كذلك كان عبد الحميد سلطان البرين وخاقان البحرين، الذي دانت له الرقاب، وكاد يسيطر حتى على عناصر الطبيعة فإذا غضب غضبت، وإن رضي ابتسمت. على أن ذلك كله لم ينفعه بعد ما ارتكبه من الشطط في تلك السيادة ، وتجاوز بها الحد، فتولاه الخوف والقلق كما كانت حاله في ذلك الليل.
ولو أنك أوتيت المعجزة فاستطعت أن تدخل ذلك القصر الفخم في غفلة من الحراس، ثم أقبلت على مسكنه الخاص في الساعة الثالثة بعد نصف الليل، لعلمت أن أهل تلك القصور قد استغرقوا في نومهم، ولرأيت الحراس الموكلين بالسهر والحذر قد غلب عليهم النعاس أيضا فناموا، ولم يبق أحد ساهرا هناك إلا صاحب ذلك القصر وسيده، الذي أوصدت الأبواب لوقايته وأقيم الجند لحمايته، فإنه ما زال ساهرا يتقلب على كرسي طويل توسده وقد التف بملاءة من الصوف، وأخذ يقرأ تقريرا جاء من بعض جواسيسه فأقلق راحته وحرمه النوم، وقد غلب عليه التعب والأرق وهو يطلب الرقاد ليريح جسمه ويبعد مخاوفه فلا يجد إليه سبيلا.
فلما دقت الساعة الرابعة أطبقت أجفانه وأصبح كالنائم، ولكنه ساهر مستيقظ بما انتابه من الأحلام المزعجة، ففضل اليقظة لأن النور يؤنسه والاستغراق في الأفكار المتضاربة أولى من الذهاب فريسة تلك الأحلام، فعمد إلى كتاب لماكيافلي تعود أن يلهو بقراءته ففتحه وقرأ فيه هنيهة، ثم تركه وخطر له أن يلهو بالنجارة، وعنده في ذلك القصر غرفة فيها كل معدات هذه الصناعة، ولكنه تكاسل.
وظن العلة من الفراش فغادر الكرسي في غرفة المائدة إلى كرسي في غرفة البيانو فلم يجده التغيير نفعا، فرمى الورق من يده ومشى يطلب رقادا في غرفة أخرى، ثم ندم فعاد والتقط تلك الأوراق المتناثرة فجمعها ورتبها واحتفظ بها وضمها إلى صدره، وذهب إلى كرسي آخر في غرفة الكتابة، وطفق يقرأ وهو لا يفهم ما يقرأ لفرط التعب، فغلبه النعاس فنام حتى طلع الفجر، وكأن صياح الديك نبهه فنهض، ودقت الساعة السادسة، ثم سمع صوت المؤذن فخرج للوضوء، فرأى صاحب الوضوء ينتظره فهرع إلى حمامه الخاص وفيه الأجران الرخامية المعرقة بالذهب والحنفيات المذهبة، وأفكاره تائهة. وأدى فرض الصلاة، وعاد إلى التقرير فتأبطه ومشى نحو باب من ذلك القصر يستطرق إلى الحديقة الداخلية، وقد التف بعباءة كستنائية اللون واسعة الأردان تكسو أثوابه.
وهو نحيف الجسم ربعة، أو دون الربعة، لا يزيد طوله على خمس أقدام، عصبي المزاج، وكان في شبابه طلق المحيا مستدير الوجه، فأصبح يومئذ وقد تغيرت سحنته لفرط ما عاناه من بواعث الحذر على حياته، لأنه قاسى عذاب الموت خوفا من الموت، وكابد مرارة الاستعباد رغبة في الاستبداد. فمن عرفه في شبابه ينكره الآن، فقد برز فكاه ووجنتاه وأنفه، وخفت لحيته، وغارت عيناه لارتخاء الجفن العلوي من الشيخوخة، وظهرت غضون وجهه، وتساقط شعر رأسه، فصار يغطي صلعته بطربوش كبير ينزل إلى أذنيه، وقد لبسه في ذلك الصباح فبان امتقاع وجهه من تحته.
وأصبح في شيخوخته سوداوي المزاج، فإذا رأيته تحسبه مثقلا بالهموم ولو كان في أسعد أحواله، فكيف وهو في قلق مقيم مقعد؟!
دخل الحديقة وهو ملتف بالعباءة وقد تأبط ذلك التقرير تحتها. وكانت الشمس قد أطلت من وراء جبال آسيا فأصابت أشعتها أطراف الأغصان، فاستيقظت العصافير وأخذت ترفرف وتزقزق، وابتسمت الأزهار وصفقت الأوراق وسرح الإوز في البحيرة حول القوارب، وتطاير الحمام في أبراجه وأخذ يتداعب، وبسط الطاووس ذيله ومشى في قفصه مرحا مزهوا، وتجاوبت الكراكي والحساسين وصهلت الخيول. وأصبح كل حي في تلك الحديقة ضاحكا مسرورا إلا عبد الحميد، فإنه مشى في أكنافها مقطب الوجه منقبض النفس في غفلة عن كل ذلك، والقهوجي باشي يسير في أثره ومعه أدوات القهوة لعل سيده يطلبها. ولم يكن هناك سواهما، مع كثرة من في تلك القصور من النساء والرجال، وعددهم يزيد على خمسة آلاف، لكنهم لا يجسرون على الظهور في حضرته إلا بطلبه، على أنهم كانوا يتشوفون إليه من النوافذ يراقبون حركاته خلسة. •••
جال السلطان عبد الحميد في الحديقة هنيهة، ثم مضى إلى كشك من الخشب بجانب البحيرة وجلس على مقعد فوق وسادة من الحرير، وأشار إلى القهوجي باشي أن يهيئ له القهوة، ثم تناولها وهو يعمل فكره فيما قرأه، وإذا هو يسمع ضحكا عرف من طوله وإطلاقه أنه ضحك ابنه أحمد نور الدين أفندي، وهو يومئذ في السابعة من عمره، وليس هناك من يجرؤ على الضحك في حضرة البادشاه سواه. فالتفت إلى جهة الصوت فرأى الغلام يلاعب ببغاء جميل اللون بين يدي مربيته ويضحك ابتهاجا بذلك.
والتفت عبد الحميد إلى المربية وأومأ إليها أن تعيد الببغاء إلى قفصه.
ولم تكن المربية عالمة بوجود السلطان هناك، فتركت الغلام مسترسلا في ملاعبة الببغاء، وما لبثت أن سمعت نحنحة السلطان فأجفلت وهمت بالفرار، لكنها سمعته يناديها فتجلدت وقادت الغلام إلى الكشك لتعتذر من جرأتها بوجوده معها، فأفلت الغلام من يدها، وأسرع بدالة الطفل إلى أبيه ورمى نفسه عليه، فاستقبله أبوه وقبله وأراد أن يخفف ما به بمحادثته، فأقعده على حجره وسأله عن سبب قدومه إلى الحديقة في تلك الساعة.
Page inconnue