فقالت والدتها: «إنها تشكو صداعا أليما لم يفارقها من الصباح.»
فقالت طهماز: «ادعيها، لا بأس عليها!»
قالت: «ألححت عليها كثيرا، وأنا آتية من عندها الساعة، فلم تقدر أن ترفع رأسها، واستولى عليها البكاء من شدة الألم.» قالت ذلك حذرا من أن ينهض أبوها فيراها باكية ويتهمها بشيء آخر.
فقال صائب: «لا بأس عليها! هل علمت بحادث رامز؟ لا شك أنها تأسف كثيرا له. سامحه الله! ما كان أغناه عن تلك الأعمال الصبيانية.»
وكان الطعام قد حضر وصب في الأطباق، واستغرق طهماز في الالتقام والمضغ فوضع صدر دجاجة كما هو في فيه، ولما سمع كلام صائب هم أن يجاوبه ولكن فمه مملوء، فاستمهله بأصابعه ريثما يبلع بعض اللقمة، ثم قال وهو يقطع الخبز ويهيئ لقمة أخرى: «كثيرا ما نصحته فلم ينتصح. إن شبان هذا الزمان لا يعجبهم العجب، لا يعجبهم سلطاننا - أيده الله - مع أنه من أحسن سلاطين آل عثمان، هل كان عبد العزيز أحسن منه؟ إنه لا يفوته وقت الصلاة مطلقا، وفي الأستانة ألوف من الناس عائشون من بقايا مطبخه، فلو أقفلت يلدز الآن لمات هؤلاء جوعا. ثم كيف يستطيعون مقاومة خليفة الرسول؟ كان ينبغي أن يكون لهم عبرة بالذين تقدموهم من أمثالهم الشبان المغرورين وكيف كانت عاقبة أمرهم، ماذا ينالهم من هذا العناد غير العذاب؟ ألا يرضون أن يعيشوا كما عاش آباؤهم وأجدادهم؟» وقد اختصر طهماز خطبته البليغة لئلا تضيع عليه لقمة وعاد إلى الأكل.
فقال صائب: «أنا لا ألوم الأحرار على التشكي من الخلل فإنه موجود، لكنني ألومهم لاستعمال العنف في مساعيهم كعمل المكايد لقتل الخليفة أو أعوانه والكتابة الشديدة في الجرائد الأجنبية. هذا لا يفيد، ولا بد من استعمال التؤدة.»
وكانت شيرين تسمع قوله، وتكاد تثب من السرير لتجاوبه، لكنها صبرت نفسها وسكتت. •••
ولما فرغوا من الطعام تناولوا القهوة، ونهض صائب للانصراف فودع طهماز وزوجته ودعا لشيرين بالسلامة، وركب عربته وانصرف.
ودخل طهماز لمشاهدة ابنته فرآها نائمة فتركها وذهب للقيلولة، ولم تمض بضع دقائق حتى ملأ شخيره البيت. أما توحيدة فلم تنم لما تولاها من القلق على ابنتها، فضلا عن خوفها على رامز.
وفي الأصيل نهض طهماز، وبعد أن تناول القهوة نادى امرأته إلى غرفته فأتت وهي تقول في نفسها: «ما الغرض من هذا الطلب يا ترى؟» فلما دخلت عليه دعاها للجلوس إلى جانبه فجلست، فقال لها: «بعد قليل يأتي صائب بك، ماذا نقول له؟»
Page inconnue