميع أخبار الإمام البخاري، ولا الإحاطة بالمباحث المتعلقة بالجامع الصحيح ورواياته ومخطوطاته وطبعاته، فتلك بحور متلاطمة.، وفيافٍ واسعةٌ، قد يستغرق الكلام فيها بضع مجلدات. وما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَكُ قُلُّه. وقد أردنا للكتاب أن يكون قريبَ المأخذ، سهلَ المطالعة، يتجول القارئ في رياضه، ويقطف من ثماره وأزهاره، يكشف من خلاله عن بعض أسرار الجامع الصحيح، ويتمثل بين عينيه حياة مؤلفه الإمام البخاري رحمه الله تعالى. ولذلك اخترنا أن لا نثقل الكتاب بالحواشي والإحالات، فإن مصادر النصوص والروايات لا تخفى على أهل العلم، وقد أفردنا لها فِهرِسًا في آخر الكتاب.
وفي الختام، فإننا نهدي ثواب هذا الكتاب إلى جميع من خدم الجامع المسند الصحيح من العلماء والرواة، بدءًا من الإمامِ الفِربريِّ الذي سمع الصحيح من مؤلفه مرتين، وإليه تنتهي روايتنا، وانتهاءً بالإمام شرف الدين اليونينيِّ والإمام عبد الله بن سالمٍ البصري اللذَين أمضيا عمرَهما في تصحيح الجامع الصحيح وخدمته.
ونهدي الثواب بوجهٍ خاصٍّ إلى السلطان عبد الحميد الثاني، الذي أمر بالطبعة السلطانية وأنفق عليها من ماله الخاص، وإلى شيخ الأزهر حسونةَ النواوي، وشيخ الإسلام محمد جمال الدين أفندي اللذَين قاما بالإشراف على تصحيحها، وإلى الغازي
1 / 14
أحمد مختار باشا مندوب السلطان في مصر، الذي كان لهمته العالية، ومتابعته الدؤوبة أعظم الأثر في إنجازها، وإلى العلماء الأفذاذ الستة عشر ذوي العلم المنيف، الذين قاموا بمقابلتها وتصحيحها في الأزهر الشريف، وإلى المصححين في المطبعة الأميرية العامرة، ببولاقِ مصر القاهرة، الذين أظهروا منتهى البراعة في تدقيقها، وإلى العمال الذي سهروا على تنضيد حروفها وتنسيقها.
إلى جميع هؤلاء وغيرِهم ممن ساعدوا على إخراج الطبعة السلطانية، وأظهروا لنا مخبآت النسخة اليونينية، إلى أن بدت من وراء الستار، وكشفت عن حسن وجهها الخِمار، تزهو في حُلاها بأجمل وصف، وتَمِيسُ في حَلْيِها بأحسن رَصف.، تحاكي أبهى عقود الدُّرِّ المُحَلَّاة، وتَبُزُّ أنفَسَ طُرُزِ الخزِّ المُوَشَّاة، نهدي ثواب هذا العمل، فلقد أسدَوا للمسلمين خدماتٍ جُلَّى، وطوَّقُوا أعناقنا يَدَ الدهر بمِنَنٍ عُظْمَى، فجزاهم الله تعالى عن رسوله ﷺ وسنته، وعن صحبه وعترته، وعنا وعن المسلمين أجمعين، إلى يوم الدين، خير الجزاء وأوفاه.
ولكل من أعاننا من أصحابنا، على نَشْرِ عَرْفِ هذا المَدخل، شكرٌ وعرفان، ودعاءٌ وامتنان، ما توالى الجديدان، وتعاقبَ المَلَوان. وصلى الله عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وآله وصحبه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.
