إني «أعتقد» أن موكب التطور منذ ملايين السنين إلى الآن وبالنقطة التي وصل إليها الإنسان، يجيز لنا أن نقول: إن غاية هذا التطور هو الوجدان؛ أي: أن نتعقل هذه الدنيا أو هذا الكون تعقلا موضوعيا يتجاوز انفعالاتنا الذاتية؛ أي: أن نفهم الدنيا على حقيقتها الخارجة عنا وليس وفق إحساسنا الداخلي بها.
ونحن هنا إزاء غيبيات جديدة، ولكن البرهان فيها لا يقتصر على العقائد؛ لأن المعارف تتحيز جزءا كبيرا منها، فنحن البشر لا نختلف من الحيوان من حيث إننا نعرف الأشياء وإنما من حيث نعرف أننا نعرف، وهذا هو الوجدان، وهو الذي يحملنا على التعقل ومحاولة الفهم في استقلال من ذاتيتنا، ولذلك نعتقد أيضا أن تطورنا القادم سوف ينحو نحو الزيادة في الوجدان حتى نصل إلى المطابقة، فلا نخطئ المعرفة بحركات الذرة أو أجزائها، بل نتجاوز ذلك أيضا إلى أن نحس إحساسها ويصبح وجداننا كما لو كان «حاسة كونية»، حتى إذا كنت على الأرض «وجدت» ما يجري في نجوم المجرة وجدان المعرفة والإحساس الموضوعي.
ولست أشك أن هناك من يعترض بأن ما لدينا من حقائق لا يجيز هذا الإسراف في الأمل، وجوابي أني هنا إزاء غيبيات ولست إزاء حقائق.
اعتبر مثلا هذا الانقراض التام للزواحف الكبرى التي ملأت هذه الدنيا نحو ثلاثين مليون سنة أو أكثر. ثم اسأل لماذا انقرضت جميعها؟
لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالمنطق والمعرفة، ولكننا نبصر من خلال التطور باعتباره مذهبا فنقول: إنما انقرضت؛ لأنها انحرفت عن غاية التطور وهي العقل الوجداني بحيث كان هدفها التضخم اللحمي أو الجسمي، فقد كان البرونتوسور، وهو أحد هذه الزواحف، يزن 37 طنا، ولكن دماغه لم يكن يزيد على أوقيتين، ولو أن دماغه قد نما على قياسنا البشري لوجب أن يبلغ 2072 رطلا؛ أي: نحو طن؛ لأن المخ عندنا يبلغ جزءا من أربعين من وزن الجسم؛ أي: إذا كان وزننا «120» رطلا كان وزن المخ ثلاثة أرطال تقريبا.
وكان الانحراف عظيما في الديناصور وهو أحد هذه الزواحف بل أرقاها، فإن تخضم جثته احتاج إلى مركز عصبي آخر غير الدماغ الذي في رأسه، فتكون هذا المركز، وهو دماغ آخر، في أسفل ظهره، وكذلك كي يختص بإدارة ساقيه اللتين كانتا تحملان هذه الجثة الضخمة، وكأن الغاية من التطور قد أصبحت حركة الحيوان وليست فهمه للدنيا.
والدماغ البشري يعد على وجه عام أكبر الأدمغة في العالم، وصحيح أن دماغ الفيطس يزيد علينا بمقدار ستة أضعاف، ودماغ الفيل يزيد علينا بمقدار ثلاثة أضعاف، وهناك دماغ الكنار، ذلك العصفور المغرد الذي يبلغ دماغه جزءا من اثني عشر من وزن جسمه؛ أي أنه بالمقارنة إلى جسمه أكبر من دماغ الإنسان، ولكن يجب ألا ننسى أن دماغ الطفل البشري عقب ولادته يبلغ في الوزن سبع جمسه، والدماغ البشري بالمقارنة إلى الجسم البشري أكبر من دماغ الفيل ودماغ الفيطس بالمقارنة إلى جسميهما، والمرجح أن هناك ضرورات تشريحية، أكثر مما هي فسيولوجية، تجعل دماغي الفيل والفيطس كبيرين، كما هي الحال أيضا في دماغ الطفل ودماغ الكنار، وأن هذا الكبر ليس برهانا على طاقة كبيرة في الذكاء.
ولكن مع كل هذه الاعتبارات يجب ألا ننسى أن الموكب العام للتطور كان نحو الزيادة في الدماغ، ومن هنا إيماننا بأن غاية التطور هي الفهم والتعقل.
على أن هناك عوامل كثيرة جعلت دماغ الإنسان ينمو ويتضخم إلى حد الشذوذ الذي هو فيه؛ إذ ليس شك أننا نعد شاذين في هذا التضخم بالمقارنة إلى الحيوانات، وهذا الشذوذ يتضح أكثر عندما نعرف أن المجانين من البشر، سواء أكان جنونهم نيوروزا أو سيكوزا، يترجح عددهم بين عشرة ملايين وعشرين مليونا، هذا المجنون هو البرهان على أن وجداننا لا يزال جديدا في هذا العالم؛ أي: أنه لم يستقر في كياننا النفسي، ولكنه برهان أيضا على أننا قد أسرعنا الخطى نحو الغاية وأننا في هذا الإسراع نهرول ونسقط.
وقد كانت اليد من أعظم العوامل التي عملت على تكبير الدماغ البشري؛ لأنها آلة فنية للتجسيم جعلت التعبير ممكنا وزادت خيال أسلافنا وجرأتهم على الاختراع، وكان التفاعل بين الدماغ واليد تفاعل المهارة والذكاء، وكانت اليد هي التي تحمل الحجر والعصا للدفاع أو الهجوم، وهي التي تجمع الحطب للنار، وهي التي تصنع الآنية الأولى للحضارة الأولى.
Page inconnue