Interprétation de la Sourate Al-Fatihah - Dans 'Athar Al-Mualimi'
تفسير سورة الفاتحة - ضمن «آثار المعلمي»
Chercheur
محمد أجمل الإصلاحي
Maison d'édition
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٣٤ هـ
Genres
الرسالة الثانية
في تفسير سورة الفاتحة
7 / 73
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
" [ل ٥٧/أ] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾
ذكر ابن جرير وغيره (^١) أن هذا تعليم من الله تعالى لعباده، فكأنه قيل: قولوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. فعلى المسلم إذا تلا الفاتحة أن يستحضر أنه مع تلاوته كلامَ الله ﷿ متكلمٌ عن نفسه، كما علَّم اللهُ نبيَّه بقوله: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، فكان ﵌ يقول: "رب زدني علمًا" (^٢). وينوي بضمير المتكلم نفسه. وإذا قالها غيره نوى بضمير المتكلم نفسه.
ولا خلاف بين أهل العلم في هذا. وإنما استشكل بعضهم ثبوت كلمة "قل" في أول الإخلاص والمعوِّذتين في القراءات المتواترة، إذ قد جاء عن بعض الصحابة تركُها، فكانوا يقرؤون: "بسم الله الرحمن الرحيم، هو الله أحد" (^٣).
وأجاب الماتريدي بأنَّ "قل" في ذلك أمرٌ لكل أحد (^٤)، وعلى هذا فينبغي للتالي أن يستحضر أن كلمة "قل" أمرٌ من الله ﷿ له بقول ما يأتي، ثم يقول: "أعوذ برب الفلق" إلى آخرها عن نفسه.
_________
(^١) "تفسير الطبري" ــ شاكر (١/ ١٣٩). وانظر: "معاني القرآن" للنحاس (١/ ٢٣)، و"تفسير البغوي" (١/ ٤) و"القرطبي" (١/ ٢٠٩).
(^٢) أخرجه ابن ماجه (٢٥١) والترمذي (٣٥٩٩) من حديث أبي هريرة.
(^٣) انظر ما سبق في أول رسالة البسملة.
(^٤) ومصدر المؤلف: "روح المعاني" للآلوسي (١٥/ ٥١١).
7 / 75
وقيل: بل ينبغي أن يستحضر أنه مأمور بأن يقول: "قل أعوذ" أي قل
لنفسك: قل. فيستحضر بقوله: "قل" أنه يأمر نفسه (^١).
وهذا بعيد، والأول هو الظاهر. ويؤيده ما صحّ عن أُبي بن كعب أنه سُئل عن المعوذتين، فقال: "سألت النبي ﵌ فقال: "قيل لي، فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله ﷺ ". كذا أخرجه البخاري في تفسير سورة الفلق (^٢). وقد أخرجه الإمام أحمد وغيره (^٣). وفي بعض الروايات: "قيل لي: قل، فقلت، فقولوا. فنحن نقول" إلخ (^٤).
وواضح أن التقدير: "قيل لي: قل أعوذ إلخ، فقلت: أعوذ إلخ، فقولوا، أي فليقل كل أحد منكم: أعوذ إلخ. والجمع بين هذا وبين قراءة "قل" هو ما قدَّمت، والله أعلم. فأما الفاتحة، فلا إشكال فيها.
قال ابن جرير (^٥): "لدخول الألف واللام في "الحمد" معنًى لا يؤديه قول القائل: "حمدًا" بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولها (^٦) في "الحمد" مبني على (^٧) أن معناه: جميع المحامد".
_________
(^١) "روح المعاني" (١٥/ ٥١١).
(^٢) برقم (٤٩٧٧)
(^٣) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (٢١١٨٩) والنسائي في "الكبرى" (١١٦٥٣) وابن حبان (٤٤٢٩) وغيرهم.
(^٤) "الدر المنثور" (١٥/ ٧٨٤) والمصنف صادر عن "روح المعاني" (١٥/ ٥١٧).
(^٥) في "تفسيره" ــ شاكر (١/ ١٣٨).
(^٦) في الأصل: "دخولهم" سبق القلم.
(^٧) كذا في مطبوعة التفسير التي كانت بين يدي المصنف. والصواب: "منبئ عن" كما أثبته الأستاذ محمود شاكر.
7 / 76
وهذا معنى ما يقوله النحاة وغيرهم أن "أل" للاستغراق وأنها هي التي يصلح محلَّها "كُلّ"، كما في قوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨]، أي خُلِق كلُّ إنسان. ولذلك يصح الاستثناء من مدخولها (^١)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ٢ ــ ٣].