مدينة الرباط في المملكة المغربية، لعَشْرٍ مَضَيْنَ من شهر شوال سنة ١٤٤٠
خادم السنة المشرفة
محمد أبو الهدى اليعقوبيُّ الحسنيُّ
1 / 15
تمهيد في وجوب العمل بخبر الواحد
لقد أوجب الله تعالى علينا طاعة رسوله الكريم ﷺ فقال ﷾: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [سورة آل عمران: ١٣٢]. وجعل طاعة رسوله ﷺ طاعة له فقال: ﴿مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ﴾ [سورة النساء.: ٨٠]. وأمر باتباع رسوله الكريم ﷺ.، وجعل ذلك شرطًا لنيل محبته ومغفرته فقال ﷿: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة آل عمران: ٣١] .. وألزم الناس بقبول حكمه، والانقياد له، واتباع ما أمر به، وحذرهم من معصيته ومخالفته فقال عزَّ من قائل: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا﴾ [سورة الأحزاب: ٣٦]. وأخبر بعصمته فيما يبلغ عن ربه فقال ﷻ: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سورة النجم: ١ - ٤]. وقال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [سورة الحشر: ٧].
فلا شك ولا ريب أن السنة حجة مع القرآن الكريم، وأن الكتاب والسنة لا يفترقان، فالسنة هي المبيِّنة للكتاب قال اللهُ تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [سورة النحل: ٤٤].
وأحاديث النبي ﷺ درجاتٌ في قوة الثبوت فأقواها: ما رواه جمع من الصحابة كبير ثم رواه عنهم جمعٌ آخر وهكذا إلى عصر تدوين الحديث، وهي التي تُسمَّى الأحاديث المتواترة. يليها ما رواه واحد أو اثنان من الصحابة ثم أخذه عنهما جمعٌ كبير بعد
1 / 17
ذلك.، وهي الأحاديث المشهورة، وقد اعتدَّ بها الحنفية. والدرجة الثالثة: ما رواه واحدٌ من الصحابة ثم أخذه عنه واحدٌ من التابعين وهكذا إلى عصر تدوين الحديث .. وهذه الأحاديث هي التي تسمَّى أخبار الآحاد، وهي معظم ما في كتب السنة المطهرة. ولا بد من التنبيه هنا إلى أنه رغم اختلاف هذه المراتب الثلاث في درجة الثبوت، فإن الثلاثة لا اختلاف بين العلماء في وجوب العمل بها.
ومسألة وجوب العمل بخبر الواحد في ثبوت الأحكام هي مما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم في كل عصر. قال الحافظ أبو عمر ابن عبد البر النمري القرطبي (٣٦٨ - ٤٦٣): "أجمع أهل العلم من أهل الفقه والأثر في جميع الأمصار فيما علمت على قبول خبر الواحد العدل.، وإيجابِ العمل به إذا ثبت ولم ينسخه غيره من أثر أو إجماع".
وقال الإمام محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (-٦٧١): "وهو - أي وجوب العمل بخبر الواحد العدل - مُجْمَعٌ عليه من السلف، معلومٌ بالتواتر من عادة النبي ﷺ في توجيهه ولاتَه ورسلَه آحادًا للآفاق ليعلِّموا الناس دينَهم، فيبلغوهم سنةَ رسولهم ﷺ من الأوامر والنواهي".
ولا شك أن هذا الواحد الذي يجب العمل بما يرويه ويخبر به له شروط وأوصاف يجب أن تتحقق فيه لكي تقبل روايته، ويُعمل بخبره، هذا أمرٌ بدهي، ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [سورة الحجرات: ٦]، وفي قراءة حمزةَ بن حبيبٍ (٨٠ - ١٥٦) وعلي بن حمزةَ الكسائي (١١٩ - ١٨٩): ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾ فمفهوم الآية أنه إذا جاء النبأُ عن صالحٍ ثقةٍ يُقبل ولا حاجة إلى التثبت معه، وإنما يجب التثبت مع الفاسق.
1 / 18
ولذلك قال الإمام الشافعي في الرسالة: "فقال لي قائلٌ: احْدُدْ لي أقلَّ ما تقوم به الحجةُ على أهل العلم حتى يثبتَ عليهم خبرُ الخاصة، فقلت: خبر الواحد عن الواحد حتى يُنتهَى به إلى النبي ﷺ أو من انتُهِيَ بِه إليه دونه. ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورًا، منها: أن يكون من حدث به ثقةً في دينه، معروفًا بالصدق في حديثه، عاقلًا لما يحدث، عالمًا بما يُحيل معانيَ الحديث من اللفظ. وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يُحيل معناه لم يدر لعله يُحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يَبق وجهٌ يُخاف فيه إحالتُه الحديثَ. حافظًا إن حدث به من حفظه.، حافظًا لكتابه إن حدث به من كتابه ... إلخ".
