فجلس وهو يهز رأسه مهددا وقال: «مع خريستو الألباني؟ ها ها ...» وأخذ يفتل شاربيه ويعمل فكرته، ثم أخرج علبة السجائر وأخذ سيكارة فأسرعت توحيدة إلى إشعالها بعود من الكبريت قدمته له ويدها ترتجف، فأشعل سيجارته وأخذ في تدخينها وهو ينظر إلى صورة معلقة بالحائط كأنه يتشاغل عن الغضب الذي تولاه، فابتدرته توحيدة قائلة: «إن شيرين لا يمكن أن تهرب يا سيدي، لعلها عند بعض صواحبها، وإن كانت لم تفعل ذلك من قبل.»
فقال: «وكيف تهرب؟ إننا نسد الطرق دونها. وإذا هربت فإنها تطلب مناستير أو غيرها، أو لعلها تذهب إلى رسنة لأن لكم أهلا بها. ولو أنها فرت مع خادمها إلى ألبانيا بلده فإنها تحمل إلينا صاغرة.»
فصاحت توحيدة بلهجة الاستعطاف: «أتوسل إليك يا سيدي أن تساعدنا في استرجاعها!»
فقال: «ولكني لا أستطيع ذلك إلا إذا أبلغت الحكومة ذنبها، فتبعث الرسائل البرقية إلى محطات السكك الحديدية للقبض عليها.»
قالت: «لا، لا يا سيدي، ليس هذا ما نطلبه، وأخاف حينئذ أن نقع نحن فيما هو شر من ذلك، وأنت لا ترضى أن تلحق بنا هذا الأذى إذ لا ذنب لنا، ولا لشيرين أيضا فإنها مغرورة. ولو صبرنا عليها يوما أو يومين وأخذناها بالتؤدة لانصاعت إلى ما نريد، ولكننا تعجلنا رضاها وهي في إبان غضبها فلم تطع. ومع ذلك لا أعتقد أنها خرجت من سلانيك، لأنها لم تتعود الخروج من المنزل، فكيف تطلب موناستير أو غيرها؟! فلنصبر هذا اليوم فقط ريثما نبحث عنها في بعض الأماكن التي نظنها توجد فيها، فإذا لم نجدها تباحثنا في الأمر.» قالت ذلك وعيناها تذرفان الدمع وصوتها مختنق، ولم تستطع الوقوف فانصرفت إلى غرفتها.
فلما خلا طهماز إلى صائب قال له: «لا تخف، إنها لا تهرب ... وكيف تهرب ولا نقود عندها؟ إنها سترجع صاغرة مطيعة وتعترف بخطئها، وقد صدقت توحيدة في أننا أخطأنا بمباغتتها وتعجيل رضاها. أنا وعدتك بها وأنا مطالب بوفاء الوعد. قبحها الله! أين تجد أحسن من صائب بك في كل الذين حولنا؟!»
فقال صائب: «لا يهمني الآن رضيت أم لم ترض بعد الذي شهدته من فظاظتها وعنادها، لكنني أصبحت مطالبا ألا أخون ولي نعمتي.»
فأدرك طهماز أنه يشير إلى كتابها الذي عنده، وأنه ينوي تبليغه إلى الحكومة، فقال: «إنك إن بلغت نبأ كتابها إلى الحكومة ولم تجدها وقع غضبها علينا ولا ذنب لنا كما تعلم، فنحن من أشد الناس إخلاصا للذات الشاهانية. فهل تريد أن نؤخذ بذنب سوانا؟!»
قال: «أنت والحق يقال مخلص لأمير المؤمنين، ولو كان الكل مثلك لخلصت البلاد من القلاقل، وستنال المكافأة على إخلاصك، ولا ريب عندي أنك إذا أطعتني وذهبت معي إلى القصر لقيت ما يسرك.»
فبرقت أسارير طهماز إعجابا بنفسه وقال: «إذن فلننتظر يوما أو يومين، ولا بد من ظهور الفتاة بعد أن تكون قد قاست الهوان والعذاب، فترجع عن غيها وتثوب إلى رشدها وتعلم أنك نصحت لها. ولا ينبغي لنا أن نحاسبها على ما فرط منها، فإنها لم تخرج عن كونها امرأة، وهل تحاسب النساء عن أعمالهن وهن ناقصات العقل، ولا سيما في هذا العصر الذي أصبح رجاله لا يحاسبون على غلطهم لشذوذهم عن المألوف؟! إنهم يخرجون على الخليفة ويطلبون قلب الحكومة أليس هذا من الطيش؟ وهل يحاسب المجنون على عمل يعمله؟ فكيف إذا كان فتاة والنساء لم يخلقن إلا للطبخ والخدمة وتربية الأولاد؟! ولكن الزمان تغير، وقانا الله عاقبة أعمالنا!»
Page inconnue