ما كدنا نترك المكان حتى شعرنا بالتعب الشديد، بينما قبل دقائق ما كنا نشعر بشيء منه؛ لأن سحر الفن كان يحوطنا، لذلك سرنا على مهل بين حدائق «الشانزليزه» الفخمة لنقف أمام محطة الأتوبيس «أو آب» لينقلنا إلى شارعنا العزيز، حيث المطعم المتواضع، ولكنه نظيف يعد ألذ المآكل وفي رأسها «الاسكلوب السمين» أي العجل اللذيذ الذي طعمه والغريبة سواء بسواء، وها هي الآنسة مارغريت تستقبلنا بابتسامتها الرقيقة التي تأتي بالشهية من آخر الدنيا، وتفتح القلب والنفس والروح وكافة الجوارح، فتقبل على هذا «الاسكلوب » بشهية عجيبة ومخيفة أكثر الأحيان.
لقد صدق ذلك الفيلسوف يوم قال: «الابتسامة أعظم فلسفة» فما معنى الحياة بدونها؟ وما معنى الزهر والريحان والنهر والشجر والظل والثمر بدون ذاك السحر العجيب الذي يسمونه: ابتسامة؟
أجل، استقبلتنا مارغريت اللطيفة بابتسامتها، فإذا المكان يشع بالأنس والمحبة، وتطفو على الطاولات والصحون وما حول الطاولات، بل يشع الأنس على العالم بأجمعه، لله درك أيها الفيلسوف الإغريقي! يا ليتك قلت هذه الآية في اللغة العربية، لكان تبدل الحال وتغير وجه التاريخ!
وما كدنا نأخذ أماكننا حتى كان كل شيء قد حضر، «سرفيس» تام ونظافة أتم، ولكن لعمري ما ألذ قطع الخبز، هذا الخبز الرفيع الطويل ذو اللون الذهبي، الذي يزاحم بلونه الذهبي الجميل شعر مارغريت المنسدل على كتفيها، انسدال شاغور حمانا أو نهر العسل.
إننا هنا نغوص ببحر من الشقرة المحببة، فالآنسة شقراء، واللحمة شقراء، والخبز أشقر، فالحمد لله على نعمته الشقراء.
انتهينا من تناول الحساء، ثم حضر طبق اللحم العجلي، فانبعثت منه رائحة تملأ جوارح النفس، قابلية ولذة، وبقربه البطاطة الفرنسية المحمرة، ومتى قلنا بطاطة، قلنا فرنسا، كما نقول إيطاليا يعني معكرونة، ولبنان يعني كبة، ولا بأس بذلك لأن الطهي فن، وهو يدل على الذوق أيضا، حقا إن لكل شيء جماله، فنحن لا نزال نسبح في بحرين من الجمال، حدائق «الشانزليزه» وروائع الفن في اللوفر، إلى جمال شوارع باريس، ومن يسير فيها من الحسان، إلى المطعم الذي يقدم لنا ألذ وأطيب المأكولات وأنظفها، ثم أولا وأخيرا الجمال والأنس والكمال.
آه من ذلك الشاعر الذي يقول:
ما العمر إلا ليلة
كان الصباح لها جبينه!
تالله لقد نطق بالحق، إن الحياة لفن كل الفن، أما أن يعدد المرء أياما ويقبض راتبا فهي فلسفة الأغبياء.
Page inconnue