فالمعنى إذن: كلُّ حمدٍ. وقد روي عن ... (^٢).
والحمد: مصدر حمِد يحمَد. ويأتي في اللغة نفسيًّا وقوليًّا. أمَّا النفسي، فكقولك لمن أهدى إليك عسلًا: طعمتُ من عسلك، فحمدتُه؛ ولمن أعطاك دواءً: استعملتُ دواءك، فحمدتُه. وتقول: جالستُ فلانًا، فحمدته. وقال الراجز (^٣):
عند الصباح يحمد القومُ السُّرَى
وأهل اللغة يفسرون هذا بالرضا والموافقة ونحو ذلك، وذلك تقريب. ولم أظفر بكلمة تؤدي معناه، ولكني أقول: إن معنى "حمدتُ العسل": رضيتْه نفسي، واستلذَّتْه، واستطابته، واستجادته.
ثم في كل شيء بحسبه، إلا أنَّ هنا فرقًا لطيفًا، وهو أنّ الظاهر أن المزكوم إذا شَمَّ الوردَ الجيَّد فضَرَّه، والمريضَ إذا ذاق الطعامَ الجيِّدَ
_________
(^١) في الأصل: "مدخولهم"، سهو.
(^٢) في الأصل بياض بقدر ثلاثة أسطر تقريبًا.
(^٣) قال المفضل: إن أول من قال ذلك خالد بن الوليد. وذكر الخبر. انظر: "مجمع الأمثال" (٢/ ٣١٨) وذكر أبو عبيد أن المثل للأغلب العجلي. وقيل: للجليح الثعلبي. انظر: "فصل المقال" (٢٥٤، ٣٣٤). و"ديوان الشماخ" (٣٨٤).
7 / 77
فتكرَّهه؛ لا يحسن به
أن يقول: شممتُ الوردَ، فلم أحمده؛ ولا ذقت ذاك الطعام، فلم أحمده. فكأنه يشرط مع رضا النفس واستلذاذها واستطابتها واستجادتها أن يكون ذاك الشيء في نفسه أهلًا لذلك. فإذا انتفى أحد الأمرين لم يحسن أن يُطلق الحمدُ، فتدَّبرْ. فكأنَّك إذا قلت: طعمتُ من ذاك العسل، فحمدتُه؛ تقول: رضيته نفسي، واستطابته، وهو حقيق بالرضا والاستطابة عند النفوس السليمة.
وأما القوليُّ، فمنهم من يفسِّره بالشكر وبالثناء وبالمدح. وأكثر المتأخرين يقول: إنه يوافق كلًّا من هذه في شيء، ويفارقه في شيء. وأطالوا في ذلك.
والذي نختاره أنَّ حمدَك لزيد مثلًا هو ثناؤك عليه (^١) بذكر صفة له أو فعل تحمده القلوب السليمة والعقول المستقيمة. فالحمد النفسي واللساني مرتبطان، وكأنَّ الأصل هو النفسي، والمراد هنا إن كان ما يشملهما فذاك، وإن كان أحدهما فالآخر لازم له، لأن المعتَدَّ به من الحمد القولي هو ما طابق النفسيَّ. فإذا كان النفسيُّ كلُّه لله لزم أن يكون القولي كذلك. والحمد النفسي قد عُبِّر عن الكثير منه بالقول، وباقيه معرض لذلك، فإذا كان القوليُّ كلُّه لله لزم أن يكون النفسيُّ كذلك.
على أنه إن كان المرادُ القوليَّ، فالمراد به ما كان، وما يكون، وما يمكن أن يكون. فيدخل في ذلك ما هو مقدر من الحمد على ما لم يعلمه الخلق، ولو علموه لحمدوه رضًا وقولًا، والحمد المقدر بما لم يعلموه [ل ٣/ب]، ولو علموه لحمدوا به.
_________
(^١) في الأصل: "عليك"، سهو.
7 / 78
وأيًّا ما كان، فإنه يستلزم الحمد الفعلي، وهو فعل يقوم في الدلالة على
الحمد النفسي مقامَ الحمد القولي كالتعظيم. ويستلزم أيضًا الحمدَ الحاليَّ، وهو كون الشيء على حال تدل على الحمد. وما من موجود إلا وهو على حال تنبئ عن حمد الله تعالى. وقد قيل: إن هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]. وسيأتي تمام هذا إن شاء الله تعالى.
واللام في ﴿لِلَّهِ﴾ للاستحقاق، والجملة تفيد القصر، كما تقرر في علم المعاني. والتقدير: الحمد أي كل حمد أو جميع المحامد مستحَقٌّ لله دون غيره. وعبارة ابن جرير (^١): " ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي الشكر خالصًا لله جل ثناؤه، دون سائر ما يُعبد من دونه، ودون كل ما يرى (لعله: برأ) (^٢) من خلقه".
