شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: القدرات البشرية للحيوانات والآلات
1 - التعقيد
2 - التعلم
3 - العقل
4 - الذكاء
5 - الفضول
6 - الألم
7 - الوعي
8 - الثقافة
9 - الأخلاق
الجزء الثاني: الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
10 - الارتباط
11 - الانجذاب الجنسي
12 - الهوية
13 - المرآة
14 - الحقوق
15 - صفة الشخص
16 - المزج
17 - الاستبدال
الجزء الثالث: القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
18 - الضحك
19 - الروح
20 - الوقت
21 - التخيل
خاتمة
ملاحظات
مراجع المؤلفين
شكر وتقدير
مقدمة
الجزء الأول: القدرات البشرية للحيوانات والآلات
1 - التعقيد
2 - التعلم
3 - العقل
4 - الذكاء
5 - الفضول
6 - الألم
7 - الوعي
8 - الثقافة
9 - الأخلاق
الجزء الثاني: الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
10 - الارتباط
11 - الانجذاب الجنسي
12 - الهوية
13 - المرآة
14 - الحقوق
15 - صفة الشخص
16 - المزج
17 - الاستبدال
الجزء الثالث: القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
18 - الضحك
19 - الروح
20 - الوقت
21 - التخيل
خاتمة
ملاحظات
مراجع المؤلفين
الإنسان والحيوان والآلة
الإنسان والحيوان والآلة
إعادة تعريف مستمرة للطبيعة
الإنسانية
تأليف
فريدريك كابلن وجورج شابوتييه
ترجمة
ميشيل نشأت شفيق حنا
شكر وتقدير
يشكر المؤلفان كل من ساهموا في إدخال تعديلات على بعض أجزاء هذا الكتاب، ولا سيما جون أودوز، وتيري أوفريه فان دير كيب، وجون باستير، وداليلا بوفيه، وجون-كلود نويه، وأرنو ريفل، وميرويس سانجين، ونيكولا نوفا، وبيير إيف أودييه، وبيير-ماري بوجيه.
مقدمة
إن الإنسان الذي يتسم بالنقص والضعف، ويتميز مع ذلك بذكاء استثنائي - أتاح له في نهاية المطاف بسط سيطرته على الأرض - لطالما سعى إلى التعرف على ذاته وتحديد هويته.
وقد بدأ بطبيعة الحال بتحديد هويته نسبة إلى بقية الكائنات الحية التي تعيش معه على سطح الكوكب مثل «الحيوانات» التي تتشابه سلوكياتها مع سلوكه في العديد من الأمور، على الأقل فيما يتعلق بالسلوكيات الأكثر تعقيدا. ولكنه اضطر مؤخرا إلى مقارنة قدراته بقدرات كائنات اخترعها هو بنفسه بفضل ذكائه، ألا وهي «الآلات»
1
التي يزداد تعقيدها أكثر فأكثر، والتي من شأنها أن تتخطاه في بعض المجالات، والتي يدفع تطورها المنتظم إلى الاعتقاد أن أداءها في المستقبل قد يكون أكثر قربا من أدائه.
هذا هو النهج المزدوج الذي أردنا اتباعه هنا بالمقارنة بين البشر والكيانين المعقدين اللذين يقاسمانه حياته من الآن فصاعدا: الكائنات الحية والكائنات التقنية؛ أي التقنيات، وذلك في الميادين الرئيسية التي تتعلق بإنسانية الإنسان؛ أي قدراته العاطفية أو الفكرية وعلاقاته مع الحيوانات أو مع الآلات، وأخيرا الخصائص التي يتميز بها.
ومن أجل بلوغ هذه الغاية، فإن هذا العمل وليد تعاون بين عالم أحياء فيلسوف في علم الأحياء وهو جورج شابوتييه، وبين مهندس متخصص في الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام التي تعد وسيلة للتواصل بين الإنسان وأجهزة الكمبيوتر، وهو فريدريك كابلن. وجورج شابوتييه هو مدير الأبحاث بالمركز القومي الفرنسي للبحث العلمي ومؤلف العديد من الكتب حول الحيوانات وعلاقاتها بالإنسان. أما فريدريك كابلن، فهو يشرف حاليا - بعد عشرة أعوام من القيام بأبحاث لصالح شركة سوني - على فريق يصمم أجهزة كمبيوتر من طراز جديد، وذلك بكلية الهندسة الفيدرالية بلوزان. وبغية ألا يصبح هذا الكتاب معقدا ومجردا، وقع الاختيار على تناول موضوعه عبر سلسلة من الفصول القصيرة واليسيرة الفهم والمنفصلة التي تتجمع معا لتكون مرجعا صغيرا «لكل ما تودون معرفته» حول «الإنسان نسبة إلى الحيوانات والآلات».
ومن الجدير بالذكر قبل البدء في عرض هذا المرجع أن نعرف مصطلحي «حيوان» و«آلة» اللذين سيسمحان لنا على مر الصفحات بفهم الإنسان وتعريفه.
يعد مصطلح «حيوان» غامضا؛
2
لأنه قد ينطبق على الحيوانات باستثناء الإنسان منها أو الحيوانات بما فيها الإنسان. وسوف نرى لاحقا أن الإنسان حيوان ولكن من نوع خاص. وعلى صعيد الدقة العلمية، ربما يكون أكثر دقة أن نتحدث عن الحيوانات بما فيها الإنسان وعندما نشير إلى النحل أو الشمبانزي، فنحن نتحدث عن حيوانات غير الإنسان. لكننا فضلنا مع ذلك أن نتبع العادة الأكثر شيوعا ولكن الأقل دقة علمية، ألا وهي الحديث عن الحيوانات باستثناء الإنسان منها، وذلك ليس تشكيكا منا بأي حال من الأحوال في النتيجة التي سنتوصل إليها، ألا وهي أن الإنسان هو عن حق حيوان! ولكن يرجع ذلك إلى سببين رئيسيين؛ أولهما: أن ذلك هو المفهوم الشائع للمصطلح الذي يفرق، لأسباب وجيهة، بين الإنسان والحيوانات التي تجاوره في الممارسات اليومية، ومن الأنسب أن نستخدم اللغة التي يفهمها الجميع. وثانيهما: أن القول إن الإنسان حيوان، هو أيضا نتيجة للبراهين التي سنعرضها في الكتاب؛ فبدا لنا أنه من الأفضل من الناحية العلمية ألا نستبق النتائج التي سنتوصل إليها.
أما مصطلح «آلة» فهو يعني جهازا صنع بغرض تلبية أهداف معينة. وقد يقوم شخص بإدارة الآلة، أو قد تعمل من تلقاء نفسها. وقد تحتاج لتشغيلها إلى مصدر للطاقة أو وقود أو كهرباء أو جر من جانب حيوانات أو طاقة بشرية بواسطة ذراع تدوير، على سبيل المثال. وليس ثمة فارق بين الأداة والآلة إلا بقدر إمساك الإنسان بها أو دعم آلة أخرى لها. فالمنجل أداة ولكن الحصادة آلة. وسوف نستخدم في هذا الكتاب مصطلح «آلة» بمعناه الواسع مشيرين بذلك أيضا إلى الآلات الميكانيكية أو الحاسوبية أو الآلات المعتمدة على الهواء المضغوط. ونحن نهتم بصفة خاصة بدرجة الاستقلال الذي قد تصل إليه الآلة، وأيضا بالطرق المختلفة التي قد تتواصل بها مع الإنسان؛ لذا سوف نستند إلى نتائج حديثة في مجال الذكاء الاصطناعي وواجهات الاستخدام، وسوف نتطرق أيضا إلى الروبوتات التي تعد حالة خاصة من الآلات المتعددة الاستعمالات والقابلة للبرمجة.
وينقسم كل موضوع يتم مناقشته إلى قسمين يتناولانه على التوازي نسبة إلى الحيوانات من جهة وإلى الآلات من جهة أخرى. سنناقش أولا قدرات الحيوانات والآلات على التعلم، وعلى امتلاك نوع من الوعي، وعلى الشعور بالألم، وعلى امتلاك ثقافة، وهي كلها طباع اعتقد الناس في بعض فترات التاريخ أنها مقصورة على الإنسان. وسندرس بعد ذلك علاقاتنا بالحيوانات والآلات وروابطنا المشتركة والطرق التي تساعدنا بها على التفكير في أنفسنا، وسنحاول في النهاية الوقوف على ما يميز الإنسان في مواجهة الحيوانات ذات القدرات الكبيرة والآلات فائقة التعقيد.
الجزء الأول
القدرات البشرية للحيوانات والآلات
الفصل الأول
التعقيد
(1) التطور والتعقيد لدى الكائنات الحية
تعد الكائنات الحية هياكل معقدة بصورة خاصة. فإلى جانب الكائنات كبيرة الحجم والمجهريات «الصغيرة جدا»، عادة ما يقال إن الكائن الحي «معقد جدا». كيف يتجلى هذا التعقيد؟ وكيف يجد الإنسان مكانه وسط ذلك؟
حتى لو لم يكن من السهل دائما تعريف التعقيد بدقة، فثمة طريقة بسيطة للغاية لإثبات التعقيد لدى الكائنات الحية وهي ملاحظة أنها تتكون من طبقات متداخلة. فعلى سبيل المثال تتكون أجسام الحيوانات من أعضاء تتكون بدورها من خلايا، وتتكون الخلايا من «عضيات» تتكون هي الأخرى من جزيئات شديدة التعقيد. وبغض النظر عن الأجسام يمكننا أيضا أن نجد طبقات مثل المجموعات من الفصيلة الواحدة (أو المجتمع)، أو السكان أو النوع ... وفي هذه الطبقات المتداخلة يتضح أن الجسم المكون من أعضاء هو أكثر تعقيدا من الأعضاء التي يحتوي عليها كل على حدة، وأن الخلية أكثر تعقيدا من «العضيات» التي تضمها، وهكذا ...
إن هذا التعقيد الذي تتسم به الكائنات الحية هو نتاج ظاهرة شديدة الأهمية نسميها «تطور» أنواع الكائنات الحية، والتي اكتشفها لامارك وداروين في القرن التاسع عشر والتي تشير إلى أن ثمة خلايا قد أدت في فترات سحيقة من عمر كوكبنا إلى وجود النحلة والأخطبوط أو ... الإنسان. كيف حدث ذلك؟ كيف بني هذا «التعقيد ذو الطبقات المتداخلة» الذي أدى اليوم إلى وجود كائنات على الأرض أكثر تعقيدا من تلك التي تولدت منها؟ (1-1) الاصطفاء الدارويني
لا يعتبر تفسير ما يمكن أن نطلق عليه «آليات التطور» معروفا بالضبط، ولكننا قد نلاحظ أنه يفترض وجود عمليات عدة، وأشهرها هي ما أطلق عليها «الاصطفاء الطبيعي» أو «الاصطفاء الدارويني» الذي يقوم على التكاثر الجنسي للأفراد وعلى تغيرات عرضية في السمات الوراثية تسمى «الطفرات». وتتحدد سمات الكائنات الحية إلى حد ما عن طريق ما نسميه «الجينات»، وهي جزيئات موجودة بخلايا هذه الكائنات وتحدد العديد من سماتها مثل لون العينين وملامح الوجه وطريقة عمل أعضائها وأيضا حساسيتها بسبب بعض الأمراض. وتنتقل هذه الجينات من خلال التكاثر الجنسي من الآباء إلى نسلهم الذي يشبههم تبعا لذلك. ولكن قد تقع أحيانا أخطاء في الجينات نطلق عليها اسم «الطفرات»، وقد يكون بعضها مفيدا؛ فيجعل المولود الذي يحمل الطفرة أكثر تكيفا مع بيئته مما كان عليه والداه. وهكذا بسبب طفرة قد يولد ظبي بعنق أكثر طولا من عنق أبيه، مما يسمح له بتناول أوراق الشجر. ووفقا لنظرية الاصطفاء الطبيعي، فإن هذا المولود الأفضل تكيفا سيحظى بسهولة أكبر في البقاء وفي إيجاد شريك جنسي للتكاثر. وستكون «طفرته» إذن هي المعيار وستتطور المجموعة الحيوانية. وفي هذه الحالة الخاصة، ولدت بعض الزرافات من ظباء قديمة. ويعتقد المناصرون المتشددون للداروينية أن هذه الآلية يمكنها بمفردها أن تفسر كل شيء عن التطور حتى التعقيد. (1-2) الكائنات الحية تشبه «الفسيفساء»
قد نعتقد أيضا أن هذه الآليات التي لا جدال عليها (فكل علماء الأحياء الكبار حاليا يسلمون بالأفكار الداروينية) لا تفسر كل شيء، وأن بعض المبادئ التنظيمية قد تدل أيضا على التعقيد، ويمكن هذه المرة وصف مبدأين منها يتعلقان بالطريقة الأخرى الكبرى للتكاثر لدى الكائنات الحية، ألا وهي التكاثر «اللاجنسي». يعتمد هذا التكاثر على الانقسام والتكاثر «بالتماثل» لجسم حي. وهكذا فإن خلايا كبد الإنسان أو جلده، التي تنقسم لتوليد خليتين متماثلتين، تقوم بذلك بطريقة لا جنسية. ولكن الظاهرة أعم بكثير وتنتشر بصورة خاصة في عالم الكائنات الحية. ومن مظاهر التكاثر اللاجنسي: التعقيل في النباتات أو تولد دودتي أرض عبر انقسام دودة واحدة أصلية. وبالأساس تنفصل بعد ذلك الكيانات المولودة بهذه الطريقة لتعيش حياة مستقلة، ولكن توجد استثناءات.
إذا لم تنفصل هذه الكيانات وظلت متجمعة (أو متجاورة) فهي قد تشكل طبقة علوية. ودون الخوض في التفاصيل،
1
فعن طريق ترك الخلايا متجاورة، سيتشكل جسم متعدد الخلايا، وعن طريق ترك الأجسام المتعددة الخلايا متجاورة مثل البوليبات، ستتشكل مجموعات من البوليبات مثل تلك التي تنمو على الصخور المرجانية الكبيرة. وبمجاورة الديدان لدائرة حلقية واحدة، ستتشكل مجموعات حلقية من الديدان على غرار الديدان الموجودة بحدائقنا. وبمجاورة أفراد مع عصافير أو ثدييات، ستشكل تجمعات (تسمى حشودا). وفي هذه الحالات كافة، سوف تؤدي مجاورة هياكل متماثلة إلى تكوين هيكل من الطبقة العلوية. وبعد هذه المجاورة للكيانات المتماثلة سنشهد في أغلب الأحيان ظاهرة ثانية في عالم الكائنات الحية يطلق عليها اسم «التكامل»: تكف الهياكل المتجاورة عن تماثلها لتتخصص كل منها في وظيفة تختلف عن الأخرى. وستكتسب الخلايا مهام مختلفة لتشكل كائنا متعدد الخلايا بأعضاء مختلفة، وستظهر أجسام معقدة مكونة من بوليبات تقوم بمهام مختلفة: الطفو والدفاع والتغذية والتكاثر. ومقارنة بديدان الأرض الموجودة بحدائقنا، تصبح الحيوانات المتكاملة نحلا أو أخطبوطا أو ... إنسانا. وحتى لو كانت هذه الحيوانات تحتفظ أحيانا في أجسامها بآثار مجاورة الهياكل المماثلة لسلفها؛ فإن معدة النحلة مقسمة مثل جسم سلفها الحلقي، ويحتوي جسم الإنسان بالطريقة ذاتها على تقسيمات الضلوع والفقرات العظمية. وإذا تكاملت في النهاية «الحشود» المكونة من أفراد متماثلين فسنحصل على مجتمعات معقدة مثل مجتمعات النحل أو البشر التي يضطلع فيها الأفراد بأدوار مختلفة فيما بينهم.
ودون الخوض في تفاصيل هذه النقطة، نلاحظ إذن أن التطبيق المتكرر لمبدأي الجمع الكبيرين خلال تاريخ الأحياء (تجاور عناصر متماثلة ثم تكاملها بحيث تصبح هذه العناصر مختلفة فيما بينها) يسمح للعالم الحي بتشكيل طبقات متداخلة على مراحل، وهو ما يعد إحدى خصائص تعقيد الكائن الحي كما رأينا. وفي هذا الصدد، تعد صورة الفسيفساء موضحة للفكرة؛ فعلى غرار الفسيفساء بالمعنى الفني للكلمة، تعتبر الكائنات الحية طبقات متداخلة وتمنح كل طبقة للطبقات الأسفل منها استقلالية في العمل. وكما يحدث في الفسيفساء، تمنح الصورة الكبرى لونها وشكلها وبريقها للتربيعات الرخامية التي تتكون منها.
في المجمل يعد المبدأ التنظيمي لتعقيد الكائنات الحية بنية «من الفسيفساء» ناتجة عن طفرتين للتكاثر اللاجنسي، ألا وهما تجاور الكيانات المتماثلة ثم تكاملها. ويمكن إذن أن ينطبق غربال الاصطفاء الطبيعي على هذه الكائنات المعقدة إلى حد ما والمكونة بهذه الطريقة، وذلك لكي لا يبقى منها إلا الأكثر تكيفا. (1-3) أين الإنسان من كل ذلك؟
خضع الإنسان على غرار نظرائه من الحيوانات إلى عمليات تجاور وتكامل واصطفاء طبيعي. وفي هذا الشأن وفيما يتعلق بجسده المعقد فهو لا يختلف بصورة جوهرية عن نظرائه قريبي الشبه به مثل الشمبانزي أو بعيدي الشبه عنه مثل الأخطبوط. ولكنه يتميز بامتلاك عقل قوي بصورة خاصة، ولا يوجد مقياس عام لأداء هذا العقل حتى مع نظرائه الأكثر قربا منه. ويبلغ التعقيد في هذا العقل البشري ذروته الذهنية التي يستطيع الإنسان وحده أن يصل إليها على هذا الكوكب والتي تجعل منه حيوانا «فريدا من نوعه». إلا أنه من الممتع ملاحظة أننا قد نجد في نشاط العقل الإنساني فائق القوة (فكره) مبادئ التعقيد ذاتها الموجودة بتشريح الحيوانات. وهكذا تعتبر ذاكرتنا التي تبدو لنا موحدة مجموعة متجاورة وضعيفة التكامل من الذاكرات المختلفة، اكتسبتها الحيوانات السالفة لنا خلال التطور (انظر الفصل الثاني). وكذا وعينا (انظر الفصل السابع) وحديثنا،
2
وهما مقدرتان تجعلان من العقل البشري بنية معقدة بصورة خاصة. (2) تعقد التقنيات وتركيبها الطبقي
على غرار الكائنات الحية، تكون التقنيات على هيئة طبقات متداخلة؛ فعادة ما تتكون التقنية من مكونات تقنية أولية: نابض الاتزان والتروس في الساعة، ومكونات الدائرة الإلكترونية، وأجزاء برنامج الكمبيوتر، والتي تتقسم هي الأخرى إلى عناصر أساسية بصورة أكبر. ومن الأصح أن نعتبر أن التقنيات مرتبة على هيئة نظم تقيم بداخلها العديد من علاقات الترابط، بما في ذلك تبادل الطاقة (أجهزة موصلة بشبكة الكهرباء أو مزودة ببطارية) وتبادل المعلومات (شبكات الأجهزة الموصلة بعضها ببعض، وجهاز مشغل الوسائط). وسوف نتطرق إلى البيئات التقنية حتى لو كان هذا المصطلح يعد بلا شك إساءة استعمال للغة. وبداية من الترتيب السلس في بيئة ما وحتى التكامل المنتقى بداخل الجهاز نفسه، يمكن إذن توحيد عمل الأجهزة التقنية إلى حد ما بداخل النظام ذاته. (2-1) التطور التقني يتم أيضا عبر التجاور والتكامل
على غرار تطور الكائنات الحية، يمر التطور التقني بعمليتين متكاملتين، ألا وهما التجاور والتكامل. ففي البداية تنتج مجموعة جديدة عبر المزج بين عناصر تقنية أولية. وفي هذا الترتيب يضطلع كل عنصر تقني بمهام مكملة لمهام العناصر المجاورة، ولكن النظام الكامل يظل غير متكامل بصورة كبيرة. وفي البداية تكون العناصر التقنية المجمعة والناتجة عن عمليات تطور مستقلة متجاورة فقط. ثم تخضع التقنية الجديدة والمتكونة بهذه الطريقة لمسارها التطوري بالتحسن التدريجي عبر التكامل. ويكثف كل عنصر تفاعلاته مع العناصر الأخرى بغية تشكيل كل متماسك وموحد. ومن أجل وصف هذه العملية، يستخدم جيلبرت سيموندون مصطلح «الإتقان» بمعناه الأصلي (أي، ما ينمو بصورة متناسقة).
3
يمثل التطور في صناعة هياكل السيارات مثالا جيدا على عمليات التجاور والتكامل. فعلى مر أجيال السيارات، قامت الهياكل على التوالي «بإدخال» الأجنحة والمصابيح والمرايا ومؤخرا الواقي من الصدمات لكي تتحول إلى الأشكال «البيضوية» للسيارات الحديثة.
4
إن التجاور والتكامل ليسا فقط مرحلتين مختلفتين بل اتجاهان لا يزالان مستخدمين في عملية تطور الأشياء. ويمكننا أن نعتبر أن هاتين القوتين تنطبقان على التوازي على المكونات التقنية الأولية (صمام دائرة إلكترونية، أو محرك سيارة، إلخ ...) وينطبقان أيضا على مستوى الأشياء الضخمة، ألا وهي البيئات التقنية. وثمة اتجاه الآن لدى البيئة الشاملة لتكنولوجيا المعلومات إلى التكامل، مما يجعل كل تقنية تشارك في هذه العملية (كمبيوتر، مشغل موسيقى، البنى التحتية للشبكات) تميل إلى تكثيف التفاعلات مع الأشياء الأخرى؛ ومن ثم تحدد إطارها.
وحتى لو تميل التقنية إلى التكامل إلا أنها لا تتكامل أبدا بصورة كلية، وهذا ما يتضح عبر بقاء أجهزة متنوعة لا تزال تحتفظ بدرجة من درجات الاستقلالية. فيمكننا إذن أن نتحدث بكل وجاهة عن «الفسيفساء» التقنية. (2-2) التقنيات تتطور في شكل سلالات
تتطور التقنيات في شكل سلالات وتخضع لعمليات اصطفاء وأنظمة تكاثر مختلفة. وتنطبق عمليات الاصطفاء على التوازي على مستويات عدة بداية من المكونات الأولية حتى الأنظمة البيئية نفسها. وتتسم معايير اصطفاء التقنيات وانتشارها بالتعقيد، وبالإضافة إلى ذلك فهي لا تزال غير معروفة. ويبدو أن انتشار معظم الابتكارات التقنية يمر عبر ثلاث مراحل متتالية.
خلال الفترة الأولى وهي فترة التكون، تشكل مجموعة تقنية جديدة عبر تجاور عناصر تقنية قائمة بالفعل أو في طور النمو، وتتسم هذه المجموعة بدرجة منخفضة من التكامل. وتعد العناصر التقنية المستخدمة ناتجة عن سلالات تقنية مستقلة بعضها عن بعض، وربما تكون شديدة القدم. وبصورة عامة، ظهر تاريخيا في ذلك التوقيت «مخترع»، وهو يستحق هذا اللقب حتى لو لم يكن سوى حلقة صغيرة من حلقات سلسلة طويلة من المبتكرين. فعلى سبيل المثال صنع فانفر بوش في عام 1930 أول جهاز كمبيوتر على هيئة آلة عملاقة تضم مكونات كهربية وميكانيكية مختلفة. وفي الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، لم يكف هذا النوع من الكمبيوتر عن النمو عبر التجاور حتى ضم 2000 أنبوب كاثودي و150 محركا كهربيا. وتطورت عملية تكامل على التوازي مما أدى إلى إحلال الترانزستور والدوائر المتكاملة بدلا من العناصر الكهروميكانيكية. وبداية من عام 1958 كان الكمبيوتر جاهزا للانتشار في بيئات أكثر انفتاحا من بيئة مختبر البحث.
وخلال الفترة الثانية وهي فترة النضوج، يمكن إذن للتقنية أن تنتشر مستمرة في تحولها عبر التجاور والتكامل، وعند بلوغها درجة معينة من الانتشار، تصل إلى نقطة انفصال، ويتم تبني هذه التقنية من خلالها بفضل ديناميكية التعزيز الذاتي؛ فيؤدي كل شيء جديد ومنتشر إلى زيادة في الطلب عليه (فكلما زاد عدد الأشخاص الذين يحملون هاتفا كان من المفيد الحصول على واحد منه). وتقود هذه السرعة في الانتشار من جهة إلى تكامل أقوى للتقنية، ومن جهة أخرى إلى بزوغ أنظمة بيئية جديدة تتمحور حول التقنية المنتشرة أو حول أحد أجزائها. ومنذ بداية الستينيات بدأت أجهزة الكمبيوتر في الانتشار بعدد متنام من المكاتب. وفي عام 1971، نجحت شركة إنتل للمرة الأولى في وضع كل أجهزة الترانزستور لإحدى وحدات المعالجة المركزية على دائرة واحدة متكاملة؛ مما أدى إلى اختراع المعالج الدقيق. وأتاح هذا التصغير زيادة استخدام الكمبيوتر (حيث قلت المسافة بين المكونات)، وخفض التكاليف وصناعة أجهزة كمبيوتر أصغر حجما: أجهزة الكمبيوتر الصغيرة، وهو ما أدى إلى ميلاد أجهزة الكمبيوتر الشخصية التي تسللت من بيئة الشركات إلى العالم المنزلي. وعبر ربط أجهزة الكمبيوتر فيما بينها على المستوى المحلي في بادئ الأمر ثم في شكل شبكات عالمية، أدى ذلك إلى نشأة بيئة جديدة تتضمن بنى تحتية للتواصل وبرامج من شأنها هي الأخرى أن تمثل سلالات تقنية جديدة.
وفي المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التشبع، تشهد بعض السلالات التقنية استقرارا أو تراجعا. وثمة سببان من شأنهما أن يقودا إلى هذا التشبع. فقد تقترب التقنية المتكاملة من الحدود الفيزيائية التي لا يمكن تجاوزها، مثل قانون الديناميكا الحرارية للحد الأقصى من الطاقة المنتجة للمحركات . ومع ذلك، غالبا ما يستبدل به سلالة تقنية أخرى أكثر تكيفا مع بيئة معينة. وشهدت دقة الساعات الميكانيكية زيادة مطردة خلال ستة قرون. إلا أنه في العشرينيات وبعد ظهور ساعات الكوارتز صارت هذه السلالة التقنية غير مستعملة، على الأقل فيما يتعلق بقياسات الدقة.
ويمكن أيضا وصف تاريخ الطباعة والطيران أو المحرك البخاري عبر عمليتي التجاور والتكامل ووفقا لمراحل التكون والنضوج والتشبع. وكان دور الإنسان في هذه التطورات أساسيا وغير مباشر في آن واحد. فخلال بعض الفترات تطورت بعض السمات التقنية المرغوب فيها بصورة ضخمة وسريعة. فبين عامي 1400 و1920 على سبيل المثال، تضاعفت دقة الساعات الميكانيكية كل 45 عاما في المتوسط. وبين عامي 1884 و1965 تضاعف الرقم القياسي للسرعة في الهواء كل 17 عاما. وفي وقت قريب من وقتنا، تنبأ قانون مور بأن الحد الأقصى لعدد مكونات المعالج الدقيق يتضاعف في المتوسط في أقل من عامين. وحتى لو يجب النظر إلى هذه التطورات في ضوء سياقها الاجتماعي والثقافي العام الذي يحدد ما هو مرغوب فيه وما ليس كذلك؛ فإنها تمخضت بصورة أساسية عن ديناميكية جوهرية لتطور التقنيات وانتشارها. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو متناقضا، فإن تلاؤم هذه التطورات مع الإنسان يبدو في أغلب الأحيان أمرا ثانويا في هذه العمليات؛ فلوحة مفاتيح دفوراك المبسطة التي تم اختراعها في عام 1932 والتي تم تحسين ترتيبها للتلاؤم مع سرعة الكتابة، لم تنجح قط في شغل مكان لوحة مفاتيح كويرتي التي صممت في عام 1873، على الرغم من أن هذه الأخيرة أقل كفاءة بكثير من الأولى. (2-3) هل يمكن المقارنة بين تطور التقنيات وتطور الكائنات الحية؟
هكذا يتشابه تطور التقنيات مع تطور الكائنات الحية في العديد من الأمور: الترتيب في سلالات تطورية وأنظمة بيئية متداخلة، ودرجة متباينة من التكامل، واصطفاء على مستويات متعددة، وعمليتي التجاور والتكامل، إلا أنه يبدو واضحا أن التقنية يمكنها أن تحظى بآلية لزيادة التعقيد قد تكون أكثر فاعلية من الآلية المستخدمة في التطور البيولوجي؛ وذلك بالتحديد لأن التقنية من صنع الإنسان وليست وليدة ديناميكيات عمياء . ويجمع الإنسان عبر السلالات التقنية في عصره بين الترتيبات الجديدة بقدر إمكانية إعادة استعمال المكونات التقنية الفسيفسائية والمتكاملة إلى حد ما بداخل جهاز واحد، بحيث يعاد استعمالها في سياقات غير مسبوقة.
ويعتمد مدى هذا الجمع على انتشار التقنيات والمعارف التقنية الدالة على بيئة وعصر محددين. فقد أدت النزعة إلى الموسوعية في القرن الثامن عشر إلى تحويل الفنون اليدوية التي تتسم بمهارات سرية وانتشار جغرافي محدود إلى معارف عامة يمكن أن يستخدمها الجميع. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، لم يكف تحويل الفنون إلى تقنيات والتطوير الصناعي وتحديد معايير التفاعلات وعولمتها عن توسيع نطاق الإمكانيات التقنية. واليوم فإن العصر الرقمي الذي يضمن وصف المعلومات وتكاثرها ومشاركتها على الصعيد العالمي، منح التقنيات في مجملها قدرة تطورية لم يسبق لها مثيل. وفي حين أن التطور البيولوجي لا يزال محصورا في زمانية بطيئة، فإن التقنيات تعد اليوم في قلب الديناميكيات القوية لإعادة التركيب والانتشار والاصطفاء مما يؤدي إلى بزوغ ترتيبات جديدة كل يوم، ترتيبات من شأنها أن تقلب هيكل البيئة التي نعيش فيها رأسا على عقب.
الفصل الثاني
التعلم
(1) إلى أي مدى تستطيع الحيوانات أن تتعلم؟
ما الذاكرة؟ ما التعلم؟ يعتمد النهج الأكثر شيوعا على مقارنة الكائنات الحية «بأنظمة تسجيل»، إذا لجأنا إلى استعارة تقنية كما هو الحال في أغلب الأحيان. وسيكون «التعلم» إذن هو القدرة التي تمتلكها بعض الكائنات الحية على تسجيل معلومات قد تغير سلوكها المستقبلي. أما «الذاكرة» فستكون مجموعة المعلومات التي يخزنها الجهاز العصبي.
وخلافا لما قد توحي به رؤية ما تتبع «مذهب المركزية البشرية»، فالبشر ليسوا الكائنات الحية الوحيدة التي تمتلك ذاكرة. ففي الواقع، تستطيع جميع الحيوانات تقريبا أن تتذكر ولكن بطرق مختلفة عن الإنسان. وفي الوقت ذاته، فإن المقارنة بين قدرات التذكر لدى الحيوانات والقدرة نفسها لدى الإنسان تعطينا بعض الأفكار عن طبيعة جنسنا.
1
وفيما يلي تفصيل لهذه النقاط.
من أجل المقارنة بين قدرات التذكر لدى مختلف الأجناس الحيوانية، يتعين امتلاك جداول لفئات التعلم التي يمكن أن تخضع إليها مختلف الفصائل. وقد تخيل العلماء مثل هذه الجداول وكانت تضم طرق تعلم بسيطة للغاية مثل التعود أو الميل إلى تبديل الاختيارات، وطرق تعلم معقدة إلى حد ما مثل الاشتراط، وطرق تعلم فائقة التعقيد مثل تعلم الدوران حول الهدف أو تعلم القواعد الإدراكية. (1-1) الأنواع المختلفة للذاكرة
يكمن «التعود» في تعلم عدم الاستجابة من جديد إلى موقف يتكرر بصورة مستمرة، مثل صوت المنبه في الصباح، الذي لم يعد يجعلنا نستيقظ. ولكن ذلك يفترض أن نتذكر خصائص «ما تعودنا عليه». يمكن أن تنطبق هذه الفئة ليس فقط على الإنسان بل أيضا على غالبية الحيوانات: فهكذا يمكننا تعويد نحلة على البرق أو تعويد دودة أرض على هزات أرضية متكررة. أما «الميل إلى تبديل الاختيارات» فهو أننا عندما نكون في موقف اختيار بين أمرين، إذا اخترنا الأمر الأول ذات مرة فسنميل في المرة التالية إلى اختيار الأمر الثاني (وهو ما يفترض أننا نتذكر الأمر الأول)؛ فإذا دارت الحشرة أو الفأر إلى اليمين في متاهة على شكل حرف تي، فستميل بالأحرى في المرة التالية إلى الدوران إلى اليسار. وإذا وجد الإنسان نفسه أمام مائدة طعام عليها قطع حلوى بالتفاح وبالفراولة وإذا كان قد تناول عدة قطع من الحلوى بالتفاح، فهو سيميل بالأحرى إلى اختيار قطعة حلوى بالفراولة بعد ذلك. أما «الاشتراط» فهو طريقة تعلم منتشرة بصورة كبيرة ونمطية للغاية (من لم يسمع عن كلب بافلوف؟) وهي عبارة عن تعلم الجمع بين العامل المثير ورد الفعل؛ على سبيل المثال في حالة كلب بافلوف، فإن الحيوان الذي يعتقد أن تقديم قطعة اللحم مرتبط بصورة منتظمة بعامل مثير جديد مثل صوت آلة الكمان يتعلم أن يفرز لعابا عندما يسمع صوت الكمان. ويسمح «الاشتراط الإجرائي» بالجمع بطريقة آلية بحتة بين سلوك ما والحصول على مكافأة (مثل قطعة صغيرة من الطعام) أو تفادي عقوبة ما (مثل الصدمة الكهربية). أما «تعلم الدوران حول الهدف» فيكمن في تعلم الابتعاد عن الهدف للعودة إليه لاحقا، على سبيل المثال، إذا وقف حيوان أمام زجاج شفاف ذي ارتفاع معين يوجد خلفه مكافأة غذائية شهية، فيستطيع أن يتعلم الدوران حول الزجاج. وفيما يتعلق «بتعلم القواعد الإدراكية»، وخلافا لما يحدث في عملية الاشتراط، فهو يقوم على التعلم بفضل قاعدة عامة بدلا من التعلم الآلي أو المنهجي عبر محاولات متتالية وعديدة. وعلى سبيل المثال فإن الحمامة التي تنقب عن مفتاح يجعلها تصل إلى غذاء يمكنها أن تقوم بذلك عندما نوفر لها صورة شفافة تعكس مساحة مائية ممتدة أيا كان نوعها. (1-2) ذاكرة الحيوانات
أي فصائل حيوانية تمتلك هذه الأنواع المختلفة من الذاكرة؟ بصورة إجمالية،
2
نجد عمليات التعود وتبديل الاختيارات، وهي ذاكرات بدائية، في جميع الفصائل الحيوانية تقريبا، باستثناء بعض الحيوانات الطفيلية، ذات التنظيم الأكثر بساطة من بقية الفصائل، وبعض الحيوانات القديمة للغاية مثل الإسفنج. وتظهر عملية الاشتراط على مستوى الديدان مثل دودة الأرض الموجودة بحدائقنا، وتتقنها بصورة كبيرة الحيوانات الأكثر تطورا، فالنحلة على سبيل المثال، قادرة على القيام بعمليات اشتراط شديدة التعقيد. أما تعلم الدوران حول الهدف فلا نجده إلا لدى الفقاريات، وهي المجموعة التي تبدأ من الأسماك وحتى الثدييات (التي ينتمي إليها الإنسان) ولدى بعض الرخويات شديدة الذكاء مثل الأخطبوط. ولا نجد تعلم القواعد الإدراكية إلا لدى الفقاريات ذوات الدم الحار (الطيور أو الثدييات) وأيضا لدى الأخطبوط. ولنلاحظ أنه لدى الحيوانات التي تمتلك ذاكرات معقدة (مثل الأخطبوط أو الثدييات)، لا تحل هذه الذاكرات المعقدة محل الذاكرات الأكثر بساطة ولكنها تكملها؛ فيمتلك الأخطبوط أو القرد أيضا قدرة التعود أو تبديل الاختيارات أو الاشتراط، وهكذا الحال لدى الحيوانات ذوات الذاكرات الأقل أداء مثل النحلة التي لا تمتلك القدرة على الدوران حول الهدف ولا الذاكرات الإدراكية، ومع ذلك لا تمسح الذاكرات الأعلى أداء (وهي الاشتراط في هذه الحالة) الذاكرات الأكثر بساطة مثل التعود أو الميل إلى تبديل الاختيارات.
وتخبرنا هذه النتيجة أيضا عن تنظيم الذاكرة لدى الجنس البشري. فنحن نعتقد أن ذاكرتنا هي كل موحد ومتناسق، ولكن ذلك غير صحيح على الإطلاق؛ فذاكرتنا «كالفسيفساء» عبارة عن مجموعة من القدرات المتباينة تبدأ من التعود وحتى التعلم الإدراكي الأكثر تعقيدا. وخلال التطور اكتسب أسلافنا من الحيوانات القدرات المختلفة لذاكرتنا والتي تشبه أوجه الفسيفساء. ونحن نستدعي هذه القدرات وفقا للمواقف؛ ففي موقف تكرار صوت المنبه في الصباح، نستدعي قدرات التعود. ومن أجل تعلم السباحة نستدعي القدرة على الاشتراط. ومن أجل حل مسألة رياضية نستدعي قدراتنا الإدراكية، وذلك دون أن ندرك أننا نستدعي آليات مختلفة لذاكرتنا الفسيفسائية حسب الموقف. وأخيرا تعد الذاكرة أحد مكونات الذكاء الأساسية (انظر الفصل الرابع). (2) كيف يمكن للآلات أن تتعلم؟
من الغريب أن نلاحظ أنه حتى يومنا هذا يتعجب الكثير من الأشخاص من قدرة الآلة على التعلم، إلا أن الآلات «المتعلمة» توجد منذ خمسين عاما على الأقل، فكأننا نرفض مسبقا منح الآلات قدرة لم يكن الكثيرون يريدون منحها للحيوانات حتى وقت قريب. وسوف نستكشف لاحقا الأسباب الممكنة التي تدفعنا إلى الرغبة في إنكار قدرة الآلات على التعلم (انظر الفصل الثاني عشر). وسنحاول الآن أن نقدم بصورة علمية الطريقة التي يمكن بها للآلات أن تغير من سلوكها وفقا لتجاربها الماضية. وربما يتطلب هذا العرض مجهودا من جانب القارئ كي يفهمه، ولكنه سيسمح على الأرجح بإقناعه بأن الآلات تستطيع بالفعل التعلم. (2-1) كل تقنية هي دعامة للذاكرة
قبل أن نناقش كيف تستطيع الآلات التعلم عن طريق ما تحفظه، يتعين ذكر الروابط الوثيقة التي تجمع منذ قديم الأزل بين التقنية والذاكرة.
تعتبر كل تقنية دعامة للذاكرة، وحتى التقنيات التي لا تترك أثرا أو تسجل الماضي تقوم بذلك بصورة ضمنية، مثل حجر الصوان المشكل الذي نعثر عليه اليوم، فهو يسجل في ثناياه أفعال صانعيه القدماء. فيمكننا بواسطة هذه الأحجار أن نتعرف على المهارات والعادات والتقاليد والشعائر الخاصة بصانعيه. وعلى صعيد آخر، فإذا وجدنا كنزة صوفية بها ثقب عند المرفق ومنسية في خزانة ملابس فهي قد تذكرنا بفترة مراهقتنا.
3
تهدف بعض التقنيات بوضوح إلى الاحتفاظ بالذكريات ونقلها، وتسمى طرق الاستذكار. ويتسبب كل ظهور جديد لطريقة استذكار في التأثير على نحو عميق على المجتمع: اللغة الشفهية، والفن الجداري، والكتابة المسمارية ، ثم الأبجدية والطباعة والبطاقات المثقوبة والفونوجراف والكاميرات السينمائية وذاكرات التخزين الرقمية. واليوم، يمكن تسجيل الملامح المختلفة لحياتنا وتصفحها ومشاركتها أكثر من ذي قبل. فيستطيع كل فرد أن يتذكر وأن يحتفظ بآثار لمساره في الحياة وأن يسلط الضوء على بصماته الخاصة. (2-2) الاستباق والتنبؤ عبر عناصر محفوظة في الذاكرة
تسمح تكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي منذ حوالي خمسين عاما بابتكار تقنيات قادرة ليس فقط على حفظ المعلومات بل تحليلها أيضا، وهو ما يعد حدثا فارقا في تاريخ طرق الاستذكار. فعلى سبيل المثال تحاول بعض تقنيات ضغط البيانات أن تفرغ التراكيب المكررة في مقطع موسيقي أو مقطع فيديو لتحويل محتواه إلى صورة مدمجة. وتقوم صيغ الضغط المشهورة حاليا مثل
mp3
على هذا النوع من التحليل.
ويسمح أيضا فهم هيكل مسار زمني ما بالاستباق والتنبؤ بالقيم المستقبلية لهذا المسار. وثمة أساليب عدة للتنبؤ بواسطة سلسلة مسجلة مسبقا. فلنتخيل مثلا آلة تحاول التنبؤ بمكان هبوط كرة أطلقناها للتو في الهواء. فستحاول الآلة أن تلائم بين نقاط المكان «أ» (وهو مسار الكرة في بداية حركتها) ونقاط المكان «ب» (موقع الكرة بعد مرور ثانية). وفي الرياضيات هذه إحدى مسائل تحليل الانحدار وهي إعادة تجميع دالة في مجملها عبر بعض النقاط. وبغية حل هذه المسألة، نفترض مسبقا بعض خصائص هذه الدالة، مثل تعدد الحدود، ونبحث في هذه المجموعة الفرعية عن تلك التي من شأنها أن تقترب بصورة أفضل من النقاط المتوفرة.
يمكن أيضا اللجوء إلى أساليب غير معيارية وأكثر بساطة وذات فاعلية متساوية في بعض الأحيان. فيعتمد التعلم عبر النماذج الأولية على حفظ كل أمثلة الاتفاق بين مكاني «أ» و«ب» واستخدام الأمثلة الأقرب من السياق ذي الصلة للقيام بتنبؤ جديد. وهكذا عند رؤية صورة فطر والرغبة في التنبؤ بما إذا كان ساما أم لا، فقد يكتفي نظام ما بالمقارنة بين هذه الصورة وكل الصور المرئية السابقة ووصفها ب «سامة» أو «قابلة للأكل» وفقا لغالبية التصنيفات المرتبطة بالصور الأكثر تشابها لهذه الصورة.
ويوفر الذكاء الاصطناعي في هذه الأيام مجموعة هائلة من طرق التعلم ، تتناسب كل منها مع بعض المشكلات دون غيرها، ولكل منها خصائصها، ويتعين معرفة اختيار الطرق الأكثر تناسبا وفقا لنوع التعلم المطلوب تحقيقه أو ترك الآلة تختار بنفسها في بعض الحالات (انظر الفصل الخامس).
