وبعد أن اجتازا كافة الحواجز وأنجزا المعاملات الرسمية واطمأن بالهما من كل هذا، كان دنا وقت الغداء، فذهب مسيو «دورييه» بصحبة سليم إلى مطعم سبق للأستاذ معرفته، وقد اشتهر بالنظافة والجودة والمهاودة، وقد سر سليم من جودة الطعام ومن الخدمة، وبعد الانتهاء من الغداء قال الرفيق لسليم: «علينا الآن حجز غرفة في فندق أعرفه ولي ثقة بصاحبه؛ لأن أمر الفنادق في هذه المدينة الكبرى يدعو للحذر والانتباه، فقد يقع الغريب بين يدي جماعة تغرر به وتنتهي بفاجعة.» فشكره سليم لاهتمامه، واختار غرفة تطل على منظر المرفأ الجميل، ثم أودع حقائبه واطمأنت نفسه.
وبعد أن أخذا قسطهما من الراحة خرجا عند الأصيل إلى مقهى هناك، قضيا فيه بعض الوقت، ثم باتا ليلتهما في الفندق، وعند الصباح كان سليم يحتل مكانه في القطار؛ لأن رفيقه مسيو «دورييه» اضطرته أعماله للبقاء بعض الوقت في مرسيليا، وقد أعطاه عنوانه في باريس محددا له وقتا للاجتماع بعد أن زوده بكل المعلومات، ومنها اسم فندق يعرفه، أما سليم فقد بات مطئن البال من ناحية وصوله إلى تلك المدينة العظيمة الصاخبة؛ ذلك لأن له صديقا حميما من بيروت قضى أعواما في مدينة النور، وقد كتب له مسبقا يخبره عن موعد وصوله لباريس، وكان شديد الثقة به، ومع ذلك فقد احتفظ بعنوان رفيق السفر مسيو «دورييه». سار القطار يقطع الحقول والقرى، وكان سليم يعجب بالعناية بها والتنظيم العجيب الذي يطغى على كل شيء، ولفت نظره خاصة كثرة الاهتمام بالزهور وولع القوم بها، حتى إن الكوخ ما كانت لتنقصه بعض قطع الزريعة تتدلى منه، فتنشر حوله هالة من الأنس والذوق. وكان يتساوى في هذا الذوق، الكوخ والقصر، فالحضارة لا تقف دونها المادة، فهي ثقافة وتهذيب.
وعند ظهر اليوم التالي كان القطار في «محطة ليون» العظيمة، وهي تعج بالقطر الكثيرة والخطوط المختلفة، فتبدو كالشرايين المتشابكة، وقد أرتج على سليم لهول المنظر فما كانت عيناه تدري أين تستقر وعلى أي اسم من أسماء المدن تقف، وكان مشهد الدخان المتصاعد من كل مكان، والصافرات الداوية من هنا وهناك، ومئات المسافرين والقادمين، وباعة الصحف والشكولا كلاسه وغيرها كله مما يزيد في رهبة المشهد، لا سيما وأن سليما المسكين قادم حديثا من بيروت ومن أحد أحيائها المتواضعة. وكانت عينا سليم تتفحص وجوه الناس ليرى وجه صديقه وابن بلده أمين، الذي كان له كخشبة الإنقاذ؛ لأن سليما أحس في هذه الساعة كأنه غريق في لجة هذا البحر الصاخب. ولكن كانت نظراته في البحث عن رفيقه تذهب خائبة، غير أنه رغم الصدمة لم يحب أن يستسلم لليأس، فاعتمد على الله، ونادى أحد الحمالين الذي نقل له حقائبه إلى إحدى سيارات «التاكسي» بعد أن أعطى للسائق عنوان الفندق. تقدمت السيارة خلال المطر المنهمر تشق شوارع باريس العظيمة التي لا نهاية لها، وكانت الحركة الهائلة والفخامة الماثلة والاتساع الجليل تزيد من دقات قلب الفتى المسكين، الذي اعتراه الذهول بما كان يراه حوله، لا سيما وهو - كما قلنا - قادم من بلد صغير، فإذا به أمام مدينة باريس إحدى عواصم الدنيا العظيمة.