والحاصل أن الجملة مع إثباتها استحقاقَ الحمد لله ﷿ تنفي أن يكون لغيره دونه أو معه.
ثم أقام الله تعالى الحجة على ذلك بقوله:
" ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
و"الرَّبُّ" هنا بمعنى المالك المدبِّر التدبيرَ التامَّ، لا كما يرى أحدنا شجرةً يغرسها أو سَخْلةً ينتجها، فإنَّ أحدنا عاجز عن تمام التربية، إذ لا يعلم بكل ما يصلح للتربية، ولا يقدر على كل ما يعلم. والله ﷿ هو اللطيف الخبير الملك القدير.
_________
(^١) في "تفسيره" (١/ ١٣٥).
(^٢) هو الصواب، و"يرى" تصحيف.
7 / 79
و"العالمين": جمع أو اسم جمع لِعالَم (^١). وجاء عن بعض السلف أنَّ المراد بهم الإنس، على أنَّ كل صنف منهم عالَم، وكل قَرْن منهم عالَم.
وعن جماعة من السلف قالوا: الجنُّ والإنس، على نحو ما تقدَّم.
وقال غيرهم: الجنّ والإنس والملائكة.
وقال آخرون: بل كلُّ صنفٍ من أصناف الخلق.
أخرج ابن جريرُ (^٢) عن ابن عباس قال: "الحمد لله الذي له الخلقُ كلُّه: السماواتُ كلهن ومن فيهن، والأرض كلهن ومن فيهن، وما بينهنَّ مما يُعلَم ومما لا يُعلم".
وهذا هو الظاهر المناسب للسياق، كما لا يخفى.
وإذ كان ﷾ هو ربَّ العالمين، فإنَّ كل حمد يقع في العالمين فهو ﷾ المستحقُّ له. فإذا كان مثلًا يُحمد العسلُ لحلاوتِه ونفعِه وغير ذلك، فالمستحقُّ للحمد هو الذي خلَقَه وهيَّأه وأقدرَه ويسَّرَه.
وهاهنا إشكالان (^٣):
الأول: أن يقال: قد أثنى الله ﵎ على بعض خلقه، وأمرهم بالثناء على بعضهم، وكان الأنبياءُ يثنون على بعض الخلق؛ فإذا كان لا
_________
(^١) "روح المعاني" (١/ ٨١).
(^٢) في "تفسيره" (١/ ١٤٤) وانظر الأقوال السابقة فيه، وفي "زاد المسير" (١/ ١٢) وغيرهما.
(^٣) وسيذكر إشكالًا ثالثًا ويجيب عنه.
7 / 80
يستحقُّ شيئًا من الحمد إلا اللهُ ﷿ لزم أن يكون ذلك الثناءُ باطلًا؛ لأنه حمدٌ لمن
لا يستحقُّه.
وقد ظهر لي جوابان:
الأول: أن يقال: إن الثناء على المخلوق هو في الحقيقة ثناء على الخالق، كما أنَّ الثناء على العسل بالحلاوة والنفع ونحو ذلك هو في الحقيقة ثناءٌ على الخالق الذي جعله كذلك. أو لا ترى أنَّ الثناء على الخط بالحسن والإتقان إنما هو ثناء على كاتبه؟ فكذلك الثناء على الكاتب إنما هو ثناء على ربِّه الذي خلقه ويسَّره وعلَّمه وأقدَره.
هذا حكم الثناء في ذاته. فأما الأجر والثواب فإنه يتوقف على النية وموافقة الشرع. فلا يُعَدُّ الثناءُ على الكاتب بحسن الخطِّ وجودته ثناءً على الله ﷿ باعتبار الأجر والثواب إلا أن ينوي المُثْني ذلك ويشير إليه. فلا يُشكِلْ عليك هذا!
وقد قال بعض المدققين: إن عبادة المشركين لآلهتهم هي في الحقيقة عبادة لله. ووجهه ما سمعت، فإنَّ العبادة داخلة في الحمد، وليس المراد أن حكمها حكم عبادة الله، بل هي في الحكم عبادةٌ لغير الله وشركٌ، فلا تغفلْ.
هذا، والتحقيق في عبادة غير الله ﷿ الاكتفاءُ بأنها حمدٌ لغير مستحقه، فهي باطلة البتة. ولا حاجة للتعمق، فإنَّ معنى "الحمدُ لله": الحمد مستحَقٌّ لله، لا أنه لا يقع إلا لله.