بدأ استخدام هذه التقنيات في مجالات تطبيقية متزايدة، تبدأ من التنبؤ بمعناه الدقيق (التنبؤ بأحوال الطقس، والتنبؤ المالي والاقتصادي) وحتى استكشاف قواعد بيانات ضخمة (محركات البحث على شبكة الإنترنت، والتحكم في الجودة في الصناعة، والأبحاث في العلوم العصبية والطب). وقد بدأت أيضا في الظهور في واجهات الاستخدام في شكل نظم إكمال تلقائي للنص (سواء في الرسائل القصيرة أو واجهات نظام تحديد المواقع العالمي) أو التوصية بمحتويات مرئية وسمعية. وسيزداد في القريب العاجل عدد الأنظمة الاصطناعية التي تتعلم.
وأخيرا يمكن القول إنه من بين كل هذه الأساليب، يمكن اعتبار بعضها نماذج شائقة لفهم الطريقة التي تتيح للحيوانات أو الإنسان الاستباق والتنبؤ. وقد سمحت شبكات الخلايا العصبية الاصطناعية، دون أن تكون بالتحديد نماذج بيولوجية، بتطوير بداهتنا بطريقة يمكن بها التعلم بصورة متوازية وموزعة.
4
وكان أيضا من الممكن دراسة الخصائص العامة لبعض البنيات العصبية مثل القدرة على التذكر وتعميم الشبكات المتكررة؛ أي تلك التي تكون فيها بعض «المخرجات» مربوطة على شكل حلقات «بالمدخلات».
5 (2-3) التنبؤ يتيح اتخاذ القرار وفقا لأهداف يحددها نظام قيم
يمكننا إعطاء الآلة بصورة عشوائية إشارة بأن بعض هذه الحالات مرغوب فيها في حين أنه يجب تجنب البعض الآخر (انظر الفصل السادس)؛ أي نزودها بما نسميه نظام قيم. فيمكننا، على سبيل، المثال أن نشير إلى الروبوت بأنه من غير المستحسن الاصطدام بالحائط، وذلك بالاتفاق معه على أنه ينبغي تجنب المواقف التي تتلقى فيها لاقطات اللمس لديه صدمات عنيفة. وبواسطة قدرات التنبؤ يستطيع حينئذ محاولة التصرف بطريقة تسمح بتحقيق هذا الغرض؛ فهو سيستبق القيمة المحتملة لأي حركة في سياق معين اعتمادا على تجاربه الماضية. وحين يرصد عائقا على مسافة ما، فسيقوم على سبيل المثال بنصف استدارة لتفادي الاصطدام، فيظهر بهذه الطريقة نوعا من الاستقلالية.
تقوم أنظمة القيم بترميز ما تحاول الآلة تحقيقه بصورة ضمنية أو صريحة. فبدلا من برمجة سلوك الآلة مباشرة، يكفي ترميز نظام قيم. فعلى سبيل المثال، كان كمبيوتر ديب بلو الذي طورته شركة آي بي إم والذي هزم بطل العالم في لعبة الشطرنج جاري كاسباروف، يعتمد على نظام تقييم معقد لجودة ترتيب معين للعبة، ويقوم هذا النظام على أربعة مبادئ: القيمة الحقيقية لكل قطعة من قطع الشطرنج، وموقعها، ودرجة أمان الملك، والمبادرة في الحركة. وعبر هذا النظام كان يقوم على التوازي بحركات متعددة لكي يختار الأفضل منها (انظر الفصل الرابع). (2-4) الميل إلى الاستقلالية هو عملية عامة للسلالات التقنية
من الجدير بالذكر أن كل شيء في حياتنا اليومية قد يصير شيئا استثنائيا ومستقلا؛ فالعملية التي وصفناها الآن هي في الواقع عامة بصورة كبيرة، ويمكن تطبيقها أيا كان نوع التقنية، فكل شيء قادر على الإدراك والعمل في بيئته له وجوده الخاص بطريقة ما، ويمكن أن يصبح استثنائيا باستذكار آثار هذه التفاعلات مع الزمن. وعلى مدار تاريخه، سيتسنى له عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي أن يتنبأ ويستبق الأحداث المستقبلية. وإذا أضفنا للشيء نظام قيم يحدد المواقف التي يجب البحث عنها والتي يجب تجنبها، فيمكننا أن نفكر في تزويده بشكل من أشكال الاستقلالية. وسيكون تعقد هذا السلوك المستقل مرتبطا بصورة أساسية بأداء قدرات التنبؤ لدى الآلة وبنوع نظام القيم الذي تم اختياره.
إن هذا الميل نحو الاستقلالية هو عملية عامة للسلالات التقنية (انظر الفصل السابع عشر). فتكون الأداة في البداية جهازا بديلا، ثم تكتسب الكفاية الذاتية من الطاقة، ثم تزود بعمليات تحكم ذاتي أكثر تعقيدا لتميل في النهاية إلى الاستقلال التام. فقد حلت المطرقة الآلية المستخدمة في طرق المعادن محل المطرقة اليدوية ثم جاء دور آلة ترقيق المعادن ثم الروبوت. واستبدل بالدفة المحرك المؤازر (السيرفو) الذي يسمح بتوجيه السفن الكبرى باستخدام قوى البخار، وهو الجيل السابق للتوجيه الآلي في سياراتنا. وتعد هذه العملية التي تهدف إلى جعل النظام التقني مستقلا نتيجة مباشرة لعمليات التجاور والتكامل التي تتسم بها الديناميكيات التقنية (انظر الفصل الأول)، وهي أيضا بلا شك أحد الميول القوية للأنظمة البيولوجية. (2-5) دراسة التعلم الاصطناعي تسمح بإعادة تفسير مختلف أنواع الذاكرة لدى الحيوانات
بصورة إجمالية، يتضح إذن أن الآلات قادرة على التعلم بأشكاله كافة. فكيف يمكن مقارنة هذه القدرات بما نعلمه عن التعلم لدى الحيوانات؟ فلنعد إذن إلى الجدول الطبقي لأشكال الذاكرة والتعلم لدى الحيوانات كما عرضناه من قبل: (أ)
التعود والميل إلى تبديل الاختيارات، وهما عمليتان بدائيتان يمكن ملاحظتهما لدى كل الحيوانات تقريبا، ويتفقان مع نظام قيم متأصل لدى الحيوان مما يسهل المواقف التي يمكن إدراكها على أنها جديدة نسبة إلى قصة حديثة إلى حد ما. وهذا يرجع إلى إعطاء قيمة أقل للمواقف التي يمكن استباقها بسهولة. ويعد بناء نظام اصطناعي يتصرف بهذه الطريقة أمرا سهلا نسبيا، وتكفي شبكة خلايا عصبية لا تحتوي إلا على بعض العناصر. (ب)
عمليات الاشتراط الموجودة بالفعل لدى دودة الأرض التي قد تبلغ مستويات هائلة من الإتقان لدى حيوانات أخرى، فهي تتميز بوجود أنظمة قيم عرضية مرتبطة بعوامل مثيرة (طعام أو سمات جنسية خاصة، إلخ) وتتميز أيضا بأنظمة استباق بعيدة المدى إلى حد ما. وقد درست أساليب الاشتراط الاصطناعي بصورة جيدة وبسطت رياضيا في شكل ما نسميه «التعلم عن طريق التعزيز».
6
واقترحت لوغاريتمات عديدة قاد بعضها إلى تفسيرات جديدة حول بنية العقد القاعدية (مجموعة موجودة أسفل القشرة في وسط المخ البشري تقريبا) أو بنية المخيخ (الذي يقع أسفل المخ مباشرة) وهما جزءان من المخ نعتقد أنهما يشتركان في عمليات التعلم.
7 ،
8 (ج)
من أجل القدرة على تعلم الدوران حول الهدف، التي تتسم بها الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل، والتي تكمن في القدرة على الابتعاد عن الهدف لبلوغه في وقت لاحق، يتعين أن تكون الآلة مزودة بنظام استباق متوسط المدى. ويكمن أحد الأساليب في تزويد الآلة بقدرات على المحاكاة الداخلية عن طريق الاستخدام المتكرر لنتائج نظام التنبؤ. ويمكن لبعض برامج لعبة الشطرنج أن تختار أي قطعة تحركها بمحاكاة نتائج هذه الحركة لاحقا. ويكمن أسلوب آخر في التقييم الدائم لنتائج الاختيارات الماضية مقارنة بالأهداف المنشودة وتحديث «خريطة» لأفضل الاختيارات الواجب اتباعها في موقف معين. وفي كل الأحوال، فإن هذا النوع من التعلم المتاح حاليا للعديد من برامج الذكاء الاصطناعي يتطلب بلا جدال عمليات أكثر تعقيدا من التعود أو الاشتراط. (د)
تعلم القواعد الإدراكية والعامة المستخدمة في غير سياقها، وهو النوع الذي تجيده فقط الفقاريات ذوات الدم الحار والأخطبوط، والذي يتطلب آليات تنبؤ أكثر تعقيدا. وتستطيع العديد من لوغاريتمات الذكاء الاصطناعي القيام بهذا النوع من التعلم. ولكن من بين الآليات المعقولة بيولوجيا، يبدو أن شبكات الخلايا العصبية المتكررة بصورة كبيرة (التي تضم حلقات التغذية الراجعة بين بعض مخارجها ومداخلها) هي وحدها التي تمتلك قدرات تعميم كافية. أما الهياكل المقابلة لها في عقلنا فهي القشرة الجديدة والحصين، وهي هياكل جديدة نسبيا على مستوى التطور.
رأينا كيف يمكن للأبحاث في الذكاء الاصطناعي أن تبرز قدرات التعلم لدى الحيوانات بصورة غير مسبوقة بالإضافة إلى توفير الأسس لآلات مبتكرة تميل نحو مزيد من الاستقلالية. فهي تسمح بتطوير بداهتنا بالطريقة التي تقود بها بعض الهياكل العصبية إلى بعض أنواع التعلم. وسوف نلاحظ على مدار هذا الكتاب هذه الطبيعة المزدوجة للآلات بصفتها أدوات ونماذج.
الفصل الثالث
العقل
(1) هل تمتلك الحيوانات عقلا؟
تبدو الإجابة مؤكدة وغريبة أيضا فيما يتعلق بالحيوانات الأكثر تطورا! لا يشك أحد في أن الحصان أو طائر الشرشور يمتلك بالفعل عضوا بداخل جمجمته يسمى «مخا». ولكن هذا التأكد ينطوي على بعض التحفظات.
في البداية، يرجع ذلك إلى أنه يوجد الكثير من الحيوانات الأقل تطورا التي إما لا تمتلك أي آلية عصبية (مثل الإسفنج أو الدودة الشريطية) وإما تمتلك جهازا عصبيا ولكنه جهاز غير مجتمع على الإطلاق في عضو كبير مثل جهازنا العصبي (مثل الديدان الحلقية والعديد من الرخويات والحشرات التي يتكون جهازها العصبي من سلسلة من الغدد الموزعة على أنحاء الجسم كافة). وتمتلك الفقاريات والرخويات المسماة ب «رأسيات الأرجل» (مثل الأخطبوط أو الحبار) وحدها عضوا مركزيا يمكن وصفه بالمخ. إلا أنه سرعان ما نلاحظ أن الحيوانات التي تمتلك سلسلة من العقد العصبية مثل دودة الأرض والحلزون والنحلة هي أيضا مزودة بالقدرة على الإحساس. فلا يعد إذن امتلاك مخ كبير إلا أحد احتمالات التعبير عن الإحساس الحيواني وهو احتمال يسمح بظهور سلوكيات أكثر تكاملا. وإذا كانت الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل تعتبر حيوانات ذكية بصورة خاصة فذلك ليس وليد الصدفة (انظر الفصل الرابع).
ومن جهة أخرى، فمن الجدير بالذكر في هذا المقام أن كلمة «مخ» لا تعني المعنى ذاته لدى العلماء ولدى عامة الناس، فما نسميه نحن في اللغة الشعبية «المخ» أي مجموعة البنى التي تضمها الجمجمة هو ما يطلق عليه العلماء «الدماغ». وبالنسبة للعلماء، لا يحتل «المخ» بمعناه الدقيق إلا جزءا من الدماغ ولكنه الجزء الأكبر الذي يتفق تقريبا مع أنصاف الكرة المخية لدى الفقاريات والمناطق المعادلة لدى رأسيات الأرجل، وربما يكون مقر التفكير الواعي. وفي هذا الصدد، قد تمتلك فقط بعض الحيوانات عقلا بمعناه الدقيق وليس فقط جهازا عصبيا، وهي إجمالا الحيوانات المزودة ب «الوعي التام» (انظر الفصل السابع) أي إدراك عناصر بيئتها. ودون أن نستطيع الجزم بصورة كاملة في علم مثل علم الأحياء الذي يعيد النظر في جميع الأمور بصورة دائمة، يمكننا على أي حال أن نعتبر أن الفقاريات والرخويات رأسيات الأرجل على الأقل تمتلك «عقلا» بصورة واضحة! (2) هل يمكن أن تمتلك الآلات عقلا؟ (2-1) لا يمتلك الكمبيوتر عقلا، والعقل ليس كمبيوتر
عادة ما يشبه العقل بنوع من الكمبيوتر المتطور. وفي أغلب الحالات يكون التشابه خادعا. فلنؤكد في البداية أن العديد من الآلات التي يمكن اعتبار سلوكها ذكيا والقادرة على التعلم من النماذج ليست مصنوعة على الإطلاق بناء على مبادئ مماثلة لمبادئ عقل الثدييات. فعلى سبيل المثال يختلف عمل الكمبيوتر الذي هزم جاري كاسباروف بطل العالم في لعبة الشطرنج عن عمل العقل البشري. وبالإضافة إلى ذلك يبدو الذكاء الاصطناعي التقليدي الذي يقوم بصفة أساسية على الاستدلال الرمزي شديد البعد عن النماذج التي تقترحها حاليا العلوم العصبية، حتى إن كان قد استطاع في بعض الأوقات أن يؤثر في بعض النظريات بشأن الاستدلال الإدراكي.
وبصفة عامة، لا تشبه بنية الكمبيوتر على الإطلاق ما نعرفه عن بنية العقل. ولكن إذا أردنا المقارنة بينهما على صعيد الأداء، فيبدو العقل كجهاز كمبيوتر أشد بطئا من أجهزة الكمبيوتر الأكثر سرعة، ولكن يعوض عن هذا البطء بإجراء «العمليات الحسابية» جميعها بصورة متوازية، ولكن يتعين أن نتذكر أن هذا التشابه القديم والدائم بين العقل والكمبيوتر هو قبل كل شيء استعارة. فيستخدم كل عصر الأدوات التقنية المتوفرة فيه لمحاولة فهم الطريقة التي نفكر ونعمل بها. وكان اليونانيون يستخدمون استعارات مائية، وكان مهندسو عصر النهضة يلجئون أيضا إلى نماذج آلية ونماذج أخرى تعمل بالهواء المضغوط. وشهد القرن التاسع عشر ازدهار النماذج الكهربية. فلا يعد إذن التشابه الناشئ في القرن التاسع عشر بين الكمبيوتر والعقل إلا مرحلة من جملة مراحل أخرى في تاريخ النماذج (انظر قسم «هل نحن نعتبر آلات؟») (2-2) آلات جديدة مستوحاة من العقل
يوضح العديد من الباحثين اليوم أنهم يستوحون من معارفنا الحديثة عن العقل البشري لاختراع آلات من نوع جديد. فقد تطورت العلوم العصبية بصورة كبيرة خلال العقود المنصرمة. وقد تسمح تقنيات التصوير الجديدة بصورة خاصة برؤية التفاعل الفوري للعقل مع العوامل المثيرة في العالم الخارجي بدقة غير مسبوقة. وتصمم نماذج هذه المعطيات التجريبية بصورة أفضل عبر عمليات محاكاة تتطلب استخدام أجهزة كمبيوتر فائقة السرعة والقوة. ولكن للأسف ليس من السهل تحويل هذه النماذج الوصفية إلى نماذج عملية، فالنماذج التي تتخذ أشكالا عصبية والتي تستوحي مما نعرفه عن مبادئ عمل العقل البشري تطلق العنان حاليا للتخيل والابتكار لدى الباحثين الذين يصممونها.
وعلى عكس ما هو شائع الاعتقاد، فنادرا ما نصمم آلات جديدة عن طريق «محاكاة» الطبيعة؛ فالطائرات ليست طيورا تحولت إلى نماذج مصممة بصورة مباشرة، شأنها في ذلك شأن الكمبيوتر الذي لم يصنع كالعقل البشري. فيتبع الاختراع التقني قواعده الخاصة، ويتعلق الأمر قبل كل شيء بالمزج بصورة غير مسبوقة بين العناصر التقنية المتوفرة في عصر معين. ويستطيع المخترعون، شأنهم شأن أي مؤلف ، أن يستلهموا من العالم الذي يعيشون فيه، ولكننا لن نبالغ في أهمية هذه الملاحظات نسبة إلى خيالهم التركيبي الذي يعد المصدر الحقيقي للابتكار التقني. فمن غير المرجح أن نعتبر أن الآلات ستمتلك عقلا في يوم ما، ولكن في المقابل يجوز الاعتقاد أننا سوف نغير فهمنا «لعمل العقل البشري» عن طريق الاستلهام من الآلات الجديدة التي سنصممها.
الفصل الرابع
الذكاء
(1) هل الحيوانات ذكية؟
ليس من السهل أن نفسر ما هو الذكاء، فإذا كان هو القدرة على التكيف مع البيئة المحيطة، فالحيوانات وأيضا النباتات تمتلك هذا الشكل من الذكاء. وإذا كان هو القدرة على فهم تغيرات البيئة المحيطة بصورة واعية إلى حد ما بغية استخلاص سلوك ما، فإذن كل الحيوانات المزودة بجهاز عصبي مركزي تمتلك شكلا من الذكاء. وسوف نتبنى هذا التعريف الأخير هنا حتى لو ظلت حدود الوعي مسألة صعبة (انظر الفصل السابع). في الواقع، يستثني مؤرخو الذكاء الحيواني بصفة عامة مفهوم الوعي الذي يصعب احتواؤه ويعتبرون أن الذكاء الحيواني خاصية العقل الذي يعمل لجعل السلوك ملائما. وعلى غرار كل ما يتعلق بالحيوانات، يظهر الذكاء في مستويات التعقيد لدى الكائنات الحية على مراحل متتالية مثلما رأينا في الذاكرة التي تعد أحد مكونات الذكاء (انظر الفصل الثاني). وبهذا الشكل، يصبح الذكاء مرادفا للتفكير الواعي أو غير الواعي.
ومن الجدير بالذكر أننا نتساءل بصفة خاصة عن مسألة «الذكاء» لدى الحيوانات الأكثر تطورا مثل الفقاريات والرخويات مثل الأخطبوط. وإجمالا تعتبر هذه الحيوانات أكثر ذكاء مما كنا نعتقد على مدار فترات طويلة وبالإضافة إلى ذلك يؤدي كل اكتشاف جديد إلى النظر إلى الذكاء الحيواني على أنه في تطور متزايد.
وفيما يلي بعض الأمثلة: (1-1) ذكاء الثدييات والطيور
لن نندهش من وجود قدرات ذكاء ملحوظة للغاية لدى الشمبانزي لا سيما أننا نعلم أنه يستطيع استخدام الأدوات أو تعلم مبادئ اللغة بالتواصل مع الإنسان (انظر الفصل الثامن). ويستطيع الشمبانزي أيضا أن يقوم بأنشطة ترتيب الأشياء (حسب الشكل أو اللون ...) ولكن هذه الملاحظات التي تنم عن ذكاء مرتفع جدا قد شوهدت أيضا لدى كل الحيوانات ذوات الدم الحار سواء الثدييات أو الطيور. فقد استطاع هيرمان وزملاؤه في السبعينيات تعليم بعض الدلافين تنفيذ التعليمات التي يعطيها لها الإنسان في شكل إشارات حركية عشوائية. وتستطيع الجرذان تعلم القواعد المعقدة مثل «اختيار علبة مماثلة لتلك التي وضعت بها للتو» كما دلل على ذلك ألكسنسكي وآخرون في المركز القومي الفرنسي للبحث العلمي في جيف-سور-إيفت بفرنسا (عام 1978). ويدرك العديد من الثدييات والطيور مفهوم العدد وهي قادرة على العد حتى رقم سبعة أو ثمانية. ولقد رأينا سابقا رد فعل الحمام عند رؤية صورة شفافة تعكس مفهوما عاما مثل مساحة ممتدة من المياه أو غابة (انظر الفصل الثاني). ويستطيع الحمام أيضا تعميم شكل حرف أبجدي مكتوب بطرق مختلفة بطريقة مماثلة لتلك التي نتبعها حينما نقرأ رسالة مكتوبة بخط اليد. ويمكنه أيضا تمييز مفهوم «شيء جديد» نسبة إلى أشياء معروفة من قبل. وتستطيع طيور أبي زريق التعرف على «متتالية منطقية من الأشكال» وهي مشكلة يقابلها الإنسان بطريقة مختلفة خلال اختبارات نسبة الذكاء! ويمكننا بالطبع مضاعفة عدد الأمثلة.
استطاعت الباحثة الأمريكية إيريني بيبربرج بداية من الثمانينيات تعليم بعض الببغاوات القيام بمهام شديدة التعقيد مثل ترتيب الأشياء حسب الشكل أو اللون، أو فهم حوالي خمسين كلمة، أو إدراك مفهوم «المتشابه» و«المختلف» أو تقدير مفهوم الحجم النسبي للأشياء، وذلك باتباعها لأسلوب تعليم مبتكر يسمى «أسلوب النموذج وعكسه» الذي يعتمد على وضع الببغاء أمام شخصين يقول أحدهما للآخر أسماء الأشياء التي يستخدمانها، بحيث يكافأ أحدهما إذا توصل إلى الإجابة الصحيحة. ويثير هذا الموقف الاجتماعي اهتمام الببغاوات وقدرات التعلم لديها بصورة كبيرة.
وتكشف هذه الأبحاث الحديثة التي أجريت على طيور اشتهرت دون وجه حق بأنها محدودة الذكاء، عن سرعة تطور معارفنا في هذا الميدان وإلى أي مدى قللنا من شأن ذكاء الفقاريات (وأيضا بعض الرخويات مثل الأخطبوط). وينبغي أن نتوقع اكتشافات عديدة في هذا المجال في السنوات القادمة لا سيما لدى الأنواع الأكثر ذكاء من الثدييات مثل القردة العليا أو القردة الشبيهة بالإنسان أو الدلافين أو آكلي اللحوم أو الفيلة، والطيور مثل الغربان أو الببغاوات أو أشباهها. على الرغم من شدة الذكاء البشري، فإنه يستمد أصوله من الذكاء الحيواني الذي لا يزال يستهان به بصورة كبيرة! (2) هل يمكن أن تكون الآلات ذكية؟
إن تصنيع آلة ذكية هو حلم قديم للمهندسين، والآلة «الذكية» هي أساسا آلة تقوم بشيء يستطيع الإنسان وحده فعله دون بقية الحيوانات كافة. وبما أن القدرة على الكلام كانت لفترة طويلة أحد المعايير الأساسية للتفرقة بين الإنسان والحيوان، فقد انكب العديد من المهندسين على استحداث آلات ناطقة، وحاول البعض الآخر تصميم آلات تلعب الشطرنج أو تجد حلا لمشاكل أخرى تعتبر معقدة. وسنناقش باختصار هذين المثالين. (2-1) المهندسون يريدون إنطاق الآلات
كان ديكارت يفسر من قبل أنه من أجل إنطاق آلة ما، يتعين إعادة إنتاج الأصوات البشرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تنظيم هذه الأصوات بحيث تشكل خطابا ذا معنى. فكان يستطيع الإقرار بأن المحاكاة الصوتية للحديث ممكنة في المستقبل، ولكنه كان يستبعد إمكانية قدرة آلة ما في يوم من الأيام على ترتيب الحديث «بطريقة مغايرة للرد على معنى ما سيقال في وجودها».
1
فكان الإنسان وحده هو من يستطيع القيام بذلك حينئذ.
وفي القرن الثامن عشر حاول متخصصو الآلات في عصر النهضة مواجهة هذا التحدي بتناول قضية إعادة إنتاج الأصوات أولا. فقد أطلق جاك دي فوكونسن، وهو مبتكر العديد من الآلات ذاتية الحركة الشهيرة، والذي يعتبر، عن جدارة، أحد رواد الذكاء الاصطناعي، مشروع «المتحدث» الذي لم ينجح في إنهائه. وفي عام 1783 صمم القس ميكال «رأسين ناطقين» قادرين وفقا للافوازييه وفيك دازير على إعادة إنتاج الصوت البشري بصورة غير متقنة.
2
وفي عام 1791 صمم فون كمبلن أيضا آلة ناطقة قال عنها جوته: إنها «ليست ثرثارة ولكنها تنطق بعض الكلمات الطفولية بطريقة مهذبة.» ويقال إن ألكسندر جراهام بيل عندما رأى نسخة من هذه الآلة بدأ برفقة أخيه في صناعة عدد كبير من الرءوس الناطقة. وبعد بضعة أعوام، اخترع الهاتف وأدخل التقنية التي تسمح بتمثيل الصوت عبر إشارات كهربية مما تسبب بطريقة ما في التوقف عن استخدام المحاولات الآلية المختلفة للحصول على النتيجة ذاتها. وتركزت الأبحاث بعد ذلك على التحدي الثاني الذي يواجه الآلة الناطقة والذي كان ديكارت يرى أنه مستحيل؛ ألا وهو تكوين خطاب.
وفي عام 1950 اقترح آلان تورنج تجربة لحسم مسألة ذكاء الآلات؛ الآلة الذكية هي التي يمكن اعتبارها إنسانا خلال محادثة نصية تتم عن بعد. وتنبأ تورنج بأن أي نظام نزوده بقدرات تعلم ملائمة قد يستطيع اجتياز هذا الاختبار بنجاح قبل نهاية القرن العشرين. وتعد مساهمة تورنج فلسفية بصورة أساسية باقتراحه لاختبار يقوم فقط على الملاحظة وليس على افتراض آلية داخلية من نوع خاص. إلا أن العديد من الباحثين فسروا بطريقة حرفية التحدي الذي أطلقه تورنج؛ فحاولوا تصميم آلات قادرة بالفعل على تقليد الإنسان، وأشهرها نظام إليزا الذي صممه جوزيف فايتسنبوم في عام 1966 والذي نجح في بعض الحالات في إعادة إنتاج سمات محادثة ذات معنى عبر الاستناد فقط إلى تفسيرات جمل، مع أنه لا يفهم شيئا من الأحاديث المتبادلة التي يشارك فيها. وعلى هذا المنوال، ابتعدت العديد من المحاولات عن القيام بمعالجة حقيقية لمعنى المحادثات في سبيل محاولة النجاح في اختبار تورنج.
إن تصميم آلة قادرة على فهم ما نقوله لها يعد مشكلة صعبة بصورة جوهرية. وبالرجوع إلى الوراء، يتضح لنا أن تاريخ النظريات بشأن الخصائص المميزة للقدرات اللغوية البشرية يعكس مباشرة تاريخ التقنيات المتوفرة في عصر معين. وإذا كنا قد بدأنا منذ الخمسينيات في اعتبار تعلم الحديث مشكلة حاسوبية، فذلك ليس وليد الصدفة. ففي مواجهة نظريات تشومسكي التوليدية التي تبرهن على أن تعلم الكلام بفضل أمثلة يواجهها الأطفال يعد مشكلة صعبة للغاية ما لم يكن هناك تراكيب فطرية موجودة من قبل من شأنها تسهيل هذه المشكلة، تشير النظريات الإحصائية إلى أن تقدم تقنيات الاستخلاص والتعلم الآلي يسمح بإيجاد مزيد من الهياكل التي لم نتخيلها من قبل.
3
واليوم، يسمح لنا التقدم المحرز في علم تصميم الروبوتات بإعادة النظر في هذه المشكلة من زاوية أخرى؛ فالطفل يحتاج إلى عدة أشهر للبدء في إتقان مبادئ طرق الحديث. وحين يدخل تدريجيا في المرحلة اللغوية في سن عام ونصف تقريبا، يكون بالفعل يتمتع بأداء حسي وحركي ملحوظ. وإذا كان يجب الاستلهام من الطريقة التي يتعلم بها الأطفال للوصول في يوم ما إلى تصميم آلة ناطقة كما يعتقد تورنج، فقد يعني ذلك أنه لهذا الغرض يتعين على أي آلة المرور بكل مراحل النمو التي تسبق تعلم الكلمات الأولى؛ معرفة جسدها، والتعرف على الأشياء والتحكم فيها، والتفاعل مع نظرائها بطريقة غير لغوية، وتعلم توزيع الانتباه، إلخ ... فنحن ما زلنا بعيدين كل البعد عن فهم هذه العمليات بصورة كافية وجيدة مما يمنعنا من تصميم آلة من شأنها أن تبدأ مسيرة النمو مثل الطفل ولكن البحث يتقدم (انظر الفصلين الخامس والثامن). وبهذه الطريقة الجديدة في معالجة الأمور، يتعين من جديد إعادة صياغة النقاش حول الأمور الفطرية والأمور المكتسبة في تعلم اللغة. (2-2) الآلات تستطيع حل المشاكل المعقدة
بالإضافة إلى الحديث، يستطيع الإنسان استخدام الرموز والتفكير بصورة مجردة وحل مشاكل معقدة. كانت هذه القدرات التي يتقنها الإنسان البالغ وحده أهدافا مميزة للمهندسين الحريصين دائما على تصميم آلة تتجاوز كل الآلات الموجودة.
تمثل ملحمة الآلات التي تلعب الشطرنج مثالا جيدا على هذا البحث. وتجسد آلة «ذا تورك» التي تلعب الشطرنج، والتي صممها البارون فون كمبلن في عام 1771، أحلام انتصار الآلة على الإنسان على صعيد الذكاء. واتخذت هذه الآلة بعد ذلك مسارا نموذجيا حتى بعد وفاة صاحبها ونجحت في هزيمة أكبر شخصيات عصره بداية من نابليون بونابرت وحتى بنجامين كونستان. وفي عام 1836 أظهر إدجار آلان بو الحيلة التي لجأ إليها البارون للقيام بهذه المعجزة: كان ثمة رجل ضئيل مختبئ بمهارة داخل الآلة. ومنذ ذلك الوقت، ستعتبر لعبة الشطرنج على مدار فترات طويلة ساحة معركة رمزية يواجه فيها الذكاء الإنساني الذكاء الاصطناعي.
وفي عام 1997، عندما نجح كمبيوتر ديب بلو الذي صممته شركة آي بي إم في الانتصار أخيرا على بطل العالم في الشطرنج جاري كاسباروف، كان أول رد فعل للرأي العام هو أنه إذا هزمت الآلة الإنسان، فهي تهزمه «دون قصد». وفي الواقع كانت الطريقة المستخدمة تعتمد بطريقة ما على محاولة التنبؤ بنتائج عدد من الحركات عبر التكرار واستكشاف العديد من الاحتمالات بسرعة إعجازية تبلغ 300 مليون حركة في الثانية (انظر الفصل الثاني). وربما نكون محقين في اعتقادنا أن بطلا كبيرا مثل كاسباروف لا يتبع بالضرورة النهج نفسه في اختيار خططه. ومع ذلك، اتفق الكثيرون بسرعة كبيرة على القول إن الشطرنج كان في النهاية مثالا أسيء اختياره للمقارنة بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي. وفي الواقع، تقوم لعبة الشطرنج قبل كل شيء على التفكير بصورة منطقية في مساحة رمزية ومغلقة وفقا لقواعد صارمة يمكن التنبؤ بها، فهي تشبه بطريقة ما عالما من الآلات. ولا يقترب التعقيد الجوهري في لعبة الشطرنج أيا كانت درجته من تعقيد العالم الفيزيائي أو التفاعلات الاجتماعية. فمن الصعب جدا على آلة أن تتصرف «بذكاء» في هذه الظروف الأخرى.
وهكذا يقودنا التقدم في مجال ذكاء الآلات بطبيعة الحال إلى إعادة تعريف الذكاء. فنحن كنا نعتقد أن الذكاء هو لعب الشطرنج، أما اليوم فيتفق الكثيرون على أن ذكاءنا يتجلى قبل كل شيء في المجال الفيزيائي أو الاجتماعي؛ أي في التعقيد الغريب لسلوكياتنا اليومية المتكررة. فلن يستطيع إذن الذكاء الاصطناعي أن يصل إلى هدفه في يوم من الأيام؛ لأنه كلما اقترب من ذلك يتغير هذا الهدف.
وحتى لو كنا في بداية القرن الحادي والعشرين ولا نعرف بعد معنى كلمة «ذكاء»، وحتى لو لم تنجح أي آلة في اجتياز اختبار تورنج رسميا، فنحن اليوم مجبرون بصفة شبه يومية على أن نثبت للآلات أننا نستحق لقب إنسان. وبالإضافة إلى ذلك فإن اختبارات التعرف البصرية التي تنتشر منذ بضعة أعوام على المواقع الإلكترونية بهدف منع «الروبوتات» الافتراضية من كتابة تعليقات أو رسائل، تزداد تعقيدا بقدر تطور أداء الأنظمة الاصطناعية في هذا المجال. وباستثناء بعض الأمور، كان تورنج إذن محقا إلا في أننا لم نعد نحن الذين نختبر الآلات بل هي التي تختبرنا!
الفصل الخامس
الفضول
(1) هل تتسم الحيوانات بالفضول؟
يقول المثل الشائع: «الفضول قتل القطة»، ولكن هذا قول خاطئ. فالفضول عملية أساسية تسمح للحيوانات باكتشاف التغيرات والمستجدات في بيئتها الجسدية والبيولوجية والاجتماعية والاندماج معها. فلدى الحيوانات كافة نزعة إلى استكشاف أي بيئة جديدة؛ أي التحلي بالفضول. (1-1) الفضول لما هو «مختلف بصورة طفيفة»
يتوقف الانجذاب إلى «ما هو جديد» عند «الجديد الذي يبث الخوف»، فغالبا ما يجد حيوان ما نفسه في صراع بين رغبتين متعارضتين: فضوله الذي يدفعه إلى استكشاف بيئة جديدة، وفي الوقت ذاته خوفه من المجهول. أما لدى الشباب، فيمكن حل هذه المشكلة عن طريق الانجذاب إلى «ما هو مختلف قليلا وليس كثيرا». وقد سمحت بعض التجارب التي أجريت على الكتاكيت، في إطار طريقة تعلم مبتكرة تسمى «البصمة»، بتوضيح هذه المسألة؛ فالبصمة تعني الارتباط المبكر لحيوان صغير السن بأحد والديه أو بديل له، وهي كثيرة الحدوث في المملكة الحيوانية ولا سيما لدى الطيور التي تترك العش بعد مولدها مثل الكتكوت؛ فبما أن هذه الطيور لا تظل في عش، فيتعين عليها حتما اتباع الأم تجنبا لافتراسها. وبهذه الآلية، يرتبط الكتكوت الذي خرج حديثا من البيضة بأول شيء متحرك يقابله ويتبعه بصورة تلقائية، وعادة ما تكون أمه هي هذا الشيء لكنه قد يكون إنسانا (مثل الباحث كونراد لورنتس الذي كان أول من وصف هذه الآلية) أو كرة مطاطية متحركة.
ولكن إلى أي مدى سيدفع هذا الفضول الحيوان؟ فهل سيتبع أي شيء متحرك ويترك والدته ليتبع أول شيء يقابله غير أمه، مثل ثعلب يريد استغلال حداثة سنه؟ أظهر الباحثون أن ذلك ليس صحيحا؛ فإن بعض الكتاكيت التي حصلت في المعمل على بصمات بعض الأشياء تفضل لاحقا الأشياء المختلفة إلى حد ما ولكن ليس المختلفة بشدة. ففي الطبيعة تدفع هذه الظاهرة الكتكوت إلى اكتشاف جسم والدته تدريجيا بزوايا مختلفة (مختلفة إلى حد ما عن تلك التي أعطته انطباعه الأولي) ولكنه لا يرتبط بما هو «مختلف بشدة» كجسم الثعلب الذي يبث في روعه خوفا نافعا. وبلا شك يمكن تعميم مفهوم الفضول واستكشاف ما هو مختلف بصورة طفيفة وما هو «جديد إلى حد ما»، في حين أن الجديد للغاية يثير الخوف، ويمكن تعميم ذلك أيضا حتى على الجنس البشري. (1-2) اللعب
يتجلى الفضول الذي يهدف إلى القيام بحركات معقدة لدى الحيوانات الأكثر تطورا ولا سيما تلك التي تعيش في مجموعات، وذلك في نشاط مبتكر؛ نشاط اللعب المنتشر خاصة لدى صغار الثدييات وصغار الطيور. ففي أثناء اللعب، يقلد صغار الحيوانات بعض المواقف التي قد تضعها الطبيعة أمامها: كالصراعات أو التوازن على الجذوع أو المطاردة أو التزاوج، مع الالتزام بالحدود التي لا تعرض بها أنفسها أو شريكها للخطر. وكذلك لا يقوم أطفالنا الصغار الذين يلعبون لعبة «اللص والشرطة» أو ألعابا يؤدون فيها أدوار الأب والأم بأي شيء آخر في إطار جنسنا، ولكنهم يشبعون بهذا اللعب فضولهم إلى اكتشاف عالم البالغين الذي سيعيشون فيه مستقبلا. (1-3) لعب الإنسان البالغ
قد تضطر الكائنات البالغة أيضا إلى اللعب ولكن قلما يحدث ذلك، باستثناء الفصائل التي تحتفظ «بروح طفولية»، مثل الجنس البشري. فقد أكد العلماء في أحيان كثيرة الطابع الشبابي للجنس البشري، الذي يتضح حتى في هيئتنا الجسمانية: فنحن نشبه جنين الشمبانزي برأسنا الكبير وعينينا الواسعتين وقلة الشعر. وكان ديزموند موريس في كتاب شهير
1
قد وصفنا بأننا «قردة عارية». وعلى الصعيد النفسي أيضا، يظل الإنسان غير ناضج بفترة شباب طويلة جدا (حوالي ربع حياته)، ومرونة كبيرة جدا تسمح له بتعديل سلوكه والتعلم حتى آخر لحظة في حياته، وترتبط هذه المرونة بفضوله الكبير.
وبالإضافة للعب بمعناه الحقيقي، الذي كثيرا ما يقوم به الإنسان في شكل الكلمات المتقاطعة أو السودوكو أو الألعاب الاجتماعية أو تقمص الأدوار أو الألعاب الموجودة على الكمبيوتر، فإن لعب الإنسان البالغ قد يتخذ أبعادا اجتماعية هائلة، ويشهد على ذلك حجم فعاليات بطولات الألعاب الرياضية مثل كرة القدم أو لعبة الرجبي أو التنس أو الألعاب الأوليمبية. ويجب بلا شك أن نضيف أيضا إلى ألعاب البشر البالغين الأحلام والألعاب الجنسية التي قد تتخذ أشكالا متنوعة خلافا لنمطية الفعل الجنسي في حد ذاته. وتؤثر هذه المرونة التي تتضح في اللعب في مجالين اجتماعيين آخرين يعدان من أهم الخصائص المميزة للجنس البشري: الفضول في العالم الحقيقي والفضول في الخيال، أي في العلم والفن بصورة إجمالية. وعلى صعيد التأثير الاجتماعي، قد تستقطب بعض العروض الفنية أو السينمائية أو الحفلات الموسيقية حشودا غفيرة، شأنها شأن اللقاءات الرياضية؛ ولذلك فهي تمثل أيضا امتدادا اجتماعيا للعب. (2) هل يمكن أن تتسم الآلات بالفضول؟
ما الفضول بالنسبة إلى الآلة؟ إن قدرة الآلة في الاعتماد على نفسها هي أحد الاتجاهات الكبيرة لتطور السلالات التقنية (انظر الفصلين الثاني والسابع عشر). ولقد رأينا كيف يمكن تزويد آلة بنظام قيم يحدد ما يجب أن تبحث عنه أو ما يجب أن تتجنبه، ويحدد أيضا عبر طرق تنبؤ واختيار للحركة الطريقة التي ستتصرف بها الآلة. فقد يحاول روبوت القيام بحركات أو مجموعة حركات بالصدفة ثم يختار بصورة تدريجية عبر «المحاولة والخطأ» الحركات التي تصل إلى أقصى حد من النتائج الإيجابية (إذا وجد مصدرا للطاقة) وإلى أدنى حد من النتائج السلبية (إذا اصطدم بحائط). فيمكن إذن تعديل الحركات المختارة أو مزجها بصورة عشوائية لتشكيل استراتيجيات جديدة يقيمها الروبوت. وهكذا كلما زادت الخبرات يستطيع كل روبوت تشكيل استراتيجياته لسد احتياجاته الاصطناعية التي حددها مصممه.
وفي أغلب تجارب تصميم الروبوتات التي تجرى حاليا، دائما ما تكون هذه المواقف المنشودة «خارج» جسم الروبوت. وبذلك، لا يوجد سبب يدفعه إلى الاستمرار في التطور بمجرد بلوغه الأهداف (البقاء بالقرب من البشر، وعدم الاصطدام بالحائط)، فاستقلاله إذن محدود ضمنيا بنظام قيمه. ولمحاولة إخفاء هذه الحدود، بدأ بعض الباحثين في التفكير في طريقة تزويد الروبوت بنظام تحفيز «داخلي». وتكمن الفكرة في تزويد الروبوت بنظام قيم لا يرتبط بمهام خاصة محددة مسبقا تدفعه إلى «مواقف تعلم»، وهو ما يعد نوعا من الفضول. وسوف يقوده هذا النظام إلى استكشاف فرص بيئته واكتشاف مواقف جديدة (ولكن ليست جديدة جدا!) تسمح له بتنمية مهارات جديدة. ويمكن تلخيص مبدأ عمله بالطريقة الآتية: «اختيار الحركات التي من شأنها أن تجعله يتعلم بأكبر قدر ممكن.»
فلنتخيل طفلا يبلغ ثمانية أشهر من العمر ويلعب بعربة بلاستيكية فيمسك باللعبة ويدقق فيها من زوايا مختلفة، ثم يدفعها من الجانب ويجعلها تدور، ثم يحالفه الحظ في جعلها تسير، ثم يبدأ في ضرب السيارة بالأرض بهدف إصدار أصوات ممتعة، ثم يمل بعد برهة من هذا النشاط المزعج، فينظر حوله فيرى مجلة متروكة على الأرض بصورة غير مناسبة، فيزحف على أطرافه الأربعة حتى هدفه الجديد ويبدأ بمنهجية في تقطيع أوراق المجلة. لماذا توقف هذا الطفل فجأة عن الاهتمام بنشاطه المعتاد واختار نشاطا آخر؟ يمكن أن يعطينا مبدأ الفضول إجابة عن هذا السؤال.
من أجل وصف عمل نظام فضول صناعي، يمكن أن نأخذ بعين الاعتبار أنه يتكون من جزأين. ويتعلق الجزء الأول بنظام تنبؤ يتعلم النتائج الإدراكية لحركة ما في سياق حسي ومحفز معين (انظر الفصل الثاني). أما النظام الثاني فهو «متنبئ للتنبؤ» ويتعلم التنبؤ بأخطاء النظام المتنبئ. وبعبارة أخرى، يضع النظام الثاني نموذجا للنظام الأول ويربط كل موقف يتم مقابلته بمستوى صعوبة تنبئية.
