ولكن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانا عصر النقد للأديان كما كانا عصر التسامح الذي انتهى إليه الأوروبيون وعملوا به بعد حروب دامية حطمت القيم الإنسانية وعممت البغض، ولكنها انتهت بإيثار التسامح على التعصب، وأن لكل إنسان الحق في أن يؤمن بما يشاء، فلم يعد أحد يخشى التفكير في أصل الكون أو الإنسان؛ لأن الدين يقول بنص أو رواية أو أمر يجب أن نصدقها ونطيعها.
وانتهت أوروبا، بفضل لامارك ثم داروين، إلى الإيمان بفكرة التطور، فكرة أولا، ثم عقيدة بعد ذلك وانتقلت من ميدان الأحياء في النبات والحيوان، إلى ميادين أخرى في الحضارة والاجتماع.
بل أخذت عقيدة التطور هنا مكان العقيدة الدينية وأصبحنا نفهم منها أن الأخلاق أيضا تتطور، وأن معاني الارتقاء هي أيضا معاني التطور، بل إن يعقوب صروف مؤسس المقتطف كان يسمي نظرية التطور: نظرية النشوء والارتقاء.
ومع أننا لا نستطيع أن نجزم بأن كل تطور هو ارتقاء فإن موكب الأحياء في الألف مليون سنة الماضية هو على وجه عام موكب الارتقاء من حياة الغيبوبة والغريزة في الخلية الأولى إلى حياة الوعي والعقل في الإنسان.
وقد تأخرت أقطار الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها، حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابا عربيا مثلا في «تطور الأديان» أو «تطور المجتمع العربي» أو «تطور الأخلاق» ولا يمكن أن توجد مثل هذه المؤلفات المنيرة المبصرة إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة، وهذا ما لم يتحقق إلى الآن للأسف.
ومن العجب، بل من المحزن أيضا، أن نجد الزنوج في إفريقيا الغربية يسمون أنفسهم «متطورين» إذا كانوا قد ارتقوا وأخذوا بأسلوب العيش والتفكير العصريين وانفصلوا من حياة الغابة والقبيلة التي كان يحياها آباؤهم.
هذا ما نجد بين الزنوج في إفريقيا الغربية، ولكننا لا نجد في الأقطار العربية إلى الآن «متطورين»، ولست أقصد بذلك أننا ما زلنا بعيدين عن معنى النهضة، ولكني أقصد إلى أن مغزى التطور قد فهم في إفريقيا الغربية ولم يفهم في الأقطار العربية.
ومعنى التطور هدم وبناء.
هدم لتقاليد الماضي وبناء لتقاليد المستقبل.
إن الفرخ لا يخرج من البيضة إلا بعد أن يكسرها، والبذرة لا تنمو شجرة باسقة إلا بعد أن تتفتت وتنمحي.
Page inconnue