الجواب الثاني: أن المراد بالاستحقاق الاستحقاق الذاتي. فالذي يستحق أن يُحمَد استحقاقًا ذاتيًّا هو الله ﷿ وحده، ولكنه سبحانه
7 / 81
وتعالى قد يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمَد، فيُثني هو سبحانه عليه أو يأمر بحمده أو
يأذَن فيه.
فإن قيل: فهل يجعل الله ﵎ الحقَّ لغير المستحق؟
قلت: أما على إثبات الحكمة، فالجواب أن الله ﵎ إنما يجعل لبعض خلقه حقًّا في أن يُحمد إذا اقتضت حكمته ﷾ أن يجعل له ذلك، واقتضاء الحكمة لا أسمِّيه استحقاقًا.
فإن أبيتَ إلا أن تسمِّيه فهو استحقاق لأن يجعل له حقًّا أن يُحمد. وليس ذلك باستحقاق لأن يُحمد، وإنما يستحق أن يُحمد بجعل الله ﷿ له حقًّا؛ على أنَّ الاقتضاءَ التامَّ لا يتخلَّف عن الجعل.
وهذا كما تقول في التحريم مثلًا: إن الله ﵎ إنما حرَّم لحم الخنزير لاقتضاء حكمته تحريمَه، وإن اقتضاء الحكمة ليس هو نفسُه موجِبًا للحرمة، وإنما هو مقتضٍ لأن يحرِّمه الله، فلا يكون حرامًا حتى يحرِّمه الله ﷿. ثم تقول: إنه إذا تمَّ اقتضاءُ الحكمة للتحريم، فلابد أن يقع التحريم.
ثم اختلف القائلون بهذا، فزعم بعض الناس أن الإنسان قد يدرك بعقله تمامَ اقتضاء الحكمة لتحريم شيء مثلًا، فيَعلم بذلك حكمَ الله تعالى بتحريمه، فيكون حرامًا عليه، لا لمجرد اقتضاء الحكمة، بل لقيام البرهان على أن الله تعالى حرَّمه.
وأهل الحق على خلاف هذا القول، لقول الله ﷿: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء: ١٥] وغيرها من الأدلة. ووجه ذلك أن العقل البشري لا يتهيأ له إدراكُ تمامِ اقتضاء الحكمة، ولكننا نقول: إذا تمَّ
7 / 82
اقتضاءُ الحكمة لتحريم شيء، فإن الله ﵎ يحرِّمه بواسطة رسوله، وقدرةُ الله
﵎ محيطة، وتدبيرُه شامل. فلمَّا تمَّ اقتضاءُ الحكمة لتحريم الخمر حرَّمها الله تعالى بما أنزل على محمد ﵌.
واختلفت الحكمة باختلاف الناس، فمن كان من الناس بحضرة النبي ﵌ فقد تمَّ اقتضاءُ الحكمة تحريمَها عليهم حين إنزال التحريم. ومن كان في بيته فإنما تمَّ اقتضاءُ التحريم عليه حين يسَّر الله تعالى بلوغَ الخبر إليه، وهكذا.
فإن قلتَ: فالأحكام التي لا يُعذَر بجهلها؟
قلتُ: الذي لا يُعذَر بالجهل لابدّ أن يكون مقصِّرًا، فتعلقُ الأحكام به يكون عند ثبوت تقصيره؛ على أن التحقيق أن عقوبته إنما هي على تقصيره وإن اعتبرت بغيرها. كما أقوله في السكران إذا أُخِذ بمعاصي ارتكبها حالَ زوالِ عقله بسكره: أن مؤاخذته بذلك هي في الحقيقة عقوبةٌ على تناوله المسكِر. فإنَّ عقوبةَ الذنب تزداد بازدياد ما ترتَّب عليه من الفساد. ولإيضاح هذا موضع آخر، والله أعلم.
الإشكال الثاني: أن يقال: نفيُ استحقاقِ المخلوق للحمد الذاتي البتة إنما يتخرَّج على قول المجبرة الذين يقولون: ليس للإنسان فعل ولا اختيار، وإنما الله تعالى هو الذي يحرِّكه ويسكِّنه ويتصرَّف فيه كما يشاء، لا فرق بينه وبين الجماد في ذلك.
والجواب ــ بعون الله وله الحمد ــ: أنَّ الله ﵎ إنما خلق الخلقَ لعبادته. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، وهم
7 / 83
وأجسامهم وقواهم وأموالهم وكل شيء لهم مِلكُه. ووجودهم وأجسامهم وأرواحهم وعقولهم وأسماعهم وأبصارهم وغير ذلك نعمةٌ عليهم منه سبحانه
وتعالى. وكذلك هدايتُه لهم وتيسيرُه إياهم للخير وغيرُ ذلك نعمةٌ منه عليهم. قال تعالى: [ل ٥٧/ب] ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل: ١٨].