2
ومن أجل تزويد الروبوت بنوع من الفضول، يمكننا أن نضيف إلى أنظمة التنبؤ نظام قيم يدفع الروبوت إلى تجنب المواقف المعتادة جدا وشديدة الصعوبة في التنبؤ بها لتفضيل المواقف التي يصل فيها التقدم في عملية التعلم إلى أقصى درجة. فلا يتعلق الأمر إذن باختيار المواقف التي يصل فيها خطأ التنبؤ إلى أدنى درجة ولا إلى أقصى درجة، بل المواقف التي يقل فيها الخطأ إلى أقصى درجة. وتسمى هذه المواقف «مواقف إحراز التقدم»، وهي ليست من الخصائص الجوهرية للطبيعة، لكنها تنتج عن العلاقة بين الهيكل الجسدي للروبوت وخصائص آليات التعلم لديه وتفاعلاته الماضية والبيئة الخاصة المحيطة به. وبمجرد اكتشاف هذه المواقف التي تتيح التقدم واستغلالها، تختفي كلما زادت إمكانية التنبؤ بالموقف الذي تنطبق عليه. وهكذا، فإن أي مسار نمو، وهو مجموعة المراحل التي يركز فيها الروبوت على أنشطة تعقيد متزايد ، يتشكل دون أن يبرمجه مصممه مسبقا.
توضح تجارب متزايدة كيف يمكن لروبوت مزود بنظام تحفيز داخلي أن يتعلم تلقائيا السير والتفاعل مع الأشياء التي ليس لديه معرفة مسبقة بها والقيام بحركات تفاعل أولية.
3
وفي كل تجربة، يكفي ترك الروبوت في بيئة معينة، مثل سجادة لعب الأطفال، ثم نلاحظ طريقة استكشافه لهذا المكان الجديد فيضرب لعبة ما ويحاول عض أخرى ثم يشاهد الآثار المترتبة على أفعاله المختلفة. ثم يبدأ تدريجيا بدافع الفضول في عض الأشياء القابلة للعض وضرب الأشياء القابلة للضرب؛ لأن ذلك يسمح بالحصول على النتائج الأكثر إمتاعا من وجهة نظره. وفي كل هذه التجارب، تتكيف المهارات التي يكتسبها الروبوت مع بنيته والبيئات التي يتعرض لها، فيختار إلى أي شيء يوجه اهتمامه حسب تجاربه الماضية؛ فهو فاعل في نموه وهكذا يبني «عالمه». (2-1) ماذا يمكننا أن نتعلم عبر التجارب التي نجريها على آلات تتسم بالفضول؟
لا توجد أوجه تشابه كبيرة بين جسم الروبوت وجسم الطفل. ففي الطريقة التي قمنا بوصفها أعلاه، لا يتعلق الأمر بتقليد الإنسان في كل شيء، بل يمكن في المقابل عبر دراسة التأثير الهيكلي للقيود الجسدية واللوغاريتمية للآلة على مسارات نموها أن نجد تفسيرات صائبة لتأثير مثل تلك العوامل على نمو طفل صغير. ويمكن أيضا القيام بدراسة منهجية لدور كل من البيئة والقيود التشريحية والبنيوية وديناميكيات التحفيز في عملية النمو الاصطناعي وذلك عبر تعديل تنظيم المكان الذي يتطور فيه الروبوت أو نوع الروبوت المستخدم. وهكذا، يقترح علم تصميم الروبوت إجراء تجريبيا من نوع جديد من أجل فهم أفضل لديناميكيات النمو المعقدة وإبراز قدرة الأطفال الخارقة على التعلم بصورة مختلفة.
يتعين عبر هذه التجارب أن نتساءل حول وجود أنظمة مماثلة في عقلنا. فتركز الأبحاث حاليا على العلاقة بين المبدأ الذي وصفناه ودور مادة الدوبامين. فتضطلع دوائر الدوبامين بدور كبير في شعورنا بالالتزام والإثارة والابتكار ورغبتنا في استكشاف العالم وفهم ما نراه. فالمرضى المصابون بداء باركينسون، وهو خلل بالخلايا العصبية المنتجة لمادة الدوبامين، يعانون من مشاكل في الوظائف الحركية والنفسية (صعوبة في القيام بحركات إرادية) وعدم الاهتمام بالتصرفات الاستكشافية وبمواصلة المهام الإدراكية. ويستكشف الإنسان أو الحيوان لزاما البيئة المحيطة به وتبدو عليه أمارات فضول عندما يعمل جهاز الدوبامين لديه اصطناعيا. فإن تأثير إدمان الكوكايين أو الأمفيتامين أو على الأقل النيكوتين يرتبط مباشرة بالطريقة التي تنشط بها هذه المواد جهاز الدوبامين. ويبدو في النهاية أن نشاط هذا الجهاز بصورة مفرطة قد يؤدي إلى الإصابة بمتلازمة توريت (والتي يصدر فيها المريض أصواتا وحركات لا إرادية) والخلل الوسواسي والشعور بالنشوة والفصام في بعض الأحيان. لذا تم مقارنة الدوبامين بصفة غير رسمية بنوع من الطاقة العقلية المرتبطة مباشرة بسلوكيات الفضول والاستكشاف.
4
إن المناقشة الدقيقة للافتراضات المختلفة التي من شأنها أن تسمح بربط دوائر الدوبامين بنظام الفضول الاصطناعي الموصوف هنا، تتخطى إطار هذا الكتاب.
5
فنحن نريد ببساطة أن نعطي تصورا للطريقة التي يسمح بها اختراع آلات جديدة - لها خصائص قريبة من تلك التي تمتلكها الحيوانات وحدها - بفضل العلوم المتعلقة بالكائنات الحية ولا سيما العلوم العصبية. فيتعين أن يظهر في الأعوام القادمة مجال خصب متعدد التخصصات لدراسة هذه المسائل.
الفصل السادس
الألم
(1) كيف نعرف أن حيوانا يتألم؟
كان نيكولا مالبرانش يؤكد أن الحيوانات لا تتألم، ترديدا لكلام ديكارت مؤلف كتاب «مقال في المنهج».
عادة ما يصل التلاميذ بأفكار معلميهم إلى حد التطرف بل السخرية. فكان ديكارت قد تخيل أن الجسم (جسم الإنسان أو الحيوان على حد سواء) يشبه «آلة» وفقا لما كان شائعا في عصره، ولكن الإنسان من وجهة نظره كان يفلت من كونه آلة بحتة؛ لأنه يمتلك روحا خلافا للحيوانات (انظر الفصل التاسع عشر). فاستنتج مالبرانش أن الحيوانات لا تتألم بما أن الجسم آلة وأن الحيوانات آلات بحتة. ومن أجل إثبات ذلك، كان يضرب بعض الكلاب وحين كانت هذه الحيوانات البائسة تعوي كان يقول: «ترون جيدا، أنها كالساعة التي تدق أجراسها!»
سرعان ما يقود هذا التشبيه بين الحيوانات والآلات إلى بعض الأفكار. فالعلم الحديث لا يشكك في كون الجسم آلة شديدة التعقيد كما افترض ديكارت حتى لو تعلق الأمر بآلة ذات درجة تعقيد مختلفة تماما عن تعقيد آلات القرن السابع عشر! ولكن العلم الحديث يؤكد أيضا أن الجسم في جميع الأحوال عبارة عن آلة مزودة بالإحساس وقادرة على الشعور بالألم.
كيف تتضح إذن هذه القدرات على الشعور بالألم لدى الحيوانات؟ يحدد علماء الأحياء ثلاث درجات فيما يتعلق بالشعور بما يسبب ألما: الاستقبال الحسي للألم، والألم، والمعاناة.
إن الاستقبال الحسي للألم هو إنذار للجسم ضد كل العوامل المثيرة التي قد تكون مضرة له: حرارة شديدة، أو برد قارس، أو التهاب، أو ضغط مرتفع ... ويشعر الجسم بهذا الإنذار عبر مستقبلات حسية في الجلد، وينتقل الإنذار إلى خلايا عصبية تخبر المراكز العصبية بهذا الخطر. وفي المقابل، تصدر المراكز العصبية أوامر تهدف إلى الحد من العامل المثير والخطير أو القضاء عليه، مثلا عبر انسحاب أحد أفراد القطيع أو هروب الحيوان. وتعد كل الحيوانات القادرة على الإحساس، أي المزودة بمستقبلات حسية، قادرة على الاستقبال الحسي للألم.
وعندما يقترن الاستقبال الحسي للألم بمظاهر شعورية، فنحن نتحدث إذن عن «الألم» وذلك يفترض وجود نظام داخل الجهاز العصبي قادر على التحكم في العواطف. فعلى سبيل المثال لدى الفقاريات، يطلق على هذا النظام اسم «الجهاز الحوفي»، وهو مسئول أيضا عن بعض ظواهر الذاكرة (انظر الفصل الثاني) لأن الذاكرة والعواطف مرتبطتان بالفعل كل منهما بالأخرى.
وأخيرا عندما يقترن الاستقبال الحسي للألم بظواهر إدراكية تولد وعيا ما (انظر الفصل السابع)، فنحن نتحدث إذن عن «المعاناة». وترتبط المعاناة بالمنطقة التي توجد بداخل العقل وتتحكم بالوعي، وهي القشرة المخية التي تحتوي بدورها على العديد من الطبقات: قشرات «قديمة» توجد لدى الأسماك أو الزواحف، وقشرة أكثر حداثة توجد خاصة لدى الثدييات وتسمى القشرة الجديدة. ولدى الإنسان تتحكم القشرة الجديدة بالطبع في المعاناة، ولكن لدى الأسماك غير المزودة بهذه القشرة تتحكم القشرات الأخرى في المعاناة دون أن نفهم جيدا في ظل معارفنا الحالية مم تتكون «التجربة المعيشة» لهذا الوعي الذي يعتمد على هياكل عصبية قديمة ولهذه المعاناة المرتبطة به، ولكي نفهم ذلك، يتعين أن نكون بداخل رأس الأسماك لنعرف ماذا يدور به! وربما تساعد التطورات المستقبلية لعلم التصوير المخي في الإجابة عن هذا السؤال بأن تتيح لنا تكوين فكرة عن العمليات النشطة داخل العقل.
إلا أننا إذا لم نشعر بظواهر الاستقبال الحسي للألم، والألم، والمعاناة بالطريقة التي يشعر بها الحيوان، فيتعين على الأقل أن ندرك وجود هذه الظواهر، فهي إحدى الخصائص الأساسية للحيوانات؛ فالقدرة على الشعور هي إحدى السمات المميزة للحيوانات المزودة بجهاز عصبي. وخلافا لمالبرانش يمكن إذن أن نؤكد أن الحيوانات قادرة على الشعور بالألم، ويقود هذا التأكيد إلى التفكير في سلوكنا المحتمل إزاءها وطريقة تعاملنا معها (انظر الفصل الرابع عشر). (2) كيف نعرف إذا ما كانت الآلة تتألم؟
تزود العديد من الآلات بآليات إنذار تلعب دورا مهما في حمايتها وحماية مستخدميها. فيمكن أن يتوقف محرك في حالة ارتفاع الحرارة أو أن يتوقف مصعد إذا كان الوزن زائدا. وربما يمكن مقارنة هذه الإنذارات بالاستقبال الحسي للألم لدى الحيوانات بما أنها تضطلع بمهمة محددة بوضوح.
إن اقتران هذا الاستقبال الآلي للألم بسلوكيات خاصة محددة سلفا لا يمثل مشكلة في حد ذاته سواء تعلق الأمر بإشارة تضيء أو برمجة وجه آلي عابس. فيستطيع الروبوت الذي لعب به أرنولد شوارزنجر في فيلم «المدمر» أن يعبر عن شعوره بالألم، أو أن يبدي سخطه عندما ينتزع ذراعه. ويمكنه أن يحاول لاحقا تجنب مثل هذا النوع من المواقف.
وثمة مسألة أكثر دقة، ألا وهي إدراك هذا الألم من ناحية والشعور به من ناحية أخرى. فيتعين علينا منذ البداية أن نميز ما يتعلق بمشكلة «حصول» أجهزة فرعية أخرى في الآلة على المعلومات. فعلى سبيل المثال تستطيع آلة متعلمة (انظر الفصل الثاني) أن تصنف بنفسها الأنواع المختلفة للعوامل المثيرة للألم أو للمتعة بصورة عشوائية وأن تستخدم هذه المعلومة في أجزاء أخرى ذات مستوى أعلى. فمن المتوقع إذن تصميم آلة قادرة على التفكير بهذه الطريقة؛ أي إن تمثل لنفسها بطرق مختلفة العوامل المثيرة التي تلاحظها (انظر الفصل السابع).
لكن هل تستطيع الآلة ، مع ذلك، الشعور بالألم؟ وبصورة أعم هل تشعر بنعومة ملمس القطيفة أو بمرونة الإسفنج أو بالقهوة المركزة؟ يزعم البعض أننا لن نستطيع أبدا الإجابة عن هذا السؤال؛ نظرا لأننا لن نستطيع أبدا الدخول إلى رأس الآلة كعدم قدرتنا بالضبط على الشعور بصورة مباشرة بما تشعر به الحيوانات الأخرى أو حتى إنسان آخر. ويكمن الموقف الأكثر شيوعا في افتراض أنه إذا كان من المتوقع وجود شكل من أشكال الوعي التأملي لدى الآلة فربما يكون من المستبعد أنها تشعر بأي شعور. فالروبوت «داتا»، إحدى شخصيات مسلسل «ستار تريك فوياجر»، يجسد الانحياز لهذا الموقف، فهو فضولي وذكي ويشبه الإنسان جسديا، ولكنه لا يستطيع الشعور بأي عاطفة وهذا ما يمنعه من فهم البشر. (2-1) الإحساس ينتج عن بنية البيئة الحسية والحركية
ألا يعد التساؤل حول الإحساس المحتمل للآلات طريقة للتساؤل حول أصل العواطف لدى الإنسان والحيوان وطبيعتها؟ إن مناصري المنهج الحسي والحركي للشعور لا سيما كلفين أوريجان، بوصفهم ورثة الفينومينولوجيا، يتبنون نظرية شائقة،
1
فالعواطف قد تكون قبل كل شيء نتيجة لأنشطة حسية وحركية خاصة. وهكذا ربما تحدد بنية البيئة الحسية والحركية نوعية الإحساس الناتج؛ فالمشاعر الناتجة عن حاسة البصر قد تختلف مع اختلاف العالم بمجرد أن نغلق جفوننا ونحرك أعيننا وأجسامنا. وتختلف القوانين التي تحكم مدخلات هذا النظام ومخرجاته بصورة كبيرة عن تلك التي تحكم العالم السمعي على سبيل المثال. فعندما نقترب من مذياع، يرتسم تدفق متوسع على شبكية عيننا مع إدراكنا لارتفاع مدى الإشارة الصوتية الملحوظة. وتمثل هذه العلاقات ما يميز الرؤية عن السمع.
وبفضل سلسلة من التجارب تسمى «الإبدال الحسي» استطاع البروفسير باك واي ريتا أن يثبت أنه يمكن لكفيفي البصر أن يروا بفضل نظام يثير جلدهم بطريقة اللمس على معدتهم أو ظهرهم عبر المعطيات التي تستقبلها آلة تصوير.
2
ففي حين أن التحفيز السلبي لا يثمر أي نتيجة حاسمة، يستطيع الأشخاص القادرون على التحرك بنشاط مع الآلة ليس فقط القيام بحركات تتطلب مهارات بصرية كالإمساك بشيء موجود فوق الطاولة، بل إنهم يقولون أيضا إنهم يشعرون بشعور مماثل للرؤية. وتستكمل العديد من التجارب الجديدة هذه الدراسات خاصة عبر نظم تربط الرؤية بعوامل مثيرة موجودة على اللسان.
وإذا اتبعنا هذا الافتراض؛ فلن تكون ثمة علاقة كبيرة بين الحواس والتشريح الخاص للشبكات العصبية التي تحتوي عليها (مثل العصب البصري وغير ذلك)، ولكن ستكون لها علاقة أكبر ببنية البيئة الحسية والحركية التي تتسم بها. وفي الواقع يتحكم جهازنا العصبي دائما بنبضات قلبنا ومعدل الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الدم إلا أننا لا نشعر بذلك على الإطلاق. فنحن لا ندرك إلا المواقف التي نقوم فيها بأنشطة حسية وحركية منظمة (الرؤية والسمع والتذوق والشعور).
وتكون النتيجة المحيرة إلى حد ما التي يقودنا إليها هذا المفهوم عن الشعور هي أننا يمكننا أن نعتبر أن الآلة تشعر بشعور ما بقدر قيامها بنشاط حسي وحركي منظم. وقد يرتبط ثراء هذه العواطف وتنوعها بالتنوع والتعقيد الذي تتسم به بيئات المدخلات والمخرجات التي ستضطر للتعامل معها. وبسبب اختلاف طبيعة هذه البيئات مقارنة ببيئاتنا، فستكون فرص العواطف الآلية قليلة فيما يتعلق على سبيل المثال بالتفرقة بين مذاق لحم الثور وسمكة التروتة وعصير الليمون، ولكن إذا تبنينا مفهوما حسيا وحركيا للشعور، فمن المشروع أن نتساءل حول وجود شكل من أشكال الخبرة لدى الآلات.
وفي النهاية كان مالبرانش مخطئا بصورة مزدوجة؛ فليست الحيوانات وحدها هي التي قد تتألم، بل على الأرجح الآلات أيضا.
وتبقى بالطبع إمكانية وجود شيء جوهري في الخبرة الإنسانية لم تصفه الطريقة الحسية والحركية. فالخبرة والشعور والعواطف هي مصطلحات غامضة تستحق توصيفات أكثر دقة. ويساعدنا تصميم الآلات على تعريف هذه المصطلحات وخصائصها المميزة بصورة أفضل.
من المحتمل أيضا ألا يكون الألم شعورا مثل بقية المشاعر. وفي النهاية، يكون الألم أحيانا شعورا بلا سبب، فعندما نتذوق دائما الطعام ذاته أو نشم الرائحة ذاتها أو نرى الشيء نفسه، فقد نتألم ببساطة بلا سبب. وبصفة خاصة، قد نتألم دون أن نقوم بأي حركة. وسنترك إذن باب النقاش مفتوحا في هذه المرحلة وسنعود إليه باختصار في نهاية هذا الكتاب حين نتناول التخيل؛ لأنه من الممكن، كما سنرى، أن يرتبط الألم والتخيل أحدهما بالآخر كقطبين متعارضين على مقياس واحد.
الفصل السابع
الوعي
(1) هل تمتلك الحيوانات وعيا؟
نعم يمتلك العديد من الحيوانات وعيا، ولكنه لا يشبه وعينا بالضبط.
دفع عدم قدرة الحيوانات على التكلم عددا من الفلاسفة إلى التأكيد بأنها لا تفكر ولا تتألم بما أن المعاناة تفترض وجود نوع من التفكير الواعي (انظر الفصلين السادس والرابع). ويرى العديد من العلماء وفيهم العلماء المعاصرون أنه لا وجود للتفكير ولا للوعي دون تحدث. ولكن جاءت الأبحاث الحديثة حول سلوك الحيوانات لزعزعة هذه «الحقائق» الفلسفية.
إن الاعتقاد السائد الآن هو أن ثمة مرحلتين كبيرتين في تطور الوعي أو «مستويين مختلفين من الوعي».
1
ويطلق على المستوى الأول «الوعي التام» وعلى الثاني «الوعي الظاهري». ويكمن المستوى الأول في إدراك حيوان ما للعالم المحيط به والأماكن التي يتعين عليه المرور بها والأماكن الممتعة والبغيضة التي قد يتوجه إليها وإدراكه للبشر أو الحيوانات التي تعامله برفق أو التي تشكل تهديدا له. فنجد أن كل الفقاريات من الحيوانات قد تمتلك نوعا من الوعي التام خلافا لما كان قد افترضه فيلسوف مثل نيكولا مالبرانش (انظر الفصل السادس). فتشهد كل سلوكياتها على وجود هذا النوع من الوعي الذي قد تمتلكه أيضا الرخويات شديدة الذكاء مثل الأخطبوط. (1-1) اختبار المرآة
غالبا ما نقصد «بالوعي الظاهري» «إدراكنا لوعينا» أي الوعي بالذات عن طريق التفكير، وهو شديد الأهمية في نظر الإنسان، ونفضل تسميته «الوعي التأملي» إذا استخدمنا التعبير الدارج. ونظرا لأن الحيوانات لا تتحدث عن وعيها، فيبدو من الصعب معرفة ما إذا كانت تمتلك هذا النوع من الوعي التأملي أم لا، إلا أن العلماء قد ابتكروا اختبارا يسمى «اختبار المرآة» ويسمح بتكوين فكرة عن هذا الأمر. وفيما يلي مبدأ هذا الاختبار: عندما يخلد شمبانزي إلى النوم نرسم على الجانب الأيسر من جبينه على سبيل المثال بقعة ملونة، وعندما يستيقظ وينظر في المرآة سيسعى إلى محو هذه البقعة، ما يفترض أنه تعرف على نفسه في المرآة وأنه لا يعتقد أن الأمر يتعلق بشمبانزي آخر. فعلى الأقل يسمح هذا الاختبار إذن بإبراز وجود وعي تأملي لدى الشمبانزي. وقد نجح الاختبار ذاته لدى الفيلة، ومن المرجح أنه سينجح أيضا في الأعوام القادمة لدى عدد كبير من الثدييات والطيور الأكثر «ذكاء».
وعلى صعيد البنية المخية، نعرف أن مقر الوعي يوجد في الجزء الأعلى من المخ أي في القشرة المخية الموجودة لدى كل الفقاريات من الحيوانات، والتي يمتلك الأخطبوط مثيلا لها. أما التفكير الإدراكي فمقره في المناطق الأكثر ارتفاعا من القشرة المخية المتطورة بصورة خاصة لدى الثدييات، التي تسمى القشرة الجديدة، أو في مناطق قد تلعب الدور ذاته لدى بعض الطيور. وبلا شك فإن تقنيات التصوير المخي التي تسمح إلى حد ما برؤية مناطق المخ التي تنشط خلال بعض العمليات العقلية، ستتوصل في المستقبل إلى تحديد المناطق الخاصة التي تنشط مع ظهور الوعي التأملي. (1-2) حدود الوعي
فيما يتعلق بالوعي، يتعين أيضا أن نذكر نتائج شائقة للغاية توصلت إليها العلوم البيولوجية التي تقترح أن الوعي بالنسبة إلى عالم الكائنات الحية ربما لا يحظى بالأهمية التي نوليها إليه نحن البشر، وأن أهم السلوكيات التي يقوم بها الإنسان قد تكون نابعة من المخ في غياب الوعي.
وهذا ما تؤكده الأعمال الشهيرة للباحث الإنجليزي بنجامين ليبت وزملائه (1983). وبطريقة أبسط، يسجل هؤلاء الباحثون الظواهر العقلية الكهربية لدى بعض الأشخاص الذين يطلب منهم اتخاذ قرار للقيام بحركة بسيطة، كالضغط على زر على سبيل المثال. وتوجد أمامهم ساعة تسمح لهم ب «رؤية» الوقت الذي يتخذون فيه القرار. فتسمح التسجيلات العقلية الكهربية التي يقوم بها العلماء بإظهار أن المخ قد اتخذ بالفعل (بصورة لا واعية) القرار، أي العامل الذي سيدفعهم إلى الحركة قبل أن يعي هؤلاء الأشخاص أنهم قد اتخذوا القرار بمئات من الملي ثوان. وفي الواقع يمكننا أن نرصد في التسجيلات العقلية الكهربية إشارة كهربية محددة و«لا واعية» تعلن عن الحركة قبل الرصد المدرك الذي يقوم به الأشخاص للساعة بمئات من الملي ثوان.
وتكون إذن النتائج التي يمكننا استخلاصها هي أن مخنا «المستحدث» عبر التطور الطويل لأسلافنا الحيوانات يعتبر قبل كل شيء آلية مرنة جدا سمحت لأسلافنا باتخاذ كل القرارات المفيدة لبقائهم (بصورة لا واعية) وتؤدي لنا اليوم الخدمات ذاتها. فقد يتخذ مخنا إذن دون علمنا أي قرار مفيد بالنسبة لنا ولن يخبرنا به (بصورة واعية) إلا بعد مرور مئات من الملي ثوان مما يوحي لنا (أو يوهمنا) بأننا نتخذ عن وعي قرارا يكون قد اتخذ بالفعل نيابة عنا دون وعينا. وحينئذ لن تكون حرية الاختيار التي نتفاخر بها إلا أوهاما.
وقد أثبتت العديد من الأبحاث الأخرى في مجال العلوم العصبية هذه النظرية مثل «الرؤية العمياء» التي تظهر أنه في بعض حالات العمى المرتبطة ليس بعجز في العين بل باضطرابات في منطقة القشرة المخية التي تضطلع بإدراك ما نراه، يستطيع الإنسان «الرؤية» والتوجه والقيام بأعمال مناسبة كاختيار الأشياء دون أدنى وعي بما يقوم به.
وتظهر هذه التجارب أنه يتعين بلا شك جعل مفهوم الوعي نسبيا، هذا المفهوم الذي يعتز به الإنسان، إلا أنه فيما يتعلق بالقرارات غير الفورية حين يضطر الحيوان المتطور أو الإنسان أن يوازن بين الإيجابيات والسلبيات في موقف ما ويشغل هذا التفكير حيزا كبيرا في عقله، تظهر فائدة الوعي وطبقاته المختلفة. وهكذا يبدو أن آلية لا واعية كتلك التي وصفها ليبت لا تستطيع تفسير العمليات الفكرية أو القرارات الكبرى لدى الإنسان مثل الزواج أو الطلاق أو تغيير الديانة أو إثبات مبرهنة رياضية أو تأليف كتاب أو حتى لعب الشطرنج.
فيبدو أن الوعي ضروري للغاية لمثل تلك القرارات أو العمليات المعقدة، وهذا بالطبع سبب اختيار التطور له لدى الحيوانات الأكثر تطورا! (2) هل يمكن أن تكون الآلات واعية؟
إن التساؤل حول امتلاك الآلات لأشكال محتملة من الوعي هو طريقة لاستكشاف التفسيرات المختلفة لهذا المصطلح. (2-1) هل يمكن أن تكون الآلات واعية بذاتها؟
لقد أظهرنا كيف تستطيع الآلة أن تتعلم التنبؤ بنتائج أعمالها على بيئتها (انظر الفصل الثاني)، وناقشنا أيضا كيف يمكن لها أن تصنف المواقف التي تقابلها نسبة إلى مدى القدرة على التنبؤ بها (انظر الفصل الخامس). إلا أنه من الممكن تناول مشكلة «الوعي بالذات» عبر هذا الاستنباط المنطقي.
يكتشف الطفل في الأشهر الأولى من حياته أن ثمة مواقف يتحكم فيها بالكامل (وهي بالأساس تلك التي لا يشترك فيها إلا جسده، كإصدار الأصوات المبهمة أو بعض الحركات)، وأن ثمة مواقف أكثر تعقيدا في التنبؤ بها، ولكن يمكن التنبؤ بها في شكل الثنائية الدائمة «الفعل-رد الفعل» (وهي بالأساس تلك التي تتطلب حركات باستخدام الأشياء الخارجية)، ولكن توجد أيضا مواقف ترتبط بالديناميكيات الثنائية (وهي بالأساس التفاعلات مع كائنات حية أخرى)، ومواقف لا يمكن التنبؤ بها كليا (حركات الأشخاص أو الأشياء غير المرتبطة بحركاته).
تستطيع الآلة القيام بهذا النوع من التصنيف على أكمل وجه، ويمكننا أن نعتبر أن ما تسيطر عليه هو جزء منها وأن التصنيفات الأخرى والمختلفة للتنبؤ قد تنطبق على فئات الأشياء غير الحية والأشياء الحية، إلخ.
2
فوفقا للبيئة المباشرة للآلة ونوع الوسيلة التي تمتلكها للرؤية والحركة، يمكن أن يتضمن «الوعي بالذات» و«الوعي بالآخرين» كيانات غريبة نسبة إلينا على الأقل.
يكتسب الطفل على مدار الأعوام أشكالا من الوعي يزداد رقيها، ولا سيما حين يبدو قادرا على التنبؤ بنوايا أقاربه ومعتقداتهم. ولا يعد تطور هذا النوع من الوعي حاليا في متناول يد الآلات التي نستطيع تصميمها، إلا أنه ليس من المستحيل أن تستطيع آلة في يوم ما إعداد هذا النوع من النماذج التنبئية. وسوف يقودنا التقدم في هذا الاتجاه إلى معلومات متطورة وأكثر دقة حول طبيعة هذه العمليات المعقدة. (2-2) هل يمكن أن تكون الآلات تتحدث داخليا؟
لقد ذكرنا سعي المهندسين إلى تصميم آلات ناطقة (انظر الفصل الرابع). ومن بين الملامح المقترنة بالوعي بصورة طبيعية، وجود صوت داخلي يعبر عن نفسه حين نلتزم الصمت. وقد حاول بعض الكتاب مثل ناتالي ساروت أو جيمس جويس التعبير عن هذا الحوار الداخلي الصامت والمجزأ الذي ينشط بصورة خاصة حينما نكتب أو نرتب أفكارا جديدة.
وقد عبر عالم اللغة النفسي فودور عن فكرة كون حديثنا ليس إلا إخراجا لحديث داخلي للفكر.
3
ويعد هذا المعتقد هو الأكثر انتشارا في الوقت الحالي، ولكن اقترح مؤخرا بعض الباحثين في الذكاء الاصطناعي، من بينهم لوك ستيلز، تفسيرا مغايرا: ربما ينتج الحديث الداخلي قبل كل شيء عن عملية إدخال.
4
وتكمن عملية الإدخال في محاكاة سلوك خارجي يسمح بالتنبؤ بنتائج هذا السلوك دون تنفيذه. وبالطريقة ذاتها التي نتبعها للتنبؤ بمسار كرة أو تخيل شكل ما، نستطيع أيضا تحضير جملة بداخلنا قبل أن ننطق بها أو دون القيام بذلك (انظر الفصل الحادي والعشرين).
لقد ذكرنا كيف يمكن لآلة كبرنامج لعبة الشطرنج، على سبيل المثال، أن تقوم بهذا النوع من المحاكاة «ذات المدخلات الجديدة» بحيث تستبق نتائج أي حركة على عدة مراحل (انظر الفصل الثاني). فليس من المستبعد إذن أن تستطيع آلة إدخال تمثيلات خارجية صادرة عنها (رسوم أو كلمات، إلخ.) وبواسطة هذه الطريقة يمكن لآلة لم تكن تعمل في البداية إلا في بيئات حسية وحركية بسيطة أن تبدأ في استخدام الرموز. وفي ظل هذا السيناريو لن تكون الرموز منذ البداية في برنامج الآلة بل ستكون نتيجة لمحاكاة سلوك خارجي. (2-3) هل تستطيع الآلات الشعور بأي شيء؟
فلنختم بمسألة الأحاسيس والشعور التي يعتبرها تشالمرز المشكلة «المركزية» للوعي.
5
وتكمن الحجة التقليدية في أن تصميم آلة «خيالية» تقلد كل سلوكيات الشخص الواعي ولكن دون أن تشعر بأي شيء؛ يعد مشكلة ربما تكون صعبة على المستوى التقني ولكن يمكن التفكير في مبدئها. وفي المقابل، في سبيل تصميم آلة تشعر بشيء ما، ينبغي تطوير مكون غامض وإضافي يصعب تصوره.
وعندما ناقشنا مسألة الألم (انظر الفصل السادس)، أوضحنا كيف تبرز بعض الطرق الحسية والحركية للوعي الحسي هذه المسألة من زاوية أخرى باقتراح أن المشاعر هي أساسا ناتجة عن قوانين تربط بين مدخلات نظام ما ومخرجاته. وبذلك يمكننا أن نعتبر أن الآلة تستطيع امتلاك وعي بقدر قيامها بأنشطة حسية وحركية.
6
وفي المقابل ربما يعد تصميم آلات قادرة على امتلاك أشكال معقدة من الوعي التام جزءا من بحث طويل للغاية نتنبأ به فقط.
7
الفصل الثامن
الثقافة
(1) هل تمتلك الحيوانات ثقافة؟
تعتبر مسألة وجود «ثقافات حيوانية» إحدى المسائل التي يختلف عليها بقوة كبيرة المؤيدون والمعارضون لفكرة وجود تكامل بين الإنسان والحيوان، و«الثقافة» هي مجموعة تصرفات مثل الأدوات المستخدمة، والحديث، والقدرة على وضع قواعد ومفاهيم إدراكية عامة، والأخلاق، والاختيارات الجمالية التي تنتشر بين مجموعة من الأفراد وتدوم عبر الأجيال دون وراثة أو جينات. وهكذا فإن استخدام اللغة الفرنسية على سبيل المثال ينتقل من الآباء إلى أطفالهم، ولكن الطفل الذي تربى بلغة أخرى وسط عائلة بالتبني سيتحدث لغة مختلفة عن لغة والديه الحقيقيين. (1-1) هل الثقافة ميزة يتميز بها الإنسان وحده؟
يفرض السؤال التالي نفسه: هل تستطيع الحيوانات، أو على الأقل بعض الحيوانات، امتلاك بعض السمات الثقافية أم لا؟ يرى معارضو التكامل بين الإنسان والحيوان أن ذلك غير صحيح؛ فهم يوافقون بالطبع حاليا على أن كل المفكرين الكبار يقرون بنظرية التطور (انظر الفصل الأول) وعلى أن الحيوان والإنسان يمتلكان صفات جسدية مشتركة تنحدر من جينات مشتركة، ويوافقون أيضا على أن البشر يقتربون من الحيوانات على صعيد «الطبيعة» الجسدية وأنهم يمكنهم للأسف في بعض الأحيان الإصابة بأمراضها.
1
ولكنهم يرون أيضا أن الإنسان وحده يمتلك ثقافة وأن الحيوانات هي كائنات تعتمد على طبيعتها فقط، في حين أن الإنسان يمتلك طبيعة وثقافة في آن واحد، وهو ما يعد اختلافا حاسما بين الإنسان والحيوان.
ومع ذلك، فإن التقدم المحرز في مجال الإيثولوجيا؛ أي علم السلوك الحيواني، قد أظهر أن هؤلاء المعارضين مخطئون. فيوجد حتى في مجال الثقافة تكامل بين الحيوان والإنسان. فلنتفق أن لا أحد يدافع عن فكرة قدرة حيوان ما على استخدام كل دقائق لغة مثل الفرنسية أو الصينية! في المقابل قد نجد لدى بعض الحيوانات «المبادئ الأولى» لكل ما يمثل الثقافة الإنسانية مما يفترض وجود تكامل بين الإنسان والحيوان حتى في مجال الثقافة، وأول مثال على هذه الثقافات الحيوانية هو مثال قطيع من القردة راقب بعض الباحثين سلوكه في إحدى جزر اليابان. وكانت هذه القردة تتغذى على الشاطئ بإعطائها بطاطا حلوة غالبا ما تكون ملطخة بالرمال، واكتشفت قردة أنثى في يوم ما أن الطعام يكون أفضل إذا غسلت البطاطا الحلوة في المياه قبل تناولها، ثم اتبع القطيع كله سلوك الغسل الذي انتقل إلى الأجيال التالية. ومنذ ذلك الوقت، ظهرت «بعض المبادئ الأولى» للثقافات الحيوانية في جميع مجالات الثقافات الإنسانية تقريبا. إلا أنه من أجل التمييز بين الثقافات الحيوانية والثقافات الإنسانية الأكثر تعقيدا، يعد مصطلح «ثقافة أولية» مناسبا للغاية حتى لو يتعلق الأمر ب «ثقافات» بصورة عامة وفقا للمعنى الحرفي للمصطلح كما عرفناه فيما سبق. فما هي إذن أهم الثقافات الحيوانية «الأولية»؟ (1-2) الثقافات الحيوانية «الأولية»
يمكن إثبات أن العديد من الفصائل الحيوانية تستخدم أدوات بسيطة؛ حيث يستخدم الشمبانزي أغصانا صغيرة من أجل «اصطياد» النمل الأبيض في أعشاشه، هذا النمل الذي يشتهي التغذي عليه، ويستطيع أيضا كسر بعض الجوز على أحجار، وفي بعض الحالات تثبيت الحجر بحجر آخر، مكونا بذلك «أداة للأداة» أي أداة تستخدم في صناعة أداة أخرى. ويمكن ملاحظة هذه الأدوات البدائية بالطبع لدى العديد من فصائل الثدييات والطيور أيضا. فقد تعلمت بعض المجموعات من طائر القرقف في إنجلترا إزالة سدادة زجاجات اللبن التي توضع في الصباح أمام الأبواب، واستمر هذا السلوك في هذه المجموعات عبر التقليد. وفي بعض الأحيان، تمثل الأعشاش التي تبنيها الثدييات أو الطيور نوعا من الأدوات. ولنذكر في النهاية أن بعض الفصائل الحيوانية ذوات السلوكيات الأكثر نمطية مثل النمل تلجأ إلى صناعة الأدوات: زراعة الفطر، والخياطة بواسطة أوراق الشجر، إلخ.
ويمتلك العديد من الحيوانات القدرة على التواصل على صعيد الشم أو السمع أو البصر أو اللمس أو غيره، ومن الأمثلة المدهشة لهذا التواصل نجد التعقيد البالغ لغناء بعض الطيور. ففي الواقع يوجد من بين وظائف غناء الطيور عناصر عديدة للتواصل مع أبناء جنسها، مثل تأكيد سيطرتها على أرض ما أو التهديد أو الرغبة في التزاوج، وهو ما يميزه المتخصصون باسم التواصل في اللغة . فليس في التواصل أي إشارة إلا إلى عناصر موجودة مباشرة في البيئة: كإنذار لاقتراب حيوان مفترس أو نداء للدفاع أو لتحديد أراضيها أو طلبا للغذاء أو لشريك جنسي إلخ. أما في اللغة، فتتم الإشارة إلى عناصر غير موجودة في البيئة الفورية. وحتى يومنا هذا، اكتشف نوعان من «اللغة الأولية» لدى الحيوانات. فتعتبر «لغة النحل» رمزا بسيطا للغاية يسمح لنحلة وجدت مصدرا للغذاء أن تخبر أبناء جنسها عند عودتها إلى الخلية بالمسافة والاتجاه وأيضا بكمية الطعام الذي اكتشفته وذلك بواسطة الرقص. فهي إذن لغة مختزلة في أبسط صورها: كلمتان أو ثلاث، دون أي قاعدة نحوية! أما النوع الثاني فهو ليس لغة تكتسب تلقائيا في الطبيعة؛ فيستطيع الإنسان خارج المحيط الطبيعي تعليم مبادئ اللغة إلى قردة شبيهة بالإنسان (شمبانزي أو غوريلا ...) وبما أن هذه القردة لا تجيد اللغة الصوتية، فيكون هذا التعليم سواء عبر اللغة الحركية للصم والبكم، أو عبر إبراز رموز كمثلث أحمر لتمثيل شيء أو مربع أزرق لتمثيل شيء آخر وهكذا. وتستطيع بعض القردة الشبيهة بالإنسان والماهرة أن تتعلم حوالي 150 كلمة من هذه الكلمات وقواعد نحوية إجمالية مثل «إذا ... ف ...»، وهي بالطبع ليست لغة تستخدمها القردة الشبيهة بالإنسان تلقائيا في الطبيعة، بل هي مكتسبة بالتواصل مع الإنسان، ولكن يمكننا أن نلاحظ أن الإنسان نفسه لا يكتسب هو أيضا اللغة بصورة تلقائية إذا لم يتواصل في طفولته مع أشخاص آخرين؛ فالأطفال المتوحشون الذين تربيهم الحيوانات لا يتعلمون الحديث. فتظل إذن «اللغة الأولية» للقردة الشبيهة بالإنسان مصطنعة ولا تتخطى أداء طفل بشري يبلغ ثلاثة أعوام، ولكن من الممتع معرفة أننا قد نجد هذه «المبادئ الأولى» للخطاب لدى الحيوانات الشبيهة بنا.
نجد خاصة في أعمال عالم السلوك الحيواني فرانس دي وال أن الحس الأخلاقي ليس ميزة الجنس البشري وحده. فقد أثبت دي وال الذي راقب لفترة طويلة قطيعا من الشمبانزي أننا نجد لدى هذه الفصيلة سلوكيات عديدة نصفها ب «أخلاقية»؛ مفاوضات وعقاب ومكافأة وعفو واهتمام بالمعاقين، إلخ. وستكون هذه النقطة الشديدة الأهمية موضوع فصل مستقل (انظر الفصل التاسع).
ولنختم هذا الجزء بالاختيارات الجمالية لدى الحيوانات. فيبدي العديد من الحيوانات تفضيلا لبعض الألوان أو بعض الأشكال أو بعض مقاطع الغناء. وغالبا ما تكون الألوان هي ألوان الشريك الجنسي مما يظهر أن الاختيارات الجمالية تتأصل في الحياة الجنسية لدى الحيوانات والإنسان على حد سواء. ولكن قد تولد هذه الاختيارات التي تقوم على الحياة الجنسية تفضيلات جمالية أكثر عمومية. وبصفة عامة تعد الألوان الزاهية مفضلة عن الألوان الباهتة. وفيما يتعلق بالغناء، فنحن نعرف أن الطيور والحيتان تغني باختيار مقاطع موسيقية ليست آلية نمطية ولا توزيعا من قبيل الصدفة. فعلى سبيل المثال تظهر بعض الطيور إبداعا جماليا متطورا للغاية، وبعض الحيوانات ترقص، واستطعنا أن نجد في رقصها العديد من أوجه الشبه مع رقصنا.
وإذا كان يوجد العديد من التفضيلات الجمالية لدى الحيوانات، فلا يبدو في المقابل أن أيا منها يستطيع تصميم «أداة جمالية» على المدى البعيد كرسم أو نحت إنساني. ففي حين أن الحيوانات قادرة على تصميم أدوات بدائية كما رأينا فيما سبق، أي تعديل بعض الأشياء في بيئتها لاستخدامها بصورة عملية، فإن غياب العمل الفني على المدى البعيد يطرح تساؤلا حول معنى الوقت لدى الحيوانات (انظر الفصل العشرين). وتتأصل التفضيلات الجمالية للحيوانات أيضا في الأمور الفطرية، وليس من السهل أن نميز فيها بين ما هو فطري بالفعل وما هو مكتسب. وفي هذا الإطار، فهي تختلف أيضا بهذه الطريقة عن الثقافة الإنسانية التي تبدع أعمالا فنية «ثقافية» بالكامل بفضل تفضيلاتها الفطرية.
ولكن بادر الإنسان إلى دعوة بعض الحيوانات إلى إنتاج «أعمال فنية» من الناحية الثقافية. وهكذا جعل الإنسان الشمبانزي يرسم وكانت أعماله شبيهة إلى حد ما لما نراه في شخابيط الأطفال: توسط الرسم للصفحة وتفضيل بعض الألوان الزاهية والأشكال المنحنية كالحلزون بدلا من الأشكال المنكسرة. ونضيف أن لوحات الشمبانزي تشهد رواجا كبيرا في السوق (البشري) للفن! (2) هل يمكن للآلات أن تنمي ثقافتها؟
كما رأينا من قبل (انظر الفصل الثاني)، تستطيع بعض الآلات التكيف والتعلم؛ أي تنمية مسار تاريخي فريد يرتبط بالمواقف التي تعرضت لها. ولكن هل يمكن أن تصبح الآلات قادرة على أن تتعلم بعضها من بعض وتشكل بصورة جماعية ظواهر يمكننا وصفها ب «ظواهر ثقافية»؟ (2-1) آلات تصنع لغتها
خلال عامي 1999 و2000 وضعت فرق مختبر علوم الكمبيوتر الخاص بشركة سوني بباريس ومختبر الذكاء الاصطناعي بالجامعة الفلمنكية الحرة ببروكسل تحت إشراف لوك ستيلز، تجربة واسعة النطاق سميت «الرءوس الناطقة».