ومن أمثلة ذلك ما أخرجه البخاري عن ابن عمر ﵄ في مسألة تحويل القبلة أنه قال: "بينما الناس بقُباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسولَ الله ﷺ قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة". فقد عمل أهل قباء بخبر الواحد الثقة العدل الذي جاءهم، فاستداروا وهم في الصلاة، ولم يشكُّوا في خبره، ولم يطلبوا التثبُّتَ منه.، بل عملوا به فور سماعهم إياه وهم في الصلاة، وهي أعظم العبادات وأهم أركان الإسلام. ومثل ذلك ما أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ من حديث أنس بن مالكٍ ﵁ أنه قال: "كنت أسقي أبا طلحة وأبا عبيدة وأبيَّ بن كعب شرابًا من فَضيخٍ، فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حُرِّمَتْ، فقال أبو طلحة: قم يا أنسُ إلى هذه الجِرار فاكسرها". وهنا نرى مسارعةَ الصحابة إلى تصديق خبر الواحد الذي كان عندهم ثقةً.، والعمل به، ووصلوا إلى حدِّ إتلاف الأموال طاعةً لله ولرسوله ﷺ.
1 / 19
من أجل هذا كان الطعن في صحيح البخاري ورواته ممتنعًا، لأن الكتاب قد بلغ أعلى درجات الثقة والقبول عند علماء الحديث، لأن الإمام البخاريَّ كان أكثر المحدثين تشدُّدًا في قبول رواية الراوي من حيث العدالة والثقة والحفظ والإتقان لما يرويه. فاحتمال الخطأ في جميعه غير ممكن عادةً، وغيرُ حاصلٍ في حقيقة الأمر، وإذا حصل الخطأ فإنه قد يحصل لحديث أو اثنين مما حصره العلماء وعرفوه ودرسوه وأجابوا عنه وبينوا أنه ليس بخطأ إلا لمن توهَّمه.
وهنا يظهر أحد الفروق بين القرآن الكريم وغيره من كتب أهل العلم، فإن كثيرًا من كتب أهل العلم قد سلمت من الخطأ وليس فيها ما يُنتقد، رغم أن أصحابها ليسوا بمعصومين، ولم يقل أحدٌ إنها تساوي كتاب الله تعالى في العصمة من الخطأ، وذلك للفرق بين الإمكان العقلي والإمكان العادي. فإن الخبير المتقن لأمر إذا حفظه ومارسه سنين طوالًا يقطع حكمُ العادةِ بعدم إمكان وقوعه في الخطأ، وإن كان العقل يجيز ذلك.، وبين الإمكان العقلي والإمكان العادي فرقٌ كبير تُعلم به درجة كتاب الله تعالى في العصمة والحفظ، فإن الخطأ في كتاب الله تعالى مستحيل عقلًا وشرعًا وعادة لم يقع في الماضي، ولا يمكن أن يقع في المستقبل.
وبهذا الفرق بين الإمكان العقلي والعادي يُعرف فضل المصنفات التي بذل أصحابها أوسع الجهد في تحريرها وتهذيبها لتَسلمَ من الخطأ. وعلى رأس هذه المصنفات صحيح البخاري الذي قيل فيه.: صحيح البخاري أصح الكتب بعد القرآن الكريم.
ومن معجزات النبيِّ ﷺ أنه أخبر عن جماعة من الناس يقبلون القرآن ويردُّون الحديث، وهو ما حدث في عصور متفرقة منذ زمان الإمام الشافعي ﵀، وتجدَّد في عصرنا هذا، فهو من باب إخبار النبي ﷺ بالمغيَّبات.
1 / 20
أخرج أبو داود في باب لزوم السنة عن المقدام بن مَعْدي كَرِبَ ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه. ألا يوشكُ رجلٌ شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلالٍ فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه. ألا لا يحلُّ لكم الحمار الأهليُّ إلخ الحديث».