ثم وعدهم سبحانه من الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وتوعَّدهم من العقاب بما لا يكاد أحدهم يقوَى على تصوُّرِ وصفه، فضلًا عن مشاهدته، فكيف بالوقوع فيه، فكيف بالخلود.
فلما كانوا مِلكًا له، وإنما خلقهم لعبادته، فالمحمود من أعمالهم هو ما كان عبادةً لربِّهم ﷿. وعبادتُهم لربهم لا تفي بأداء ما عليهم من شكر نعمه، ومع ذلك فإنهم يعملونها راجين عليها الثوابَ، خائفين من العقاب أو النقصان. ولا تلتفِتْ إلى تنطُّعاتِ بعض المتصوفة!
وإذا كان الأمر كذلك، فالمؤدِّي ما عليه طامعًا بالثواب العظيم على فعله، خائفًا من العقاب أو النقصان إن لم يفعله= لا يستحقُّ استحقاقًا ذاتيًّا أن يُحمد، ولكن الله تبارك كما تفضَّل على الخلق بخلقهم، وتفضَّل عليهم بما لا يُحصَى من النعم التي منها: هدايةُ من هداه منهم، وتوفيقه وتيسيره للعمل الصالح؛ تفضَّلَ عليهم بأن أثنى عليهم، وأمر أو أذِن بحمدهم. فله الحمد في الأولى والآخرة.
الإشكال الثالث: أن يقال: إذا كان كلُّ شيءٍ محمودٍ في العالم إنما يستحقُّ الحمدَ عليه استحقاقًا ذاتيًّا اللهُ ﷿؛ لأنه ربُّ العالمين ومالكُهم ومدبِّرُهم، فإنَّ الشيطان يلقي في أنفسنا السؤال عن الذمِّ، فهل عندك من بيانٍ دامغٍ لوسوسته؟
7 / 84
والجواب بتوفيق الله ﵎: أنَّ الله ﵎ ربُّ العالمين، وهو العليّ القدير الحكيم العليم، فلا يقع في العالم حركةٌ ولا سكون إلا والحكمةُ اقتضت أن يقع، حتى الفواحش التي يبغضها الله ﷿ ويعذِّب عليها، لولا أن الحكمة اقتضت أن تقع لما وقعَتْ. وقد أوضحتُ هذا في (الفرائد) (^١).
ولْنقرِّبْ ذلك بمثال، فنقول: إذا علم الحاكم من إنسان أنه خائن، ثم أراد أن يجازيه بما يستحقُّ، ولم تكن قد ظهرت خيانته ظهورًا يقف عليه الأشهاد فيعرفوا استحقاقه العقوبةَ، فرأى الحاكم أن يقيم شهودًا من حيث لا يعلم الرجل، ويأتمنه على شيء يريد لذلك أن يخون، فتظهر خيانته، ويعرف الأشهاد استحقاقَه للعقاب. ألا ترى فعل الحاكم هذا، وهو تعريضُه الرجلَ للخيانة وتمكينه له منها فعلًا تقتضيه الحكمة؟ أَوَلا ترى أنَّ وقوعَ الخيانة من الرجل أوفقُ لمقتضى الحكمة، وأنَّ ذلك لا ينافي أن تكون تلك الخيانةُ بالنظر إلى ذلك الخائن قبيحةً يستحقُّ أن يعاقب عليها؟
فتدبَّرْ وأمعِنْ النظرَ يتبيَّنْ لك إن شاء الله أنَّ جميع الحركات والسكنات التي تقع في العالم إنما تقع على مقتضى الحكمة، فهي بالنظر إلى تعلُّقِها بخلق الله ﷿ وتمكينِه وقضائه وقدرِه محمودةٌ لا يلصق بها الذمُّ البتة، وإنما يعلَق الذمُّ ما يعلَقه منها من جهة الخلق. ولا بدع أن يخفى على الإنسان وجهُ الحكمة في أمور كثيرة، فأين علمه من علمِ عالمِ الغيب والشهادة اللطيفِ الخبير! وأين حكمته من حكمة أحكمِ الحاكمين!
_________
(^١) قوله: "وقد أوضحت ... الفرائد" أضافه المؤلف فيما بعد، ولكن لم نجد في المخطوط شيئًا من الفرائد التي أحال عليها.