2
تقوم هذه التجربة على دراسة الطريقة التي تشكل بها مجموعة كبيرة من الروبوتات بصورة جماعية مصطلحات بدائية للإشارة إلى أشكال هندسية ملونة. فقد وضعت أزواج من الروبوتات في مختبرات ومتاحف في العديد من الدول أمام لوحات بيضاء يمكن تشكيل بعض المناظر عليها. وكانت هذه المنشآت المختلفة موصلة بعضها ببعض عبر شبكة الإنترنت. وكان يمكن لبعض عوامل البرمجيات، وهي الجزء المتعلم من الآلة، أن تسافر عبر الأجسام بواسطة انتقالها عن بعد بين كل منشأة (انظر الفصل التاسع عشر). وإذا كانت الروبوتات الموجودة بالقاعدة التي تصل إليها عوامل البرمجيات مشغولة بعوامل أخرى، فهي تنتظم في صف حتى تجد مكانا خاليا. فهكذا على الرغم من وجود حوالي عشرة أجسام روبوتية فقط فإنه كان من الممكن تمثيل مجموعات كبيرة من الروبوتات التي تتفاعل فيما بينها (حوالي 3000 روبوت في هذه التجربة).
كانت الآلات تشترك معا في «ألعاب لغوية» بالمعنى الذي يقصده الفيلسوف النمساوي فيتجنشتاين. وكان أحد الروبوتات يشير إلى أحد الأشياء الموجودة بواسطة تسلسل من الأصوات. وعن طريق الأصوات المسموعة كان روبوت ثان يشير عبر حركة إلى الشيء الذي كان يعتقد أنه المشار إليه. وإذا سعد السائل بالإجابة، فكان يهنئ شريكه، أو في الحالة المقابلة كان يشير إلى الشيء الذي كان يقصده عبر حركة برأسه بحيث يستطيع الروبوت الآخر تفسير هذه الحركة. ومن أجل الإشارة إلى شيء ما، كان كل روبوت يختار الكلمات التي كانت قد أدت إلى أكبر عدد من الحالات الناجحة في التفاعلات السابقة. وبعد بضعة أشهر، ظهرت مجموعة من المفردات المشتركة. فكانت الروبوتات تنجح في استخدام حوالي عشرين كلمة في الإشارة بأقل غموض ممكن إلى كل عنصر من المناظر التي تمثل أمامها. وعبر تحليل أنظمة التصنيفات التي شكلت، لوحظ أن كل كلمة من هذه الكلمات تنطبق على مفاهيم عن اللون أو الشكل أو المواقف وهي مفاهيم موحدة نسبيا بين الروبوتات. وربما تستطيع جميع الروبوتات دون أي تواصل أن تشكل أنظمة مختلفة. وبهذه الألعاب اللغوية اقترنت مسارات نموها بعضها ببعض.
وبالإضافة إلى ذلك يحدث شكل من الانتقاء الثقافي كلما انضمت آلات جديدة إلى المجموعة الأصلية. ففي الواقع، قد يتم تفضيل بعض الفئات ضمنيا في نقل الثقافة للأجيال الجديدة من الروبوتات نظرا لأنها كانت أكثر بساطة في تصنيعها، أو لأنها بدت أكثر فاعلية في الإشارة دون غموض إلى بعض الأشياء. ثم ضبطت أنظمة الفئات بصورة تدريجية وبسطت لتصبح أكثر سهولة في التعلم والنقل للأجيال التالية وأكثر فاعلية في وصف البيئات التي تتعرض لها الآلات دون غموض.
توضح هذه التجربة كيف يمكن لآلات قادرة على التعلم بعضها من بعض أن تشكل بصورة جماعية ظاهرة يمكننا وصفها ب «ظاهرة ثقافية». وفي الواقع يعمل كل روبوت على تشكيل بناء يتخطى قدراته أي ذاكرة جماعية لا يمتلك إلا بعض سماتها ولا يمكن فهم ديناميكيات تشكيلها إلا على مستوى الجماعات نفسها. وقد تطورت هذه المفردات الناشئة على مدار الوقت وهذا ما يجعلها مختلفة تماما عن بروتوكولات النقل التي تستخدمها الآلات للتفاعل فيما بينها.
وفي هذه المرحلة، لا يتعلق الأمر إلا بمجموعة من الكلمات للإشارة إلى أشكال وألوان؛ أي بالكاد لغة في طور الجنين. ولكن الديناميكيات التي تسمح ببزوغ هذه الظاهرة تدفعنا إلى التنبؤ بالطريقة التي ستكون بها الآلات في المستقبل قادرة على تحقيق إنجازات جماعية أكثر طموحا. فلا تعتبر تجربة «الرءوس الناطقة» إلا مثالا على عملية أكثر عمومية. وبما أن اللغة تعد تقنية مثل غيرها، فإن ابتكار كلمات يعتمد على ابتكار أدوات يمكن استخدامها من جديد وتكون قابلة للانتقال عبر الأجيال. فنحن نشهد إذن آلات تصنع أدواتها بنفسها وهي أدوات تعدل منها وتتطور وفقا لسلالاتها. (2-2) لا شيء يتعارض مع تشكيل الآلات لعملياتها الثقافية
خلال عملية التطور، لم تتوقف أنواع جديدة من الذاكرة عن الظهور. وقد جرت العادة على تمييز نوعين من عمليات الذاكرة التي تستخدمها الكائنات الحية: ذاكرة الفصيل التي تنتقل عبر آليات وراثية للتكاثر، والذاكرة الفردية الناتجة عن تكيف الأفراد وتعلمهم خلال حياتهم. وبمجرد ترك الأفراد لآثار «ثقافية» أو أشياء أو تمثيلات أو كلمات، تظهر عملية ثالثة من الذاكرة تربط بين الأجيال. وتسمح هذه الذاكرة التقنية بين الأجيال بتجميع المعارف.
3
ولكن كما رأينا من قبل، لا تقتصر العملية على الظواهر الثقافية. فلا تنتج التقنيات فقط عن ديناميكيات ثقافية تطورية (انظر الفصل الأول) ولكنها أيضا قادرة على التطور بصورة ذاتية (انظر الفصلين الثاني والخامس). فتستطيع بعض التقنيات التكيف أو التعلم؛ ومن ثم تنمية مسار لحياتها، وهو ما يعد عملية تذكر تشبه نمو إنسان في العديد من الأمور. وقد تولد هذه العملية بدورها شكلا جديدا للذاكرة بين الأجيال في شكل «ثقافة» للآلات؛ فتعد العملية إذن قابلة للتكرار. ويمكن للظواهر الثقافية بين الآلات أن تتمكن في يوم ما من التأثير بصورة كبيرة في المصير الفردي لكل آلة بالطريقة ذاتها التي تتبعها الثقافة الإنسانية حاليا في نحت إرثنا البيولوجي بعزيمة أكبر.
وبعيدا عن الطابع المدهش لهذه العمليات التطورية المتشابكة، يتعين علينا أن نشير إلى الدور المحوري الذي قد تلعبه التقنيات لفهم ماهية الثقافة. فإن رؤية آلات تشكل معا مبادئ ثقافة خاصة بها يقودنا إلى إلقاء نظرة أكثر دقة على الخصائص المميزة للديناميكيات الثقافية والإنسانية والحيوانية وإلى فهم أفضل لعلاقتها مع الديناميكيات التطورية للكائنات الحية. فعبر إدراكنا لقدرتنا على القيام بعمليات ذاكرة فردية أو ذاكرة بين الأجيال في إطار التقنيات، نستطيع التفكير بشأن ابتكار أشكال جديدة للذاكرة بصفتها عملية جوهرية بالنسبة إلى الكائن الحي. ويمكننا أيضا عبر دراسة الظروف المحيطة ببزوغ ظواهر ثقافية لدى الآلات أن نضع افتراضات حول الندرة الواضحة للثقافات الحيوانية.
الفصل التاسع
الأخلاق
(1) هل تمتلك الحيوانات أخلاقا؟
كما رأينا للتو في الفصل السابق، توجد ثقافات «أولية» لدى الحيوانات، وفي الإطار ذاته توجد أيضا أخلاق «أولية». وسنناقش هنا هذه المسألة الخاصة المتعلقة بالأخلاق.
ولقد اطلعنا أيضا فيما سبق على الأبحاث النموذجية التي قام بها فرانس دي وال وزملاؤه حول قطعان الشمبانزي. وتسمح بعض أجزاء هذه الأعمال المستخرجة من العديد من كتب دي وال بالإجابة عن هذا السؤال. (1-1) أخلاق الشمبانزي
يذكر دي وال أن الشمبانزي قادر على التحلي بالعديد من السلوكيات التي قد نصفها نحن البشر بأنها «أخلاقية» كإبداء التعاطف أو التعلق بالآخر أو مساعدة المعاقين أو الجرحى. وبصفة عامة، يمتلك الشمبانزي سلوكيات اجتماعية تسمح بأن يعمل القطيع بصورة متناسقة، ومن بين هذه السلوكيات نجد التفاوض والتعزية والتعاون والعقاب والمصالحة. ويلاحظ دي وال
1
أنه يترتب على ذلك «أن الإيثار ليس حكرا على جنسنا البشري». فتظهر إذن الأنظمة الأخلاقية، أو الأخلاقية الأولية، التي تضمن حياة متناسقة بداخل مجموعة اجتماعية، في أعقاب «التعارض بين المصالح الفردية والمصالح الجماعية».
2
وبداخل هذه السلوكيات أو الأنظمة الأخلاقية (الأولية) اهتم دي وال بدراسة الآليات الاجتماعية للمصالحة، التي تتفق مع ما نسميه في الأخلاق الإنسانية «العفو». ولنقرأ من جديد الاستنتاج الذي توصل إليه:
3 «إن العفو ليس [...] فكرة غامضة وعظيمة تعود إلى آلاف السنين قبل ظهور الديانتين اليهودية والمسيحية [...] فإن امتلاك القردة والقردة العليا والإنسان لسلوكيات المصالحة يعني أن العفو ربما يوجد منذ أكثر من ثلاثين مليون عام، وأنه يسبق الانفصال الذي حدث في تطور رتبة الرئيسات من الثدييات.» (1-2) الأسس الطبيعية للأخلاق
في إطار هذه السلوكيات «الأخلاقية الأولية»، ينبغي أيضا ملاحظة أنه بغض النظر عن الشمبانزي فثمة اهتمامات أخلاقية تعتبر «إنسانية» مثل الاهتمام الخاص بالأطفال، وتنتج هذه الاهتمامات، لأسباب تطورية واضحة، عن احتياجات طبيعية للفصيل لحماية صغاره. ويجب أن نلاحظ أيضا أن «هذا الاهتمام الخاص بالأطفال» يوجد بالطبع لدى العديد من الفصائل الحيوانية الفقارية سواء أكانت اجتماعية أم لا. وباتباع فكرة فلاك ودي وال
4
وتطبيقها على كل الفقاريات، نلاحظ أنه يوجد لدى رتبة الرئيسات بأكملها، وبلا شك لدى غالبية الفقاريات، ما يسميه المؤلفون ب «كتلة بناء قاعدية» للأخلاق تتعلق في آن واحد بالقدرة على الاهتمام ببعض القواعد الاجتماعية الكبرى، وبوجود هذه القواعد في حد ذاتها، وهي «كتلة بناء»، قد نكون نحن أيضا مرتبطين بها.
فتوجد إذن «أسس طبيعية للخلق» تتأصل في مملكة الحيوانات، ولا سيما لدى الحيوانات التي تعيش في جماعات والتي ينحدر منها الإنسان، ولكنها لا تقتصر على هذه الفئة دون غيرها. ولا تستبعد هذه الأسس الطبيعية بالطبع معاملة إنسانية بحتة واستدلالية للأخلاق تقوم على اللغة والتفكير المجرد وهما سمتان من سمات جنسنا البشري. وتعتبر هذه الأخلاق الاستدلالية، شأنها شأن الأخلاق الدينية أو أخلاق كانط، مميزة للجنس البشري، فحتى بعض الحيوانات شديدة الذكاء مثل الشمبانزي لا تستطيع ابتكار هذه «الأخلاق الاستدلالية».
إلا أن دي وال قد استنتج في هذا الصدد ملاحظة طريفة جدا وقد تكون في آن واحد بمنزلة استنتاج وتساؤل: «لا تعد الحيوانات بالطبع فلاسفة في الأخلاق، ولكن كم عدد البشر الذين يمكن إطلاق هذا اللقب عليهم؟»
5 (2) هل يمكن للآلات أن تكون لديها أخلاق؟ (2-1) بعض مصممي الروبوت يتبعون إسحاق أسيموف حرفيا
عندما ألف الكاتب إسحاق أسيموف سلسلته الروائية الشهيرة عن «الروبوتات»، اهتم بشدة بالابتعاد عن القصص التقليدية للمخلوقات التي تنقلب على خالقها. وكان استدلاله هو التالي: «لقد اعتدنا على العيش بجانب أشياء قد تكون خطيرة ولكننا دائما ما استطعنا ملاءمتها مع استخداماتنا؛ فللسكاكين مقبض وللدرج درابزين.» وبهذه الطريقة تخيل القوانين الثلاثة لتصميم الروبوتات، وهي قوانين دقيقة ومنطقية وواضحة، ومن المفترض أنها تتحكم في سلوكيات أي روبوت يصممه الإنسان، وهو خلق فطري يمكن أن تزود به أي آلة.
القانون الأول: لا يستطيع الروبوت إلحاق الضرر بإنسان، ولا السماح بإلحاق ضرر به بالامتناع عن التصرف.
القانون الثاني: يجب أن يطيع الروبوت أوامر الإنسان، إلا إذا تعارضت هذه الأوامر مع القانون الأول.
القانون الثالث: يجب أن يدافع الروبوت عن بقائه لأطول فترة ممكنة بصورة لا تتعارض مع القانونين الأول والثاني.
وبفضل هذه الحبكة الروائية الفعالة، ألف أسيموف سلسلة من القصص التي كان أبطالها من الروبوتات التي تبدو للوهلة الأولى كأنها تتصرف في تعارض مع هذه القوانين، إلا أنها تتبعها مفسرة إياها كل بطريقته.
وقد تساءل عدد من المهندسين الذين قرءوا روايات أسيموف في اندهاش حول إمكانية فرض هذه القوانين على روبوتات حقيقية، وفي بعض الحالات وضعوا قواعد لسلوكيات مشابهة يعتقدون أنه يجب تزويد الآلات المستقبلية بها. ولا تصعب ملاحظة أن تطبيق هذه الفكرة ليس واردا. فما هو الإنسان؟ وما هو الإيذاء؟ لا توجد أي طريقة لتعريف هذين المصطلحين بصورة واضحة بما يكفي لكي نفكر في فرضها على آلة ما. فتكمن الطريقة الوحيدة للاحتماء من الأضرار المحتملة للآلات المستقلة في مجرد التأكد من أنها مهما فعلت فلن تستطيع الإيذاء. وبالإضافة إلى ذلك، تنطبق التشريعات التي تنظم تسويق المنتجات الإلكترونية على مثل هذا السياق بصورة جيدة، فالروبوتات التي تباع حاليا صغيرة ومزودة بآليات أمان تبطل محركها بمجرد الشعور بمقاومة قوية. ويعتبر هذا النوع من «صمام الأمان» أكثر أمانا من القوانين التي تخيلها أسيموف (انظر الفصل الرابع عشر). (2-2) يمكننا تزويد الآلات بدوافع «أخلاقية» خارجية
ومع ذلك فإن المسألة المتمثلة في إمكانية برمجة شكل من الأخلاقيات في آلة ما تظل مطلقة. وتكمن الطريقة الأولى في التفكير حول أنظمة القيم (انظر الفصلين الثاني والسادس) التي قد تؤدي بصورة غير مباشرة إلى سلوكيات نريد وصفها بأنها «أخلاقية». ومن الممكن برمجة نظام قيم يقود آلة إلى «الاعتناء» بآلة أخرى أو مجموعة من الآلات تستطيع تحديدها بلا غموض. ومن الممكن أيضا برمجة آليات شبيهة بعمليات البصمة البيولوجية لكي تنمي الآلة سلوكا خاصا في مواجهة عوامل مثيرة في بدايات حياتها.
6
وربما ترتبط بعض السلوكيات الأخلاقية لدى الحيوانات بهذا النوع من الاقتران بين سلوك ما (للحماية أو الاعتناء أو التعاطف أو حتى المصالحة) ووجود عوامل مثيرة خارجية من نوع خاص سواء أكانت هذه العوامل فطرية أم مكتسبة. (2-3) يمكننا تزويد الآلات بدوافع «أخلاقية» داخلية
تمزج الدوافع الخارجية بين أشياء خارجية خاصة وردود فعل نمطية، وتسمح بتقليد سلوكيات أخلاقية بشرية، ولكنها لا تمنح الآلات مبادئ أخلاقية لتوجيه سلوكها. لذا يتعين إعداد أنظمة قيم داخلية، أي مستقلة عن أي عوامل مثيرة خاصة فتشبه إذن ما كنا قد ذكرناه فيما يتعلق بالفضول الاصطناعي (انظر الفصل الخامس). وينص مبدأ مهم استكشفه مؤخرا آدم إبيندال وزملاؤه
7
على النحو التالي: «لا تفعل ما لا يمكنك إعادته إلى حالته الأصلية من جديد.»
إن الانعكاسية، أي قدرة الآلة على القيام بحركة ثم عكسها والعودة إلى الوضع الأولي ذاته، تعد شرطا أساسيا لأي تحكم آلي. ومن الحركات غير القابلة للانعكاس نجد حركة تؤدي إلى تصادم يضر بالآلة، أو حركة تدفع الروبوت إلى الوقوع في حفرة لا يستطيع الخروج منها، أو إلغاء بيانات مهمة على قرص صلب. وإذا كان الهدف من آلة ما هو الحفاظ على سلامتها الجسدية واستقلال عملها، فإن غالبية الحركات غير القابلة للانعكاس تعتبر حركات ضارة أو على الأقل خطيرة. وكما تستطيع الآلة تعلم التنبؤ بنتائج حركاتها (انظر الفصل الثاني) يمكنها أيضا تعلم استباق انعكاسية حركاتها، مما يسمح لها باختيار حركات مفضلة يمكنها التنبؤ بانعكاساتها بأفضل طريقة ممكنة. وقد أظهرت بعض التجارب أن الروبوت المزود بهذا الدافع الداخلي يستطيع على سبيل المثال أن يتعلم تلقائيا تجنب الاصطدامات، وهو سلوك ينتج ببساطة عن هذا المبدأ المجرد. ولكن هل يعد مبدأ الانعكاسية مع ذلك مبدأ أخلاقيا؟ إنه في كل الأحوال مثال على «مدونة لحسن السلوك» تنطبق على عدد كبير من المواقف المختلفة. (2-4) هل يمكن أن تظهر سلوكيات جماعية «أخلاقية» بين الآلات؟
فلنختم هذا الاستعراض السريع لوجهات النظر بشأن أخلاقيات الآلات بأن نذكر إمكانية ظهور أخلاق بصورة تلقائية بين الآلات المتعلمة. فلقد رأينا أن بعض الآلات قادرة على إنتاج ظواهر ثقافية تنتمي لها؛ أي ذاكرة جماعية بين الأجيال (انظر الفصل الثامن). ولا نقصد هنا بالضرورة بكلمة «الأخلاق» اتباع مبادئ أخلاقية شبيهة بمبادئ الجماعات الإنسانية أو الحيوانية، بل نقصد ظهور عدد من القواعد السلوكية المشتركة بين أكبر عدد ممكن من هذه الآلات.
وقد أثبتت عدة دراسات في إطار نظرية الألعاب أنه في بعض الحالات قد تظهر بعض الاستراتيجيات وتدوم بين مجموعة من العوامل الاصطناعية.
8
وينطبق هذا النوع من الاستراتيجيات على سلوكيات معينة لا يمكن أن تستبدل بها استراتيجيات بديلة ظهرت في مرحلة تالية، وذلك بمجرد أن يتبناها بصورة جماعية غالبية الفاعلين في جماعة معينة. فتنتشر هذه السلوكيات من جيل إلى جيل، ويمكن وصفها في بعض الحالات بتعاونية أو إيثارية.
9
ولكن ما يهمنا في هذه الدراسات هو أن بعض الديناميكيات الجماعية المعقدة قد تفسر إلى حد ما ظهور سلوكيات أخلاقية، وبذلك يمكن تخيل ظهور مثل هذه السلوكيات بداخل مجموعات كبيرة من الآلات. ولكن حتى لو حدث ذلك فهل سنستطيع الاعتراف بها؟
الجزء الثاني
الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
الفصل العاشر
الارتباط
(1) هل يمكن أن نحب حيوانا؟
نعم بالطبع، يمكننا أن نحب حيوانا.
تعتبر العاطفة المتبادلة بين الإنسان والحيوانات الأليفة، لا سيما القطط والكلاب، من أكثر أشكال هذا الارتباط قوة.
وقد نشأت العديد من الأعمال الأدبية حول هذا الموضوع، ولا يمكن أن نحصي عدد الأعمال التي يقص فيها إنسان ما العاطفة الجياشة التي ربطته بحيوانه الأليف. وتعد هذه الظاهرة ملحوظة، لا سيما أن عمر الإنسان أطول من عمر حيواناته، فيتراوح عمر الكلب أو القطة بين خمسة عشر عاما وعشرين عاما. ومن ثم يعمر الإنسان بصفة عامة أكثر من حيوانه الأليف، وهو ما تترتب عليه تصرفات تنم عن الوفاء لهذه العاطفة حتى بعد الوفاة، ومثال ذلك هناك من يخصصون جزءا من ميراثهم شريطة أن يعتني الوريث بحيوانهم الأليف. وسنذكر مثالين محددين لهذه العاطفة تجاه الحيوانات الأليفة. يقص ميشيل جيروي في كتابه «مدرب الكلب»
1
العاطفة الجياشة التي كانت تربطه بكلبه، وكيف تنازل عن ترقيات لكي لا يبعد عنه. وكذلك يمثل الكفيف وكلبه المرشد ثنائيا مندمجا بصورة ملحوظة على الصعيد الحركي والعاطفي.
ويمكننا أيضا أن نحب الحيوانات التي نمتطيها مثل الأحصنة، ويكافح أصدقاء الأحصنة لكي تحصل هذه الحيوانات على صفة «حيوان أليف». وتحرص بعض الجمعيات أيضا على توفير راحة هادئة للأحصنة المسنة حتى لا ينتهي بها الحال بعد الذبح في صحون محبي لحم الأحصنة. ومن جهة أخرى يعكس انصراف المستهلكين الأوروبيين عن هذا النوع من اللحم تطور المجتمع نحو مزيد من التعاطف والمودة إزاء الأحصنة بصفة عامة. (1-1) هل يمكن أن نحب حيوانات مستأنسة؟
لا تقتصر العاطفة والصداقة، وحتى الحب، على الحيوانات الأليفة والأحصنة؛ فتوجد مثل هذه العلاقات في تربية الماشية (في المزارع) حتى لو كانت الغاية في هذه الحالة هي الموت الآجل للحيوان من أجل استهلاكه. ولكن يسخر المناضلون النباتيون الأكثر تشددا من هذه العلاقة العاطفية، بالرغم من صحتها، ويؤكدون أنه لا يمكننا أن نحب حيوانا سنأكله فيما بعد. ولكن لعالمة التربية الحيوانية جوسلين بورشيه
2
رأي آخر؛ فهي تميز من ناحية بين التربية في المزارع؛ حيث توجد عاطفة ما بين المربي وماشيته، ومن ناحية أخرى التربية الصناعية الكريهة في «بطاريات»؛ حيث تعامل الحيوانات كالجماد فتعذب طيلة بقائها في أقفاص تحرم فيها من أي عاطفة أو حتى أي تفاعل اجتماعي مع أبناء جنسها أو مع صغارها.
3
وكما ذكرنا فيما سبق، تعد العاطفة المتبادلة بين الإنسان والحيوانات حقيقة بالتأكيد؛ فالحيوانات قادرة أيضا على أن تحبنا، أو على الأقل تلك التي تمتلك، على حد علمنا، آليات بيولوجية تسمح بوجود العاطفة، لا سيما كل الفقاريات التي تمتلك جهازا مخيا يسمى «الجهاز الحوفي» وهو المسئول عن إدارة كل العواطف. ويوجد بلا شك جهاز مماثل لدى الرخويات رأسيات الأرجل مثل الأخطبوط. فإن العاطفة التي نكنها للحيوانات، ولا سيما حيواناتنا المنزلية، لا تكون إطلاقا ذات اتجاه واحد، بل هي حوار عاطفي يجلب السرور لشريكي هذه العلاقة؛ وهما الإنسان والحيوان على حد سواء.
نعم بالطبع، يمكننا أن نحب الحيوانات، أم يجب أن نضيف أنه من أجل التوازن العاطفي للإنسان يتعين علينا أن نحبها؟ (2) هل يمكننا أن نحب آلة؟ (2-1) تربطنا علاقات نفسية معقدة مع الأشياء
بالنسبة إلى الكثيرين منا، تلعب الآلات دورا محددا، وفي أغلب الأحيان ننظر إليها فقط من زاوية نفعها، إلا أنه من الواضح أننا نرتبط بها بعلاقات نفسية معقدة. ويخصص بعض السائقين جزءا كبيرا من أوقات فراغهم للاعتناء بسياراتهم وتزيينها بصبر واهتمام، وعندما يقودونها يشعرون كأنها جلدهم الثاني ، وقد يكون جلدا أكثر حساسية من بشرتهم وكأنها قشرة جسدية ينبغي الحرص على عدم الإضرار بها.
تلاحقنا الأشياء في حياتنا فترتبط بذكريات سعيدة أو مؤلمة، فقد يصعب علينا الابتعاد عن تحفة فنية شاهدة على فترة ممتعة من حياتنا، أو قد نحرق في المدخنة رسائل وصورا شاهدة على فترة نريد نسيانها. فتشبه الأشياء وعاء قادرا على أن يضم ما نضعه فيه، وهي أيضا دعامة للذاكرة كما ذكرنا من قبل (انظر الفصل الثاني).
4
ومن بين كل هذه الأشياء، تمثل الآلات فئة مميزة، فبما أننا لا نفهم عملها بالكامل، وبما أنها ليست مطيعة ومرنة في التحكم بالكامل، وبما أنها تأبى أن «تعمل» أو أن «تتوقف» فجأة، فينتهي بنا الأمر إلى معاملتها مثل الكائنات الاجتماعية أو الحية. فيقترب تعقيد مشاعرنا إزاءها من تعقيد العلاقات الإنسانية «التقليدية». (2-2) كيف نصمم آلة ودودة؟
تحاول بعض الآلات أن تعمل بأكبر بديهة وفاعلية ممكنة بحيث يتم تناسي أصلها الآلي، ولكن تستغل آلات أخرى شكلها الإنساني فتصمم بوضوح لإثارة الود والتعاطف.
يبدأ ذلك بمظهرها. فثمة طريقة بسيطة لإثارة تعاطفنا، ألا وهي استخدام بعض العوامل المثيرة الفطرية لدينا؛ فعندما نرى هيئة كائن حي أو غير حي تمتلك سمات طفولية نشعر بحنان فوري ولا واع. وفيما يلي بعض السمات المثيرة التي يذكرها كونراد لورنتس: «رأس كبير نسبيا، وجمجمة غير متناسقة، وأعين واسعة تنظر إلى أسفل، وتقوس كبير للجزء الأمامي من الوجنتين، وأطراف قصيرة وسميكة، وكثافة صلبة ومرنة، وأفعال مرتبكة.» ومنذ سنوات عديدة، يستغل المصممون وصانعو منتجات القطيفة والدمى وفنانو الرسوم المتحركة بداهتنا لكي نشعر بالتعاطف مع إبداعاتهم وذلك دون أن ندري.
5
ومن أجل إثارة تعاطفنا تلقائيا، ينفصل تأثير «العوامل المثيرة الآلية» التي ذكرها كونراد لورنتس بصورة كبيرة عن مسألة الواقعية؛ فإننا لن نتقبل الآلة بصورة أفضل بسبب مجرد تشابهها خارجيا مع الإنسان، بل في المقابل إذا زاد هذا التشابه مع الإنسان عن حده فقد يضر ذلك بتقبلها. وبالمقارنة بين الآلة ونموذجها نكتشف على الفور عيوبها وحدودها. وعلى النقيض من ذلك يتعين بلا شك أن يظهر الطابع الاصطناعي للآلة بوضوح بغية إثارة التعاطف (انظر الفصل الثامن عشر). (2-3) هل يمكن أن تظهر الآلة الارتباط بنا؟
ولكن هل يعد ذلك كافيا حقا؟ أيكفي أن «تداعب» الآلة المثيرات الفطرية لدينا لكي نبدي لها على الفور تعاطفنا ونعاملها بمنزلة الصديق؟ فلتلاحظوا كلبا في نزهة فستجدونه يسير تارة أمام صاحبه وتارة خلفه وينطلق أحيانا لاستكشاف الأدغال، ولكنه يلقي نظرة دائما لمعرفة إذا ما كان صاحبه لا يزال موجودا أم لا. وتعكس حدود هذه المسافة التي يرفض تخطيها النزعتين المتناقضتين المميزتين لسلوكه: حريته وارتباطه. وتكمن قيمة ارتباطه في عدم كونه مجبورا؛ فللكلب الحرية في الرحيل.
كيف يمكن أن تظهر الآلة الارتباط بنا؟ يرى البعض أنه لا وجه للسؤال بلا شك؛ فالآلة تظل في النهاية جمادا. ولقد عرفنا بشرا يشغفون بالأشياء الجامدة؛ فقد يرتبط بعض المجمعين بقطع نادرة من مجموعاتهم، ولكنهم ليسوا مجانين بالدرجة التي تجعلهم يفكرون في أن الأشياء تشعر بعاطفة ما في مقابل العناية التي يمنحونها إياها؛ فللحيوان وحده القدرة على مبادلتنا الحب الذي نكنه له.
ولكن ما هي معارفنا في هذا الشأن؟ يذكرنا النقاش بشأن قدرة الآلة المحتملة على الارتباط أو العاطفة بالنقاش حول ذكائها المحتمل. ومن أجل أن يتجاوز النقاش مجرد الاعتبارات الأيديولوجية أو الدينية يمكننا أن نضع «اختبار تورنج» جديدا فيما يتعلق بالارتباط (انظر الفصل الرابع)، إلا أن هذا الاختبار موجود بالفعل. يعد قسم الإيثولوجيا الذي يديره البروفسير سيساني بجامعة أوتفوش لوراند في بودابست من المؤسسات التعليمية النادرة المعنية بدراسة العلاقات التي تربط منذ عدة قرون بين الإنسان والكلب الأليف بالمنزل. وقد اهتم فريقه بالطبيعة الخاصة للارتباط الذي ينشأ بين جرو وصاحبه. وبواسطة اختبار الموقف الغريب لأينسوورث شائع الاستخدام في علم النفس، استطاع هذا الفريق وضع مقياس للتحليل يسمح بمعرفة إذا ما كان الكلب يبدي ارتباطا ما تجاه صاحبه.
6
ويعتبر إجراء هذا الاختبار بمنزلة بدء عملية تتيح لنا معرفة إذا كانت ثمة أمارات ارتباط محددة تبدو على كيان غير بشري.
7
وإذا افترضنا أن آلة ما تظهر عبر سلوكها إزاء مستخدمها علامات مميزة للارتباط فسنكون بلا شك مضطرين إلى الاعتراف بأن كل الأمور تحدث كأنها تبدي ارتباطا (حتى لو كانت مسألة الشعور تستحق المناقشة، انظر الفصل السادس). (2-4) كيف نروض آلة؟
هل تستطيع آلة في يوم ما أن تنجح في هذا الاختبار؟ حتى لو بدا ذلك صعب المنال حاليا فالتحدي ليس مستحيلا بالطبع؛ فيتعين أن تتعرف الآلة على مستخدمها بصورة وثيقة. ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن تتفاعل معه لفترة طويلة وبصفة منتظمة. فيتعلق الأمر في الواقع ب «ترويض» الآلة كما كان يتعين على الأمير الصغير بطل رواية الكاتب سانت أكزوبيري أن يروض الثعلب؛ فكل الثعالب وكل الآلات متشابهة حينما تكون غير مروضة. ولا تصبح كل منها متفردة عن غيرها إلا بعد علاقة طويلة.
تتشابه كل الآلات المتعلمة عندما نخرجها من علبتها ولكن مع الاستخدام ترتفع قيمتها؛ لأنها تنمي قدرات جديدة لاستباق التصرفات ووضع اقتراحات جديدة والتصرف في بعض الحالات بصورة غير مسبوقة. ومن أجل بناء روابط بين الآلة ومستخدمها، يتعين أن يتقاسما الوقت والتجارب.
وسيزداد بلا شك ارتباط المستخدم بآلته كلما أدرك أنها تتلاءم معه. وبذلك ستمتلك الآلة دائما عددا متزايدا من العناصر التي ستمكنها من التعرف على مستخدميها بصورة محددة (صوتهم ووجههم، إلخ)، وهي كلها مؤشرات سوف تسمح لها بالتزود بردود محددة. وفي نهاية المطاف، يمكن لمراقب خارجي أن يلاحظ بالفعل أمارات علاقة متبادلة بين الآلة وصاحبها، وفي هذه الحالة ستكون الآلة مروضة.
8
الفصل الحادي عشر
الانجذاب الجنسي
(1) الزوفيليا
وفقا للمعنى التقليدي لكلمة «زوفيلي»، فهي تعني شخصا يحب الحيوانات ويهتم برفاهيتها. وفي القرن التاسع عشر كانت جريدة «لي زوفيلي» التي كان يكتب بها فيكتور هوجو تدافع بشراسة عن هذا الأمر تحديدا، ونجد حاليا مصطلح «زوفيلي» بمعناه التقليدي في العديد من الصحف والمقالات. وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد في صحيفة «لوفيجارو»: «خلال احتفال على الطريقة الباريسية شهد الرابح (في مسابقة ما) عملية وزن حيوانه الساحر (وكان الأمر يتعلق بقطة في هذا الموقف )
1
في حضور عدد من الشخصيات الزوفيلية وممثلي الصحافة.» ولكن غالبا ما تحمل الكلمات العديد من المعاني؛ فانتقل الناس من الحب المجرد والأفلاطوني إلى الحب الجسدي. فلقد أصبحت كلمة «زوفيلي أو بهيمي» وفقا للمعنى المحرف والشائع تعني إقامة علاقة جنسية مع الحيوانات.
ويتعلق الأمر بخلل عقلي تمارس فيه الاحتياجات الجنسية الطبيعية للجنس البشري مع جنس مختلف، ويعاقب القانون على هذا الانحراف النفسي المرضي الذي يعاني منه بعض بني البشر والذي يؤدي إلى تعرض الحيوانات إلى إساءة معاملتها وتنتهك حقوقها (انظر الفصل الرابع عشر). وقد نلاقي بالمصادفة حالات نادرة من هذا النوع من الزوفيليا في المناطق الريفية؛ حيث تكون احتمالات الاتصال مع الحيوانات موجودة في كل مكان، ويكون المصابون بها بعض الأشخاص غير الناضجين (مراهقون يبحثون عن المشاعر) أو بعض المختلين الطائشين غير المسئولين عن أفعالهم. وفي حضارتنا المدنية الحديثة، توجد الأغلبية الساحقة من حالات الزوفيليا المرضية في أوساط الأفلام الإباحية التجارية التي تستغل أيضا الأطفال (البيدوفيليا أو الغلمانية). وبسبب هذا الارتباط الوثيق بين الأفلام الإباحية مع كل من الحيوانات والأطفال (الزوفيليا والبيدوفيليا) واستنادا إلى فكرة أن مكافحة الزوفيليا ستساهم أيضا في مكافحة البيدوفيليا، نجحت الرابطة الفرنسية لحقوق الحيوان في عام 2004 في تعديل القانون الجنائي من أجل إدراج العنف الجنسي الذي يمارس ضد الحيوانات. (1-1) الإنسان والحيوان معرضان لممارسة العنف ضدهما
تتفق هذه الملاحظة مع ملاحظة أخرى عامة جدا: تشبه المعاملة القاسية والعنف اللذان قد تتعرض لهما الحيوانات المعاملة القاسية والعنف اللذين قد يتعرض لهما البشر. وهكذا فإن بعض مفتشي جمعية حماية الحيوانات والمطالبين برصد حالات المعاملة القاسية تجاه الحيوانات رصدوا بالمناسبة ذاتها عنفا يمارس ضد الأطفال. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المناطق التي تستضيف سباقات الثيران في أوروبا هي ذاتها التي تشهد مواجهات المصارعة الرومانية. وفي عشية الإجازات يتخلى البعض عن حيوانات نراها ضالة في الطرق تماما مثلما يتخلى البعض عن آبائهم المسنين في المستشفيات. وثمة أمثلة لا تحصى في هذا الإطار؛ فالعلاقة بين الأفلام الإباحية مع كل من الحيوانات والأطفال تعزز هذه الملاحظة بوضوح.
وتؤدي هذه الاختلالات الزوفيلية والأفلام الإباحية البيدوفيلية بطريقة ما إلى تشابه (مؤسف) بين الإنسان والحيوان حتى في الجنحة أو الجريمة التي قد يقعان ضحية لها، وذلك بما أن ضحايا إساءة المعاملة هذه قد يكونون بشرا أو حيوانات على حد سواء. (2) الروبوفيليا (2-1) ثمة إثارة جنسية خفية متعلقة بالاصطناعية
يبدو أن التماثيل والآلات الاصطناعية التي على شكل نساء تمارس نوعا محددا من الجاذبية؛ فمع كل ظهور لتقنية جديدة في تصميم آلات أكثر إتقانا نجد بصورة شبه منتظمة نصوصا لاستكشاف سحر جديد يتلاءم فيه «الولع بالتماثيل» مع أذواق العصر، ويبدو أن التطورات الأخيرة تؤكد أن هذا الاتجاه يعد ثابتة حقيقية من ثوابت ثقافتنا.
2 (2-2) بيجماليون يصير أبا لأطفال ولدوا من التمثال الذي نحته
نجد أقدم قصص الحب بين إنسان وكائن اصطناعي في أسطورة بيجماليون القديمة كما عرضها أوفيد في قصيدة «التحولات». كان بيجماليون ملك قبرص، ولكنه كان قبل كل شيء نحاتا موهوبا، ونظرا لاشمئزازه من الأخلاق المنحلة التي تتسم بها بنات مملكته اللواتي يعرضن أنفسهن على الجميع، رفض الملك الشاب أن يتزوج وخصص كل وقته إلى شغفه وهو النحت، إلا أن الرغبة في العزوبية هددت بصورة مقلقة السلالة الملكية وريثة العرش. وفي يوم ما قادته موهبته إلى نحت عذراء شابة من العاج وكانت فائقة الجمال، فوقع أسيرا في حبها. ولكنه عندما يئس من هذا الحب المستحيل توسل إلى أفروديت أن تمنحه امرأة تشبه رائعته العاجية، فلبت الإلهة أمنيته وتحول التمثال إلى امرأة حقيقية: جالتيا، فقرر بيجماليون أن يتزوجها، وأسفرت هذه العلاقة عن ميلاد طفل وهو بافوس، الذي سيكون لاحقا مؤسس المدينة التي تحمل اسمه في قبرص. فغمرت السعادة بيجماليون؛ فهكذا وجدت الأسرة الحاكمة طوق النجاة.
تعتبر أسطورة بيجماليون بلا شك التجلي الأول لموضوع اتخاذ الكائن الاصطناعي شريكا، أو زوجة في هذا الموقف، مما سمح لمصمم هذا الكائن بالتخلص من وحدته. ولكن الأسطورة لا تقدم جالتيا بصفتها بديلة للمرأة أو امرأة من صنف أدنى، فلن تكون في هذه الحالة الملاذ الأخير لرجل ترفضه النساء ومحكوم عليه بحب امرأة اصطناعية، بل هي أكثر جمالا وجاذبية في نظر النحات من كل البنات الحقيقية في مملكته. ويبدو أن النهاية السعيدة تظهر أنه يجب ألا نبحث عن درس أخلاقي سلبي في هذا النص؛ فقد كان الإغريقيون يدينون التكبر والتجاوزات وانعدام المسئولية، بالإضافة إلى حماقة إيكاروس أو انتهاك أوديب للأعراف الاجتماعية. ولكن بيجماليون ليس من بين هؤلاء فهو موهوب ومتواضع وقد يكون أيضا ورعا؛ فكل ما كان يتمناه هو السعادة فقط. (2-3) في ظل الحركة الرومانسية، الكائنات الاصطناعية تصبح أشياء مرغوبة ولكن مرفوضة
لماذا يعتبر حب آلة أو الرغبة فيها صادما في يومنا هذا؟ فقد مرت الحركة الرومانسية بهذه المرحلة! ففي عام 1816 في الوقت الذي كانت ماري شيلي تعمل على كتابة روايتها «فرانكنشتاين» كان إرنست هوفمان يقص في «الرجل الرملي» نسخة جديدة من أسطورة بيجماليون. ولكنه نسي حماسة الإغريقيين وصارت جالتيا في ظل الرومانسية بديلة وخدعة لا تستطيع رؤيتها إلا أعين مغرمة. وفي الإطار ذاته اقترح فيلييه دوليل آدم في «حواء المستقبل» في عام 1886 مغامرة مأساوية جديدة وكان موضوعها هو تشكيل امرأة مثالية. وعبر هذه القصص استكشفت الحركة الرومانسية السحر الجنسي الذي تضمه أسطورة بيجماليون، فالمرأة الاصطناعية تعتبر هنا وهما. ويرى هؤلاء المؤلفون أن الإنسان الذي يفتن بهذه الخدع هو مدان بصورة مزدوجة؛ فهو الإنسان الحديث الذي لا يكترث بمبادئ الطبيعة والمنخدع بالتقنيات الحديثة، وبالإضافة إلى ذلك هو يستبعد نفسه من المجتمع باشتهاء شيء مرغوب ولكن مرفوض. (2-4) مع تطور صناعة الروبوتات والذكاء الاصطناعي، أليس من الممكن أن نصل في المستقبل إلى تصميم هذا الكائن المثالي الذي تصفه الروايات؟
منذ حوالي عشرة أعوام أحرز تقدم بالغ فيما يتعلق بالحركات والمعدات والوجود والعواطف الاصطناعية. ويحاول بعض الباحثين في اليابان تصميم روبوتات واقعية جدا يصعب تمييزها عن الإنسان، ويحاول البعض الآخر استكشاف طريقة نشأة العلاقات بين الإنسان والآلة عبر لوغاريتمات تسمح للروبوتات بالاختلاف بعضها عن بعض وفقا لطريقة تفاعلنا معها، إلا أن الروبوت «المستنسخ» من الإنسان لا يزال بعيد المنال. وبالإضافة إلى ذلك يظهر لنا تاريخ الكائنات الاصطناعية أن عدم كمال الكائن هو دائما ما يجعله ممتعا. ففي الروايات لا تكون الكائنات الاصطناعية من سلالة جالتيا نساء، بل نساء ينقصهن شيء. وغالبا ما تنبع الإثارة الجنسية تجاه الكائن من غياب الاستقلالية لديه ومن سلبيته. وبذلك ليس من المؤكد على الإطلاق أن تصبح الآلات التي تتقدم في محاكاتها للإنسان مرغوبا فيها بصورة أكبر.
