والحواس الخمس هي النوافذ التي نطل منها على العالم الخارجي وأهمها للإنسان والحيوان العالي هو حواس المسافات كالسمع والنظر والشم، فالدودة حين تلمس أو تتذوق لا تكاد تحس بالعالم الخارجي ؛ لأن حاستي اللمس والتذوق لا تحتاجان إلى مسافة بعيدة أو قريبة.
ولذلك الوعي أو الوجدان لا يمكن أن ينشأ من حاستي اللمس والتذوق، ولكن العين التي تنظر من قمة الشجر إلى نحو كيلو متر أو كيلو مترين، والأذن التي تسمع زئيرا بعيدا وتعرف وجهته، والشم الذي ينبه الحيوان عن الفريسة المشتهاة أو العدو المخيف، هذه الحواس الثلاث تجعلنا نطل على الدنيا المحيطة ونحس ونقدر ونقارن ونتذكر.
والشم هو أقل الإحساسات في المسافة، وهو على أشده في الأسماك.
ولكن عندما خرجت الأحياء من الماء إلى اليابسة ظهرت أو بالأحرى كبرت الحاستان الأخريان، النظر والسمع، فجعلت الحيوان يراقب وسطه ويفهمه؛ أي: يحس الوعي أو الوجدان.
والعين بالطبع هي حاسة المسافة التي تكاد تتخصص في ذلك، وأعظم الأحياء نظرا هو الإنسان، بل أكاد أقول: إنها حاسة الوعي؛ لأنها تبسط أمامنا مساحة كبيرة من العالم الخارجي تحوي لنا الطعام والعدو والأنثى والمهرب، وتعلمنا كيف نميز بين الأسد والغزال وتبعث استطلاعنا للوقوف على الأشياء والأحياء.
قلنا: إن أعظم الأحياء نظرا هو الإنسان، ولكن ليس معنى هذا أنه أبعد الأحياء نظرا، وإنما هو أدق وأحكم وأصح نظرا، وذلك لأنه ينظر بعينين وليس بعين واحدة، فإن عينيه في وجهه وليستا في صدغيه كما هو الشأن في الحيوان حتى العليا منها باستثناء أبناء عمومتنا القردة ونعني القردة العليا الأربعة.
والرؤية بعينين اثنتين هي رؤية مجسمة، أما الرؤية بعين واحدة مثل الطيور فهي رؤية سطحية غير محكمة، ولذلك تنقل إلينا عيوننا العالم الخارجي نقلا صحيحا أو كالصحيح وتكبر مسافات الرؤية، ولذلك نحن نقارن بين ما نرى من الأشياء والأحياء على مسافة بعيدة محيطة فينشأ الوعي والتفكير.
الإحساس الذي ينشأ من الحواس الثلاث، حواس المسافات، يجعلنا نجمع إحساسات الشم والسمع والنظر، وهذا الجمع يحملنا على المقارنة والتقليب والتردد ومعاودة الفحص، فيكون الوعي أو يكون التفكير.
التفكير الأول عند الإنسان البدائي هو ربط المعاني الناشئة من الشم والسمع والنظر، وقيمة الشم في إيجاد الوعي ضعيفة ولكن قيمة النظر كبيرة، ونحن البشر حيوانات النظر، ولذلك نقول: «أرى أن هذا الموضوع»؛ أي: أعقل ، ونقول: «ما رأيك» مات عقلك؟ ونقول: «تبصر في هذا الموضوع»؛ أي: تعقل، والروية مشتقة من الرؤية وهي التعقل في أناة.
والذوق واللمس «بل الشم أيضا إلى حد كبير» كلها تجعلني ذاتيا في نظرتي للبيئة التي أعيش فيها، وعندئذ لا يطابق حكمي أو رأيي ماهية الأشياء، ولكن نظري الذي يمتد حولي مسافة كيلو متر مثلا يجعلني أقارن، وعندئذ يكون حكمي أو رأيي موضوعيا يكاد يطابق حقيقة الأشياء. •••
Page inconnue