7 / 85
وبهذا يتبيَّن أنَّ لله الحمدَ على كلِّ شيء، وفي كلِّ حال. وأنَّ المسلم إذا أصابته مصيبة، فقال: الحمد لله على كل حال، فليس ذلك من باب قول العامة: "يدٌ ما تقدِرُ على كسرها قبِّلْها" (^١)، وإنما هو من باب العلم أن كل ما يقع فعلى مقتضى حكمة الله تعالى وَقَع، وأنه من تلك الجهة محمودٌ ينبغي حمدُ الله تعالى عليه. وقد قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤].
وقال بعضُ السلف في حق الكفار: "إنهم يدخلون النار وحمدُ الله في قلوبهم"، وذلك لأنه انكشف لهم أنَّ دخولهم النار هو الذي تقتضيه الحكمة والعدل المحض. ولولا الطمع في الرحمة وعدم الصبر على الألم لرضُوا بمقامهم في النار.
ولولا انكشافُ الحقيقة لأهل الجنة لما طاب لهم عيش، وأقاربُهم في النار، بل ولا غيرُ أقاربهم؛ فإنَّ نفوسَ أهل الجنة بغاية الطهارة، فما بالهم كما قال الله ﷿: ﴿فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين: ٣٤ ــ ٣٦]. إنما ذلك لأنه انكشف لهم حقيقة الأمر، وهي أنَّ تعذيبَ الكفار هو الأمر المطابق للحكمة، الموافق للعدل، الذي تفرح النفوس الطاهرة بوقوعه.
وقد يقع شيء من ذلك في الدنيا، فإنك لو رأيت أخاك وأحبَّ الناس إليك أخذ يتعدَّى على الضعفاء والأرامل والأيتام، وأكثر من ذلك، ولم يُصغِ إلى لوم لائم، حتى تعدَّى على بعض الضعفاء [ل ٥٨/أ] فاغتصبَه حليلتَه،
_________
(^١) ورد في "الأمثال المولدة" للخوارزمي (١٢٤) بلفظ: "يدٌ لا يمكنك قطعُها قبِّلْها".
7 / 86
وعلى بعض اليتامى فذبحه كما تُذبح الشاة، وغير ذلك من القبائح التي
تعقل النفوس قبحَها، ثم رأيت بعد ذلك كلِّه الحاكمَ قد أخذ أخاك، وأمر بعقوبته= فإنك إن كان في قلبك حبٌّ للحق وفرحٌ بالخير تفرَحْ بعقاب أخيك، وتلتذَّ به.
هذا مع تراكمِ الحجب في الدنيا، وخفاءِ الحقائق، ودنسِ النفوس. فما بالك بأهل الجنة الذين هُذِّبوا ونُقُّوا! والظاهر أن تمام الطهارة وانكشاف الحقائق إنما يقع بعد دخول الجنة. وعلى هذا فمن فضل الله تعالى ورحمته أن أذن للمؤمنين في الشفاعة قبل دخولهم الجنة كما في الأحاديث الصحيحة المفسرة.
وانظر الحديث الصحيح: "يَلقَى إبراهيمُ أباه، فيقول: يا ربِّ إنَّك وعدتَني أن لا تُخزيني يومَ يُبعثون، وأيُّ خزيٍ أخزَى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرَّمتُ الجنة على الكافرين. ثم يقال لإبراهيم: ما تحت رجليك؟ انظر. فينظر، فإذا هو بذِيخٍ مُتلطِّخٍ، فيؤخَذ بقوائمه، فيُلْقَى في النار".
هكذا في "صحيح البخاري" (^١). وثبت في الروايات الصحاح عند غيره: "فينظر، فإذا ذيخٌ متلطخٌ في نتنه" (^٢).
وفي أخرى: "فيمسخ الله أباه ضبعًا، فيأخذ بأنفه، فيقول: يا عبدي، أبوك هو؟ فيقول: لا، وعزَّتك! ".
_________
(^١) برقم (٣٣٥٠).
(^٢) كذا في الأصل. ومصدر المؤلف: فتح الباري، كما سيأتي. وفيه: "فإذا ذيخ يتمرَّغ في نتنه". وهو ما ورد في "السنن الكبرى" للنسائي (١١٣٧٥). وانظر: "تغليق التعليق" (٤/ ٢٧٤).
7 / 87
وفي أخرى: "فإذا رآه كذا تبرَّأ منه، قال: لست أبي".
راجع "فتح الباري" في تفسير سورة الشعراء، باب ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ [الشعراء: ٨٧] (^١).