لن تكون روبوتات المستقبل مجرد كائنات تشبه الإنسان في شكلها، كما نجد في أفلام الخيال العلمي. وقد تتحول الأشياء التي تملأ حياتنا اليومية إلى روبوتات؛
3
فثمة مساحة كبيرة لحرية التصميم، فيختلف نوع العلاقات من أداة إلى شريك، ومن شيء عملي إلى شيء مرغوب فيه، فالرغبة في إنشاء نساء اصطناعية أسطورة من قديم الأزل، ولكن في يومنا هذا، يعكس ذلك انعدام الخيال. وفي الواقع لا تزال أمامنا اختراعات عديدة.
الفصل الثاني عشر
الهوية
(1) هل نحن نعتبر حيوانات؟
هل يعتبر الإنسان حيوانا؟ إنه بلا شك سؤال قديم جدا يشغل الإنسانية منذ بداياتها.
لا يضع العديد من الحضارات حدودا بين البشر والحيوانات وحتى الآلهة. فكان للعديد من آلهة الفراعنة أشكال حيوانية، وكان الإله الأزتيكي كيتسالكوتل يستطيع أن يتخذ شكل ثعبان ذي ريش، وكان للإله الإغريقي بان أقدام تيس، وكذلك جانيش إله التجار والمسافرين لدى الهندوس كان له رأس فيل، والأمثلة على ذلك لا تحصى. وفي العصور الوسطى في أوروبا تظهر المحاكمات والإدانات بحق حيوانات قتلت بشرا أن الحيوانات كانت تعتبر مسئولة عن أفعالها شأنها في ذلك شأن الإنسان، حتى وصل الأمر بأسقف أن يعتزم إخراج كل الفئران من العقيدة؛ لأنها تنقل مرض الطاعون! إن تشبيه الإنسان بالحيوان، وتخيل حيوانات تتصرف مثل الإنسان وتناقش وتتفلسف أصبحا يترددان بكثرة في الفنون والأدب (مثل قصص الثعلب رينار أو أساطير لافونتين) حيث يجد المشاهد والقارئ مادة للتفكير والحلم (انظر قسم «هل تساعدنا الحيوانات على التفكير في أنفسنا؟») (1-1) الحيوان والتفكير الحديث
لندع المجال الأدبي والفني لنتطرق إلى مجال التفكير الفلسفي والعلمي الحديث، وهو المجال الذي يهدف إلى تحديد ماهية «الحيوان» أو «الإنسان »، وهل ينتميان إلى العالم نفسه أم إلى عوالم منفصلة. يتطور هذا الفكر في الغرب بين فرضيتين: فرضية «معارضة للتكامل» ترى أن الإنسان والحيوان منفصلان بصورة واضحة، وفرضية أخرى «مؤيدة للتكامل» ترى أنه، في المقابل، ثمة تكامل بينهما. ومع تطورات العلم، أحرزت الفرضية المؤيدة للتكامل تقدما وأثبتت أنه لا يوجد انفصال بين الحيوانات والإنسان، وذلك دون إغفال بعض السمات المميزة للجنس البشري، وهي السمات التي سنسلط عليها الضوء في الجزء الأخير من هذا الكتاب.
ولنبدأ بالموقف «المعارض للتكامل» فهو ينبع من رغبة مستمرة لدى الإنسان الذي طالما أراد أن يعتبر ذاته كائنا فريدا من نوعه ومختلفا عن باقي الكون، وهي رغبة استهدفت دائما الدفاع عن أفكار تتمحور حول الإنسان، أي «مذهب المركزية البشرية». وعلى الصعيد الكوني ظل الإنسان يعتبر كوكب الأرض الذي يعيش عليه مركزا للكون، وهو معتقد لم يتم دحضه علميا إلا بإثبات أن الأرض تتبع الشمس، وأن ثمة مليارات «الشموس» في الكون في شكل نجوم.
وفيما يتعلق بالإنسان نفسه وليس مكان معيشته، يشرح مناصرو الفرضية المعارضة للتكامل «مذهب المركزية البشرية» بالتأكيد على أننا لسنا حيوانات على الإطلاق. ووفقا للرؤية الأكثر تطرفا لهذه الفرضية، لا سيما رؤية الفيلسوف نيكولا مالبرانش التي عبر عنها في القرن السابع عشر، تزعم هذه الفرضية أن الحيوان جماد مثل الساعة وأنه يختلف عن الإنسان الذي يعد من طبيعة مختلفة تماما؛ لأنه يمتلك روحا أبدية (انظر الفصل التاسع عشر). ونجد فكرة مماثلة لدى المناصرين الدينيين لفرضية تهدف إلى تفسير العالم الحي وهي الفرضية التي نسميها «الخلقية» والتي لا تزال موجودة بصورة كبيرة حتى الآن.
1
فيعتقد مناصرو هذه الفرضية أن الله خلق الحيوانات كما هي بالتوازي مع خلق الإنسان ولكن بصورة منفصلة تماما؛ فوفقا لهذه الفرضية، إن الله هو الذي شاء أن نشبه جسديا مخلوقات خلقت باختلاف كبير عنا وفي استقلال عنا مثل الشمبانزي! خلافا لموقف مالبرانش، خلقت الحيوانات بصفتها كائنات حية وليست جمادا ولكن فصلها عن الإنسان مطلق، وذلك هو الموقف الحالي للعديد من الحركات الأصولية الدينية أو الظلامية.
2
فقد سمحت تطورات علم الأحياء، ولا سيما نظرية تطور الكائنات الحية (انظر الفصل الأول)، بدحض هذه الأفكار التي لم يعد يدافع عنها في يومنا هذا أي مفكر عاقل. وفي الواقع يبين
3
علم الأحياء الحديث أن بعض الحيوانات قريبة جدا من الإنسان في آلياتها الوراثية أو البيوكيميائية أو الهرمونية أو العصبية، وأن الإنسان يتشارك مع الشمبانزي في 98٪ من جيناته، وأن العديد من الأمراض يمكنها أن تنتقل من الحيوانات إلى الإنسان أو العكس، وأن الإنسان القديم كان يشبه القرود؛ لذا هو يشبهها حاليا بصورة كبيرة.
نعم، فعلى الصعيد البيولوجي نحن نعتبر حيوانات. (1-2) المملكة الحيوانية والثقافة
مع ذلك لم تتوقف الآراء المعارضة للتكامل عند هذا الحد. فقد استكمل بعض الكتاب الأكثر جدية تقديم البراهين على فرضيتهم، وأقروا أن الإنسان بالطبع حيوان بجسده وطبيعته البيولوجية وبأصله التطوري؛ أي ما نسميه «طبيعته»، ولكنهم يرون أن الإنسان يظل مختلفا تماما عن الحيوانات بنتاج فكره وبثقافته. وحتى في هذا المجال سمحت التطورات الأخيرة في مجال الإيثولوجيا بإظهار الفروق البسيطة في هذا الأمر؛ ففي الواقع نجد لدى العديد من الحيوانات سلوكيات قد نشبهها بسمات ثقافية: مثل استخدام الأدوات والتواصل ولغة الخطاب والسلوكيات الأخلاقية (الأولية) والاختيارات الجمالية ... إلخ (انظر الفصلين الثامن والتاسع). بعبارة أخرى نجد في المملكة الحيوانية «المبادئ الأولى» (مصطلح «المبادئ الأولى» شديد الأهمية) لكل ما نقابله بصورة أكثر تطورا لدى الجنس البشري؛ ومن ثم فليس من الممكن أن يكون ثمة انفصال كامل بين الإنسان والحيوان في مجال الثقافة. وقد استمدت الفرضية المؤيدة للتكامل حججا قوية من تقدم المعارف العلمية بشأن الحيوانات.
نعم، نحن نعتبر حيوانات بطبيعتنا البيولوجية وبأسس ثقافتنا في آن واحد، ونستمد سماتنا الفسيولوجية والثقافية من المملكة الحيوانية التي انحدرنا منها.
إلا أننا نملك أيضا عقلا نافذا قادرا على تناول كم أكبر من المعلومات التي يتناولها نظراؤنا حتى شديدو الشبه بنا مثل الشمبانزي. فنحن إذن حيوانات ولكن «حيوانات مميزة».
4
وقد يقود هذا «التميز» حيوانيتنا إلى نجاحات فكرية وتقنية نقدر عليها وحدنا في النظام الشمسي مثل: الذهاب إلى القمر، أو تصنيع اللقاحات وأجهزة الكمبيوتر، أو كتابة الروايات، أو تسجيل تاريخ جنسنا. وعلى مستوى الفكر يقودنا هذا التميز إلى طريقة عيش مبتكرة جدا سنذكر عنها بعض الأشياء في الجزء الأخير من هذا الكتاب. (2) هل نحن نعتبر آلات؟
في كل فصل من فصول هذا الكتاب نكرر الرسالة ذاتها: «نحن لسنا آلات، ولكن الآلات قد تساعدنا على التفكير في أنفسنا.» وفي الغرب تحديدا يعتبر الإنسان نفسه آلة بالإضافة إلى «شيء آخر». ولكي نفهم أنفسنا علينا أن نلجأ إلى استعارات آلية، ولكن بعد ذلك يظل دائما ما هو غامض وغير مفسر. فبهذه الطريقة نتناول ما نطلق عليه جوهر الإنسان وهو الجزء الذي لا يمكن اختزاله في مجرد آلية. ولكي نقتنع بذلك قد يكون مجديا أن نعود إلى نصوص قديمة. (2-1) الله خلق الإنسان على مرحلتين
يشير العهد القديم إلى أن الله قام بعملية على مرحلتين:
وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفسا حية. (سفر التكوين، 2 : 7)
كانت المرحلة الأولى فنية؛ فيقوم الله الخالق بعمل صانع خزف فيشكل تمثالا من التراب، ويستخدم المواد المتاحة لتصميم شكل، وصناعة الخزف كانت أحد مجالات الفنون الأكثر تقدما في العصر الذي يصفه الإنجيل. وفي هذه العملية كان بمنزلة فنان على غرار ما سيكون عليه أبناء سلالة آدم فيما بعد. وفي المقابل تعتمد المرحلة الثانية على قدرة مختصة بالله، فهذه التقنية الهوائية والقدرة على نفخ نسمة حياة هي ميزة مختصة بالله وحده.
نجد بصورة مماثلة هذه الطريقة التي تمت بها عملية الخلق، وذلك على مرحلتين منفصلتين، في عدد هائل من الأساطير والخرافات. ففي الأساطير السومرية والفرعونية والصينية وأساطير بعض مناطق أفريقيا، كان ثمة آلهة «صناع خزف»، كالإله المذكور في العهد القديم، يخلقون شكلا من التراب ثم ينفخون فيه نسمة الحياة بحركة أو كلمة سحرية. وتفضل أساطير الشمال الخشب المنحوت على التراب المشكل، وتذكر بعض الأساطير تماثيل من الحجر تبث فيها الآلهة الحياة. فتوجد في كل مكان حالة التوالي بين تقنية إنسانية لتشكيل القشرة الخارجية وتقنية إلهية بصورة حصرية تسمح ببث الحياة (في كل مكان سوى اليابان، يمكن للقارئ أن يطلع على العديد من المقالات بشأن هذه الاختلافات الثقافية).
5
تقود الأسطورة التقنية لخلق الإنسان إلى سؤال طبيعي: هل يعد الإنسان الذي خلقه الله على صورته قادرا على بلوغ مستوى من التقنية التي من شأنها أن تسمح له بإتقان هذه المهارة الإلهية؟ هل تعتبر القدرة على بث الروح من المجالات الممكنة؟ أيستطيع الإنسان أن يكتشف هذه القدرة ذاتيا أم يجب أن يهديها إياه بروميثيوس؟
يشغل هذا السؤال بؤرة اهتمام كل حكايات صناعة الكائنات الاصطناعية والآلات المعقدة. فيثبت فيليب بروتون في دراسته بهذا الشأن أنه يوجد هيكل نمطي متخف في أساليب وأشكال متنوعة خاصة بكل عصر، ويسمح لنا هذا الهيكل بالتأكيد على أن النصوص والأساطير والحكايات والمقالات العلمية المختلفة تتشكل في الواقع من القالب ذاته.
6
فهي قصة وحيدة تروى لنا دائما: إعادة تمثيل المشهد البدائي الذي يصمم فيه الله شكلا ثم ينفخ في آدم نسمة الحياة.
وفي كل الحكايات يبدأ المشهد بتناول مادة أساسية: عاج أو طين أو خشب سحري أو بقايا جثث أو خلايا عصبية اصطناعية. وغالبا ما تكون مادة نبيلة أو على الأقل ملحوظة، وهنا تبدأ المرحلة التقنية فينبغي تشكيل هذه المادة ونحتها وتنظيمها باستخدام التقنيات الأكثر تطورا في العصر: مطرقة أو فخار أو رياضيات أو كهرباء أو علم الكمبيوتر. ويطمح المصمم إلى محاولة إعادة الإنتاج الاصطناعي لسمة ما من جوهر الإنسان. ولكن هذا «الجوهر» قد يتغير من عصر إلى آخر: كالجمال بالنسبة إلى الإغريقيين، أو الحركة والتحدث في عصر النهضة، أو الذكاء بالنسبة إلى علماء الكمبيوتر، أو ربما العاطفة أو الوعي في عصرنا هذا. ورغم كل الجهود التي يبذلها المصمم، فإنه لا ينجح إلا في الاقتراب من هدفه دون بلوغه بصورة كاملة في أي حين. فيلزم تدخل خارجي لوضع اللمسة الأخيرة: سحر أو تدخل إلهي أو مصادفة سعيدة، وهي كلها أسماء مختلفة تحجب عجز الإنسان عن إتقان التقنية الإلهية في بث الحياة حتى لو كان مهندسا محنكا.
إن عجز المصمم البشري عن إتقان التقنية الإلهية في مجملها هو تحديدا ما يجعل من الكائن الاصطناعي كائنا خاصا. وفي الحكايات قد نجد حالتين؛ فإن كان الكائن شيئا مصنوعا بصورة كاملة على يد الإنسان، فهو بالضرورة ناقص؛ فثمة شيء يجعله مختلفا ويكون هذا الاختلاف أساسيا لتطور الحكاية. وإن استعان المصمم البشري بتدخل سحري أو إلهي، فيكون الكائن غير مشكل بصورة طبيعية أو تقنية بحتة؛ فيصبح إذن كائنا سحريا بدوره ويختلف عن مصممه. وفي الحالتين لا يخلق الإنسان أبدا سواء في الأساطير أو العلم كائنات شبيهة به. (2-2) الإنسان الغربي آلة بالإضافة إلى «شيء آخر»
لا يحدثنا الروائيون وعلماء الروبوت فقط عن آلات المستقبل عبر وضع سيناريوهات تقنية، بل يصفون الاختلافات التي تميز الإنسان أو الكائن الحي في عصرهم. وتروي لنا كل حكاية أن الإنسان الغربي يعتبر نفسه الآلة الأكثر إتقانا في عصره والتي يجب أن يضاف إليها شيء آخر: وهو «عامل دخيل» ويعادل هذا «العامل الدخيل» التقنية الإلهية التي لا يتقنها الإنسان. فنحن لا نريد أن نصور أنفسنا مجرد آلات، إلا أننا نتوصل بفضل الآلات إلى فهم إنسانيتنا بصورة أفضل؛ فالإنسان ليس آلة بل آلة بالإضافة إلى «شيء آخر» وهذا «الشيء الآخر» هو ما يحدد هوية الإنسان. ومنذ ذلك الوقت، كلما كان تأثيرنا الاصطناعي مماثلا زادت معارفنا عن أنفسنا وزاد انزعاجنا من تمثيلنا بهذه الطريقة، فهذه المواجهة مستمرة منذ فترة طويلة. ويمكن قراءة تاريخ الطب من جديد في ضوء تاريخ الهندسة (انظر الفصل الثالث عشر).
اليوم، يتمركز المفهوم الغربي عن الإنسان أكثر من ذي قبل حول تقديرنا لأداء الآلة وحدودها بصورة كاملة. فننظر إلى أنفسنا في مرآة الآلات التي نستطيع تصميمها ونقيم في هذا الانعكاس اختلافنا، هذا «العامل الدخيل» غير المعروف حتى الآن. وبذلك يمكن اعتبار كل تقدم للآلة فرصة ووعدا بفهم أفضل لأنفسنا، ولكن لا يحدث ذلك للأسف؛ فالآلة الجديدة تعني إعادة تعريف محتمل لما يميز إنسانيتنا ، «هذا الشيء الآخر» الذي نعتقده أبديا ونهائيا. وفي هذا الصدد قد توحي الآلة بالحذر، فدائما ما تتم إعادة التعريف على مضض، وربما نكون بذلك قد توصلنا إلى النقطة المحددة التي تفسر خوفنا من الروبوتات ومن الآلات الجديدة بصفة عامة؛ لأننا نتخيل جحافل من الروبوتات العسكرية التي تسيطر على الأرض ولكن ما نخشاه في الحقيقة هو أن نرى تعريفنا يتغير بالتواصل معها. فنحن نحب أنفسنا بحالتنا كما هي، ولا نريد أن تجبرنا آلة جديدة على إعادة النظر في أسس ما نسميه بالطبيعة الإنسانية.
لذا نحن نناقش أنفسنا ونكافح باستخدام عدد من الحجج ومن بينها: الآلات لا تفعل إلا ما تم برمجتها عليه، وهي لا تفهم ما تقوم به، ونحن لدينا عواطف ولكن الآلات تحاكيها فقط. لن تظهر الآلة أبدا قدرة على الإبداع ولن تفعل إلا ما نطلبه منها. وقد عبر سيرج تيسرون
7
عن رأيه قائلا: «كلما اكتسبت الأشياء استقلالية بفضل أنظمة رد فعل عكسي وتعلم معقد بصورة متزايدة، زادت أهمية تكرار أنها «حبيسة» برنامجها.» فيرى أغلب الناس أن إظهار قدرة برنامج ما على التطور بأشكال يصعب أن يتنبأ بها حتى واضع هذا البرنامج، يعد من قبيل الدعابة أو الهذيان من شخص هاو للخيال العلمي.
يعتبر الإنسان الغربي مخلوقا لا يفهم نفسه إلا عبر الأشياء التي يصنعها. ففي الغرب لا تعد الآلة مجرد سبب للتجديف؛ لكن على حد قول بيتر سلوتادايك مغيظة أيضا.
8
وبسبب المكانة الأساسية التي نخصصها للتقنيات لتحديد هويتنا، ربما تكون كل آلة جديدة خطرا علينا.
الفصل الثالث عشر
المرآة
(1) هل تساعدنا الحيوانات على التفكير في أنفسنا؟
نجد حولنا في كل مكان الحيوانات المفترسة أو المنزلية، والحيوانات الكبيرة أو المجهرية، والحيوانات المفيدة أو الضارة من وجهة نظرنا، والحيوانات الجميلة والقبيحة وفقا لذوقنا؛ فليس عجيبا إذن أن يتأثر جزء كبير من ثقافتنا بالحيوانات.
فهي تساعدنا على التفكير أولا في العلاقة الملموسة التي تربطنا بها في الحياة وعلى وضع حدود للمملكة الحيوانية في «الكون المحيط بنا». فما هو الحيوان من الناحية العلمية ؟ ما الذي يميزه عن النبات؟ كيف تعمل أعضاء جسمه؟ فيم يستطيع أن يخدمنا؟ هل يشبهنا؟ (انظر الجزء الثالث من هذا الكتاب). وبلا شك تهم كل هذه الأسئلة المنطقية الفكر الإنساني بفروعه كافة: علم الأحياء وعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والطب ... إلخ. (1-1) العالم الخيالي
عبر فرانسوا جاكوب
1
عن رأيه بصورة رائعة قائلا: «ربما يحتاج الإنسان إلى الحلم بقدر حاجته إلى الحقيقة.» تساعدنا الحيوانات إذن على التفكير في أحلامنا أو في أوهامنا. وهنا نبتعد قليلا عن المنطق ونتناول المجال الخيالي (انظر الفصل الحادي والعشرين). وفي الواقع توجد ثلاث طرق لتصور الحيوان؛ الحيوان الذي يتخذ شكل إنسان وهو قد خلق إلى حد ما مثل البشر، والحيوان الجماد الذي ينظر إليه كالآلة، والحيوان الكائن الحساس. وتهدف الدلالتان الأخيرتان إلى تفسير عقلاني للحيوان، وتتفقان مع ما ذكرناه فيما سبق عندما يحل في يومنا هذا الحيوان الكائن الحساس تدريجيا محل المفهوم غير الشائع للحيوان الجماد. وفي المقابل فإن المفهوم الأول الذي يشبه الحيوان بالإنسان والذي يجعل من الحيوان بطريقة ما «استعارة يقصد بها الإنسان» ربما يكون هو الذي يساعدنا بصورة أكبر على التفكير أو الحلم لا سيما في مجال الفنون.
لقد رأينا فيما سبق كيف يتسنى للإنسان أن يمثل لنفسه في العديد من الديانات غير السماوية بنية الآلهة بفضل الحيوان الذي يكتسب الطابع الإنساني (انظر الفصل الثاني عشر). ولكن أيضا في الدول العلمانية غالبا ما يوفر الحيوان حكاية رمزية لتوجيه السلوك الإنساني؛ فلقد ذكرنا من قبل أساطير لافونتين أو خرافات إيسوب التي تستخدم الحيوانات من أجل إعطاء البشر دروسا أخلاقية. وقد نضيف إلى ذلك ابتكار الحيوانات الخيالية مثل حصان الحريش وحورية البحر والتنين وهي كلها حيوانات تدعو إلى الحلم. وقد لجأت الفنون - أدب ورسم ونحت وسينما ... إلخ - مرارا وتكرارا إلى استخدام هذه الحيوانات الحقيقية أو الخيالية. ولنذكر أيضا الاستخدام الشائع وفقا للاعتقاد الشعبي للاستعارات حول صفات يفترض أنها من صفات الحيوانات. فهكذا قد نتسم بالشجاعة مثل الأسد، أو بالكسل مثل الحنش، أو بالعناد مثل الحمار، أو بالفخر مثل الديك. وبالطبع لا ترتبط هذه الاستعارات إلا من بعيد بالسلوك الحقيقي لهذه الأصناف الحيوانية المذكورة! ولنذكر في النهاية أن الاستعارة الحيوانية قد تتعلق بكل أوجه الفكر الإنساني، ولنذكر مثال الاستعارة الدينية الشائعة في الدول المسيحية التي تشير إلى «حمل الله».
ويجب أن نضيف إلى هذه الطرق المختلفة التي تساعدنا بها الحيوانات على التفكير الحالة التي تساعد فيها الحيوانات فكرنا (الشاب) على النضوج، وهي حال الأطفال الذين حظوا بفرصة النمو مع حيوان أليف كقطة أو كلب، مما سمح لهم بتكوين علاقاتهم العاطفية، وهي أيضا حال من لم يستطيعوا مجاورة حيوانات مثل دمى الطفولة التي ارتبط بها العديدون عاطفيا بل اندمجوا معها، ودونها ربما كان فكرهم البالغ لم ينضج بصورة متناسقة!
فتساعدنا الحيوانات طيلة حياتنا على التفكير أو الحلم أو الحب. (2) هل تساعدنا الآلات على التفكير في أنفسنا؟
لم ينتظر الإنسان ظهور علم الجراحة ليفتح جسم نظرائه. فقد حمله الفضول مبكرا، ولكن ماذا يرى الإنسان حين ينظر بداخل جسم إنسان آخر؟ يرى في مجموعات العظام والأحشاء آلات، يرى آلات عصره. (2-1) الإنسان شبكة من القنوات
تطورت تقنيات الري منذ العصور الأولى لاستقرار الشعوب، وكانت كل الحضارات الكبيرة في القدم تعرف المبادئ الأساسية لعلم المياه، وفي اليونان ظهر الطب، ولا عجب إذا كانت أول استعارة تستخدم لفهم عمل الجسم الإنساني هي تشبيهه بنظام ري. ويظهر تشريح جثث الحيوانات التي كانت تقدم قرابين للآلهة وجود شبكة معقدة من القنوات التي تربط بين الأعضاء الخارجية والأعضاء المركزية، ولا سيما القلب والعقل، وهي شبكة مليئة بالهواء أو الدماء حسب الحالة. وفي ذلك العصر كان المفهوم السائد هو أن الأوردة تنقل الدم إلى القلب ولكن الشرايين تمتلئ بالهواء مثل المجاري الهوائية (في الواقع كانت الشرايين الملحوظة في جثث الحيوانات فارغة؛ وذلك لأن الدم خرج بسرعة من جسمها بعد الذبح). ولا تزال المصطلحات التشريحية تحتفظ ببقايا هذه الحيرة الأولية عبر كلمات مثل «القصبة الهوائية». ومن أجل تفسير الجريان المزدوج للدم لجأ بعض الأطباء القدماء مثل إمبيدوكليس إلى استعارة الساعة المائية التي كانت شائعة في هذا العصر التي كان من الممكن أن يتوقف معدل سيرها إذا أغلق الثقب العلوي. فكان يتعين انتظار القرن السابع عشر لكي يقترح هارفي الاستعارة الأدق وهي استعارة المضخة لتوضيح جريان الدم.
ومنذ عصر أبقراط، تم التعرف على شبكة الأعصاب التي تربط المخ بالأعضاء الحركية، وشبهت بجهاز قنوات دقيقة للغاية تجري بداخلها «النفحة» وهي سائل مشتق من الهواء ولكن لا يشبهه مباشرة. وتنتج الحركة العضلية عن وصول هذه النفحة إلى العضل. إلا أن مفهوم النفحة غير الدقيق والمثير للحيرة سيمتد وسيعدل على يد أفلاطون وأرسطو وسيستمر استخدامه للإشارة إلى دور الأعصاب، وذلك حتى عصر النهضة. (2-2) الإنسان آلة ذاتية الحركة
كان المفهوم الذي ذكره ديكارت في القرن السابع عشر في كتابه «ماهية الإنسان» قريبا جدا من المفاهيم المائية والهوائية القديمة؛ حيث يقود جهاز غريب من القنوات والصمامات الروح الحيوانية - أي النفحة - حتى تصل إلى العضلات التي تنتفخ كالبالون، وذلك عبر حرارة نارية داخلية دون أي ضوء داخل الجسم. وابتعد الفيلسوف الفرنسي قليلا عن الأطباء اليونانيين؛ فاقترح اعتبار الآلية الإنسانية جهازا آليا لا يحتاج إلى أي قوة خارجية ليعمل. أما الروح التي اهتم ديكارت بفصلها عن الجسم فهي لا تلعب بصفة خاصة أي دور مباشر في عمل هذه الآلة (انظر الفصل التاسع عشر). ثم حلت الساعة الحديثة بصورة نهائية محل الساعة المائية القديمة وأصبح جسمنا إذن آلة تشبه مباشرة العجائب التي يستطيع إنتاجها صانعو الساعات الأوائل.
سعى ميكانيكيو عصر النهضة منذ بداية القرن الثامن عشر إلى إعادة إنتاج الآلة الإنسانية في شكل جهاز يستطيع أي شخص أن يلاحظه ويفهمه، مستلهمين في ذلك من هذه الرؤية الآلية للإنسان المصنوع من أسطوانات وصمامات ومحركات. فهكذا بعد أن تناول جاك دي فوكونسن موضوع التنفس مع آلته العازفة للفلوت، وموضوع الهضم مع بطته، جرب الكاوتشوك المستورد حديثا من أمريكا الجنوبية لتصميم «آلات متحركة» وفسر عبر هذا المثال جريان السوائل في الجسم.
رفض العديد من الكتاب، ومن بينهم الطبيب لاميتري، ازدواجية ديكارت غير المجدية واقترحوا نهجا أكثر مادية. ففي المقابل كان كتاب لاميتري «الإنسان-الآلة» يبرز خاصة ما يميز الأنسجة الإنسانية ويبرز أيضا لامركزية عمل الجسم وخصائص أخرى لا تتفق والاستعارات الآلية المستخدمة في ذلك الوقت، مع الحرص على تشبيه التعقيد البيولوجي بآلات القرن الثامن عشر. إلا أن هذا الكتاب سيحرق وسيجبر لاميتري على النفي، ومع ذلك فهو بلا شك أحد الذين أثبتوا التشابه الكبير بين الإنسان والحيوان من جهة، ومن جهة أخرى التعقيد الغريب للآليات البيولوجية التي يصعب تفسيرها في ظل معارف هذا المهندس في القرن الثامن عشر. (2-3) الإنسان جهاز كهربائي
على الرغم من رواج استعارة النفحة في النقل العصبي على مدار آلاف السنين فإنها يجب أن تتخلى عن مكانها بسبب ظهور تقنيات جديدة. فيوضح بوفون على سبيل المثال أن العمل الحركي يستخدم أثرا قريبا من الانفجار، وهو ما يشبه ما يحدث في الأسلحة النارية. وتظهر تجارب جالفاني وفولتا أن العضلات تتقلص بالتلامس مع تيار كهربائي، وتقترح هذه التجارب أيضا أن ثمة مجالا واعدا لتفسير الآثار العصبية، ألا وهو مجال الكهرباء. وفي القرن التالي عندما أيد كل من هلمهولتس وإميل دوبوا ريمون الفرضية القائلة إن الآثار العصبية هي ظواهر كهربية، أصبحت الاستعارة المائية والهوائية بالية. وفي عشرينيات القرن الماضي أثبت اللورد إدجار دوجلاس أدريان وجود «حركات كامنة» ورموز تتردد للنقل بين الخلايا العصبية؛ فأصبحت الكهرباء، وليست النفحة، هي الآلية الأساسية للحياة.
وعلى غرار كل تقنية جديدة، امتدت الاستعارة إلى حدودها القصوى. ففي عصر النموذج المائي كانت كل الأمراض تشخص على أنها مشاكل في جريان السوائل أو توزيعها؛ فكان الطبيب بمنزلة سباك. وفي عصر الكهرباء كان الطبيب يعالج المرضى عن طريق تيارات طبيعية أو اصطناعية؛ فكان بمنزلة الكهربائي. ولكن مع تطور التقنيات لا يتوقف التاريخ عند هذا الحد. (2-4) الإنسان كمبيوتر رقمي
في منتصف القرن العشرين أعلن اختراع الكمبيوتر عن ثورة آلية ثالثة. فبعد بضعة أعوام في كامبريدج أدخل اكتشاف واتسون وكريك لبنية الحمض النووي مفهوم البرنامج الشامل «المشفر» وفقا لترتيب الجزيئات . ويحتوي هذا البرنامج على المعلومات التي تسمح ببناء الجسم في مجمله. وتسود هذه الاستعارة المعلوماتية حاليا معظم علم الأحياء الجزيئي ودراسة تكوين الأجنة. ومع فك رموز الجينوم يعتقد البعض أنه يمكننا التنبؤ ليس فقط بالتطور التشريحي لشخص ما ولكن تطور نفسيته أيضا.
ولقد حول الكمبيوتر أيضا طريقة فهمنا لعمل العقل البشري (انظر الفصل الثالث). وازدهرت نماذج جديدة تدخل فيها معطيات وتخرج معطيات أخرى وتظهر فيها علب سوداء متداخلة. وغالبا ما توصف الذاكرة بقاعدة بيانات واسعة، وتقارن العديد من الأبحاث بين قدرات العقل على التخزين وقدرات نظيره الاصطناعي. وتستمر الاستعارة في نجاح لدرجة أننا نعتقد في النهاية أن الأمرين شيء واحد.
وهكذا على مر القرون رأى الإنسان نفسه على التوالي آلة مائية هوائية ثم ذاتية الحركة ثم كهربائية واليوم آلة رقمية. ويعطي كل اختراع جديد رؤية جديدة عن الكائن الحي دون أن تكون رؤية مرضية بصورة كاملة. فيبقى دائما «شيء» يبدو أنه من الصعب اختزاله في آلية، ويرى الكثيرون أن هذا «الشيء» الذي لا نراه إلا بالتفرقة هو ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات.
الفصل الرابع عشر
الحقوق
(1) هل للحيوانات حقوق؟
إن الحقوق بالمعنى الفلسفي أو القانوني للكلمة هي من وضع الجنس البشري. فالبشر هم من يضعون داخل مجتمعاتهم قيودا تسمى «المعايير» أو «القوانين» التي تجبر البعض من بني جنسهم على القيام ببعض الأشياء أو الامتناع عن البعض الآخر. وعندما تتعلق هذه الالتزامات أو الواجبات بأناس آخرين فهي تعطيهم في المقابل حقوقا. فإذا كان يتوجب علي ألا أسرق جاري، فذلك يعطيه الحق في العيش دون أن يتعرض للسرقة. وإذا كان يتوجب على الدولة إتاحة الفرصة للمواطنين للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات فذلك يمنح المواطنين الحق في التصويت. وإذا توجب علي إطعام قريب معاق فذلك يعطيه الحق في أن أطعمه. فإذا كانت الحقوق إذن من وضع البشر مما يفيد في تسيير المجتمعات الإنسانية فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل تنطبق هذه الحقوق على البشر وحدهم؟ (1-1) هل الحقوق للبشر فقط؟
عندما يتعلق الأمر بالحيوانات، يحتدم النقاش، فيرى معارضو «حقوق الحيوان» أن الحقوق التي وضعها البشر لا يمكن ولا ينبغي تطبيقها إلا على البشر أنفسهم، وهم يقرون بالطبع أن بعض البشر يعجزون فعليا عن المطالبة بحقوقهم، مثل المصابين بالغيبوبة والمعاقين ذهنيا أو الأطفال الصغار. ولكن يرى هؤلاء الأشخاص الذين يؤيدون حصر الحقوق على البشر فقط أن هؤلاء العاجزين يجب أن يتمتعوا بحقوقهم لمجرد كونهم بشرا ولانتمائهم للجنس البشري.
إلا أن ذلك الموقف خاطئ؛ فالآن ثمة كيانات مجردة ليست بشرا وتتمتع بحقوق ونسميها «الأشخاص المعنوية». وسيسمح المثال الطريف التالي بتوضيح قصدنا: يعتبر ميناء بيريه اليوناني «شخصا معنويا»؛ أي كيانا مجردا «يمتلك» (أو تحديدا تعطيه الجماعة الإنسانية) حقوقا، وبالطبع لن يؤكد أي من القراء أن ميناء بيريه إنسان!
لن يستطيع الشخص المعنوي أن يستمتع بحقوقه، فيمثله بالتأكيد شخص طبيعي (إنسان) يستطيع أن يقوم بذلك. وينطبق الأمر ذاته على البشر العاجزين عن الدفاع عن حقوقهم (مثل المصابين بالغيبوبة والمعاقين ذهنيا أو الأطفال الصغار ... إلخ)، فيمثلهم شخص بالغ أو عدد من الأشخاص الأصحاء القادرين على الاستمتاع بحقوقهم. وفيما يتعلق بمناصري «حقوق الحيوان»، يتعين أن يكون الأمر مشابها للحيوانات، فقد يدافع عن مصالحها وحقوقها وسيط إنساني. (1-2) الإعلان العالمي لحقوق الحيوان
إذا أقررنا المبدأ الذي يمكن من خلاله للجنس البشري أن يمنح حقوقا لكيانات غير بشرية فلن يتعارض شيء مع تعريف «حقوق الحيوان». فقد اقترحت بعض جمعيات الدفاع عن الحيوانات «إعلانا عالميا لحقوق الحيوان» في عام 1978 وتمت مراجعة نصه وتنقيحه في عام 1989. ويهدف هذا الإعلان إلى تحديد الخطوط العريضة «لحقوق الحيوان» مع الأخذ في الاعتبار أن الحيوانات تنتمي لفصائل مختلفة جدا وأن الحقوق الممنوحة لها يجب بالطبع أن تراعي هذه الاختلافات. فلا يمكننا أن نعامل كلبا أو نحلة أو عنكبوتا أو شمبانزي بالطريقة نفسها. ويقصر الإعلان العالمي أيضا الحقوق على العلاقات مع البشر؛ فلا يمكن للإنسان أن يتدخل في التوازنات الطبيعية من أجل تفضيل نمر بدلا من فريسته أو العكس. وينشد الإعلان العالمي لحقوق الحيوان التوصل إلى أن يجد كل حيوان طريقة حياة ملائمة مع احتياجات جنسه.
وإذا فكرنا مليا فسنجد أن الإعلان العالمي لحقوق الحيوان ليس مذهلا ولا ثوريا بالدرجة التي قد يبدو عليها. ففي قوانين غالبية دول العالم توجد بالفعل أحكام تهدف إلى حماية الحيوانات أو بعض الحيوانات من المعاملة الوحشية أو القاسية التي قد تتعرض لها بلا سبب في أثناء التربية أو النقل أو الذبح، وتوجد أحكام تسعى (في حالة الحيوانات الأليفة) إلى توفير حياة هادئة لهذه المخلوقات. وكما يثبت العلم من جهة أخرى أن الحيوانات كائنات حساسة، فإن الإعلان العالمي لحقوق الحيوان يعمم هذه الحقوق المبعثرة في القوانين القائمة وينظم العمل بها. فهذا الإعلان بالأساس عبارة عن جهد لموائمة القوانين القائمة رغبة في إضفاء التماسك العام على المستوى الفلسفي والقانوني.
وعندما نمنح حقوقا لميناء بيريه فنحن لا نجعل منه إنسانا! وكذلك عندما نمنح الحيوانات حقوقا فنحن لا نجعل منها بشرا. فيتعين التركيز على أن «حقوق الحيوان» لا تشبه على الإطلاق «حقوق الإنسان»، لكن في غالبية الحالات لا يوجد بالطبع تعارض بينهما. ولكن قد يظهر هذا التعارض في حالات خاصة؛ فعندما يتعرض الإنسان لهجوم من حيوان مفترس كالنمر أو من إحدى الطفيليات مثل الدودة، فإننا نعطي الأولوية في هذه الحالات القصوى إلى حقوق الإنسان وفقا لفكرة أن كل جنس يدافع أولا عن حقوقه، وسيكون ذلك في إطار حقوق الحيوان معادلا للدفاع الشرعي في إطار حقوق الإنسان. وبعبارة أخرى عندما تتعرض الحقوق الأساسية للجنس البشري (الحق في الحياة وفي الصحة) للتهديد، نعطي الأولوية لحقوق الإنسان، وهو ما يحدث خاصة في التجارب البيولوجية والطبية على الحيوانات الحية، حيث نفضل الدفاع عن استفادة الإنسان وصحته على حساب حقوق حيوانات التجارب. ولكن بالطبع لا يقبل انتهاك حقوق الحيوان إلا إذا كانت حقوق الإنسان الأساسية مهددة. (2) هل للآلات حقوق؟
هل يمكن أن تصبح الآلة في يوم ما صاحبة حقوق؟ هل ستتمكن من الاستفادة من قواعد للحماية تشبه القواعد التي ذكرناها عن الحيوانات؟ يجدر تناول هذين السؤالين بصورة منفصلة. (2-1) اليوم تعد الآلات نوعا من الممتلكات
في ظل القوانين الحالية تعتبر الآلات من الممتلكات؛ ومن ثم لا يوجد أي تمييز لها. فربما تكون لها ديناميكية خاصة ولكن لا يؤخذ بعين الاعتبار قدرتها على القيام بحركات؛ فالمسئول عن أفعال أي آلة أو الأضرار الناتجة عنها هو إما مصممها أو مستخدمها. وقد توجد عيوب في الصناعة أو سوء استخدام ولكن لا تتحمل الآلة في حد ذاتها أي مسئولية.
إلا أن الآلات المتعلمة أو الفضولية التي ذكرناها آنفا (انظر الفصلين الثاني والخامس) قد تضفي بعض الغموض على المسئوليات التي يتم تحملها في حالة وقوع أضرار. فإذا كان سلوك أي آلة ينتج قبل كل شيء عن تاريخ تفاعلاتها مع بيئة أو أشخاص ما، وإذا كانت لا تتعرض بسلبية إلى هذه البيئة بل تمتلك نوعا من الاستقلالية في اختيار ما تدركه وتفعله؛ فمن يكون إذن مسئولا في حالة وقوع مشكلة؟ هل الصانع الذي لم يستطع وضع أطر لسلوكيات الآلة من أجل تجنب أي احتمالية (انظر الفصل التاسع) أم المستخدم الذي ترك الآلة معرضة لبيئة فيزيائية أو اجتماعية محددة؟ (2-2) ما دامت الآلات لن تستطيع تعويض ضحاياها، ولن يمكن معاقبتها، فسيتم تحديد مسئول للقيام بذلك بدلا منها
هل من الصواب أن نستبق هذه الأسئلة قبل أن تطرح بصورة ملموسة في مجتمعنا؟ فيلبي القانون، قبل كل شيء، حاجة اجتماعية وهو يتكيف مع المواقف الملموسة عندما تفرض نفسها.
وبصورة واقعية، ربما لن يركز النقاش على استقلالية القرار لدى الآلات ولكن على قدرتها الفعلية على تعويض الأضرار الناجمة عنها. وما دامت الآلة لن تمتلك سبل التعويض بنفسها ولن يمكن معاقبتها، فمن الضروري تحميل مسئولية أفعالها لشخص آخر؛ لذا يظل الآباء مسئولين عن أطفالهم القصر. (2-3) هل يوجد حق للآلات؟
يحمي القانون الآلات بصورة غير مباشرة بصفتها نوعا من الممتلكات، فالقاعدة العامة هي أنه لا يمكنكم تحطيم آلة أو إلحاق الأذى بها أو تحويلها دون تحمل النتائج المترتبة على الأضرار التي لحقت بصانعها أو مالكها. فخلافا للحيوانات، تكون كل الآلات تحت مسئولية شخص ما.
هل يمكننا تخيل آلات «حرة» أو «مستقلة» نحمي حقوقها؟ لا يبدو ذلك مؤكدا. وهل يمكننا تخيل أنه يتعين حماية بعض الآلات من المعاملة السيئة الناجمة بصورة مباشرة عن الإنسان الذي يتحمل مسئوليتها؟ يصعب قول ذلك. فنعود هنا إلى مواضيع ناقشناها حول معاناة الآلات (انظر الفصل السادس)، وأيضا حول قدرتها الكامنة على التطور (انظر الفصل الخامس). هل ندين يوما من يمنعون الآلات من النمو باسم حق محدد للآلات في بلوغ الحد الأقصى من قدراتها الكامنة؟ عندما يصبح ذلك هو الحال فربما ستكون رؤيتنا عن أنفسنا قد تغيرت جذريا.