وها هي السيارة تقف أمام الفندق، ونظر سليم إلى ساعة التاكسي وأضاف إلى المبلغ بخشيشا، وهي عادة متأصلة هناك ونقده المبلغ، ولكن السائق وهو من هؤلاء الفرنسيين الهرمين، التفت إليه قائلا: «آلو مسيو، أين «البوربوار»؟» أي البخشيش. فأجابه سليم فورا وكان متأثرا بغياب صديقه: «أواه، لقد أعطيتك لتشرب وتأكل معا، هيا!» ويبدو أن هذه النكتة قد أعجبت الفرنسي، وهو من الذين يتذوقونها، فضحك لها وتابع سيره مقهقها.
وفي صباح اليوم الثالث، إذا بالكرسون يعلمه أن في الصالون سيدا يريده، وقدم بطاقته فإذا به صديقه مسيو «دورييه» الذي عاد من السفر، فهرع لاستقباله، وقد سر كل منهما بالآخر، ثم خرجا معا للبحث عن غرفة للسكن مع عائلة؛ لأن الإقامة لطالب كسليم في فندق لا تتفق وفن الاقتصاد، لا سيما وهو يريد البقاء عدة سنوات، وكان مسيو «دورييه» وهو ابن باريس، خبيرا في أحوال المدينة، لهذا قصد وإياه عائلة يعرفها الباريسي، حيث الهدوء والجو الملائم لطالب كسليم.
وبعد أن تم الاتفاق واطمأن بال سليم من ناحية السكن، خرج ورفيقه ليتعرف إلى مكان الدرس والمراسم في حي «مونبرناس»، ثم أخذه إلى متاحف اللوفر الشهيرة المعروفة باسم «باله رويال»، وقد دهش سليم بما رأى من عظمة البناء وجمال الهندسة والحدائق المنظمة والأفنان المنمقة بالزهر والبرك المائية وأقواس النصر التي تتوسط هذه الحدائق، فتجمع إلى جمال الطبيعة جمال الفن وعبقرية الإنسان. وقد دفع الشوق سليما لزيارتها غير أن الوقت كان لا يسمح بالزيارة لانتهائه، لذلك أرجئت الزيارة للغد، وقد بلغ منهما الجوع لكثرة التجوال في نواحي المدينة التي يبلغ كل شارع منها عدة كيلومترات، لذلك دخلا أحد المطاعم وأخذا طاولة، والمطاعم في باريس ككل شيء فيها على درجات، ومن له بعض الخبرة يمكنه أن يتناول وجبة طيبة بقيمة معتدلة، ثم تناول الصديق قائمة الطعام المحددة السعر، وأخذ يقرأ لصديقه، وبعد هنيهة أقبل الكرسون وسجل طلبهما، وما هو إلا بعض الوقت حتى جيء بالطعام، والجدير بالذكر أن المطعم مكتظ بالناس، ولكن الهدوء يكاد أن يكون كاملا والنظام تاما.
وبعد أن انتهيا من الطعام صفق أحدهما للخادم الذي قدم الحساب، وخرجا من المطعم، وكان سليم مسرورا من هذا الترتيب ومن جودة الطعام. خرجا من هناك وهدفهما حدائق «تويلري» القريبة، بعد أن مرا بشارع «ريفولي» واستعرضا مخازنه الزاخرة بأجمل البضائع والنفوته والمجوهرات وما إليها مما تفردت به باريس مدينة الأناقة والذوق. وفي نهاية الشارع بلغا قصور «تويلري» الفخمة المتناسقة التي بناها المهندس «ديلورم» في عهد فرانسوا الأول وهنري الثاني، ومن ثم دخلا الحدائق الفسيحة من قرب قوس النصر الذي بناه نابليون الأول، وسارا يتأملان جمال هذه الحدائق وحسن تنسيقها، وقد استقامت على شمالها قصور «اللوفر» ذات الفخامة والجلال. وكانا يمران أثناء تسيارهما بسيدات جلسن إلى أطفالهن، يشتغلن في الصوف أو يطالعن الكتب أو الصحف، ثم هناك الأولاد يسبحون زوارقهم في البركة الواسعة، وبدت من هنا وهناك بين الأشجار الباسقة أو بين الأزهار اليانعة حسناء في عمر الزهر جلست إلى جانب فتاها يهمسان ويتمتعان بما جال في الخاطر من أناشيد الحب والصبا، ومنهما من يبحثان في مشاريع «كوبيدون» ويرسمان مواعيد لقاء.
إن الجميل في أمر باريس أنها تحوي كل شيء، فهي للتقي معبد، وللفنان متحف، وللأديب قصيدة، وللعالم مكتبة، وللفاسق مفجرة، وللسكير حانة، وللنهم الأكول مطبخ، إلى آخر القائمة، كل يجد فيها مبتغاه، ولكن كل ذلك في جو من الأنس والظرف والكياسة.