ومعناه فيما ذكره الإمام أبو سليمانَ الخَطَّابي (٣١٩ - ٣٨٨) يحتمل وجهين من التأويل:
"أحدهما: أن يكون معناه أنه أُوتي من الوحي الباطن غيرِ المَتْلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر المتلوِّ. ويحتمل أن يكون معناه أنه أُوتي الكتاب وحيًا يُتلى، وأُوتي من البيان.، أي أُذن له أن يُبَيِّنَ ما في الكتاب، ويَعُمَّ ويَخُصَّ، وأن يزيد عليه فيُشرِّعَ ما ليس له في الكتاب ذِكر، فيكونُ ذلك في وجوب الحكم، ولزومِ العمل به كالظاهر المتلوِّ من القرآن".
ثم قال: "وفي الحديث دليلٌ على أنه لا حاجة بالحديث أن يُعرَضَ على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله ﷺ كان حجةً بنفسه. فأما ما رواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكمُ الحديثُ فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه وإن خالفه فدعوه"، فإنه حديثٌ باطل لا أصل له. وقد حكى زكريا بن يحيى الساجيُّ (-٣٠٧) عن يحيى بن مَعينٍ (-٢٣٣) أنه قال: "هذا حديثٌ وضعته الزنادقة".
وزُبدة الكلام أننا على مذهب أهل السنة والجماعة، من الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث، ومن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، نعتقد جازمين بصحة ما أخرجه البخاري في هذا الكتاب من أحاديث النبي ﵊. ونعتقد أن ما في صحيح البخاري من حديث رسول الله ﷺ حجة يجب قبوله والعمل به عند المجتهد بالشروط المعروفة، كأن لا يكون منسوخًا، وإن كان عدد من رواه لا يزيد
1 / 21
على واحدٍ أو اثنين.، لأن رواة صحيح البخاريِّ الذي خرَّجَ لهم في الأصول ثقاتٌ عدولٌ في أعلى درجات الضبط والإتقان.
فالطعن والتشكيك في صحيح البخاري إجمالًا ممتنعٌ، وردُّ الصحيح بالكلية ردٌّ للسُّنَّة، وهَدْمُ السنة هَدْمٌ للدين، وردُّها ردٌّ للقرآن، والاستخفاف بالأحاديث التي في صحيح البخاري حرامٌ، والتشكيك في صحيح البخاري يقود إلى التشكيك في البدهيات من أركان الإسلام.
من أجل ذلك فإن العلامة الشيخ محمد بن الحسن الحِجوي (-١٣٧٦) - وهو شيخ عدد من شيوخنا - سمَّى رسالته التي ألفها في الرد على من شكك في بعض أحاديث الصحيحين: (الدفاعُ عن الصحيحين دفاعٌ عن الإسلام)، وقال فيها: "إذا ساء ظنُّ المسلمين بالصحابة ورجال البخاري ومسلم وأئمة الدين نَقَلَةِ الشرع المطهر، واتهموهم، وكذَّبوا الكتبَ الصحيحة التي وقع الإجماع على قبولها، وهي الحجة التي بين أيدينا وأيدي المسلمين في عموم الأرض، أو دخلهم التشكيكُ فيها، صارت ديانتنا إلى ما صارت إليه ديانة اليهود والنصارى المطعونِ في كتبهم، وصرنا نطعن ديننا بيدنا".
1 / 22
الفصل الأول: التعريف بالإمام البخاري
اسمُ البخاري ونِسبتُه:
هو الإمامُ، الحافظُ، الحُجَّةُ، أميرُ المؤمنين في الحديث، إمام الأَئِمَّةِ، حافظُ الإسلام أبو عبد الله محمدُ بنُ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ بنِ المغيرةِ بنِ بَرْدِزْبَهْ البخاريُّ الجُعْفِيُّ.
وقد وضع بعض من ساق نسب البخاري في الأسانيد اسم الأحنف مكان اسم بَرْدِزْبَهْ، منهم مؤرخ بخارى الحافظ محمد بن أحمد الملقب غُنْجَار (-٤١٢).