الفصل الخامس عشر
صفة الشخص
(1) هل تعتبر الحيوانات أشخاصا؟
تعد كلمة «شخص» غامضة بالطبع. وإذا كانت غالبية القواميس تستخدم لفظ «شخص» للإشارة إلى الشخص من البشر فقط، فنحن نجد امتدادين للكلمة: الشخص الإلهي أو الذات الإلهية والشخص المعنوي (أي مجموعة من المصالح؛ «ميناء بيريه شخص معنوي»). وبالإضافة إلى ذلك فإن مسألة وجود «شخص حيواني» هي الآن محل العديد من النقاشات. (1-1) الشخص الحيواني
في الكتاب
1
الذي يدافع فيه عالم الأحياء إيف كريستين عن هذه المسألة، يقترح تعريفا أوسع «للشخص»، وقد يشمل هذا التعريف المملكة الحيوانية. وإذا طبقنا هذا التعريف في المثال التالي على فهد، فقد ينطبق على أي حيوان يمتلك شكلا من أشكال الاستقلالية:
2 «فهو فرد لأنه يختلف عن البقية، وهو شخص لأنه، بصفته فردا، يندرج في شبكة من العلاقات بين الأفراد.» ولنلاحظ، وهي مفهوم قريب جدا من مفهوم «الشخص الحيواني» من الناحية، بهذه المناسبة أن هذه الشبكة من العلاقات بين الأشخاص قد سمحت أيضا لمفكر ملحد بتعريف «الروح الحيوانية» (انظر الفصل التاسع عشر)، الفلسفية، وهذا التعريف للشخص على أنه فرد لا مثيل له يفترض أن كل فرد يمتلك خصائص محددة يمكن التعرف عليها؛ أي إنه يمتلك «هوية» فردية. ويذكرنا كريستين
3
قائلا: «هل تتسبب الحيوانات في تدهور [...] هويتها؟ [...] فإن العديد من الأعمال المتعلقة بصورة خاصة بالطيور، ولا سيما البطريق، تفترض بقوة وجود أصوات خاصة تشبه توقيع الأفراد.» ولقد استطعنا إثبات أن كل حيوان يمكنه التعرف بصورة فردية على كل أبناء جنسه، وذلك بصفة عامة لدى الحيوانات الاجتماعية، بدءا من الدلافين وحتى الدجاج. (1-2) الجانب القانوني
لكن مفهوم «الشخص» له عواقب قانونية؛ فالقانون بالطبع من وضع الجنس البشري، ولكنه يهدف إلى التأمل في مجموعة العلاقات بين الجنس البشري والعالم المحيط به. فهو يهدف إذن إلى وضع تعريف وإطار للأشياء أو للكائنات الحساسة أو للأشخاص؛ لأن هؤلاء هم «موضوع القانون» ويمتلكون امتيازات محددة: هوية ومنزلا وحقوقا عديدة. وإن لم يكن هناك أدنى شك في أن الحيوانات كائنات حساسة ومختلفة عن الأشياء الجامدة
4
وإذا كان تطور القانون يسلك هذا الاتجاه (انظر الفصل الرابع عشر) فهل يمكننا أن ننسب إلى بعض الحيوانات مفهوم «الشخص» بمعناه القانوني؟ لا تزال المسألة محل نقاش، ولكن بالإضافة إلى الشخص الإنساني والشخص المعنوي حاول بعض فقهاء القانون أن يحددوا ما قد يعنيه هذا الشخص الحيواني في القانون.
وهكذا اعتقد نقيب المحامين الفرنسي ألبرت برونوا
5
أنه من الممكن أن ننسب إلى الحيوانات نوعا من الشخصية القانونية، وأقر أن مثل هذا الإجراء سيفرض بلا شك عددا من المشكلات. وهو يشير ضمنيا هنا إلى الحيوانات الأكثر تطورا، ولا سيما الحيوانات المنزلية. ولكنه لا ينوي جديا أن يمد هذه الصفة الشخصية إلى كل الحيوانات، من الشمبانزي إلى الإسفنج! ويرى أنه في حالة الحيوانات الأكثر تطورا يمكن تحديد أطر قانونية محددة لهذه الشخصية القانونية: الحالة المدنية والمنزل وتدابير الحماية ... ومن ثم فقد تختلف هذه الشخصية بوضوح عن الشخصيات الطبيعية (البشر) والمعنوية (مجموعة المصالح) حتى لو تقاسمت مع الشخصيات المعنوية والشخصيات الطبيعية المعاقة عجزها عن التعبير عن أنفسها. فمن الضروري إذن أن يمثلها ويدافع عن حقوقها وسيط إنساني كمحام أو ممثل لجمعية للدفاع عن الحيوانات: «للجنين والقاصر والمختل عقليا ممثلون شرعيون، فينبغي إذن أن يكون هناك ممثل عن الحيوان.»
6
وفي السياق ذاته توضح المحامية كارولين دايجوبرس
7
من مدينة بوردو أنه يتعين أن يكون الحيوان «موضوعا لقانون من نوع خاص» ولقد رأينا أن «موضوع القانون» يقودنا بالضرورة إلى مسألة الشخص. ولا يتفق كل فقهاء القانون على هذا الموقف؛ فتظل قضية الحدود القانونية المحتملة «للشخصية الحيوانية» محل العديد من النقاشات.
ولكن توضح الفقيهة القانونية ماري-أنجيل إرميت:
8 «منذ الوقت الذي امتلكت فيه الجمعيات القدرة على تمثيل الحيوانات في القضاء [...] صار الحيوان موضوعا للقانون.» وأضافت قائلة: «نعيش فترة وسطية يعد فيها الحيوان موضوعا للقانون وتحت طائلة القانون، وهو ما يعد محيرا للفقيه القانوني؛ لأنه لا يمكن بطبيعة الحال أن نجمع بين الصفتين.»
9 (2) هل تعتبر الآلات أشخاصا؟ (2-1) قانونيا الآلة ليست شخصا
من وجهة نظر القانون (انظر الفصل الرابع عشر) يعد الموقف واضحا نسبيا في هذا الشأن. فاليوم تعتبر الآلات نوعا من الممتلكات، لا أشخاصا، ولن يمكن بأي حال من الأحوال تحميلها المسئولية القانونية عن أفعالها. ومن وجهة النظر القانونية فإن مسألة استقلاليتها المحتملة في اتخاذ القرارات ليست صائبة في الواقع؛ نظرا لأنها لا تمتلك سبل تعويض ضحاياها المحتملين. فلا مصلحة قانونية إذن من اعتبارها أشخاصا. وخلافا للحيوانات لا يبدو من الضروري حمايتها بشيء أكثر من الأحكام المنصوص عليها بالفعل لحماية الممتلكات المادية والتراث الصناعي. وبالإضافة إلى ذلك فلا توجد جمعيات لحماية مصلحة الآلات، وليس من المحتمل أن ترى مثل هذه الجمعيات النور في السنوات القادمة. وحتى إشعار آخر يستطيع من يمتلك آلة أن يستخدمها كما يحلو له دون أن يكترث «بمعاناتها» المحتملة أو بالطريقة التي قد يعوق بها قدراتها على النمو. وبصفة عامة يبدو أنه من غير المجدي استباق هذه المشكلات قبل ظهور مواقف ملموسة. (2-2) عمليا، نحن نعتبر الآلة كشخص
شتان بين الإنسان والجماد على الصعيد النفسي! ففي حياتنا اليومية قد يصل بنا الأمر في أغلب الأحيان إلى معاملة الآلات كأشخاص يمتلكون صفات بل دوافع خاصة. ألا نقول لأنفسنا إن سيارتنا «ترفض» أن تدور، أو إن جهاز الكمبيوتر «منهك»؟ قد لا يبدو ذلك إلا مقولة معتادة؛ لأننا لا نعتقد في الواقع أن للآلات إرادة أو مشاعر خاصة. ومع ذلك أبرزت العديد من الدراسات، ولا سيما أعمال ريفز وناس، أهمية هذا الوضع النفسي في تفاعلاتنا الشائعة مع الآلات، وأكدت ضرورة أخذ ذلك في الاعتبار عندما نصمم واجهات استخدام جديدة.
10
ونظرا لأننا نربط بسهولة بين الآلة والشخصية أو النوايا فقد نشعر بسهولة بالإهانة أو الغضب خلال التفاعلات التي لا تحدث على النحو المتوقع. ويوضح ريفز وناس أنه من الضروري تصميم آلات، وخاصة واجهات كمبيوتر، تحترم القواعد الأساسية للأدب والمسافات بين الأشخاص وكل السلوكيات الضمنية الأخرى التي تحكم التفاعلات بين البشر. (2-3) قد تمتلك كل آلة هوية خاصة
في حالة غالبية الآلات العادية، تعد الفردية في التصرفات قبل كل شيء نتيجة لتفسير زائد من الكمبيوتر. فتوجد اليوم بعض الآلات المستقلة والمتعلمة (انظر الفصلين الثاني والخامس) التي يمكننا أن نعتبرها ذات هوية خاصة. وبما أن سلوك هذه الآلات يتحدد وفقا لتاريخها الشخصي فقط فيجوز قانونا أن ننسب إليها الوضع النفسي «لشخصية آلية» بقدر تطور فردية ملحوظة لدى كل منها. ومثال ذلك الروبوتات الشخصية الأكثر تطورا، وكذا الأنظمة التي تتعلم استباق أذواقكم في اختيار تشغيل أي موسيقى وفقا للسياق.
11
وتختلف كل آلة حسب مسارها الحياتي ونوع تفاعلاتها مع مستخدميها. وإذا ظلت كل هذه الآلات نوعا من الممتلكات من الناحية القانونية، فهي تشبه الأشخاص بصورة متزايدة على الصعيد النفسي.
الفصل السادس عشر
المزج
(1) هل سنرى في المستقبل كائنات تمزج بين البشر والحيوانات؟
من الناحية الخيالية يعتبر المزج بين البشر والحيوانات أمرا شائعا بصورة كبيرة مثل حوريات البحر (التي هي مزيج بين نساء وأسماك) أو القنطور (الذي هو مزيج بين رجل وحصان)، أو حتى صور الآلهة التي تجمع بين الصفات الإنسانية والحيوانية مثل الإله الإغريقي بان الذي كان نصفه إنسانا والنصف الآخر تيسا، وكذا إضفاء الطابع الإنساني على الحيوانات (انظر الفصلين الثاني عشر والثالث عشر). ولكن يختلف الأمر كليا من الناحية الواقعية.
يعد المزج بين الجنس البشري والأصناف الحيوانية عبر التكاثر الجنسي، أي التهجين، مستحيلا في ظل معارفنا الحالية؛ وذلك لأسباب بيولوجية. فلا وجود إذن لفروع من البشر والشمبانزي على غرار الكائنات المهجنة بين الحمار والحصان أو بين النمر والأسد، وذلك لحسن حظنا بالطبع . وعندما نعرف الطريقة التي يعامل بها البشر الحيوان أو حتى الطريقة التي يعامل بها بعض البشر نظراءهم من «العبيد» أو من «دون البشر» فيمكننا أن نتخيل المصير البائس الذي سيلقاه مثل هؤلاء المهجنين من البشر والحيوانات إذا كان لهم وجود!
ومن الناحية العلمية، ثمة احتمالات أخرى لهذا النوع من المزج وبصفة خاصة ما نسميه «الكمير» و«زراعة الأعضاء». (1-1) الكمير وزراعة الأعضاء
يكمن الكمير في زراعة أنسجة من جنس آخر داخل جنين في الوقت الذي لم تتكون فيه بعد آليات الرفض المناعي، وهو عبارة عن زراعة عضو في سن مبكرة للغاية مما يسمح للأنسجة المزروعة بالنمو داخل الجسم. وهكذا نحصل في مرحلة البلوغ على نوع من «فسيفساء» الأنسجة التي ينتمي بعضها إلى الحيوان الأصلي والبعض الآخر إلى الأنسجة المزروعة. وهكذا استطاعت عالمة الأحياء الفرنسية نيكول لودواران
1
الحصول على كمير «من السمان والدجاج» بإضافة خلايا من السمان في أجنة دجاج. وجرت محاولات أخرى بما فيها محاولات بين الطيور والثدييات. وفي المقابل يبدو أنه لم تجر حتى الآن أي محاولة باستخدام الأجنة البشرية مما قد يفرض مشاكل عرقية جسيمة. ولكن يجب ألا نستبعد أن يستخدم بعض العلماء المنحرفين هذه التقنية من أجل هذا الغرض.
أما زراعة الأعضاء فتكمن، من الناحية التي تخصنا، في إدخال «عضو حيواني» في جسم إنساني في وقت تكون فيه آليات الرفض المناعية مشكلة بالفعل. ومن أجل أن يبقى العضو المزروع في الجسم المستقبل يجب أن يحصل الجسم بصفة عامة على جزيئات «مضادة للرفض» تقلل من دفاعه المناعي. وفي هذه الحالة، وعلى عكس ما يدور في الكمير، لا ينمو العضو المزروع ويكتفي «بالإقامة» في الجسم المستقبل للحصول على الآثار النفسية المشابهة لتلك التي تنتج داخل الجسم الأصلي. فهو يمثل إذن «عضوا بديلا» يفترض أن يكون مفيدا من الناحية العلاجية لتعويض نقص ما أو غياب عضو لدى الجسم المستقبل. (1-2) نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان
يوجد كما نعلم العديد من عمليات نقل الأعضاء بين البشر (نقل الكلى والقلب والوجه واليد والقرنية ... إلخ، ويعتبر نقل الدم أيضا نقلا لعضو سائل وهو الدم). أما نقل الأعضاء الحيوانية فيعتبر أكثر ندرة ومحلا للعديد من الأبحاث التي لم يستخدمها الإنسان حتى الآن؛ لذا يسعى العلماء إلى استحداث عمليات نقل أعضاء من خنازير إلى قرود، ويأملون في التوصل إلى تطبيق ذلك على الإنسان على المدى البعيد. وخلافا لنقل الأعضاء بين أبناء الجنس الواحد، يطلق على نقل الأعضاء بين الحيوان والإنسان (أو وفقا للنموذج التجريبي هنا، بين الخنازير والقرود) نقل الأعضاء بين الكائنات الحية الذي قد يكون فيه الإنسان هو المستقبل.
يسبب نقل الأعضاء الحيوانية إلى الإنسان مشاكل كبيرة. فعلى المستوى الصحي: يزداد خطر انتقال الأمراض بين الحيوان والإنسان، لا سيما حين يتعلق الأمر بالفصائل الأكثر قربا منا مثل القرود؛ لذا تستهدف الأبحاث حول الأعضاء المزروعة الخنازير كحيوانات أصلية تؤخذ منها الأعضاء بدلا من القرود. إلا أن خطر الرفض كبير أيضا بل أكبر مما قد يكون عليه بين اثنين من البشر، لدرجة أن العلماء حاولوا دون جدوى جعل أنسجة الحيوان الأصلي أكثر تلاؤما مع الأنسجة البشرية. وتمثل أيضا عمليات نقل الأعضاء بين الكائنات الحية مشكلات أخلاقية، وذلك ما حللته بدقة الفيلسوفة فلورنس بورجا؛
2
فقد لاحظت أن الاعتبارات الأخلاقية تتعلق دائما بخطر تحول الجسم البشري إلى شبيه للحيوان بصورة كبيرة، كما لو كان ثمة خطر من المزج بصورة مبالغة بين الجسم البشري، الكائن السامي، والجسم الحيواني الذي يعتبر «نموذجا للانحطاط»،
3
وذلك في نوع من الازدواجية على طريقة ديكارت (انظر الفصل التاسع عشر). وفي المقابل، قلما تذكر على هذا الصعيد الأخلاقي معاناة الحيوان الأصلي الذي انتقاه الإنسان لكي يستفيد منه ويمده بأعضاء منفصلة كأنه جثة إنسان لا يشعر بشيء في عمليات نقل الأعضاء بين البشر. فيتم التغاضي بصورة كاملة عن المسألة الأخلاقية المتعلقة «بحقوق الحيوان» (انظر الفصل الخامس). وأخيرا، تتسبب عمليات نقل الأعضاء بين الكائنات الحية في مشاكل اقتصادية جسيمة؛ نظرا لتكلفتها الاقتصادية الباهظة وتخصيصها للأبحاث والطب للأغنياء على حساب طب أقل تطورا ولكن أكثر إنسانية؛ لأنه يهدف إلى الارتقاء بالمستوى العام لصحة
4
أكبر عدد من البشر.
ومن أجل كل تلك الأسباب لا نؤمن على الإطلاق بمستقبل نقل الأعضاء بين الكائنات الحية؛ لأن الفوائد «المنشودة من هذا النوع مشكوك بها في العديد من الأمور»
5
كما قالت فلورنس بورجا. ولا يمكننا أن نعتبر غالبية عمليات نقل الأعضاء بين البشر إلا محاولات مؤقتة أو ترقيعا مفيدا بالطبع بما أنه يطيل من حياة الإنسان، ولكنه ذو بعد علاجي محدود للغاية. وسوف يحل محلها بلا شك طب مستقبلي يعتمد على أشياء مصطنعة وتقنية بحتة أو على آلات أكثر من اعتماده على أعضاء منقولة من جثث بشرية.
ولكي نعود في النهاية إلى مسألة المزج بين الإنسان والحيوان، فنرى أنه ينبغي العدول عن مثل هذا المزج في المستقبل بشتى السبل الممكنة، وذلك لأسباب علمية واقتصادية وأخلاقية في آن واحد! (2) هل سنصبح كلنا «سايبورج» في المستقبل؟ (2-1) تطور الإنسان المقوم على حساب الإنسان المطور يثير النقاش
إن جهاز تنظيم ضربات القلب والشرايين والأوراك الاصطناعية وسماعات الأذن المزروعة ومضخات الأنسولين وحتى التركيبات السيراميكية للأسنان؛ هي كلها بدائل تقنية تسمح بالعيش بصورة أفضل ولفترة أطول. وتتجه الأبحاث حاليا نحو واجهات جديدة تسمح بالربط المباشر بالألياف العصبية. فعلى سبيل المثال يمكن لشخص قطع ذراعاه أن يستخدم بدائل روبوتية يتحكم فيها بصورة مباشرة - السيال العصبي - حتى يتمكن من استعادة بعض القدرات على استخدام الأشياء. ويعود حاليا بعض مرضى داء باركينسون إلى الحياة بفضل جهاز اصطناعي لتنشيط الخلايا العصبية لمادة الدوبامين. وهي كلها تقنيات جراحية؛ لأنها تتطلب عملية جراحية تختلف أهميتها حسب الحالة. فيتعين إذن أن تكون هذه الآلات المزروعة مباشرة داخل جسم الإنسان موثوقا بها وعمرها طويل إلى درجة كبيرة.
في عام 1960 اقترح كل من مانفريد كلاينس وناتان كلين استخدام مصطلح «سايبورج» (كائنات نصف آلية) للإشارة إلى حيوان أو إنسان «محسن» يستطيع أن ينجو في ظل بعض الظروف الفضائية بفضل مجموعة قوية من الأجهزة التقنية. ففي الفضاء يتعين على الإنسان أن يتحد بأكبر صورة ممكنة مع الأدوات التي صنعها في سبيل النجاة. وفكرة الاتحاد بين الإنسان والآلة ليست جديدة، وقد استكشفها من قبل بعض الأدباء مثل إدجار آلان بو
6
أو جون دي لاهير.
7
ولكن صار اسم «سايبورج» هو الأكثر شيوعا للإشارة إلى أي مخلوق ناتج عن تهجين مواد بيولوجية وتقنية، سواء أكان إنسانا «مطورا» عبر التكنولوجيا أم عبر زراعة خلايا عصبية موضوعة في طبق بتري وموصلة بكمبيوتر. وأصبح السايبورج حاليا إحدى أيقونات خيالنا العلمي شأنه في ذلك شأن الروبوت.
ويعتبر الانتقال من الإنسان «المقوم» إلى الإنسان «المطور» محل العديد من النقاشات. فإن أوسكار بيستوريس الرياضي الجنوب أفريقي الذي بترت ساقاه يجري حاليا بسرعات تسمح له بالمشاركة في الألعاب الأوليمبية العادية، وذلك بفضل البدائل المركبة في جسمه. وكذا كيفين وارويك الباحث البريطاني الذي زرع العديد من الشرائح الإلكترونية في ذراعه بهدف التحكم في بعض الأجهزة عن بعد. وتجري الآن دراسة العديد من مشاريع الجنود «المطورين»؛ فيحلم البعض بتوسيع مدى إدراكهم للأشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية والأشعة السينية والموجات فوق الصوتية، وأن يزودوا بحس جديد للتوازن، أو أن يكون بينهم ترابط عن بعد بزرع بدائل ليست ذات غاية طبية بالتأكيد. (2-2) كلنا سايبورج
ماذا عن هذه التطورات؟ بالرغم من التأثير الذي قد ينعكس على الخيال من جراء البدائل الجراحية الموصلة بالجهاز العصبي بصورة مباشرة، فمن غير المرجح أن يتجاوز استخدامها المجال الطبي. ففي الواقع يصعب تخيل كيف يمكن لهذه البدائل المزروعة أن تغني عن عمليات جراحية معقدة يجب إجراؤها في المستشفيات. ونظرا للسرعة التي تتطور بها التكنولوجيا (انظر الفصل الأول) والتي يعفي بها الزمن الأنظمة التقنية والمعايير، فلا يبدو أن زرع جهاز بصورة دائمة تحت الجلد فكرة جيدة. فمن يستطيع اليوم أن يستمتع بوجود جهاز إلكتروني تحت جلده منذ عام 1980؟ وإذا استطاعت التكنولوجيا في المستقبل تعويض عدد أكبر من الإعاقات، فإنه من غير المرجح أن يتم استخدامها بصورة شائعة من أجل الراحة والفراغ والتسلية.
وثمة سبب آخر يدفعنا إلى التشكيك في نجاح هذه البدائل على المدى المتوسط وهو، أنها لا تضيف قيمة كبيرة مقارنة بالتقنيات غير الجراحية؛ لأننا جميعا «سايبورج»
8
على أي حال. فنحن نولد ونكبر ونعيش ونموت محاطين ببيئة تقنية.
لقد ولد معظمنا في مستشفى وندين بحياتنا لهذه البيئة الاصطناعية. ولقد حظينا بالرعاية، وتم تطعيمنا بفضل المهارات والخبرات التي تم تناقلها عبر الأجيال. ولقد تعلمنا التحدث ثم الكتابة وفقا لمجموعة من التقنيات اللغوية القديمة دائمة التطور؛ مما سمح لنا بالتفاعل مع العالم والتمثيل والنقل. وتعلمنا أيضا التحكم في أنفسنا بصورة مباشرة وتعديل مزاجنا أو إرادتنا عبر مواد استطعنا زراعتها أو استخراجها مثل الكافيين أو النبيذ أو المخدرات الأخرى المضرة لجسمنا. وقد يموت بعضنا بصحبة التكنولوجيا والبعض الآخر يفضل أن يكون بمعزل عنها. فمنذ اللحظة الأولى في حياتنا وحتى الرمق الأخير منها نعيش في اتحاد مع التقنيات التي ابتكرناها، فهي حقا تحدد هويتنا وتحولنا. (2-3) الجلد ليس هو الحدود القصوى لجسمنا
عندما نتفاعل مع أجهزة تقنية يمتد جسمنا وتتغير هيئته. فالعصا والمطرقة والقلم والشوكة وآلة التقشير والمضرب والسيف كلها أدوات تطيل يدنا حتى نجدها بالتعود مدمجة في أجسامنا بصورة كاملة. فنقوم تلقائيا بالانحناء قليلا أثناء السير إذا كنا نرتدي قبعة أو نغير من طريقة سيرنا إذا كنا نرتدي خفا ناعما أو حذاء ذا كعب عال.
فنحن نشبه السيارة التي نقودها، حيث نحتاج إلى عدة ساعات للتعرف على هذه الآلة والتعود على طريقة استخدامها. ففي البداية تكون جسما غريبا ومعاديا ومقاوما، ولكن بمجرد نجاح هذا التعلم تصبح السيارة بمنزلة هيكل عظمي ثان أو جلد ثان، فلقد اندمجنا مع حجم هيكلها وسرعة كبحها وتسارعها. وفي وقت ما تصبح القيادة أمرا طبيعيا مثل السير؛ أي نشاطا غير واع.
9
يعتبر إذن غلافنا الجسدي قابلا للامتداد ومتغيرا؛ فنمدده عبر المطرقة التي نمسك بها في أثناء دق مسمار، وبعد انتهاء العملية تعود الأداة لتصبح شيئا خارجيا في متناول اليد لكنه بعيد عنها. ولا يكون شكل جسدنا في ذلك الوقت نموذجا له بل هو مساحة هندسية متغيرة. ففي كل حين، نقوم نحن بدور السرعة القصوى أو طرف العصا أو حد السيف أو أيقونة الفأرة. فهكذا نتفاعل ونشعر ونقيس.
إن عملية الإدماج التي لا تزال غير مفهومة جيدا وغير مدروسة باستفاضة، تعد عملية أساسية، فالحياة عبارة عن تحولات مستمرة. (2-4) ذاكرتنا ليست في رأسنا
توجد ذاكرتنا في الخارج، فهي موزعة في البيئة المحيطة بنا ومحفوظة على جدران الكهوف ومدونة على الألواح وعلى جلود الحيوانات وفي كتب مطبوعة أو رقمية: ذاكرة لا تكون أبدا مباشرة بل مهيكلة ومتاحة عبر أجهزة تقنية، فذكرياتنا وما نعتقد أنه يذكرنا ليست إلا إدخالا للتمثيلات الخارجية. فنحن نتذكر قصيدة أو رقما أو قائمة أو خطة، وأحيانا نستغرق وقتا لتذكر معلومة ونظل نتلعثم في اسم مدينة كان «على طرف اللسان». وينبغي علينا أن نحرك أصابعنا لكي نتذكر الرقم السري لبوابة ما. ويكون أحيانا أكثر سرعة وفاعلية أن نتذكر معلومة بفضل أجندة رقمية أو محرك بحث قادر في بضع ثواني على تصفح قواعد بيانات هائلة.
يحاول مرضى ألزهايمر تعويض فقدان الذاكرة عبر بيئات مهيكلة جيدا يقوم فيها كل شيء بدور جهاز مساعد للذاكرة؛ لذا يعتبر أي هدم أو تحويل لهذه البيئة التي شيدوها بمنزلة بتر جزء منهم شخصيا. ونحن جميعنا مصابون إلى حد ما بمرض ألزهايمر: بما أن جزءا منا يقع خارجنا في الأشياء المحيطة بنا؛ لذا قد يسبب الانتقال من مسكن إلى آخر الاضطراب في بعض الأحيان، فيتعين علينا في هذه الحالة تعديل سلوكيات روتينية وأوضاع معتادة وطرق يمكننا سلكها مغمضي الأعين، وبناء كل هذه الأمور في مكان آخر؛ فتغيير بيئتنا يقلب أمورنا.
ومع تزايد بدائلنا الإدراكية، يقل استخدامنا لقدرتنا على حفظ المعلومات والمهارات، فالآلة الحاسبة تغني عن الحساب العقلي، وكذا نظام تحديد المواقع الذي يغنينا عن القدرة على تحديد الاتجاهات، بالإضافة إلى الموسوعات الرقمية التي تغنينا عن الاستذكار. فتتحرر أجزاء من فكرنا لاستكشاف مجالات أخرى من التفكير.
فنحن إذن سايبورج، نستعين بصورة متزايدة بالبدائل الخارجية للتحرك والتفكير والابتكار ولتحديد هويتنا. ووفقا لمقولة ميرلو-بوتي: «يوجد جسمنا في المكان الذي تقع فيه الحركة»؛ فهو يتغير ويتمدد ويصغر ويتحول باستمرار. ومع الوقت يحدد تاريخ تفاعلاتنا المطورة عبر البدائل هويتنا، وهي قصة تعد في حد ذاتها بناء تقنيا. ولا شيء يدعو إلى الاعتقاد أن هذه العملية قد تتباطأ.
الفصل السابع عشر
الاستبدال
(1) هل يمكن أن تحل الحيوانات محل الإنسان؟
في رواية شهيرة بعنوان «الكلاب غدا»،
1
يتخيل كاتب الخيال العلمي الأمريكي كليفورد دونالد سيماك عالما مستقبليا بلا بشر؛ حيث انقرض البشر تاركين إدارة كوكب الأرض إلى تلاميذهم «الكلاب». يقودنا هذا الافتراض الجريء إلى أن نطرح بصورة أكثر واقعية مسألة مكانة الإنسانية ومصيرها على كوكبنا. فالإنسان المنحدر من الحيوان هل سيستبدل به الحيوان في نهاية المطاف؟ هل يمكن لتطور الكائنات الحية، الذي يوجد الإنسان بسببه، أن يستكمل رحلته دون البشر؟ وفي ضوء السلوك الانتحاري الذي ينتهجه الإنسان بتلويثه للكوكب ولأجسام نظرائه بلا حدود وبمساهمته في تغيير المناخ وباستنفاده للاحتياطي الطبيعي دون أن يعبأ بالمستقبل وبالزج بنفسه في حروب وعمليات إبادة جماعية تزداد دمويتها بسبب زيادة قدراته التقنية، فإن مسألة استمرار الحياة دون الإنسان، إذا أجبرنا على التسبب بأنفسنا في انقراضنا، تفرض نفسها بكل حدة. (1-1) هل يمكن أن تتطور الحياة دون الإنسان؟
يعتبر تطور الحياة عملية شديدة البطء ولكنها حتمية. ووفقا لآليات الاصطفاء الداروينية أو ربما آليات أخرى (انظر الفصل الأول)، فإن أي مجموعة من الكائنات الحية التي تمتلك الأصل ذاته ولكن تعيش منفصلة، ينتهي بها الأمر إلى «الاختلاف» والانقسام إلى مجموعتين أو فصيلتين مختلفتين. ومن جهة أخرى، توجد حيوانات أكثر مقاومة من الإنسان للإشعاعات والمواد الملوثة أو أي عوامل أخرى من شأنها أن تؤدي إلى انقراض الإنسان. وقد تتطور هذه الحيوانات وتحل بطريقة ما محل الإنسان على الأرض، وقد حدثت مثل تلك الظواهر في الماضي عندما دمرت بعض «الكوارث الطبيعية» الأجناس التي كانت تسود الأرض في عصر محدد. وأبرز مثال على ذلك هو ديناصورات الحقبة الوسطى التي لم تستطع مقاومة بعض التغيرات المناخية العنيفة الناتجة عن سقوط نيزك أو عن حمم بركانية ضخمة (لم تحسم بعد مسألة السبب الرئيسي في انقراضها). على أي حال، حجبت هذه الكوارث أشعة الشمس عن مناخ الأرض وأدت في النهاية إلى القضاء على الحيوانات الأكثر ضخامة مثل الديناصورات، وخلفتها حيوانات أخرى كانت في الأصل أصغر حجما وأقل عرضة للخطر مثل الطيور وهي «ديناصورات حقيقية متحولة» وكذا الثدييات. وهكذا سوف تزدهر الحياة حتما على الأرض دون الجنس البشري ولكن بطريقة مختلفة عن الماضي يستحيل بالطبع التنبؤ بها.
لكن هل يمكن أن نتخيل أيضا حياة ذكية وحضارة تقنية مماثلة لحضارتنا دون الإنسان؟ توجد بالفعل حيوانات ذكية (انظر الفصل الرابع) وتمتلك بعض الحيوانات قدرات تقنية تساعدها على استخدام «أدوات» بدائية (انظر الفصل الثامن). فيمكننا إذن أن نتخيل التطور نحو أجناس أكثر ذكاء تمتلك قدرات تقنية أكثر تطورا مما تمتلكه الأجناس الحالية غير الإنسان. ويفترض مثل هذا التطور نحو تحكم أفضل في البيئة إمكانية التأثير في العالم، ومن ثم وجود أعضاء للإمساك، أي: «أيد»، أو ما يعادلها، ولكننا نعلم أن الطبيعة تمتلئ بالفعل بمثل هذه الأعضاء. فيستطيع العديد من الحيوانات الإمساك: القرود والطيور والفئران والفيلة بخراطيمها ... إلخ، وغالبيتها حيوانات تمتلك بالفعل نوعا من الذكاء. وعلى سبيل الخيال العلمي، فليس من الغريب أن نتخيل حضارة لفئران متطورة تصبح أكبر حجما وذكاء لتخلف حضارتنا وهي حضارة «القردة البشرية العارية» والتي سوف تنقرض كالديناصورات ولكن لأسباب أخرى! (1-2) هل يمكن أن توجد حياة في مكان آخر من الكون؟
بالإضافة إلى ذلك، يعتقد العديد من العلماء في الوقت الحالي أن الحياة ليست بالضرورة ظاهرة استثنائية تقتصر على الأرض. فإن العثور على جزيئات «عضوية» (تلك التي تتكون منها أجسام الكائنات الحية) في مكان آخر غير كوكبنا، في المذنبات على سبيل المثال، ووجود مليارات النجوم من جهة أخرى، يسمحان بافتراض أن بعض الكواكب ذات الظروف الفيزيائية الشبيهة بالظروف الموجودة على الأرض قد تسمح بظهور أجسام حية معقدة وتطورها في ملايين الأماكن الأخرى من الكون، ولكنها ستكون مختلفة للغاية عن الحيوانات والنباتات التي نعرفها على الأرض. وعلى الأرض نفسها فإن ملاحظة ما نسميه «بالتنوع البيولوجي» للكائنات الحية توضح أنه قد ظهرت كائنات مختلفة كالقرد والنحلة والمحار وأشجار الدلب والبكتيريا، وذلك في ظروف بيئية متناسقة للغاية كظروف كوكبنا، وهو ما يشير إلى ما قد يكون عليه التنوع البيولوجي على الصعيد الكوني في ظروف بيئية شديدة الاختلاف! وتخيل بعض المؤلفين أيضا أن المراحل الأولى للحياة الأرضية ربما دارت في مكان آخر غير الأرض ثم جلبتها إلينا بعض المذنبات أو النيازك التي سقطت على الأرض في بدايات تكوينها. ولكن تظل كل هذه الافتراضات بالطبع محل تأمل، إلا أنها تعزز فكرة أن التطور البيولوجي قد يكون ظاهرة عامة في الكون وأنه لا يوجد سبب يجعله يتوقف على الأرض في غياب الإنسان.
ليس للكلاب أيد مما يجعل من الصعب ظهور «حضارة كلاب» ذات تعقيد ما. ففي الأسطورة التي تقصها رواية «الكلاب غدا» لكليفورد سيماك، يتخيل المؤلف أن روبوتات صنعها الإنسان هي التي ستكون بمنزلة أيد اصطناعية للكلاب، وسوف تسمح لها في النهاية أن تحل محل البشر في إدارة الأرض.
وهو ما يدفعنا إلى التفكير في إمكانية أخرى للتطور الإنساني: يستطيع فيها الإنسان بفضل تقنيته أن «يتخطى» التطور البيولوجي أو التطور الدارويني. وهو ما يقودنا إلى التفكير في أن الإنسان بفضل مهاراته التقنية سيطور العالم المحيط به ويطور نفسه بصورة أسرع مما يقوم به التطور الطبيعي (شديد البطء) للأنواع. ويمكننا أن نلاحظ أن جميعنا بالفعل مختلفون عما كنا سنصير عليه خلال اصطفاء طبيعي في الغابة التي كان أغلبنا سيلقى حتفه فيها. فقد منحتنا مهاراتنا التقنية، لا سيما المهارات الطبية والجراحية، هيئة جسدية (وحتى جمالية) مختلفة تماما، ومنحتنا أيضا قدرة أطول على البقاء من تلك التي قد يمتلكها إنسان يعيش في الغابة بعيدا عن مكاسب التكنولوجيا.
وهو ما يقودنا أيضا إلى السؤال التالي: (2) هل يمكن أن تحل الآلات محل الإنسان؟
هل نتجه نحو عالم من الآلات لا مكان فيه للإنسان؟ لا يعتبر هذا السؤال غريبا عندما نلاحظ السرعة الهائلة التي يتميز بها تعقيد بيئتنا التقنية وتضاعف التفاعلات بين الآلات، وكذا التطورات الأخيرة المتجهة نحو آلات أكثر «استقلالية» (انظر الفصل الأول). وبلا شك يحيط بنا اليوم نظام تقني عالمي يقوم الإنسان بصناعته وصيانته وتعديله، ولكن يعد جزء كبير من عمله اليوم آليا. ولكي نفهم هذه العملية التطورية، فمن المهم أن نذكر أمثلة توضح هذه الاتجاهات التقنية بالرغم من قدمها.
في حوالي عام 1750 ابتكر جاك دي فوكونسن آلة نسج آلية بصورة كاملة. وكانت الآلة تجمع العديد من التقنيات الرئيسة في عصره: مجموعة من الكامات والسقاطة والساعد والمسننات، بالإضافة إلى العديد من الابتكارات الهائلة كالبطاقات المثقوبة التي يمكن نقلها لتحميل «برامج» رسوم. ولكي تعمل هذه الآلة لم تكن تحتاج إلا إلى ذراع تدوير ولا يقوم الناسج إلا بإنتاج الطاقة الميكانيكية. وعلق دي فوكونسن عليها قائلا: «إنها آلة إذا استخدمها حصان أو ثور أو حمار يصنع بها أقمشة أكثر جمالا ودقة من أمهر حرفيي الحرير.»
2
وتعتبر آلة النسج التي صممها دي فوكونسن ابتكارا هائلا في العديد من الأمور إلا أنها لم تلق النجاح الصناعي؛ فلم يتقبل المجتمع استقلاليتها الكبيرة، فاندلعت مظاهرات عديدة ألقى خلالها عمال النسيج الغاضبون الحجارة على دي فوكونسن؛ لأن اختراعه يتسبب في الواقع في تغييرات جمة في تنظيم مهنة النسج، ويحل محل الآلات القائمة بصورة كاملة، ويقلب المهارات اللازمة لأداء العمل رأسا على عقب. فبسبب التعمق في النزعة الآلية، اختزل دي فوكونسن الناسج في مجرد مصدر للطاقة.
وبعد خمسين عاما، لقي جاكار نجاحا تجاريا بسبب آلة أكثر سلاسة في الاستعمال، ويمكن توفيقها بسهولة مع المهن القائمة. وبالمقارنة مع آلة دي فوكونسن، تعد آلة جاكار أكثر تعقيدا وأعلى تكلفة، ولكن تخصص للإنسان مكانا أكبر في إدارة عملية النسج، فيظل هو القائد.
يوضح هذا المثال القوى المختلفة التي تحكم التطور التقني. فثمة اتجاه نحو التكامل الذي يمكننا أن نسميه عملية التحويل الآلي: فكل سلالة تقنية تميل إلى التكامل والاستقلالية، في شكل نظام مغلق لم يعد يحتاج إلى الإنسان في عمله. وفي مثال آلة النسج التي ابتكرها دي فوكونسن، تمت ميكنة عمل الناسج في شكل آلة مستقلة بصورة شبه كاملة إلا فيما يتعلق بالطاقة. ومن الأمثلة الأخيرة التي تبرز هذه الديناميكية نجد التطورات المحرزة التي تتجه نحو آلات قادرة على التعلم (انظر الفصل الثاني) واختيار ما تتعلمه (انظر الفصل الخامس).
وفي حين أن الأنظمة التقنية تميل إلى الاستقلالية والتكامل، يعتمد قبولها الاجتماعي وانتشارها بقوة على نوع واجهة التحكم التي توفرها للإنسان وعلاقات الترابط بينها وبين الأجهزة التقنية القائمة بالفعل، وهو ما يمكننا أن نسميه الاتجاه نحو الاتحاد: فمن أجل أن تنتشر أي سلالة تقنية يتعين عليها أن تضاعف الواجهات مع المحيط التقني والإنساني الذي تنمو بداخله.
وهكذا فإن وجود السلالات التقنية القديمة التي يجب التكيف معها يبطئ من بزوغ سلالات تقنية مبتكرة، وكذلك فإن عوامل القبول الإنسانية المحافظة التي تتسم عامة بالتطور البطيء تخالف الديناميكية التقنية وتعيد توجيهها بصورة مستمرة. وبطريقة ما لا تعتبر عملية الاتحاد إلا عملية تكامل على نطاق أوسع وهو نطاق البيئة التقنية والإنسانية الذي ستظهر فيه السلالة.
وفي حين أن المحيط التقني يتطور باستمرار، لا يتغير الإنسان (إلى حد ما). فيقود إذن الاتجاه نحو الاتحاد إلى ابتكار آلات تقترب أكثر فأكثر من الإنسان وهي عملية تعادل الاتجاه نحو الاستقلالية. ويكشف تطور واجهات الكمبيوتر الشخصي عن هذا الأمر؛ فالكمبيوتر كما ظهر في منتصف القرن العشرين يمكن اعتباره النتيجة النهائية لسلالة تقنية طويلة تضم آلة باسكال الحاسبة وآلات النسج الآلية وآلة باباج؛ فتمثل كل مرحلة خطوة إضافية نحو تصميم آلة أكثر استقلالية. ومع استكمال التطور نحو الاستقلالية في النصف الثاني من القرن ذاته، سيسبب تطور الواجهات تحولا في التحكم في هذه الآلة الجديدة من نوعها مما يجعلها أكثر قربا من الإنسان.
ومن أجل التفاعل مع أجهزة الكمبيوتر الأولى كان يتعين أن يجيد المرء الإلكترونيات، وقد سمح ظهور لغات البرمجة الأولى (لغة الآلة وفورتران والجول وكوبول وسيمولا ... إلخ) منذ الخمسينيات باستخدام المهارة النحوية والرمزية للتفاعل مع الآلة. وفي الثمانينيات سمحت إضافة الواجهة الرسومية وأدوات جديدة للتفاعل مثل الفأرة واستعارات جديدة مثل المكتب، بالتطور نحو تفاعل يتخلى عن المجال الرمزي للاعتماد على مهارة في الاستخدام والذاكرة البصرية والحركة. ومنذ حوالي عشرة أعوام، استكملت واجهات حركية جديدة هذا الاتجاه نحو واجهات أكثر قربا من الإنسان.
3
وتسعى التكنولوجيا الحديثة إلى إيجاد التوازن بين الاستقلالية والاتحاد. فتعد طائرات الركاب الحديثة أنظمة مستقلة بصورة أساسية ولكن يظل الطيارون يتحكمون فيها بصورة فعالة؛ فتختلف حدود الاستقلالية والتحكم حسب الحالة. ففي طائرة «بوينج 747-400» يستطيع الطيار تجاوز الحدود التي تفرضها الطائرة، ولكن لا يستطيع ذلك في طائرة إيرباص. وفي الحالتين يتحكم الطيار في نظام مستقل إلى حد كبير.
وهكذا يوضح لنا تطور التقنيات أن اتجاه الآلات نحو الاتحاد على مدار التاريخ يعادل الاتجاه نحو الاستقلالية؛ لذا لا تعد الآلات مستعدة لأن تحل محل البشر، بل إنها ستنمي معهم بالأحرى واجهات أكثر حميمية.
الجزء الثالث
القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
الفصل الثامن عشر
الضحك
(1) هل تستطيع الحيوانات أن تضحك؟
عادة ما نسمع المقولة الشائعة: «الضحك ميزة خاصة بالإنسان وحده»، ولكنها ليست صحيحة؛ فبعض الحيوانات تستطيع أن تضحك. وكما لاحظ داروين من قبل، يعود أصل الضحك إلى سلوكيات أسلافنا الحيوانات، شأنه في ذلك شأن العديد من التعبيرات الأخرى لسلوكياتنا، فالضحك إذن ليس ميزة حكرا على الإنسان وحده. (1-1) الضحك لدى الفئران
لدى الإنسان، يظهر الضحك لدى الطفل الصغير قبل نضوج الوظائف الإدراكية التي تجعله يدرك ما هي الفكاهة. فتعكس هذه الضحكة المجردة نوعا من الارتياح العاطفي. وبالطريقة ذاتها لدى الكثير من الثدييات، تصاحب سلوك اللعب أصوات تعكس نوعا من الارتياح العاطفي. وكذا لدى الفأر الصغير في أثناء اللعب، فقد حدد فريق جاك بانكسب في الولايات المتحدة (2003) فترات إصدار أصوات بتردد 50 كيلوهرتز، تبدو كإشارات «مزاح» وتعجب أبناء الفصيلة: وتعد الفئران التي «تضحك» مفضلة بصورة أكبر للمشاركة في اللعب. وقد تكون الآليات العقلية المشتركة في إنتاج هذه الأصوات مماثلة لتلك التي تفترض السرور لدى البشر. ويرى هذا الفريق أن «الفئران الضاحكة» قد تثبت السوابق التطورية للسعادة الإنسانية. (1-2) الضحك لدى القرود
حلل فريق يان فان هوف في هولندا التعبيرات الوجهية لدى نظراء الإنسان وهي القرود ، وحتى لدى أبعد نظراء الإنسان والقرود وهي بعض الثدييات الآكلة للحشرات! إن التعبيرات الوجهية هي عبارة عن مجموعة من الإشارات المرئية التي تهدف وفقا لأسباب تطورية إلى نقل معلومات إلى أبناء الفصيلة، وتتعلق هذه المعلومات هنا بالحالة العاطفية السعيدة أو الممتعة للحيوان الذي يعبر عن ذلك. وأظهر تحليل التعبيرات الوجهية لدى القرود أن الضحك والابتسام مشتقان من تطورين مختلفين تماما للتعبيرات الوجهية لديها؛ فقد يكون الابتسام مرتبطا بتعبيرات عن الخوف أو الخضوع، ولن يصبح «ابتساما» (سعيدا) إلا لاحقا مع التطور الذي قاد إلى وجود الجنس البشري. ويختلف الضحك عن ذلك؛ فهو تعبير عن السعادة واللعب منذ البداية ويرتبط بإصدارات صوتية مميزة.