وكان الرفيقان أثناء مسيرهما يتأملان التماثيل الرائعة على اختلاف مواضيعها من نوابغ وعلماء وفنانين وشهداء، تسترعي كلها الانتباه لتحدث عن مجد أمة وجهاد شعب. وبينما كان الرفيقان يتنزهان في هذه الفسحة الحلوة، إذا بسليم يلتقي فجأة ووجها لوجه مع صديقه ومواطنه أمين، الذي كان في قديم الزمان كتب له سابقا ليلقاه في المحطة ساعة وصوله وتخلف، فإذا به يهجم على سليم معانقا وقد أغرقه بسيل من القبلات وبكمية عظيمة من الأشواق الشرقية، والعبارات القلبية، والأعذار الخنفشارية لعدم تمكنه من الحضور للمحطة، وقد دهش سليم لهذه المسرحية كما دهش رفيقه الأجنبي لهذا الغرام الجنوني المخيف الذي لفت أنظار المارة وكاد يعرقل السير؛ لأنه لا توجد في الغرب مثل هذه العادات، ولو علموا ما تخفيه تحتها من رياء لكرهوا بعدها العناق وملوا القبل وترحموا على «يوداص»، وبعد أن قدمه سليم لرفيقه وأخذ عنوانه، تركه على موعد جديد ليشم من خلاله - على حد قوله - رائحة الوطن، ثم ودعهم ورحل.
وقد أحب مسيو «دورييه» أن يزيد في دهشة سليم بجمال مدينته الساحرة، فخرج به من الباب الذي يطل على ساحة «الكونكورد» الفسيحة وبركتها العجيبة، حيث يقيم في وسطها الأثر المصري «المسلة»، وقد دهش سليم أمام هذه الساحة حيث امتد بصره إلى ذلك الشارع اللامتناهي بالطول، ويسمى «شانزيلزه» الذاهب بخط مستقيم نحو ساحة النجمة وقوسها الضخم، حيث يرقد تحته قبر الجندي المجهول، وامتدت الأشجار أيضا على طرفي الشارع الفسيح العظيم، فزادت في روائه وروعته، ثم التفت إلى الناحية الأخرى من الساحة فإذا ببناء روماني جليل يقف بعظمة وكبرياء، ذلك هو القصر المعروف «قصر البربون» هو الندوة النيابية بيت الأمة وحامي الدستور. ثم التفت للجهة المقابلة فشاهد بعيدا بناء مماثلا هو معبد «المدلين»، وفي الوسط قصور «مارنيون» ووزارة البحرية وفنادق الدرجة الأولى وغيرها. وقف سليم هنيهة وقد أرتج عليه لهول ما رأى، وزاد في دهشته تلك الحركة العظيمة من سيارات ومارة ودنيا عظيمة من النشاط والحركة، ولكن رائدها النظام والطاعة، فكأن هناك حركة ولا حركة، وجماهير ولا ضجيج. ونظر الصديق إلى الساعة وقد داهم الوقت، وسليم لا يشعر بالوقت والزمن لشدة انجذابه بما حوله، وقد أحب رفيقه ابن باريس زيادة دهشته، فاقترح عليه العودة في «المترو»، وهو قطار كهربائي يسير تحت الأرض ويمر تحت نهر السين أحيانا، وجميع جدرانه مغطاة بالصيني الأبيض اللماع، لذلك نزل به بضعة أمتار تحت الأرض ثم عرج به على شباك التذاكر، فأخذ تذكرتين استطاعا بهما اجتياز اللولب الحديدي أو الباب، وهو محكم الضبط، واستمر بعدها الرفيق في سيره نحو المجهول المظلم وسليم يتبعه وهو مسلوب اللب مأخوذ الفكر، وقد انقطعا عن الكلام متابعين سيرهما في الدهاليز المغطاة جدرانها بالصيني أيضا، وكانا طورا يسيران يمينا وطورا يسارا، والناس هناك في زحمة وهرولة، كل يأخذ ناحية، وأخيرا شاهد سليم الخط الحديدي وبدا الطرف الآخر من المحطة حيث يغص بالناس الذين ينتظرون القطار الآتي بالهدف المعاكس، وبينما سليم يجول بنظره في وجوه القوم وهو مندهش بهذا العمل الهندسي الجبار والنظام العبقري، إذ به يرى شابا يقبل فتاته على مرأى من الناس دون أن يأبه لشيء ودون أن يهتم الناس بعمله.
Page inconnue