وتأويل الحديث أنَّ الله ﵎ يكشف لخليله إبراهيم ﵇ عن حقيقة حال آزر، فإذا انكشفت له علِمَ أنه لا يصلح إلا للنار، ولا يصلح لإبراهيم إلا أن يرضى له بها ويبالغ في البراءة منه.
وقول إبراهيم ــ وقد قيل: أبوك هو؟ ــ: "لا وعزتك"، وفي الرواية الأخرى: "لستَ أبي"= إنما هو ــ والله أعلم ــ مبالغة في البراءة منه، كما يقول الرجل لابنه الذي أكثَرَ من مخالفته وعصيانه: لستَ ابني. والله أعلم.
وبقية الكلام على هذا الحديث لها موضع آخر.
وفي قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ردٌّ على المشركين الذين يزعمون أنَّ لمعبوداتهم تدبيرًا غيبيًّا فوَّضه الله تعالى إليها. فبيَّن سبحانه أن الربوبية والتدبير له وحده.
وبيان ذلك أن التصرفات التي تقع في الكون على وجهين:
الأول: ما يكون بمجرد أمر الله ﷿.
الثاني: ما يكون على يد مخلوق من خلقه.
وانفرادُه سبحانه بالأول ظاهر. وأما الثاني فهو إما غيبي، وإما عادي.
_________
(^١) "فتح الباري" (٨/ ٥٠٠).
7 / 88
والمراد بالغيبي ما هو خارج عن الحسِّ والمشاهدة، ومنه: تصرُّف الملائكة.
وقد بيَّن الله ﷿ بآيات أخر أنه بيده، وأن الملائكة إنما يتصرفون بأمره، فلا شأن لهواهم وإرادتهم فيه، على أنَّ هواهم وإرادتهم طاعةُ خالقهم وتنفيذُ أمره ومحبتُه وتعظيمُه ومحبةُ من يوحِّده، وبغضُ من يدعو غيره حتى من يدعوهم وعبادتهم.
قال تعالى: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٢٦ ــ ٢٩].
وقوله سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ﴾ الآية من باب الفرض؛ كقوله تعالى لرسوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٤ ــ ٦٥].
وقال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٤٩ ــ ٥٠].
وأكثر المشركين يتوهمون أن حال الملائكة كحال البشر في تصرُّفهم باختيارهم ظاهرًا وبهواهم ورغبتهم، ولذلك يزعمون أنه يقع منهم الطاعة والعصيان، وأنهم يتغالبون ويتحاربون، ويتسالبون ويتناهبون وغير ذلك. ثم
7 / 89
يبنُون على هذا أنه كما أنَّ للناس أن يستعين بعضها بعضًا، ويسأل بعضهم
بعضًا، ويعظِّم بعضهم بعضًا، لأجل ما أوتوه من الاختيار في النفع والضرّ؛ فدعاؤهم الملائكة سائغ من باب أولى؛ لأنهم على كل حال أعلى من البشر وأعظم قدرة.
وقد أبطل الله تعالى ذلك بما مضى وبقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: ٢٢] على ما حققته في "رسالة العبادة" (^١).
والفرق بين البشر والملائكة واضح. وهو أنَّ البشر في دور الابتلاء ليظهر من يطيع منهم ممن يعصي. وذلك يتوقف على التمكين والاختيار، فلذلك جعله الله تعالى لهم. والملائكة في دور الطاعة المحضة والعبادة الخالصة، إلى غير ذلك من الفروق، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (^٢).
أما مشركو العرب فكانوا يعترفون بأنَّ التدبير الغيبي لله وحده. وإنما يثبتون للملائكة الشفاعة ويعبدونهم لأجلها. قال الله ﷿: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: ٣١ ــ ٣٢].
وقال سبحانه: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ
_________
(^١) رسالة "العبادة" (ص ٣٤٨ - ٣٦١، ٥١٨ - ٥٢١).
(^٢) رسالة "العبادة" (ص ٥٢٠، ٧٨٩ - ٧٩٤).
7 / 90
الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٤ ــ ٨٩].
في آيات أخر قد ذكرتُ طائفةً منها، ونبَّهتُ على الباقي في "رسالة العبادة" (^١). وبعد اعترافهم بما ذكر كانوا يفرُّون إلى ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: ٣]، فأبطل الله تعالى ما يتوهَّمونه من الشفاعة، وبيَّن أنَّ ما هو حقٌّ منها لا يقتضي أن يدعوا من دونه، وتمام هذا في "رسالة العبادة" (^٢).