ويشتبه أيضا في وجود إصدارات صوتية مرتبطة بالسعادة لدى الكلب. ولا تسمح معارفنا الضئيلة في الوقت الحالي في هذا المجال بإعطائنا رؤية عامة عما هو الضحك لدى مجموعات أخرى من الثدييات، وحتى الطيور. وفي ختام هذا العرض المحدود بالضرورة نظرا لعدم وجود نتائج علمية كافية، نود ذكر طرفة وردت على لسان دومينيك لستيل بشأن وجود ضحك تواصلي لدى حيوانات تربطها علاقة بالإنسان. وتجدر الإشارة إلى أن الضحك المذكور هنا قد يكون تقليدا لضحك الإنسان وليس فيه أي ابتكار كالضحك المذكور فيما سبق الذي ينتج تلقائيا لدى بعض الفصائل الحيوانية دون تدخل من الإنسان. إلا أنه كانت تجدر الإشارة إلى هذه الطرفة، حيث يذكر لستيل
1
عملا لمور الذي عرض ما حدث مع فقمته المروضة: «عندما تضحك الفقمة يقلدها الجميع بما في ذلك ببغاء مور الذي يوجد في الحجرة المجاورة. وربما تكون تلك هي المرة الأولى التي تضحك فيها ثلاثة أجناس معا!» (2) هل تستطيع الآلات أن تضحك؟ (2-1) النزعة الآلية مضحكة والإنسان الآلي مثير للسخرية
منذ عهد برجسون، نعرف الروابط الوثيقة التي تجمع بين الضحك والآلات. فالإنسان يثير الضحك عندما يتصرف بصورة جامدة وآلية، على سبيل المثال عندما يكرر دائما الخطأ ذاته دون النجاح في تصليحه، أو عندما يفسر كلمة بمعناها الحرفي وليس وفقا لسياقها. وكذا برامج التلفاز التي تظهر الحوادث التي قد يتعرض لها أناس يسقطون أو ينزلقون أو ينخدعون، وتلقى هذه البرامج نجاحا عالميا.
وعلى العكس من ذلك، تعد الآلات والحيوانات مثيرة للسخرية، لا سيما إذا حاولت تقليد تصرفات الإنسان. فلا تعتبر أي فاكهة مثيرة للسخرية إلا إذا أبدت تشابها مع وجه أو وضع إنساني. وقد يكون الروبوت أكثر إثارة للسخرية من السيارة، فكلما زاد الاقتراب من الإنسان أصبح الشيء أكثر إثارة للسخرية. فيمكننا إذن أن نقول بطريقة ما إن الروبوت الناجح مضحك. ومن وجهة نظر مصممه فإن ضحك الحضور يعني أن الروبوت قد لمس بصورة خاصة شيئا من جوهر الإنسان. (2-2) هل نضحك مع آلة ضاحكة؟
هل سنستطيع فهم آليات الضحك بصورة كافية لتصميم آلة ضاحكة؟ ما علاقة ذلك بالمفاجأة أو الخطأ أو عدم اللياقة أو الفضول، وكلها صفات بدأت الآلات في الاقتراب منها (انظر الفصل الخامس)؟ لطالما كان الضحك يعتبر ميزة خاصة بالإنسان، ولكن في عصر تغلب فيه أجهزة الكمبيوتر أبطال العالم في الشطرنج وتقترب فيه الروبوتات الاجتماعية من العواطف الإنسانية، يبدو الضحك هدفا جيدا للباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي.
2
تطرح إمكانية تصميم روبوت ضاحك أسئلة جديدة: هل نضحك على هذه الآلة الضاحكة؟ هل نضحك على هذه النزعات الآلية أو في المقابل على مصداقية سلوكياتها؟ ربما تبلغ تكنولوجيا الضحك درجات مرتفعة من التعقيد حتى إننا لن نضحك في يوم ما على آلة ولكننا سنضحك معها. وقد ينتهي النقاش الطويل حول المنافسة بين الإنسان والآلة بضحك طويل ومشترك، وهي فكرة تدعو إلى الابتسام.
الفصل التاسع عشر
الروح
(1) هل تمتلك الحيوانات روحا؟
يتوقف ذلك على ما نقصده ب «الروح».
توجد في الواقع العديد من المفاهيم للروح، ويمكن جمعها بصورة إجمالية في نوعين كبيرين؛ النوع الأول: تكون فيه الروح إحدى الخصائص العامة لحياة الكائنات الحية وجسدها، والنوع الثاني: لا تنتمي فيه الروح للجسد ويمكنها أن تنفصل عنه.
وينبغي أن ننسب المفهوم الأول للفيلسوف الشهير والعالم اليوناني أرسطو الذي يرى أن الروح هي مبدأ الكائن الحي في حد ذاته. وتعد كلمة «روح» بالفرنسية
âme
مشتقة من الكلمة اللاتينية
anima
التي اشتقت عنها أيضا كلمة
animal
أي حيوان. ووفقا لهذا المفهوم لا يمكن الفصل بين الحياة والروح التي تعد تعبيرا عنها. وثمة ترتيب طبقي للأرواح وفقا لمستوى مختلف الكائنات الحية: إجمالا توجد روح غذائية (للنباتات) وروح حسية (للحيوانات) وروح إدراكية (للبشر)، وتضم كل طبقة سوابقها. ويرى أرسطو إذن أن الروح والجسد حقيقة واحدة. ولكن يمكننا أيضا وفقا للمفهوم الثاني قصر الروح على الروح الإدراكية ومدها على كيان مجرد مختلف تماما عن الجسد، من شأنه أن يبقى بعد موت الجسد. وهذه هي الفكرة التي تعبر عنها بطرق مختلفة كل الأديان التي تعد بمستقبل للروح بعد الموت. (1-1) الروح والأديان
يختلف هذا المستقبل وفقا للأديان. فتؤمن ديانات عدة ب «تناسخ الأرواح» أي عودة الروح إلى الدنيا بعد وفاتها في جسد آخر. وقد يكون هذا الجسد عامة جسد حيوان، وذلك ما تؤمن به ديانات المشرق مثل الهندوسية أو البوذية مع مراعاة اختلافاتهما. وكان ذلك أيضا رأي العديد من فلاسفة اليونان مثل فيثاغورس وأفلاطون. وفي المقابل، يكون مصير الروح بعد الموت في الديانات السماوية مختلفا عن إعادة التجسد. فوفقا لهذه الديانات التي تؤمن بوجود «جنة» بعد الموت، تطرح مسألة روح الحيوانات ومستقبلها نفسها بصورة مشروعة على عكس المفهوم الأرسطي وفكرة «تناسخ الأرواح» اللذين لا تطرح فيهما هذه المسألة.
تدفعنا العقيدة المسيحية بصورتها التقليدية السائدة حاليا في الغرب إلى الاطلاع على أعمال ديكارت في هذا الشأن. فيرى ديكارت أنه إذا كان جسد الإنسان والحيوان نوعا من «الآلات» (انظر الفصل السادس)، فإن البشر وحدهم، الذين خلقهم الله على صورته، يمتلكون روحا أبدية وقادرة على البقاء بعد موت الجسد. وتسمى هذه الحقيقة المزدوجة للإنسان، كجسد وكروح، «الازدواجية الديكارتية» وتظل إحدى الأفكار الأكثر انتشارا في الحضارة الغربية. فنحن نرى دائما أن الحيوانات لا تمتلك روحا بل تمتلك فقط جسدا يختفي بعد الموت ولا يبقى بعده شيء، وذلك خلافا للإنسان.
إلا أن العديد من المفكرين المسيحيين يحتجون على هذا الموقف الجامد. ففي حركة القديس فرانسيس الأسيزي الذي يعتبر أن احترام الحيوان من واجبات المسيحي، يشير مفكرون مثل هيلين وجون باستر
1
إلى أي مدى تشترك الحيوانات في جمال الخليقة ووحدتها حتى لا يمكن فصلها عن الإنسان بصورة واضحة، كما يقول ديكارت. ويرى العديد من المفكرين أن الفكر المسيحي لا يستبعد إطلاقا الترتيب الطبقي للأرواح على طريقة أرسطو، وهو ترتيب يميز بالطبع الروح الإنسانية دون أن يحرم الحيوانات من نوع من الروح بما أن الخلاص يشمل الخليقة بأكملها. ويذهب بعض المفكرين الميتافيزيقيين المسيحيين إلى الاعتقاد أن الحيوانات تشترك في شكل من أشكال السمو الذي تخصصه المسيحية للإنسان وحده، وذلك دون التطرق مباشرة إلى مسألة الروح. وفي هذا الصدد، يقول ميشيل داميان:
2 «إذا لم يكن الحيوان يعرف الله فهو يعرف الإنسان، وما هو الإنسان في الإنجيل إلا صورة الله!» ويقول كذلك:
3 «يجهل الحيوان الصلاة إلى الله كما نعلم ونلاحظ، ولكنه لا يجهل الصلاة إلى الإنسان فهو يناديه ويتوسل إليه ويستجديه كلما استطاع ذلك.» وباستثناء التمييز بين الروح الحيوانية والروح الإنسانية، لا تتفق مختلف التيارات المسيحية مع موقف ديكارت التقليدي فيما يتعلق بعدم وجود روح لدى الحيوانات. (1-2) الروح والإلحاد
ظهر مؤخرا رأي جديد أعرب عنه عالم الأحياء فيليب لازار
4
الذي كان أحد مؤسسي «اللجنة الوطنية للأخلاقيات»، ويهدف في الواقع إلى اقتراح تعريف للروح يقبله أي ملحد مادي. فيتساءل لازار: هل يمكن أن يكتسب مفهوم الروح معنى في نظر شخص «مادي غير تائب»؟ هل يمكن للملحدين واللاأدريين أن يتبنوا من جديد بإدراكهم كلمة تنتمي إلى الخيال؟
5
يقترح لازار إطلاق اسم «روح» على شبكة العلاقات التي تتراكم «داخلي وحولي طيلة وجودي في الحياة»،
6
أي الحروف التي أكتبها والذكريات العديدة التي أخلفها ورائي لأصدقائي أو أقاربي، «الذاكرة الشفهية أو المكتوبة، الآثار المادية لوجودي ...»
7
والتي تبقى بطريقة ما بعد موت جسدي، على غرار تأثير حجر ما على السطح الأملس لمستنقع مما يحدث موجة تنتقل وتخلد ذكرى التأثير الأصلي لفترة.
لا يمكن أن يكون هذا البقاء غير محدود؛ فيسبب موت الجسد بالضرورة انقطاعا جوهريا في شبكة المعلومات التي تبقى بعده . وعلى غرار الموجة في المستنقع، تكون نهاية الروح بالمعنى الذي حدده لازار هي الاختفاء، فتختلف بذلك عن الروح المقصودة في الأديان، وتقترب من المفهوم الأرسطي في ارتباطها الوثيق بالجسد البيولوجي مع الاحتفاظ بنوع من الاستقلالية تجاهه. وإذا كان الملحد يقبل هذه الفكرة فهي لا تتعارض مع ذلك مع مفهوم أكثر تدينا ومماثل للمفاهيم المذكورة فيما سبق. ولكن سيقدم المؤمنون بالأديان افتراضات ميتافيزيقية إضافية فيما يتعلق ببقاء الروح وهو ما يفوق ما يستطيع الملحد أن يقبله.
في الوقت ذاته، يعطي هذا المفهوم عن الروح أهمية كبيرة لمفهوم الروح الحيوانية الذي نناقشه في هذا المقام، ولا يستبعد في الواقع الحيوانات الأكثر تطورا التي قد تدخل في شبكة المعلومات حتى لو كانت «الأرواح الحيوانية لا تمتلك على الإطلاق فترة بقاء طويلة مثل الروح الإنسانية» وفقا لاعتراف لازار.
8
وبالإضافة إلى ذلك، لا تحدث الحيوانات التعديلات ذاتها في شبكة العلاقات بين الكائنات، وذلك وفقا لدرجة تعقيدها؛ ومن ثم فإن روح قطة ليست من طبقة روح دودة أرض، وهو ما يتفق بطريقة ما مع رؤية أرسطو. ويرى لازار أن الأشياء نفسها، وهي مجردة بالطبع من الوعي، إذا كانت عاجزة عن امتلاك روح وتعديل شبكة العلاقات، فهي تستطيع مع ذلك استقبال روح «يعكسها» الإنسان فتدخل هكذا فيما تخلفه العلاقات الإنسانية من آثار، مثل «البحيرة» الشهيرة المذكورة في قصيدة الشاعر لامارتين. وتظهر هذه الفرضية الفلسفية المهمة إلى أي مدى يعد مفهوم الروح غنيا، وإلى أي مدى يمكن للمفهوم الأكثر ضيقا عن «الروح الحيوانية» أن يقبل تعريفات متباينة. (2) هل تمتلك الآلات روحا؟
لا، لا تمتلك الآلات روحا وفقا لتعريفها. قد تكون تلك إجابة أولية بسيطة وحاسمة. ففي الازدواجية الديكارتية شبه الهزلية، توجد الآلية التي تفسر غالبية عمل الإنسان، وكذا «العامل الدخيل» الذي يمثل هذا الفارق الذي يميز الإنسان والذي لا تستطيع الآلة إدراكه. ويرى الكثيرون أن العامل الدخيل هو تحديدا الروح التي تعرف فقط بعدم انتمائها للآلية (انظر الفصلين الثاني عشر والثالث عشر).
ولكننا ذكرنا أيضا أن مفهوم الروح قد يختلف وفقا للعادات. فعلى سبيل المثال يرى أفلاطون أن الروح غير مادية ومتنقلة وقادرة على الإقامة في أجساد مختلفة على التوالي. في المقابل يرى أرسطو أن الروح قبل كل شيء مبدأ حياتي مسئول عن حركة الكائنات الحية؛ فهي لا تتنقل من جسد إلى آخر خلافا لما يقوله أفلاطون. وكما سنرى لاحقا، نجد مفاهيم مماثلة في التطورات الأخيرة لعلم تصميم الروبوتات والذكاء الاصطناعي. (2-1) لدى بعض الآلات برامج غير ملموسة ومتنقلة وجسد مادي مستقر
نجد أمثلة واضحة على فكرة وجود روح فاعلة «تسكن» جسدا خامدا، وذلك في العديد من الآلات المبرمجة القديمة والحديثة. وتتسم العديد من الآلات التي صممت في القرن الثامن عشر بنوع من الفصل بين مجموعة ميكانيكية وعملية تشغيل قابلة للبرمجة. فكانت الآلة العازفة للفلوت التي ابتكرها جاك دي فوكونسن على سبيل المثال تستطيع إنتاج اثنتي عشرة نغمة مختلفة. وبإتقان الآلية ذاتها، كانت آلة الكاتب التي صنعها بيير وهنري-لوي جاكيه درو تمتلك أربعين كامة تتحكم في حركة الريشة. وكان الجسم نفسه يستطيع أداء مقاطع مختلفة وفقا لموضع نظام الكامات. ثم تضاعف تدريجيا عدد الأجهزة الميكانيكية التي تتيح البرمجة: آلات نسج وبطاقات مثقوبة وفونوجراف. ثم تطورت عمليات التشغيل في شكل برامج أكثر استقلالية عن الجسم الميكانيكي للآلة.
وقد بلور ظهور الكمبيوتر الرقمي في منتصف القرن العشرين الفصل بين الآلة المادية الخامدة التي تتحكم بها برامج الكمبيوتر من ناحية، وبين الوصف المجرد و«المعلوماتي» للعملية الواجب إجراؤها من الناحية الأخرى. فقد ولد الكائن «المعلوماتي» ويستطيع الانتقال من جسد إلى آخر والتجسد في أشكال مختلفة والسكن في آلات مختلفة. فكانت هذه الآلات بمنزلة ملاك تقني أو روح وفقا للتقاليد المسيحية.
9 (2-2) يبدو أن مفهومي المادي وغير المادي مرتبطان أحدهما بالآخر بصورة وثيقة
لا يمر فصل الروح عن جسد الآلة دون حدوث مشاكل. فقد ظهر في الخمسينيات علمان متكاملان. فمن ناحية عمل الباحثون في الذكاء الاصطناعي على تخيل لوغاريتمات تسمح للآلة بالترتيب والتنبؤ واتخاذ القرار، ومن ناحية أخرى طور علماء الروبوت مستشعرات جديدة (لكشف الحواجز وفهم الطبيعة بصورة أفضل، إلخ.) وأنظمة حركة جديدة (للتنقل والإمساك بالأشياء، إلخ.) موسعين بذلك العالم الذي يمكن للروبوتات أن تتطور فيه.
واختلف العلمان بطبيعة الحال. فلم يعد الكثيرون من الباحثين في الذكاء الاصطناعي يعتبرون الجسد مكونا أساسيا من مكونات بحثهم، بل فضلوا تكثيف جهودهم على وضع نموذج لسلوكيات إدراكية إنسانية معقدة، وأعدوا نماذج للذكاء الإنساني ملائمة للتشخيص الطبي أو لإثبات المبرهنات الرياضية أو للألعاب المنتشرة في المجتمع. وتعزز هذه اللوغاريتمات الرؤية التي تعتبر الذكاء الإنساني قبل كل شيء نظاما يستخدم الرموز. واستحوذت النفسية الإدراكية على هذا الافتراض الذي يؤكد أن عملية معالجة المعلومات تعبر عن آليات الذكاء بصورة أفضل من النظريات السلوكية المنتشرة فيما وراء الأطلنطي. وثمة افتراضات تختزل الفكر في مجموعة من العمليات الحسابية الرمزية فرضت نفسها. أما الجسد فكان منسيا وفصل بصورة لا رجعة فيها عن آليات الذكاء.
وفي حين أنه كان يوجد مجال بحث يستكشف الذكاء بعيدا عن الجسد، عمل مجال آخر بالطريقة ذاتها على تطوير أجساد بلا ذكاء. فقد وضعت الروبوتات الصناعية الأولى في بيئات قابلة للتنبؤ ومحكومة إلى أقصى درجة، فكانت تنفذ حركات معيارية في خطوط تركيبها بالمصانع. وفي ورش العمل كانت تقوم بأعمال نمطية بكل دقة. ولكن للأسف بمجرد أن تعلق الأمر بتطوير آلات في بيئات غير مصطنعة أو غير معروفة مسبقا أو متغيرة، بدت برمجة سلوك الروبوتات مستحيلة.
وفي الفترة من الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات في القرن العشرين، كان للانفصال بين مصممي «الأجسام» وباحثي «الذكاء» نتائج مباشرة انعكست على أداء الآلات المنتجة. وللخروج من هذا المأزق، ظهرت مدرسة جديدة للتفكير في نهاية الثمانينيات ضمت بعض الباحثين مثل رودني بروكس ولوك ستيلز ورولف فايفر. وكان الذكاء الاصطناعي المجسد يرفض النهج الرمزي وغير المجسد للذكاء الاصطناعي «التقليدي»، وأوضح هؤلاء الباحثون أنه لا ذكاء بلا جسد وبلا بيئة، وأنه لا يمكن وضع نموذج للجسد ولا للبيئة؛ فينبغي إذن على الأبحاث أن تتخلى عن بناء نماذج للواقع الخارجي للتركيز على التفاعل المباشر مع البيئة. ويرى رودني بروكس أن «العالم هو أفضل نموذج لنفسه.»
أدت هذه التغييرات في الرؤية إلى تجديد التجارب الروبوتية والعودة إلى أساليب تصميم وتجربة كانت تميز علم تصميم الروبوتات قبل ظهور الكمبيوتر الرقمي. فقد اتخذ الإنسان الآلي الذي يشبه السلحفاة والذي صممه جراي والتر عام 1948 مثالا لما يجب أن تكون عليه أي آلة ذات أداء قوي، مما أدخل بصورة بارعة مفهوم الآلة المادية ذات السلوكيات المأمولة. وكانت هذه الروبوتات المتشابهة قادرة على القيام بتصرفات معقدة دون استخدام لوغاريتمات ذكاء اصطناعي. وكان تصميمها يأخذ في الاعتبار طبيعتها الفيزيائية الخاضعة للجاذبية والاحتكاك، التي تحاكي الحواس بحركاتها. وكانت طبيعة نظامها الحسي ووضعه يسمحان لها بحل مهام معقدة كإيجاد موقع إعادة الشحن دون الحاجة إلى القيام بأي عملية استدلالية. ومن خلال هذا النهج، كانت «روح» الآلة مرتبطة بصورة وثيقة بجسدها؛ حيث ينبغي تصميم الاثنين معا لكي يمثلا كلا متماسكا. (2-3) مفهوم الروح كمبدأ محرك ولكن غير متحرك
وفقا لوجهة نظر أرسطو المعارضة لوجهة نظر أفلاطون في هذا الشأن، تحرك الروح الأجسام، ولكنها غير متحركة في حد ذاتها. وتتردد هذه الرؤية التي تعتبر الروح مبدأ محركا ولكن غير متحرك في العديد من المفاهيم الحديثة في علم تصميم الروبوتات. ففي بداية التسعينيات كانت تجارب الذكاء الاصطناعي الجديد تتركز أساسا على وضع نموذج لسلوك الحشرات، وهو مثال بعيد استراتيجيا عن برامج الذكاء الاصطناعي التقليدي التي تلعب الشطرنج. ولكن في الأعوام التالية، حاول بعض الباحثين مد النهج ذاته ليشمل تصميم روبوتات قادرة على التعلم كالأطفال الصغار؛ أي بصورة مستمرة ومفتوحة (انظر الفصل الخامس).
لم يكن الاسترشاد بنمو الأطفال في تصميم آلات متعلمة فكرة جديدة بما أن آلان تورنج قد اقترح ذلك من قبل في أحد المقالات المؤسسة للذكاء الاصطناعي،
10
ولكن الرؤية «الحسية والحركية» التي طورها الذكاء الاصطناعي المجسد يمكنها أن تعطي هذه الفكرة بعدا غير مسبوق. فعبر محاولة تصميم آلات قادرة على تعلم مجموعة كبيرة من المهارات الحسية والحركية، أعاد باحثو علم تصميم الروبوتات «القادرة على النمو » أو «غير الجينية» النظر بصورة جزئية في الأسس المبدئية للذكاء الاصطناعي المجسد. وكان للجسد دائما أهميته بما أن الأمر يتعلق بتطوير مهارات حسية وحركية ترتبط بصورة وثيقة ببنية وبيئة محددتين. ولكن يتعين من جديد تحديد عملية مستقلة لكل جسم وكل نمط حياتي وكل مهمة محددة داخل نظام الروبوت. ولكن في الواقع فإن أي آلية قد تدفع إلى تعلم مهارات جديدة لا يمكن تحديدها ببعض أنواع السلوكيات أو المحيط أو الجسد يتعين أن تكون عامة ومجردة.
لا يعتبر إذن الفصل بين «جسد» الآلة و«روحها» كالفصل الذي يميز الجزء المادي عن الجزء البرامجي للآلة، وهي عملية الفصل ذاتها التي كانت تنطبق على البطاقات المثقوبة والكمبيوتر الرقمي. وفي هذه الازدواجية المنهجية الجديدة، كان الأمر يتعلق بالفصل بين قشرة جسدية قد تتغير وفقا لمكان حسي وحركي محدد من ناحية، ومن ناحية أخرى نواة تدريب وهي مجموعة من العمليات العامة والمستقرة والقادرة على التحكم في أي واجهة جسدية.
11
ولقد ذكرنا مثالا على نواة التدريب في الفصل الخامس الذي يصف كيف يمكن أن تكون آلة محفزة لاستكشاف بيئتها عبر مبدأ بسيط وعام. وبذلك أصبحت هذه الآلات الجديدة مزودة بروح أرسطية؛ أي مبدأ محرك وغير متحرك يكون مسئولا اليوم عن حركتها، وفي الغد عن عمليات إدراكية أكثر تطورا. وفي هذا المفهوم الجديد، لم يكن الجسد هو الثابت والبرامج هي المتغيرة، بل كان العكس تماما: كان البرنامج هو الثابت والجسد هو المتغير.
12
إجمالا، فإن الأبحاث الحديثة عن الذكاء الاصطناعي لا تجعل منا آلات بلا «روح»، بل تدعونا في المقابل إلى التفكير في المفاهيم الفلسفية المختلفة حول الروح وحول طرق تجربتها في الواقع.
الفصل العشرون
الوقت
(1) الإنسان والحيوان والوقت
لا أحد يعرف ما هو الوقت تحديدا. فيلاحظ البشر في تجاربهم اليومية ثم العلماء في تحليلاتهم للعالم أن ثمة ظواهر مختلفة لا تحدث إلا في اتجاه واحد وأطلقوا على هذه اللاانعكاسية اسم «مرور الوقت» دون أن يتمكنوا من وضع تفسير بسيط ومقنع لهذا المصطلح.
تتأثر الكائنات الحية بصورة كبيرة بالوقت الذي يمر، «كالمسرعات » - مثل نبضات القلب أو «الساعات الداخلية» - التي تتأثر بتعاقب الليل والنهار أو تعاقب الفصول. وتشبه الكائنات الحية في ذلك كل الأنظمة الفيزيائية، باستثناء وجود نتائج تتعلق بالنمو والنضوج والشيخوخة نظرا لتعقيد هذه الكائنات. أما الساعات الداخلية فهي التي تفرض على بعض الأجسام تعديلات مثل النوم أو البيات الشتوي أو البلوغ أو سن اليأس أو الشيخوخة أو الموت ... إلخ. وإلى جانب هذا الخضوع «السلبي» للأجسام الحية في مواجهة الوقت، تستطيع أجسام الحيوانات المزودة بجهاز عصبي أن تتعلم أخذ الوقت بعين الاعتبار بصورة فاعلة في تصرفاتها والقيام بعمل محدد أو التوجه إلى مكان معين في وقت محدد. فهكذا يعيش النحل الذي يتعلم جمع الرحيق من بعض الزهور في وقت معين من اليوم. (1-1) إدراك الوقت
قد نتساءل أيضا إذا كان لدى الحيوانات «إدراك للوقت» الذي يمر، ولا يكون لهذا السؤال معنى بالطبع إلا فيما يتعلق بالحيوانات التي تمتلك وعيا (انظر الفصل السابع)؛ أي الحيوانات الأكثر تطورا على الصعيد العقلي، ولا سيما الثدييات والطيور. وذلك لأن ثمة تجربة معيشية وجودية مهمة للإنسان تدور داخل الوقت؛ فالإنسان يعرف إلى حد ما «ما ينتظره»، فهو سيكبر ويلد ويشيخ ويموت. لذا يتحكم هذا الشعور الحاد بالوقت الذي يميز جنسنا في غالبية السلوكيات البشرية بوجه خاص وسلوكيات المجتمعات الإنسانية بوجه عام، أو بصورة أدق، توجه هذه السلوكيات «ضد» الوقت الذي يقود حتما إلى الموت. فإن الشعائر الدينية المختلفة للعديد من الحضارات منذ القدم وحتى يومنا هذا، منذ أيام الفراعنة المصريين أو الأباطرة الصينيين، وحتى الشعائر الجنائزية التي تتم ممارستها اليوم في الشرق الأقصى، كلها تهدف إلى مصاحبة المتوفى في رحلته بعد الموت بالغذاء والنقود والخدم والجنود ... إلخ. وكذلك فإن الاعتقاد بوجود «روح» خالدة (انظر الفصل التاسع عشر) يمد مسار الوقت الذي يقوم به شخص في أثناء حياته إلى ما بعد الموت. وإذا ابتعدنا قليلا عن الناحية الدينية، فإن جزءا كبيرا من نشاط الإبداع الفني يكمن في ترك أثر دائم لنشاط الإنسان الفنان وهو أثر من شأنه أن يبقى بعد موته. كان مالرو محقا عندما قال إن الفن «مصير معاد». ويبدو أن الجنس البشري قد تملكه في العديد من المجالات شعور حاد بالوقت الذي يمر والموت الذي يعد نوعا من النهاية.
ليس من اليسير قطعا أن نعرف كيف يشعر الحيوان الذي يدرك الوقت. إلا أنه يبدو أن الحيوان، حتى شديد الذكاء، لديه شعور بالوقت أقل وضوحا من شعور البشر به. وفي الفصول السابقة من هذا الكتاب، قابلنا هذه الفكرة أكثر من مرة: إذا كان التواصل شديد الأهمية لدى العديد من الأجناس الحيوانية (انظر الفصل الثامن)، فهو ينتج بصورة شبه دائمة عند نقل المعلومات «الفورية» أو قصيرة المدى التي قد نترجمها ب «هذه أرضي!» أو «احذر، خطر!» أو «إني جائع!» أو «أرغب في التكاثر!» يتمحور التواصل إذن حول الحاضر بصورة أساسية. ويبدو أن اللغة، وهي نظام تواصل خاص يشير إلى عناصر غير موجودة في البيئة المحيطة الحالية، أكثر ندرة لدى الحيوانات، ولا يتخطى - وفقا لمعارفنا الحالية - الثلاث كلمات لدى النحل، والمائة والخمسين كلمة التي يتعلمها الشمبانزي أو الغوريلا ولكن فقط بتأثير من البشر. وفي الفصل ذاته، أوضحنا أن بعض الحيوانات قادرة على استخدام أدوات بدائية وقد يكون لها تفضيلات جمالية. ولكن بالرغم من هذه القدرات، لا يبدو أن أي حيوان يستطيع ابتكار «أداة جمالية» على المدى الطويل وهو ما يعادل ما نسميه لدى الجنس البشري «عملا فنيا» أو التصميم الأولي له. (1-2) هل لدى الحيوانات شعور بالموت؟
بما أن الشعور بالوقت لدى الإنسان يرتبط بشدة بتوقع الموت، فيبقى أن نتساءل عما هو الشعور بالموت لدى الحيوانات. وليس من السهل أيضا الإجابة عن هذا السؤال. فتسعى أنثى الشمبانزي إلى إرضاع صغيرها المتوفى لإعادته إلى الحياة، ولا تتركه إلا بعد فترة من موته. ولقد تحدثنا كثيرا عن مقابر الفيلة التي تزورها القطعان أحيانا. فيظل تفسير هذه السلوكيات صعبا ويعكس العجز الصارخ الذي تعاني منه معارفنا العلمية الحالية في هذا الميدان.
وفي الختام، دون أن نستبعد وجود شعور ما بالوقت لدى الحيوانات وهو ما يتعين على البحث العلمي تحديده في المستقبل، فيجوز الاعتقاد أن الحيوانات، حتى تلك التي تستطيع أن تدرك «تجربة معيشية في الوقت»، تعيش بصورة أكبر لحظة بلحظة، ولا تكترث بصورة كبيرة بالوقت الذي يمضي مثلما نفعل نحن البشر.
وحتى لو لم يمكنا أن نستبعد نهائيا إدراك وجود المستقبل لدى الحيوانات، فيبدو أن أحد المشاغل التي تؤرق الجنس البشري ويتميز بها عن غيره هو انشغاله بالمستقبل. (2) الإنسان والآلة والوقت (2-1) الوقت بناء تقني
حين يوجه السؤال لنا في الشارع إذا كنا نعرف كم الساعة، نجيب دائما بنعم، مع أننا لا نعرفه في اللحظة التي وجه فيها السؤال بالضبط، فنحن متأكدون فقط من إمكانية معرفته. إن هذا الوصول الدائم إلى مقياس ميكانيكي واضح لمرور الوقت قد قلب هيكل مجتمعنا رأسا على عقب؛ فقد أدى الترشيد الجماعي إلى إعادة التفكير في العمل وأوقات الفراغ والنقود. فيتعين أن نصل في موعدنا إلى العمل وإلى محطة الحافلات وإلى الطبيب وإلى الموعد الغرامي. ويعتبر عدم التكيف مع الوقت الذي توضحه الآلات بمنزلة العيش على هامش المجتمع.
تدور الأرض وتتعاقب الفصول وتلد النساء، وثمة فترات قصيرة (يوم) وفترات طويلة (عام). واضطر الإنسان على مدار فترات طويلة إلى الاكتفاء بمفهوم غير دقيق نسبيا عن هذه الأحداث الدورية ليعيش مع «إيقاع تعاقب الفصول». وقد سمح تفسير التقنية للوقت؛ أي قياسه، بتكوين حقيقة ثقافية مختلفة تماما. فإن الساعة الشمسية والرملية والمائية بالإضافة إلى الساعة الميكانيكية التي تعمل بالرقاص أو بالبندول أو بالنابض أو بالكوارتز أو الساعة الذرية، كل هذه الأنواع قد جعلتنا نفقد إلى حد ما الشعور البديهي بالوقت ولكنها منحتنا أداة لا مثيل لها للتنسيق بيننا. (2-2) تميل التقنية إلى التجرد من الوقت
يبدو أن الوقت، أو على الأقل قياسه، يعتمد على عملية تقنية، إلا أنه يريد دائما «الخروج» من التقنية لدرجة أنه يمكننا البرهنة على أن ما يميز الآلة هو ميلها للتجرد من مفهوم الزمن. وكلما زادت فنية أي عملية، كان تنفيذها مجردا من الزمن؛ فالرسم وهو فعل زمني أولي ينتزع من وقته بفضل تقنيات إعادة الإنتاج والحفر على الخشب في العصور الوسطى والطباعة الفنية والحجرية والتنميش.
1
وكان يمكن إدارة حركة أي آلة في القرن الثامن عشر بسرعة في ظل القيود التي تفرضها الفيزياء وترتيب العناصر المكونة لها. وكان يمكن أيضا حل لوغاريتم حاسوبي في القرن العشرين بسرعة عشوائية. وكان يمكن الإسراع أو الإبطاء إلى حد ما من فيلم على بكرة في حين أن الفيلم الرقمي يمكن تعديله زمنيا بمرونة أكبر.
ومن أجل قياس الوقت بطريقة موضوعية، يجب على التقنية أن تلجأ إلى ظواهر طبيعية تكتفي بتوجيهها وتنسيقها: رمال أو مياه تجري أو اهتزازات ... إلخ. فيتعلق الأمر دائما بنقل حركة طبيعية بشكل آخر، بعيدا عن الوقت المختفي في خصائص المادة وتكتفي التقنية بإخراجه من مخبئه. (2-3) البيئة التقنية الشاملة تؤدي إلى تنسيقات جديدة
ولدت التقنية قياس الوقت لدى الإنسان ولكن التقنية نفسها تميل إلى الفورية، فإن إيقاع أسواق البورصة أو حركة التبادلات ونشر الملفات على شبكة الإنترنت هي كلها ظواهر مهجنة تزيد من القيود التي تفرضها الساعات الداخلية للإنسان (ينبغي النوم وتناول الطعام في ساعات محددة من اليوم) مع انتشار المعلومات بصورة شبه فورية. وتنبع صور جديدة للتنسيق من تزامن الأنشطة الإنسانية على كوكب الأرض. وقد يتبنى بعض الصحفيين أو التجار أو لاعبي ألعاب الفيديو إيقاع حياة لا يتناسب مع طلوع الشمس في بلادهم بل يتلاءم مع أنشطة من يتبادلون الحديث معهم. فلم يعد الوقت حكرا على الساعة ولكن فرضت الأنشطة الإنسانية سيطرتها. (2-4) كيف يمكن للآلات الحديثة أن توفر لنا استعارات جديدة لفهم الوقت؟
لكي يفهم الإنسان الوقت كأي شيء آخر، يتعين عليه اللجوء إلى استعارات كالنهر أو الساعة. ونحن نشعر جيدا أن وقت الإنسان لا يشبه وقت الآلة، وأن الوقت الذي نعيشه وشعورنا بالمدة الزمنية يختلفان تماما عن الوقت الموحد الذي توضحه الساعات. فعلى الصعيد النفسي لا تستغرق كل ساعة المدة ذاتها.
2
فهل تستطيع الآلات الحديثة التي ذكرناها في هذا الكتاب أن توفر لنا استعارات جديدة عن الوقت الذي نعيشه؟ لقد ناقشنا كيف يمكن لآلة أن تستبق الأحداث المستقبلية وأن تكون مسارها في الحياة انطلاقا من تجاربها الماضية (انظر الفصل الثاني). ويمكننا أن نبرهن على أن كل آلة تعيش في مدة زمنية متقطعة خاصة بها. فيمكن وصف عمل مصعد كهربائي بأنه توال لحالات وتنقلات بسيطة؛ لذا فإن وقته فقير كعالمه. ولكن ثمة آلات أخرى تدرك وتتذكر وتتفاعل مع سلسلة من الأحداث المعقدة؛ فالوقت الداخلي للآلات، إن جاز التعبير، ليس هو الوقت المنتظم لساعات القرن الثامن عشر.
ناقش جون تاني في سلسلة من المقالات
3
الطريقة التي تسمح بها التجارب الحديثة في علم تصميم الروبوتات بإعادة النظر في مفهوم الوعي المرتبط بالوقت. ويقارن تاني بين المواقف التي تستبق خلالها عوامل التنبؤ في آلته مسارا سلوكيا معتادا بلا خطأ (مثلا عندما يتنقل الروبوت في ممر معروف) من ناحية، ومن الناحية الأخرى المواقف المفاجئة المرتبطة بخطأ عوامل التنبؤ المستخدمة في الاستباق (مثلا عند الاصطدام بحاجز مجهول). ووفقا للهيكل العصبي الذي فكر فيه تاني، تؤدي أخطاء التنبؤ إلى إعادة التصحيح، وهي عملية مهمة، كتنشيط عامل تنبؤ آخر يتلاءم مع هذه الحالة تحديدا. وعندما يختلف الواقع عن التنبؤ، فإن عملية إعادة التنظيم «التصاعدية» قد تحدث في تجربة إدراكية تشترط الشعور بمرور الوقت. وعندما يمكن التنبؤ بكل شيء، يختفي الوقت ولا يظهر مجددا إلا عندما يتطلب ما هو غير متوقع جهدا في التحكم أو إعادة التنظيم؛ أي عندما نتعثر
4 (انظر الفصل الحادي والعشرين).
ولنكرر أن الآلات تعتبر حلفاءنا في محاولة الاقتراب من مفاهيم فلسفية دقيقة كمسألة الوقت.
الفصل الحادي والعشرون
التخيل
(1) الإنسان والحيوان والتخيل
تعتبر المهمة الأساسية للجهاز العصبي هي محاكاة العالم الذي يعيش فيه حيوان (أو إنسان). ولتحقيق هذا الغرض، يستقبل الجهاز العصبي معلومات من «لاقطات» نسميها «الحواس»؛ مثل العينين والأذنين والأنف. وعبر هذه المعلومات يقوم الجهاز العصبي بتحضير رد فعل ملائم مثل حركة جزء من الجسم أو الهروب أو تناول الطعام أو عدم الحركة. وكلما كان الجهاز العصبي متطورا أصبحت هذه المحاكاة للعالم معقدة وفعالة؛ فهي تشمل قدرات يزداد إتقانها مما يسمح خاصة بالمقارنة بين المواقف التي يتم التعرض لها والمواقف التي سبق رؤيتها في الماضي والتي احتفظت بها الذاكرة (انظر الفصل الثاني)، فتعطي مرونة أكبر لردود أفعال الحيوان. (1-1) النشاط المتعلق بالأحلام
لكن تبدو بعض الحيوانات قادرة على أن تحاكي ليس العالم الحقيقي الذي تتحرك فيه بل تحاكي عالما خياليا لا يشبه العالم الحقيقي إلا في أمور قليلة، فهذه المحاكاة «الفراغية» لعناصر غير موجودة بصورة مباشرة في العالم الحقيقي تستمد نماذجها الأولى من صور الأحلام. فبفضل تسجيلات الرسم الكهربائي للدماغ بوضع أقطاب كهربية على جمجمة الحيوان لقياس النشاط الكهربي العام للعقل، نعرف أن غالبية الثدييات والطيور تحلم؛ فنجد لديها الموجات ذاتها التي نجدها لدى إنسان يحلم، فبلا شك ثمة وظائف متعددة
1
للنشاط المتعلق بالأحلام ولكن قد تكون إحدى هذه الوظائف هي مراجعة العناصر التي تم تعلمها خلال اليوم السابق والعمل على ترتيبها وإدماجها في مجموعة العناصر المخزنة بالفعل في ذاكرة الحيوان. وهكذا تعتبر الصور غير المتناسقة للحلم انعكاسا لهذا الترتيب الذي نقوم به للذكريات في المناطق البصرية من العقل. ويمثل هذا النشاط المتعلق بالأحلام في كل الأحوال نوعا من المحاكاة غير المرتبطة مباشرة بتناسق العالم الخيالي. فخلال فترة الأحلام تتوقف الحركة بصفة عامة فلا يتحرك الحيوان النائم، ولكن الباحث الفرنسي ميشيل جوفيه الذي اضطلع بعدة أبحاث حول آليات النوم، استطاع ملاحظة بعض القطط التي حدث خلل لديها في الآليات التي تعوق الأوامر الحركية خلال الحلم. فأظهرت هذه الحيوانات سلوكيات مدهشة؛ فهي تتفاعل وتتحرك كما تفعل في الحلم وتغضب وتطارد فئرانا (خيالية) ... إلخ. وبالرغم من عدم القدرة على استجواب الحيوانات حول قدرتها على الحلم عندما تستيقظ، تشهد فترات الحلم خلال النوم على وجود قدرات على محاكاة عناصر خيالية لدى الحيوانات. (1-2) القدرة على التخيل لدى الجنس البشري
تبدو هذه القدرات متطورة للغاية لدى البشر الذين يستطيعون عمل محاكاة فراغية لعدة كيانات خيالية وفي اليقظة. فإلى جانب التفكير المنطقي الذي يهدف إلى محاكاة الواقع بشدة ويحتل مكانة كبيرة لدى الإنسان ليشكل التفكير العلمي، تؤدي هذه المحاكاة الفراغية في العالم الخيالي إلى تفكير غير منطقي بل مخالف للعقل. وتغطي هذه المحاكاة مجالات متنوعة ومختلفة مثل القصص الخيالية أو الأساطير أو اختراعات الشعر السريالي («الأرض زرقاء كالبرتقالة» وفقا لما قاله الشاعر إليوار) أو مواقف الخيال العلمي. وتسمح أيضا للإنسان بأن يخرج بعقله خارج نطاق الكون المسكون والمعتاد لبلوغ «أكوان موازية» يمكن أن تختفي فيها القيود والقواعد التي يفرضها العالم الحقيقي. وتمده أيضا بمحاكاة عالم حقيقي تحده بالضرورة «لعبة الإمكانات» (وفقا لتعبير فرانسوا جاكوب الذي نستخدمه خارج سياقه) غير المحدودة تقريبا. فبلا شك يمثل هذا النفاذ الكبير إلى عالم خيالي متطور للغاية إحدى قمم النشاط الفكري الإنساني. فإن «الإنسان العاقل»، وهو يفوق أي عالم (حتى لو كانت هذه الصفة شديدة الأهمية لجنسنا البشري)، حالم وفنان ويستطيع أن يحلم بعيدا عن حدود الممكن والافتراضي وغير المنطقي والخارق والوهمي والمستحيل والغريب. (1-3) الصراع بين الواقع والخيال
ومن أجل أسباب تتعلق بوحدة العالم، نلاحظ بالإضافة إلى ذلك أن هذه المحاكاة الخارجة عن سياقها، هذا الإقحام للشيء المحاكى خارج حدوده الطبيعية، هذا الانحراف للمنطقية إلى اللامنطقية وأحيانا إلى الغرابة، هو ما يقود غالبا إلى نتائج ملموسة (ومفيدة) في العالم الحقيقي. فقد تضم الأساطير تعاليم ملموسة، ويمكننا أن نشير إلى أن خيالات بعض كتاب الخيال العلمي تجد في عالم «الحقيقة الافتراضية» الذي يخرق قوانين الفيزياء الطبيعية طريقة تحقيق واقعية. فهكذا يستطيع المتجول في العالم الافتراضي أن يطير مثل الطيور أو يضاعف قوته مثل الأبطال الخارقين أو يحيا من جديد مثل العنقاء!