واشتهر بالبخاريِّ: نسبةً إلى مدينة بخارى، وكانت من أعظم مدن الإسلام، فُتحت سنةَ تسعين للهجرة على يد القائد الشهير قتيبة بن مسلمٍ الباهلي، وكان واليًا على خراسان بين سنتي (٨٦ - ٩٦).
واشتهر بالجُعْفيِّ: نسبةً إلى والي بخارى اليمانِ الجُعفي، وهو أحد أجداد شيخ البخاري المحدث الشهير: عبد الله بن محمد بن جعفر بن يمان الجُعفي المُسْنَديِّ (-٢٢٩). وجُعفٌ هو ابن سعدِ العَشيرة من قبيلة مَذْحِج، واسمُ مَذْحِجٍ: مالكٌ، وهو من سَبَأٍ، وينتهي نسبه إلى قحطان. ولحقت هذه النسبةُ الإمامَ البخاري لأن أبا جده المغيرةَ أسلم على يد اليمان الجعفي، فصار ولاؤُه له.
وعقدُ الولاءِ قرابةٌ حُكمية تنشأ من عهدٍ بين شخصٍ وآخر، على أنه إن جنى فعليه أَرْشُهُ، وإن مات فله ميراثه. والوَلاء نوعان: وَلاءُ عتقٍ، أجمع عليه الفقهاء، وولاء مُوالاة، رُوي جوازه عن عمر وعليٍّ وابن مسعود ﵃، وهو قول إبراهيم النَّخَعي وحمَّادٍ، ومذهبُ أبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
1 / 23
تاريخ ولادة البخاري:
ولد البخاري يوم الجمعة بعد الصلاة، في اليوم الثاني عشر من شهر شوالٍ، سنة مائة وأربع وتسعين .. ويبدو أن أباه إسماعيل كان حريصًا على حفظ تاريخ ولادة ابنه، فاعتنى بذلك وقيَّد شهادة ولادته بخطه، ورأى البخاريُّ تلك الشهادة وأخبر عنها. قال أبو عمرٍو المستنيرُ بن عتيقٍ: سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل: متى ولدتَ؟ فأخرج لي خطَّ أبيه: "وُلد محمد بن إسماعيل يوم الجمعة بعد الجمعة لثلاثَ عشرة ليلةً مضت من شوالٍ سنة أربع وتسعين ومائة".
أصلُ البخاري:
الإمام البخاري فارسيُّ الأصل، يبدو أن جده الأعلى بَرْدِزْبَه كان فلاحًا، إذ هذا هو معنى الكلمة في لغة أهل بخارى. وكلمة بَرْدِيز تعني بالفارسية القديمة البستان.
ومع دخول الفتح الإسلامي دخل أهل تلك البلاد في الإسلام، فأسلم المغيرة، وهو والد جده على يد والي بخارى: اليمان الجُعفي، فانتسب إليه. وقد نشأ البخاري وأبوه وجده نشأةً عربية، وكانت اللغة العربية لغتَه ولغةَ والديه في الحياة والعلم، في الصبا والشباب والشيخوخة. ولم نجد في الروايات التي بين أيدينا ما يُشير إلى أن البخاري كان يتحدث لغةً أخرى على الإطلاق.
والدُ البخاري:
هو أبو الحسن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، محدث، عالم، ورعٌ، ثقةٌ، رحل في طلب الحديث، وأخذه عن عدد من الأعلام، وروي عنه الحديث. كان مرجعًا لأهل بلده في عدد من أبواب العلم. وكان على الغاية من الورع وطلب الحلال في الكسب.
1 / 24
رحل في طلب الحديث وحج، وروى عن الإمام مالك بن أنسٍ (٩٣ - ١٧٩)، والإمام عبد الله بن المبارك (١١٨ - ١٨١)، وحمَّاد ابن زيدٍ (-١٧٩)، وأبي معاوية الضرير محمد بن خازمٍ (١١٣ - ١٩٥). ويبدو أن له رواية عن سفيان الثوري، فقد كان عنده كتاب الجامع لسفيان الثوري، كما أخبر بذلك ابنه، وقد قرأه البخاري على صديق أبيه الإمام أبي حفصٍ الكبير، وصحح للإمام موضعًا فيه، مما يدل على أنها كانت نسخةً صحيحة.