ومنه: تصرُّفُ الجن، وقد بسطت الكلام عليه في "رسالة العبادة" (^٣)، وحاصله: أن الجن وإن كانوا في دور الابتلاء كالإنس، إلا أن تصرُّفهم لا يتعدى إلى الإنس، وإنما سلَّطهم الله تعالى على الوسوسة، ثم شرع لنا ما ندفعها به. فأما تسليطهم على الإيذاء فإنه نادر، ويكون بتسليطٍ خاصٍّ من الله تعالى عقوبةً لمن يستحقه من الإنس، ثم شرع له ما يتمكن به من دفع ذلك من التوبة والاستغفار والتعوذ. فتصرُّفُهم المتعلِّقُ بالإنس في غير الوسوسة شبيهٌ بتصُّرف الملائكة، وإنما يخالفه في أنه قد يكون معصية، وإنما أذن لهم فيها إذنَ تسليطٍ كما يسلِّط الله تعالى الظالمَ من الإنس على الظالم.
ومنه: تصرُّفُ أرواح الصالحين الموتى، وهذا إن قام برهان على ثبوت
_________
(^١) رسالة "العبادة" (ص ٧١٥ - ٧٢٤).
(^٢) رسالة "العبادة" (ص ٣٤٨ - ٣٦١، ٨٥١ وما بعدها).
(^٣) رسالة "العبادة" (ص ٨١٧ - ٨٢٠، ٨٧٧ - ٨٧٨).
7 / 91
بعض الجزئيات منه، فحالهم كحال الملائكة، بل أولى بالتوقف على أمر الله ﷿، كما أوضحته في "رسالة العبادة" (^١).
ومنه: [تصرُّفُ] (^٢) أرواحِ الأحياء بالسحر ونحوه. وقد قال تعالى في السحر: ﴿وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٠٢]، يريد والله [أعلم] (^٣) الإذنَ الخاصَّ، وهو التسليطُ الخاصُّ لحكمةٍ تقتضي ذلك.
وبالجملة فالتصرُّفُ الغيبيُّ كلُّه بيد الله. وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى (^٤).
" ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
في الإتيان بهما زيادةُ إيضاحٍ لاستحقاقه ﷾ الحمدَ، وبيانُ أنَّ عظمتَه التي دلَّ عليها قولُه: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ لا تنافي رحمتَه، وأنَّ تدبيرَه للعالمين قائمٌ على الرحمة العامة، وإن اقتضت السخطَ في بعض الأشياء.
وفي الحديث القدسي: "إن رحمتي سبقت غضبي". وفي رواية: "غلبت غضبي". والحديث في الصحيحين (^٥).
_________
(^١) رسالة "العبادة" (ص ٨١٦، ٨٧٨).
(^٢) زيادة يقتضيها السياق.
(^٣) زيادة يقتضيها السياق.
(^٤) لم أجد هذا المزيد في الأصل.
(^٥) البخاري (٧٥٥٣) ومسلم (٢٧٥١) من رواية أبي هريرة.
7 / 92
وفيه ردٌّ لبعض شبهات المشركين الذين يشركون بالله، فيجعلوا (^١)
بعض الحمد المختص به لغيره بدون إذنه.
قال بعضهم كقدماء المصريين: إن ربَّ العالمين في نهاية العظمة والجلالة والكبرياء، والناسُ في غاية الحقارة، فلا ينبغي لهم أن يتعرضوا لأن يعبدوه، بل ولا أن يذكروا اسمه؛ لأن ذلك إخلالٌ بحقِّ عظمته، وإنما قصاراهم أن يعبدوا الملائكة، ثم الملائكة يعبدون الله (^٢).
وقال بعضهم: إننا لكثرة ذنوبنا وخطايانا لا نطمع في أن يجيب الله تعالى دعاءنا، فدعَوا الملائكة وغيرهم ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨]. وتمام هذا في رسالة "العبادة" (^٣).
هذا، وقد زعم بعضهم ــ كما تقدم في الكلام على البسملة (^٤) ــ أن "الرحمن الرحيم" مؤخران عن تقديم، وأن التقدير: "الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين". ولا أدري ما الباعث على هذا إلا أن يكونوا رأوا اسمي الرحمة متصلين بالجلالة في البسملة، فتوهَّموا أنه يلزم اتصالهما بها هنا أيضًا. وهذا وهمٌ تكفي حكايتُه عن ردِّه!
ومناسبة اسمه "الرحمن" لاسم "الرب" واضحة، وقد قال تعالى: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ﴾ [النبأ: ٣٦ ــ ٣٧].
_________
(^١) كذا في الأصل.
(^٢) رسالة "العبادة" (ص ٦٨٨ وما بعدها).
(^٣) (ص ٨٥١ وما بعدها).
(^٤) انظر (ص ٧١).
7 / 93