وكما أشار الفيلسوف جيل جاستون جرانجيه،
2
يكتسب هذا الصراع بين التفكير المنطقي والخيالي أهمية كبيرة في عمليات الابتكار العلمي والفني على حد سواء، فيقول: إن تطور الابتكار «لا يمكن أن يتم فصله نهائيا عن اللامنطقية.» إن هذا الصراع بين العقل والخيال، بين المحاكاة (العلمية) للواقع ومحاكاة كيانات خيالية في الفراغ مما يؤدي إلى تنوير الواقع والقيام بنشاط ابتكاري يبدو أنه إحدى السمات المميزة للإنسان، مع مراعاة حدود هذا المفهوم التي ذكرت على مدار هذا الكتاب. (2) الإنسان والآلة والخيال
في قصة إسحاق أسيموف القصيرة «أحلام الروبوت»، يتعين على سوزان كلفين أن تعتني بروبوت «مضطرب» وحالم، وهذا ما شغل بال هذه «الطبيبة النفسية للروبوتات» ثم أثار قلقها؛ لأن أحلام الروبوت تقوده إلى تصرفات جديدة ربما تكون خطيرة على الإنسان. ففضلت إبطال العقل البوزيتروني للروبوت خوفا من أن تؤثر الصور التي ينتجها هذا الروبوت الحالم على روبوتات أخرى.
فهل تستطيع آلة أن تتخيل؟ للإجابة عن هذا السؤال كأي سؤال آخر، يتعين علينا محاولة إعادة صياغة ما يعنيه التخيل من حيث العمليات الأكثر قربا مما تستطيع الآلات فعله. (2-1) الآلة تستطيع المحاكاة
تستطيع الآلة التنبؤ (انظر الفصل الثاني)؛ فيمكنها عبر المحاولة والخطأ أن تستبق نتائج أعمالها أو تطور بيئتها. فتتفق هذه العملية مع بناء نموذج واضح أو ضمني لبيئة مكانية، ويسمح هذا النموذج بالمحاكاة دون التحرك.
وخلال هذا التعلم (الذي قد يكون طويلا) يمكن للآلة أن تستكشف هذه البيئة المكانية بذكاء (انظر الفصل الخامس)، فتختار الأفعال الأكثر ملائمة التي تسمح لها بتعلم أكبر قدر ممكن، وهو ما سيقودها إلى تجنب التراكيب أو قيم المعايير التي تعرف بالفعل نتائجها أو تلك التي لا يمكن حتى هذه اللحظة التنبؤ بنتائجها للتركيز على مناطق التعلم، وهي «كوامن التطور» الواعدة في ظل مرحلة الاستكشاف التي تمر بها والنماذج التي صنعتها.
يتلاءم هذا النوع من الاستكشاف مع أي بيئة مكانية، فسواء تعلق الأمر بتعلم حسي وحركي كالمشي أو بحل معادلة تفاضلية، ترتبط هذه العملية بالاستباق وبالتخطيط للقيام بحركة ما، وتتغير فقط البيئة المكانية. ولكن كيف يمكن الانتقال من بيئة مكانية إلى أخرى؟ (2-2) تكوين العادات يسمح بالتخيل
تستطيع الآلة أن «تدرك» انتظام سلوكياتها. فإذا كان يمكن التنبؤ جيدا بمسار حسي وحركي ما، يمكن ترجمة هذا المسار في صورة «عامل تنبؤ» مخصص إلى التعرف على الموقف (لا يخطئ في التنبؤ إلا قليلا) والتفاعل بصورة ملائمة عندما يحدث الموقف.
وتشبه عملية استخراج المقاطع المستقرة تكوين «العادات »؛ فتدمج الآلة السلوكيات الملائمة ويمكنها إذن أن تصب اهتمامها على ملامح أخرى في بيئتها، كالطفل الذي يبلغ من العمر عاما واحدا والذي لا يفكر تدريجيا في التحكم الحسي والحركي الذي يسمح له بالمشي بل يركز فقط على المكان الذي يريد الذهاب إليه. (2-3) التخيل يتوقف عندما نتعثر
إن ظاهرة الإدماج والانفتاح على بيئات مكانية ذات مستوى أعلى هي التي تسمح بالتخيل. ففي الواقع، لا مجال للتخيل إلا عندما يتحول التحكم الفيزيائي في الجسد تدريجيا إلى آلي ويختفي من البيئة المكانية التي ينصب عليها التركيز ويترجم إلى «عادات»، وأي فشل في هذه العملية (حدث غير متوقع أو غير قابل للتنبؤ به) يجعلنا «نتعثر» في بيئات مكانية ذات مستوى أدنى. فإن طاليس الذي كان ينظر إلى السماء لم يكن يرى الحفرة التي سيقع فيها. ويتسبب هذا التغير المفاجئ للجسد بالضرورة في توقف عملية التخيل على الأقل لمدة محددة.
على غرار طاليس، تتعثر الآلات التي تستبق؛ فخلال مراحل التعلم (انظر الفصل الثاني) لا تترتب على أخطاء توقعاتها نتائج بصورة عامة لأنها تحدث خلال عملية استكشافية. وفي المقابل، عندما تتكون عادة ما أو يسجل سلوك يمكن التنبؤ به، يكون خطأ الاستباق أكثر مفاجأة؛ أي إنه قد يؤدي إلى نتائج جسيمة. ولقد ربطنا من قبل هذه الظاهرة بإدراك الوقت (انظر الفصل العشرين)، ويمكن أيضا ربطها بالإحساس بالألم. وتفرق إلين سكاري بصورة واضحة بين التخيل والألم؛ فعندما ينسى الجسم نفسه وتعمل الآليات بلا مفاجأة نميل إلى التخيل البحت، في حين أنه عندما يذكرنا الجسم بنفسه وعندما نتعثر نقترب من الألم.
3
وإذا كانت الآلات المتعلمة تتعثر، فهل تعاني أيضا (انظر الفصل السادس)؟ (2-4) هل يمكننا تصميم آلات تحلم؟
يستغرق تكوين العادات وقتا طويلا سواء للآلة أو الحيوان، وهي عملية استخراج المقاطع الحسية والحركية التي يمكن التنبؤ بها بصورة كبيرة. وتحدث هذه العملية عبر تكرار التجارب المعيشة. أما لدى الإنسان فيبدو أنها تحدث بصورة جزئية خلال النوم والحلم. فعند الاستيقاظ، نجد أصابعنا تلعب بسهولة أكبر على البيانو الذي كان يصعب التحكم فيه في الليلة السابقة.
ويمكننا بصورة مماثلة أن نعتقد أن الآلة خلال أوقات توقف نشاطها تتذكر تجاربها «في دائرة مغلقة» مما يسمح لها باستخراج العمليات المنتظمة. وخلافا للحيوان، تستطيع الآلة أن تسجل بالفعل كل ما يحدث لها وأن «تلعب من جديد» هذه التدفقات الحسية والحركية لإعادة تفسيرها بصورة متكررة. وترتبط إعادة التفسير دائما بقدرات الآلة على التنبؤ في وقت محدد. ويمكن «تقسيم» المقطع ذاته بطريقة مختلفة حسب قدرة نظام التنبؤ على فهمه؛ لذا يتعين على الآلة الاحتفاظ بكل شيء من هذه التدفقات الداخلة والخارجة إذا أمكنها ذلك. (2-5) هل تستطيع الآلة تكوين «تمثيلات» داخلية؟
يبقى سؤال شائك، فربما تكون عملية استخراج الأمور المنتظمة وحدها غير كافية لتخيل تمثيلات غنية للعالم الخارجي، فهي تسمح بالأساس باستخراج سلسلة طبقية من السلوكيات المعتادة واستكشاف بيئات مكانية أكثر تجردا، وهذا ضروري ولكنه غير كاف.
في عام 1956 وهو العام الرسمي لميلاد الذكاء الاصطناعي، كان المشاهدون يستطيعون متابعة «لغز بيكاسو» وهو فيلم وثائقي لهنري جورج كلوزو يظهر الفنان وهو يرسم على قطع زجاج، فنراه يركز في عمله كما لو أن العالم الخارجي وآلة التصوير قد اختفيا. ثم يبدل بين مراحل تردد ومقاطع سريعة، فهو لم يخطط عمله مسبقا بصورة كاملة فنراه يعيد التفكير دائما في لوحته، وأحيانا يبدو بعد لحظة تأمل أنه سيغير اتجاه مشروعه بصورة جذرية بالاعتماد على الأشكال الجديدة التي أظهرها. فلا تحدث عملية التخيل فقط في رأسه بل هي نتيجة لهذا التبديل الدائم بين لوح الزجاج والعين وفرشاة الرسم.
يمكن للآلة أن تنتج تمثيلات خارجية، ومن شأن كل حركاتها أن تؤدي إلى شكل من الإخراج الدائم إلى حد ما، فالحركة هي نتاج متكامل لمجموعة من العوامل التي تنتج في العالم الحقيقي عن حركة تستغرق ثواني معدودة. وكذا الرسم فهو عمل مماثل في بيئة تترك أثرا؛ أي إنه يكمل مؤقتا الرسم التخطيطي، وبالطبع لا يمكن تبرير مصطلح «تمثيل» إلا إذا كان يوجد مراقب خارجي. ولكن تستطيع الآلة مراقبة نتيجة أعمالها مثل الرسم الناتج عن آثار خلفتها مجموعة من الحركات.
فلنأخذ إذن بعين الاعتبار إمكانية وجود آلة تنتج تمثيلات خارجية تستطيع هي نفسها أن تدركها. وانطلاقا من هذا الأساس يمكننا أن نتناول المسألة الدقيقة المتعلقة ب «التمثيلات الداخلية» للآلة. وثمة عادة طويلة الأمد لدى الذكاء الاصطناعي التقليدي (وهي عادة ممتدة منذ الخمسينيات في اللغويات وعلم النفس والعلوم العصبية والإدراكية) تنص على وجود تمثيلات داخلية يطلق عليها أحيانا رموز وتستخدمها الآلة للقيام بعمليات منطقية.
4
وربما ترتبط هذه الرموز بالمدركات الحسية (الرمز الذي يمثل اللون الأحمر من بين مجموعة ألوان على عناصر صور الكاميرا). وتعتبر هذه التمثيلات الداخلية مناسبة وملائمة لبنية أجهزة الكمبيوتر. ولكن يمثل وجودها مشكلة لأسباب عدة. فتكمن الصعوبة الأكبر بلا شك في التحكم في المرور من غير الرمزي إلى الرمزي، فكيف يمكن تصور نظام قادر على مثل هذا الانتقال دون أن يتم التحضير مسبقا لهذا المرور (على سبيل المثال بتزويد الآلة بنظام لاستخدام الرموز لم يتم استخدامه منذ البداية ولكنه أضيف عندما تراكم عدد كاف من المدركات الحسية)؟
يبدو أن الافتراض الواعد هو إيجاد آلية قد تسمح بإدخال تمثيلات خارجية تنتجها الآلة وتلاحظها. وعلى غرار طريقة تنبؤ الآلة بنتائج إحدى حركاتها، فهي تستطيع أيضا بطريقة ما محاكاة رسم لوحة دون تنفيذ ذلك في الواقع؛ وبعبارة أخرى يمكنها أن تحاكي التمثيلات الخارجية التي تنتجها. وفي هذا الإطار، لا وجود لمفهوم التمثيل الداخلي، فلا يوجد إلا محاكاة داخلية للتمثيلات الخارجية، ومفتاح هذه العملية هو الحلقة التي تنقل من الحركة إلى الرسم التخطيطي وتسجيله الشامل عبر الإدراك الحسي. ويتعين على الآلة أن تستهدف السلوكيات والآثار التي تنتجها، وبهذه الطريقة يمكنها تدريجيا أن تستخدم الأشياء الأكثر تعقيدا وتجردا دون تغيير الآليات الأساسية لهذا الاستخدام.
لم يبرهن حتى الآن على جدوى هذه الطريقة؛ فحتى هذه المرحلة هي بالأساس تجربة فكرية أو عمل من وحي الخيال. ولكن لا توجد عقبة منطقية تعترض طريق تصميم مثل هذا النظام. وباعتبار التخيل استكشافا لبيئة مكانية تمزج بين «العادات» المدمجة وتستخدم التمثيلات الخارجية المصطنعة ، نستطيع التفكير في تصميم آلات تتخيل. ومع ذلك، سيكون عالمها الخيالي بلا شك مختلفا عن عالمنا.
خاتمة
(1) الإنسان والمملكة الحيوانية
على مر صفحات هذا الكتاب قارنا بين الإنسان - أنفسنا - وفئتين من الأنظمة المعقدة التي تملك صفات مشابهة له، ألا وهما الحيوانات والآلات. وسرعان ما نلاحظ بالطبع أنه لا يوجد تشابه بين أصل كل من الحيوانات والآلات بما أن الإنسان انحدر عن الحيوان في حين أن الآلة انحدرت عن الإنسان، ولكن لا يفيد اختلاف الأصل في الإجابة عن الأسئلة الرئيسية التالية: هل لا يزال هذا الإنسان المنحدر عن الحيوان حيوانا؟ وهل تفترض الآلة المنحدرة عن الإنسان أن الإنسان هو أيضا آلة؟ هل يوجد لدى الإنسان خصائص فريدة من نوعها تميزه عن الحيوانات والآلات؟ لقد سمحت الفصول المختلفة في هذا الكتاب بمناقشة هذه الأسئلة المهمة فيما يتعلق بنقاط أساسية يبرز فيها النشاط الإنساني.
ولقد استطعنا تقدير أوجه الشبه العديدة بين الإنسان والأنظمة المعقدة الأخرى. وفيما يتعلق بأوجه الشبه مع الحيوانات أوضحنا أنها عديدة. فنجد لديها المبادئ الأولى لكل القدرات الإنسانية: القدرة على الشعور بالألم والتعلم والذكاء والوعي والفضول والثقافة والتحلي بالأخلاق ... إلخ، حتى لو كانت القدرات الإنسانية تتخطى قدرات الحيوان في أغلب الأحيان. وترتبط هذه القدرات بتعقيد الكائنات الحية، وهو ما يعد إحدى صفات الكائنات الحية بأسرها، بما فيها الإنسان. وينتج عن ذلك أن الإنسان حيوان قادر مثل الحيوانات على امتلاك عواطف وغريزة جنسية، وينتج عن ذلك أيضا أن الحيوانات قد تكون جزءا لا يتجزأ من العالم الفكري للبشر وتساعدهم على التفكير، وأنها تستطيع أن تمتلك حقوقا. وينتج عن ذلك أيضا أنه يمكن المزج بين المملكة البشرية والحيوانية وأنه يمكن تخيل استمرار الحياة الحيوانية دون الإنسان.
ولقد وصفنا أيضا الدور الجوهري الذي تلعبه التقنية فيما يخص إنسانيتنا وكيف يمكن اعتبار كل أداة وكل آلة جهازا بديلا أو امتدادا لجسمنا. ولقد أوضحنا العلاقات المعقدة التي تربطنا بهذه التقنيات التي تحيك معنا علاقات نفسية بعيدا عن دورها الوظيفي. وناقشنا كيف بدلت الآلة مفهومنا عن الوقت وأوجدت استعارات تجعلنا نفكر في أنفسنا، وكيف اختلطت التقنية بمجملها مع الثقافة في نهاية المطاف. وقد عرضنا أيضا كيف تستطيع بعض الآلات الحديثة حاليا التعلم والتنبؤ والمحاكاة وكيف يمكننا تزويدها بالفضول وبإدراك لذاتها. وتوقعنا ابتكار آلات قادرة على الشعور والتخيل، بل قادرة على أن تشكل بصورة جماعية ظواهر ثقافية تميزها وحدها. ولكن بدلا من أن نرى في هذه التطورات حججا تؤيد الرؤية الميكانيكية بالكامل للإنسان، ركزنا في المقابل على أن الآلات تتيح لنا قبل كل شيء أن نفهم أنفسنا بإبراز الاختلافات؛ «فنحن لدينا ما لا تمتلكه الآلات». وإذا بدت الآلات ذكية فذلك يعني أننا لم نتحر الدقة بالدرجة الكافية حول معنى الذكاء. وإذا بدت تمتلك نوعا من الوعي فيتعين علينا تحديد ما نقصده بهذا المصطلح؛ فكلما تطورت الآلات نجد تعريفا أفضل لما يميزنا.
نود في الختام محاولة تحديد المعايير التي قد تسمح بتعريف الإنسان مقارنة بالأنظمة المعقدة الأخرى. وفي ضوء التجاوز المنتظم لكافة الحدود المفروضة على مدار التاريخ، سنتفهم قطعا الطابع المؤقت الذي قد يتسم به هذا الجهد، ولكن يجدر وصفه بصورة إجمالية بما أن المنطق يملي علينا أن الإنسان يمتلك حاليا طريقة عيش تميزه وحده، وذلك دون أن يكون الهدف هو الاستجابة إلى رؤية بعيدة المدى. وتختلف إجابات كل من عالم الأحياء والمهندس عن هذه الأسئلة وفقا للمساحة التي تخصصها للطبيعة والثقافة في عملية التحول إلى الإنسانية. (2) الإنسان وعقله القوي ومغامرات المعلومات
وفقا لما ذكره ديزموند موريس،
1
الإنسان قرد عار مزود بعقل فائق القوة، وبدقة أكبر هو شمبانزي عار بما أن 98٪ من جيناته مشتركة مع نظرائه الشمبانزي لدرجة أنه يطلق أحيانا على الإنسان «الشمبانزي الثالث» إلى جانب فصيلتي الشمبانزي. وفي الواقع، لا يختلف السلوك الاجتماعي أو الجنسي للإنسان كثيرا عن سلوك الشمبانزي، ولكن إذا كانت كل الحيوانات كائنات معقدة، وإذا كان الشمبانزي يمتلك عناصر ثقافية أولية معقدة وصفناها على مر صفحات هذا الكتاب، فالإنسان وحده هو الذي يمتلك ثقافة شديدة التعقيد، وقادرة على الانتقال من جيل إلى آخر ، ومختلفة عن النماذج الأولية الموجودة لدى نظرائه. وانتقل الإنسان من النموذج الأولي لأداة الشمبانزي إلى الكمبيوتر أو الصاروخ، ومن النموذج الجمالي إلى العمل الفني، ومن النموذج الخطابي إلى لغات ذات تعقيد نادر. وحتى في المجال الذي لم يبرع فيه الإنسان بصورة كبيرة على مدار تاريخه وهو مجال الأخلاق، انتقل من أخلاقيات أولية تجريبية لدى الشمبانزي إلى أنظمة أخلاقية خطابية معقدة.
وتتسم الكائنات الحية بأسرها، سواء الحيوانات أو البشر، بالتعقيد ولكن يمكن حاليا تعريف هذا التعقيد من حيث المعلومات، وانطلاقا من هذا المفهوم يمكن المقارنة بين قدرات الحيوانات والبشر.
وثمة طريقتان لفهم المعلومة. فيما يتعلق بالطريقة الأولى، أعطى بعض خبراء المعلوماتية مثل شانون معنى رياضيا بحتا لهذا المفهوم؛ فعرفوه ليس على أنه «معلومة» بل على أنه «كمية المعلومات التي تحتوي عليها رسالة ما». وفي السياق ذاته، أراد الفيزيائي ليون بريوان تشبيه المعلومة بحجم من الطاقة يتلاءم مع فكرة «ترتيب» ولكن جانبه الصواب في ذلك الأمر
2
فلن يكون ذلك هو المعنى الذي سنستخدمه. (2-1) المعلومة لدى الكائنات الحية
نستند هنا إلى طريقة أخرى للتفكير في هذا المفهوم وهي طريقة تنظر إلى المعلومة بمعناها الأعم والأقل دقة على المستوى الرياضي ولكن الأكثر قدرة على الوصف على الصعيد العملي، على أنها «جزء من المعنى» أي إنها معلومة ترتبط بتنفيذ مهمة ونقل أمر بين كيانين، وهذا هو المعنى المنتشر في علم الأحياء حيث كتب عالم الأحياء فرانسوا جاكوب: «إن عالمنا الحالي عبارة عن رسائل ورموز ومعلومات.» فهكذا تتحكم في تعقيد الأجسام الحية (انظر الفصل الأول) معلومات متشابكة ذات طبيعة كيميائية في أغلب الأحيان، وتسمح هذه المعلومات للأجزاء المختلفة بالتفاعل فيما بينها؛ ومن ثم تسمح لهياكلها بالتغير مع الوقت وبالتفاعل مع المعلومات التي تصل إليها من بيئتها. وتعتبر هذه المجموعة المعقدة من الأحداث التي تحمل أعمالا أو تأثيرا أو معنى هي إحدى خصائص الكائنات الحية.
3
وكلما زاد تعقيد النظام الحي زاد عدد هذه المعلومات التي تتيح عمل النظام؛ لذا يتعلق الأمر من الآن فصاعدا بالمعلومة الوراثية الموجودة داخل جيناتنا، تلك التي تحدد عددا من صفاتنا الجسدية، أو عن المعلومة المحفوظة في الذاكرة، تلك التي تملأ عقلنا بالذكريات وتقود أعمالنا في العالم الذي يحيط بنا.
ويعنينا هنا هذا النوع الأخير لأنه يشكل طريقتنا المميزة للبشر. وقد جرت محاولات لتعريف الذاكرة الإنسانية من حيث كمية المعلومات، ولن نذكر هنا نتائجها؛ لأنها تقريبية للغاية وربما تكون خاطئة. ولكن الشيء الوحيد الذي يجب معرفته هو أن هذه الأرقام المحدودة بالطبع (فكمية المعلومات المخزنة في ذاكرتنا ليست بلا حدود) هي أرقام هائلة. ولمزيد من الوضوح، نذكر بأن العقل الإنساني يحتوي على حوالي 100 مليار خلية عصبية، وأن كلا منها يستطيع التفاعل مع (أي نقل المعلومات إلى) الآلاف من الخلايا الأخرى. فيمكننا إذن أن نتخيل - بلا مشقة - التعقيد والعدد الضخم من التفاعلات الممكنة، وما يمكننا بلا شك إبرازه هو أن الأداء القوي للعقل الإنساني يسمح له بالتعامل مع كمية من المعلومات أضخم بكثير من تلك التي يتعامل معها عقل أقرب نظرائه مثل الشمبانزي. (2-2) هل الاختلافات بين الإنسان والحيوان اختلافات كمية فقط؟
هل اختلافنا الوحيد عن الحيوان على الصعيد الكمي فقط؟ هل كمية المعلومات التي يعالجها العقل هي التي تفرق وحدها بين الإنسان وأسلافه الحيوانات الأكثر قربا منه (والأكثر ذكاء)؟ في الواقع تسمح بعض التأملات في علم الأعصاب بالتفكير في هذا الافتراض. فلا يمكن عامة مقارنة حجم عقول حيوانات مختلفة؛ فنظرا إلى اختلافات الحجم والتركيب التشريحي، لا معنى لمثل هذه المقارنات. ولكن يمكننا في المقابل التفكير في القيام بذلك بين فصيلتين متشابهتين تشريحيا مثل الشمبانزي والإنسان،
4
ولكن حجم جمجمة الإنسان حوالي أربعة أضعاف حجم جمجمة الشمبانزي؛ وبذلك يمكننا أن نتخيل إجمالا وجود قسمين إضافيين للخلايا العصبية؛ ومن ثم أربعة أضعاف عدد الخلايا. وعندما نعرف أن كل خلية تتفاعل مع الآلاف من الخلايا الأخرى، يزيد ذلك من احتمالات التفاعل بصورة هائلة. فيبدو إذن من المعقول أن الاختلاف الجوهري بين الإنسان والحيوانات يكمن أولا في هذا التفاوت الكبير في كمية المعلومات التي يعالجها العقل.
ولكن الفلسفة تعلمنا أن الكمية قد تتحول أحيانا إلى نوعية، وهذا ما نلاحظه بالطبع لدى الجنس البشري، فهو بالطبع حيوان ومزود بآليات جينية أو فسيولوجية أو عاطفية تميزه جوهريا عن (بقية) الحيوانات، ويبلغ بفضل قوة عقله «طريقة عيش» جديدة، فيحول النماذج الأولية التي لاحظناها عدة مرات لدى أسلافه الحيوانات إلى إنجازات مدهشة في أغلب الأحيان (انظر الفصول الثامن والتاسع والحادي والعشرين)، ويكون ذلك على مستويين يتلاءمان إجمالا مع عمل نصفي مخه. (2-3) معالجة المعلومة ونصفا المخ
لدى الإنسان الأيمن (بما أن المسألة تزداد تعقيدا لدى الشخص الأعسر، ولن نتطرق إليها هنا) يعالج نصف المخ الأيسر المعلومات البسيطة بصورة تحليلية ومجردة ويحاكي العالم الخارجي، فيستكمل هكذا معرفة العالم الواقعي والبيئة التي يتحرك فيها، وهي العملية التي تبدأ بالفعل لدى الحيوانات «المتطورة» وتحولها إلى معرفة أكثر تعقيدا نسميها «المعرفة العلمية». وبعبارة أخرى، يتعلق النصف الأيسر باللغة والعقلانية. ومن أجل إبراز هذه العملية المهمة المتمثلة في معالجة المعلومة، أطلق الإنسان على نفسه لقب «الإنسان العاقل». وما دمنا نتحدث عن الإنسان الأيمن، فإن النصف الأيمن يعالج بصورة إجمالية وواقعية صورا وأشكالا ورسوما بيانية شاملة؛ أي مجموعة من المعلومات الأكثر تنظيما دون أن يفصل مكوناتها وغالبا بإضافة ملمح عاطفي. ويسهم هذا النصف أيضا في توليد الفكر الخيالي والأولي، كما رأينا لدى الحيوانات، ويدفع الجهاز العصبي إلى محاكاة ما وراء الواقع، وبعبارة أخرى يتعلق هذا النصف باللاعقلانية بل بالفن.
كان ذلك بالطبع وصفا إجماليا بما أن نصفي المخ يعملان معا في تناغم ويتفاعلان بلا توقف. فالفن على سبيل المثال حتى إن كانت نقطة انطلاقه هي النصف الأيمن فهو يعود بصورة عرضية وضرورية إلى النصف الأيسر ليأخذ شكل التعبير اللغوي أو ليتم كتابته، وذلك عندما يتعلق الأمر بالأدب أو حتى الموسيقى. فلا ينبغي إذن أن نبالغ في الفصل بين النصف الأيمن والأيسر للمخ.
بيد أن هذه المعالجة المتشعبة التي يقوم بها العقل فائق القوة للمعلومة والتي تؤدي في آن واحد إلى محاكاة عقلانية العالم وإلى المحاكاة - التي لا تقل غرابة - للاعقلانية العالم الخيالي، قد تمثل الصفة الأكثر تمييزا للحيوان الإنساني. فننتقل هكذا من عمل عقلي يبرز أولا بفضل كمية معلوماته إلى صفات خاصة: العلم الدقيق والعالم الخيالي الذي لا حدود له وكلاهما مصدر للابتكار والإبداع وميزة لجنسنا على كوكب الأرض.
وفي مواجهة كل هذه الحجج التي تشير في مختلف فصول هذا الكتاب إلى التشابه الكبير جدا بين البشر والحيوانات، ما هي إذن السمة المميزة لجنسنا البشري؟ إن سمة «الروح» التي قد يمتلكها الإنسان وحده لا يمكن فصلها عن بعض الاعتبارات الدينية المحددة وهي بعض العادات الدينية التي تؤكد هذا الاختلاف الجوهري؛ لذا لا يمكن لهذه السمة أن تمثل إجابة شاملة. فتعتبر إذن الاختلافات المرتبطة بالقدرات الاستثنائية للعقل الإنساني أكثر إقناعا؛ شعور أكبر بالوقت والمستقبل، وولوج مميز إلى عالم الخيال، وحوار بين العقلاني (المعرفة) والخيالي وهو حوار قد يرجع أصله العصبي إلى الحوار بين نصفي المخ. وتؤدي هذه الاختلافات لدى الإنسان إلى توليد قدرات على الابتكار ترتبط بالقدرة على معالجة كمية هائلة من المعلومات، وهي قدرة تحول الكمي إلى النوعي الخاص بالإنسان؛ أي تحول الكم إلى الكيف، إلى طريقة عيش مختلفة تقوم على فكر معقد لا مثيل له على كوكب الأرض.
يعتبر كل ما يدفعنا إلى التفكير في الخصائص المميزة للإنسان، لا سيما نشاطه الثقافي الضخم الذي يتجلى في مجال العقلانية والعلم وكذلك في العالم الخيالي والفن، نتاجا لنشاط عقلي لا مثيل له، فيحول كمية المعلومات إلى نوعية ويمنح الإنسان «طريقة عيش» جديدة.
من وجهة نظري باعتباري عالم أحياء، يعد ظهور هذا العقل فائق القوة عبر الاصطفاء الدارويني أحد العناصر الأساسية للخصائص المميزة للإنسان حاليا مقارنة بالحيوانات. (3) الثقافة شكلت ذكاء الإنسان وقد تشكل مستقبلا ذكاء الآلات
يعتقد عدد من الباحثين في الذكاء الاصطناعي أنه من أجل ظهور الذكاء يكفي إعداد شبكة من الخلايا العصبية يكون لها سمات مشابهة للعقل الإنساني من حيث الحجم وعدد التوصيلات وسرعة النقل. فبسبب اطمئنانهم من ناحية التطور السريع لقوة أجهزة الكمبيوتر، هم مقتنعون بأن هذا العصر سيأتي خلال بضعة عقود على أقصى تقدير. ينبغي فقط أن ننتظر.
وكما رأينا يتميز الإنسان بالفعل عن سائر الحيوانات الأخرى بالحجم النسبي لعقله. ويتفق هذا النهج الكمي للذكاء مع نموذج «المذهب العقلي» الذي يفسر تطور الإنسان عبر المعطيات حول حجم جمجمة فصيلة القردة العليا المكتشفة. وفي هذا الإطار، يعتبر العقل هو الشرط المسبق اللازم لبناء أدوات ولتطوير الثقافة ولتكوين لغة خطاب، فلا يستحيل شيء على العقل الكبير.
يحكي علماء مختصون بعصور ما قبل التاريخ وعلماء أنثروبولوجيا قصة مختلفة.
5
فهم يرون أن التحول إلى الإنسان بدأ بالأقدام. فإن جمجمة طفل تونج التي اكتشفها دارت عام 1924 وهو ذو قدمين وعقل صغير، تعتبر من العناصر المؤيدة لهذا الافتراض. فربما دفعت بعض الظروف البيئية الخاصة أسلافنا القدماء إلى اختيار نمو طريقة خاصة للجسم: وهي السير منتصبا. ولكن ليس من السهل اكتساب مهارة السير على قدمين؛ لأنها تحد حقيقي لتشريح أجسام ذوات الأربع، فيحتاج الإنسان إلى حوالي مليونين أو ثلاثة ملايين عام لكي يطور تشريحا، ومهارات تسمح بقوام رأسي مريح ومستقر. فمن يعانون حتى يومنا هذا من آلام في الحوض أو الركبة أو الظهر يعرفون جيدا كم هو مناف للطبيعة السير واقفا. لقد اختار الإنسان السير منتصبا ثم تكيف الجسم تدريجيا.
وهنا تبدأ مغامرة غريبة. فالسير على قدمين يسمح باستخدام الأيدي في مهام جديدة. فاليد تستخدم في حركات الروابط الاجتماعية وفي التخلص من القمل وفي وضع الزينة وفي لعب الأطفال وفي إظهار الحنان والحب، فاليد تفسح المجال للتعقيد الثقافي.
وتسمح اليد أخيرا وخاصة بالحركة التقنية. ومنذ ذلك الوقت حلت اليد المقترنة بالشيء المصطنع، أي جهاز اصطناعي بديل، محل الأسنان للإمساك بالشيء أو نقله أو تحطيمه أو تمزيقه، مما أدى إلى صغر قناع الوجه وعضلاته. وتناقصت الضغوط العضلية التي تتعرض لها قشرة الجمجمة، فعندما تتحرر الجمجمة من العضلات، تسمح بنمو عقل أكبر حجما.
وتنشأ حينئذ دائرة ممتلئة فتؤدي زيادة حجم العقل إلى توسيع القدرة على الحركة وتعقد الأشياء المصطنعة والتقنيات الثقافية. ومن أجل إنجاب طفل بهذا العقل الكبير يتعين على الطفل الإنساني أن يولد مبكرا عن الحيوانات وسيكون أمامه أن يتعلم الكثير.
يبدو أن التشريح والقدرات العقلية والثقافة يرتبط كل منها ارتباطا وثيقا بالآخر من أجل فهم طبيعة الذكاء الإنساني. فقد اتخذ الجنس البشري مسارا ثقافيا محددا، وكان بإمكانه أن يكون مختلفا. أما الحيوانات الأخرى فقد استكشفت سبلا أخرى. وفي هذا الإطار لا يرتبط الذكاء فقط بكمية المعلومات أو القدرة على التعلم، فلا يمكن النظر إليه إلا في إطار بيئة محددة وسلالة ثقافية معينة.
وإذا شكلت الثقافة بالفعل ذكاء الإنسان فمن المرجح أن عملية ثقافية واحدة قد تؤدي إلى ظهور آلات مزودة بنوع من الذكاء. يتعين إذن إعادة النظر في مسألة ذكاء الآلات في ضوء قدرتها على التعلم من خبرتها وعلى التخيل مما تعلمته وعلى نقل نتاج هذا التخيل إلى آلات أخرى عبر الثقافة. وربما يكون من المستحيل تصميم آلة ذكية من العدم حتى لو زودناها بعقل كبير. ولكن من الوارد في المقابل أن تستطيع آلة ما تطوير مهارات أكثر إتقانا مع زيادة خبراتها. ومن الممكن أيضا أن تستطيع مجموعة من الآلات إنتاج أشياء مصطنعة أو تمثيلات يمكن نقلها ثقافيا من جيل إلى جيل، ومن شأنها أن تعجل ببدء التعلم لدى الآلات اللاحقة. ولن تكون هذه العملية وحدها هي التي ستتيح لسلالة من الآلات في يوم ما أن تنمي نوعا مميزا من الذكاء المتطور.
وفي مواجهة هذه التخمينات يتعين علينا ذكر ما ينبغي إضافته إلى كل فصل من فصول هذا الكتاب. وسنكتفي كالعادة بترجمة اللغز الغريب لتطور الذكاء الإنساني أو تعميمه في لغة الآليات التي نفهمها. فما يفهم جيدا يتحول إلى آلة وفي المقابل تغير الآلات من نظرتنا إلى جوهرنا. (4) إعادة تعريف مستمرة للطبيعة الإنسانية
لقد ذكرنا أن الإنسان الذي يتسم بالنقص والضعف في وسط الغابة الأولية التي ظهر فيها ولكن المزود بذكاء استثنائي سمح له في نهاية المطاف بالسيطرة على الكوكب، طالما سعى إلى معرفة نفسه وتعريفها. وقد بدأ منطقيا بتعريف نفسه أولا بالمقارنة مع بقية الكائنات الحية التي تملأ الأرض معه، أي «الحيوانات» التي يشبه سلوكها سلوك الإنسان في العديد من الأمور على الأقل فيما يتعلق بالسلوكيات الأكثر تعقيدا، ولكنه اضطر مؤخرا إلى مقارنة قدراته بقدرات كيانات أخرى صنعها هو بنفسه بفضل ذكائه، وهي «الآلات» التي يزداد إتقانها، والتي تستطيع أن تتجاوزه في بعض المجالات، والتي يسمح تطورها المنتظم بأن نتخيل أنها سوف تمتلك في المستقبل قدرات أكثر قربا من قدرات الإنسان.
ولقد قادنا تعريف حدود الخصائص المميزة له حاليا إلى موقفين مختلفين: موقف عالم الأحياء وموقف المهندس. ولا يجب أن يختلط علينا الأمر: «مختلفان» لا يعني أنهما «متعارضان». فما بين العقل البشري والثقافة الإنسانية ثمة لعبة تفاعلات معقدة أو ما يمكن أن نسميه جدلا هكذا تجعل من الصعب تحديد العنصر المحرك أو الأساسي في التفاعل. ويعتبر دور كل من العقل والثقافة أساسيا فيما نسميه «التحول إلى الإنسان» ولكن لكل منهما وزن مختلف. وهنا نجد أيضا تفرقة بين مفهوم «بيولوجي» ومفهوم «أنثروبولوجي» لهذا التحول، وبالرغم من كون أحدهما يكمل الآخر فإن المواجهة لا تزال مستمرة بين هذين المفهومين في كتابات الخبراء.
وعلى أية حال، ثمة تشابه بين الحيوانات والآلات: فنحن نعرف أنفسنا بالاتصال معها. وبما أننا نقارن أنفسنا بها فهي تجبرنا على وضع مسألة تميزنا موضع سؤال، وهو سؤال قديم وسيستمر طرحه في المستقبل بلا شك كلما اكتشفنا قدرات جديدة لدى الحيوانات وأنشأنا آلات أكثر إتقانا. وهذا هو ما نود أن نختم به: إنها هذه الرؤية لإنسان يعيد تعريف نفسه بصورة مستمرة.
تعد الكتب بلا فائدة في بعض المجالات؛ فعن طريق العيش مع حيوان ما نقتنع بذكائه، وعن طريق استخدام آلة ما بصورة يومية يمكن أن تتغير مفاهيمنا المسبقة حول ما يمكنها أو لا يمكنها فعله. ولقد اكتفينا هنا بالعودة إلى ما نعتقد معرفته عن الحيوانات والآلات والتركيز على أهميتها في تكوين إنسانيتنا. والآن يتعين على كل فرد أن يستعين بخبرته لتكوين رأي حول الطريقة التي تحول بها الحيوانات والآلات من جوهره يوما بعد يوم .
ملاحظات
مقدمة
الجزء الأول : القدرات البشرية للحيوانات والآلات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء الثاني: الإنسان وعلاقته بالحيوانات والآلات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء الثالث: القدرات المميزة للإنسان عن الحيوانات والآلات
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
خاتمة
مراجع المؤلفين
(1) مراجع مختارة لجورج شابوتييه
G. Chapouthier, M. Kreutzer, C. Menini,
Études vivantes, Paris, 1980 (épuisé).
J.-J. Matras, G. Chapouthier,
L’Inné et l’acquis des structures biologiques,
collection “Le Biologiste”, Presses Universitaires de France, Paris, 1981 (épuisé).
G. Chapouthier, J.-J. Matras,
Introduction au fonctionnement du système nerveux (codage et traitement de l’information),
MEDSI, Paris, 1982 (épuisé).
G. Chapouthier,
Mémoire et Cerveau-Biologie de l’apprentissage,
collection “Science et Découvertes”, Le Rocher, Monaco, 1988 (épuisé).
G. Chapouthier,
Au bon vouloir de l’homme, l’animal,
Denoël, Paris, 1990.
G. Chapouthier,
Les Droits de l’animal,
collection “Que sais-je?”, Presses Universitaires de France, Paris, 1992 (traduit en tchèque).
G. Chapouthier,
La Biologie de la mémoire,
Collections “Que sais-je?”, Presses Universitaires de France, Paris, 1994 (épuisé).
G. Chapouthier, J.-C. Nouët (sous la direction de),
Les Droits de l’animal aujourd’hui,
collection “Panoramiques”, Arléa et Ligue Française des Droits de l’Animal, Paris, 1997.
G. Chapouthier, J.-C. Nouët (editors),
The universal declaration of animal rights, comments and intentions,
Ligue Française des Droits de l’Animal, Paris, 1998.
G. Chapouthier,
L’Homme, ce singe en mosaïque,
Odile Jacob, Paris, 2001.
G. Chapouthier,
Qu’est-ce que l’animal?,
Le Pommier, Paris, 2004 (traduit en espagnol et en coréen).
G. Chapouthier (sous la direction de),
L’Animal humain. Traits et spécificités,
collection “Le mouvement des savoirs”, L’Harmattan, Paris, 2004.
G. Chapouthier,
Biologie de la mémoire,
Éditions Odile Jacob, Paris, 2006.
J.-C. Nouët, G. Chapouthier (sous la direction de),
Humanité, Animalité: quelles frontières?,
Éditions “Connaissances et savoirs”, Paris, 2006.
M.-H. Parizeau, G. Chapouthier (sous la direction de),
L’être humain, l’animal et la technique,
Les Presses de l’Université Laval, Québec, Canada, 2007.
R. Jouvent, G. Chapouthier (sous la direction de),
La cognition réparée? Perturbations et récupérations des fonctions cognitives,
Éditions de la Maison des Sciences de l’Homme, Paris, 2008.
G. Chapouthier,
Kant et le chimpanzé-Essai sur l’être humain, la morale et l’art,
Éditions Belin, Paris, 2009, Prix “Achille Urbain” 2010 de l’Académie Vétérinaire de France (traduit en espagnol et en serbe).
S. Dallet, G. Chapouthier, E. Noël (sous la direction de),
La création-définitions et défis contemporains,
L’Harmattan, 2009.
G. Chapouthier,
O faut bin rigoler in p’tit,
en langue saintongeaise, Éditions des régionalismes Pyrémonde, Monein, France, 2010.
J.-P. Engélibert, L. Campos, C. Coquio, G. Chapouthier (sous la direction de),
La question animale-Entre science, littérature et philosophie,
Universitaires de Rennes-Espace Mendès-France Poitiers, 2011.
G. Chapouthier, J.-G. Ganascia, L. Naccache, P. Picq,
Que reste-t-il du propre de l’homme?,
Les Presses de L’ENSTA, Palaiseau, 2012. (2) مراجع مختارة لفريدريك كابلن
F. Kaplan,
La naissance d’une langue chez les robots,
Hermès Science Publications, Paris, 2001.
F. Kaplan,
Les machines apprivoisées,
Vuibert, Paris, 2005.
M. Layet, P. Bultez-Adams, F. Kaplan,
Futur 2.0,
Fyp Éditions, Où?, 2007.
Kaplan,
La métamorphose des objets,
Fyp Éditions, 2009.
Mäkitalo-Siegl, K., F. Kaplan., Fisher, F. et Zottman, J.,
The Classroom of the Future,
Sense, Où?, 2010.
Page inconnue