وكان أبو الحسن إسماعيل وثيق الصلة بكبار علماء مدينة بخارى، وله منهم أصحاب لا يترددون في الرجوع إليه في خواص أمورهم، يُستفاد ذلك من قصة أوردها الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء في ترجمة الإمام أبي حفص الكبير أحمد بن حفصٍ البخاري الحنفي (١٥٠ - ٢١٧)، وهو من كبار أئمة الحنفية، وكان من تلاميذ الإمام محمد بن الحسن الشيباني (١٣١ - ١٨٩). فقد رأى أبو حفصٍ النبيَّ ﵊ في منامه، عليه قميصٌ، وامرأةٌ إلى جنبه تبكي، فقال لها: لا تبكي، فإذا متُّ فابكي. وبحثَ الإمام أبو حفصٍ عن عالمٍ يعبِّر له هذه الرؤيا فلم يجد عند أحدٍ عِلمًا، حتَّى اجتمع بإسماعيل والد الإمام البخاري فقصها عليه، فأخبره إسماعيلُ بتأويلها قائلًا له.: "إن السنةَ قائمةٌ بعدُ"، فاستغنى أبو حفصٍ بهذا الجواب. ويُستفاد من هذه القصة أن والد البخاري كان ذا مكانة عالية بين علماء بخارى. واستمرت الصلة بين أبي حفص وأبي الحسن إلى وفاة الثاني، وقد عاده أبو حفص في مرض موته، وسمعه يقول: "لا أعلم من مالي درهمًا من حرامٍ ولا درهمًا من شبهة".
وروى أبو حفص هذا الكلام وقال عقبه: "فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك". ويبدو لي أن سبب إيراد إسماعيل لهذا الكلام وهو على فراش الموت مقبل على الله تعالى، لا غرض له في شيء من الدنيا هو أن يطمئن أصحابه إلى أن المال الذي سيخلفه لابنيه أحمد ومحمد هو مال حلال خالص عن الشبهة.
1 / 25
وتصدر والد الإمام البخاري للتحديث فقصده الطلبة، وروى عنه أهلُ العراق. ومن جملة تلاميذه: يحيى بن جعفرٍ البِيكَنْدِيُّ، وهو الذي حدث البخاريَّ عن أبيه.، وأحمد ابن جعفر، ونصر بن الحسين.
وقد ذكر البخاري أباه في التاريخ الكبير في غير موضع، وترجم له باقتضابٍ، ومما ذكره عنه قوله: "حدثني أصحابنا يحيى وغيره عن أبي قال: رأيت حماد بن زيدٍ وجاءه ابن المبارك بمكة فصافحه بكلتا يديه". وذكره الإمام أبو حاتم محمد بن حِبَّان (٢٧٠ - ٣٥٤) في الطبقة الرابعة من الثقات.
أُمُّ البخاري:
هي أم الحسن وأم أحمد، ولم يصل إلينا كثير من أخبارها، ولكن الروايات التي وصلت تفيد أنها كانت امرأة صالحة، تقية، عابدة، مجابة الدعوة، تعرف قدر العلم.، ولذلك دفعت بابنها إلى المكتب ليطلب العلم، ثم رحلت به إلى الحجاز ليؤدي فريضة الحج، ويتابع طلب العلم ولقاء الشيوخ وسماع الحديث، وأذنت له بالتخلُّف في الحجاز وقفلت راجعة مع ابنها البكر أحمد.
وقد رُويت عنها قصةٌ تظهر مدى قربها من الله تعالى: هي أن البخاري فقد بصره في صغره، فاغتمَّت أمه لذلك، وكانت تبتهل إلى الله تعالى أن يرد عليه بصره .. فرأت ذات ليلة في المنام نبي الله إبراهيم الخليل ﵊، فقال لها: قد رد الله على ابنك بصره، بكثرة دعائك له، فقام في الصباح وقد شفاه الله تعالى ورد عليه بصره.
وهذه القصة من أعظم الكرامات التي تظهر مكانة هذه الأم عند الله تعالى، ومكانة هذا الطفل الذي تولاه الله تعالى منذ صغره، ليكون بعد ذلك علمًا من أعلام الأمة
1 / 26