ففتحها واقترب من المصباح وقرأ فيها: «لا ينبغي للسلطان أن يطمئن لأهل أمه بعد أن طاردهم وذبحهم، فإن ما كتب في صحائف الدهور كائن، والخطر سيأتي من طفل أمه أرمنية وأبوه السلطان.»
فلما فرغ نادر أغا من تلاوة الورقة اقشعر بدنه لأنه يعتقد في التنجيم مثل سيده، وأطرق مفكرا فابتدره السلطان قائلا: «ألا تراني معذورا؟ ألا توافق على رأيي؟ هل يجوز الإغضاء عن تلك المرأة إذا صح أنها حامل؟ قل.»
فقال: «إن سيدي البادشاه صاحب القول. لا شك أن بقاءها على هذه الصورة خطر، ولكن هل ثبت حملها؟»
قال: «يكفي الشك للتعجيل بالقتل. قد نكون مصيبين وقد نكون مخطئين، فإذا صبرنا ووضعت غلاما أصبح التخلص منه شاقا وتحوم حولنا الظنون. أما الآن فالإنسان عرضة للمرض والموت في كل ساعة، والأطباء يرسلون الإنسان إلى العالم الآخر بجرعة لا يشعر معها بألم ولا عذاب، فأحب إرسال هذه المخلوقة من هنا وإن كنت آسفا لذلك، لأن المسكينة كانت تحبني.»
فقال نادر أغا: «لا فضل لها في حبها، ومن الذي لا يحب مولانا الخليفة ظل الله على الأرض؟ إن المحافظة على سلامته فرض لا بد منه ولو قتل الألوف في سبيله، وأنا أول من يضحي نفسه في هذا السبيل، أطال الله بقاء أمير المؤمنين!»
قد نجل ذكاء عبد الحميد عن أن ينطلي عليه هذا الإطراء أو يعتقد صدقه، ولكن الإنسان ضعيف، وقد يكون قويا من كل جهة إلا من جهة اغتراره بنفسه فيكون غاية في الضعف، يقبل الإطراء ولو كان بعيد التصديق ولا سيما إذا كان لا يسمع غيره، وكل الذين حوله يتسابقون إلى استنباط عبارات الإطراء تملقا له وتقربا منه، فلا عجب إذا صدق عبد الحميد مثل قول نادر أغا ثم قال له: «إنني أكل أمر هذه المرأة إليك.»
وكان نادر مخلصا لمولاه وإن لم يعرف كيف يؤكد إخلاصه، فلما وكل السلطان إليه هذا الأمر أشار مطيعا. ثم تحفز السلطان للنهوض في طلب الرقاد، فنهض نادر أغا وخرج بعد أن قام بواجب الاحترام.
أما عبد الحميد فهاجت أشجانه في ذلك المساء على أثر ما تحدث به عن المنجمين والأرمن والقتل، فزادت مخاوفه وغلب عليه ميله إلى التستر والاختفاء. فأظهر أنه ذاهب للرقاد في دار الحريم، وبعد أن خلا إلى نفسه طلب النوم في غرفة المائدة على كرسي طويل فوقه ملاءة من الصوف، يوجد مثله في كل غرفة بالقصر لينام السلطان متى شاء دون أن يعرف أحد مقره. •••
نام عبد الحميد في تلك الليلة نوما متقطعا كالعادة، ولما أفاق في الصباح هرع إلى الحمام وقام ببعض الحركات الرياضية، ثم لبس ثيابه العادية وانصرف إلى غرفة المطالعة، وكان القهوجي باشي قد وقف هناك وأعد الأدوات اللازمة لطبخ القهوة بين يديه.
فقعد عبد الحميد ينظر إلى القهوجي باشي وهو يهيئ القهوة، وتناول سيكارا فأشعله وشرب القهوة بلذة، وفكره مشغول بما عساه أن يأتيه من الأخبار الجديدة في ذلك اليوم.
Page inconnue