Le Coup d'État Ottoman et Turquie Jeune: Histoire la Plus Fidèle du Plus Grand Coup d'État
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة: أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
Genres
مقدمة
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة
مقدمة
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة
أصدق تاريخ لأعظم انقلاب
تأليف
روحي الخالدي
مقدمة
Page inconnue
بسم الله الرحمن الرحيم
وشاورهم في الأمر (آل عمران، الآية: 159)،
وأمرهم شورى بينهم (الشورى، الآية: 38) «القرآن الحكيم». •••
كانت الدولة العثمانية - منذ أسسها السلطان عثمان ذلك الرجل المدير العصامي، إلى نهاية أيام السطان عبد المجيد العاقل الأبي - دولة حربية بحتة، شادت بناء عظمتها على أسس الإقدام والشجاعة والغلب، فلم يمض زمن كبير حتى أصبحت من الدول ذوات البأس اللائي يتقى غضبهن، وتخطب مودتهن؛ فأمعنت في الفتوحات، واسترسلت في الغزوات، وقلما كانت ترجع من غزوة إلا وبنود الفلج تخفق فوق رأسها، ورايات الظفر تتمايل في أيدي رجالها الكماة صلفا وفخرا؛ فعز مكانها، وتطاول بنيانها، واتسع ملكها حتى تغلغلت في أحشاء أوروبا، بعد أن استحوزت على آسيا الصغرى وجزء كبير من أفريقيا.
كانت سريعة الخطى في هذه السبيل؛ فسادت وشادت، وبنت على أطلال الدولة السلجوقية دولة عظيمة قوية، وما كان العظم في تلك العصور التي يسمونها العصور المظلمة إلا بقوة المراس، وثبات الجأش، والنشوء بين صليل السيوف، ومزاحف الصفوف.
أخذ بعضدها فاتح القسطنطينية، وكان تقيا صالحا؛ فأناف بها على اليفاع، وتوقل بها سني المراتب، ناهيك بمالك القسطنطينية إذا كان خيرا عادلا، وما زالت تتدرج في منازل العظمة، ومواطن السؤدد، حتى كانت أيام السطان سليمان القانوني، وفيها بلغت آخر مدى، ووقفت عند منتهى الغائية، وهو صاحب الفضل في جعلها حكومة نظامية قانونية، بعد أن كانت تجري على تقاليد محفوظة، لا غناء بها، ولا نظام لها، ومن ذلك الحين دب الضعف في جسمها، وكان إهمال أولي الأمر وجهلهم وسومهم الرعية سوء العذاب مساعدا على نماء الضعف، وسريانه في جسم الدولة، إلى أن تولى السلطان محمود الثاني، ذلك المحب للإصلاح، والدولة على شفا جرف هار ينذرها بالاضمحلال والفناء، ألفاها وقد فقدت تلك القوة التي كانت تباهي بها، ولم تضرب بسهم في العلم الذي أصبح السلاح القاطع والقوة الكبرى في ذلك الحين وهذا الحين، فقوم منآدها بما في وسعه، وأصلح فاسدها بما في طوقه، ومما يذكر له بالثناء عليه تنكيله بالانكشارية الذين كان زمام الملك في يدهم لذلك العهد، وكانوا من أشد العوامل في إفساد الدولة وإضعافها، ثم تولى الملك السلطان عبد المجيد والدولة في قلاقل داخلية ومشكلات خارجية تضعف الرجاء في إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من كبوتها، بل إرجاعها إلى سابق عزها، وسالف مجدها، فأخذ ببعضها، وحدد للحكومة وظائفها، وبين للرعية حقوقها، ويكفيه فخرا أنه هو الواضع لخط «كلخانه» المعروف.
لم يكد عبد المجيد يوارى في رمسه حتى قام السلطان عبد العزيز وهو الذي زين له حب الشهوات، وأولع بحب السيطرة، وأشرب قلبه القسوة، ينكث فتل سلفه، ويصدع رأب سابقه، وكان عونا له على هذا التخريب وزيره محمود نديم باشا، حبيب «أغناتيف» السفير الروسي في ذلك العهد، ومنفذ غايه ومقاصده.
ثم جلس على سرير الملك السلطان عبد الحميد الثاني، بعد أن تولى الملك السلطان مراد مدة لم تتجاوز ثلاثة وتسعين يوما، ولم يكد يستقر على السرير حتى أحاط به جمهور من الأحرار، وزينوا له أن يسير على سنن أوروبا، فتكون حكومته دستورية حرة، وكان مدحت باشا هو الرأس المدبر لهذه الحركة، واليد العاملة فيها، ولم تكد تقر عيونهم بتحقيق الرغيبة، حتى فوجئوا بالنفي والإبعاد، وإلقائهم في غيابة السجون، وإغراقهم في لجج البوسفور!
ابتدأت المظالم منذ ذلك الحين تحارب الأمة في جميع مقومات الحياة، والتف حول السلطان فريق من الجواسيس «يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية» فطفقوا يرضون المخلوق بما يسخط الخالق، وافترعوا ضروبا من الظلم، وأفانين من الإرهاق والتضييق، كانوا يصولون بها على الأمة صيال الوحوش الضارية، والطيور الكاسرة ذوات المخالب، وامتد بهم الإفساد إلى أن سلطوا بعض رجال الأمة على بعض، ففتوا في عضدها، وأفسدوا أخلاقها، حتى بات الابن يخشى أن يأتيه الضر من قبل أبيه، والأخ يتوقع أن يحيق به البلاء من ناحية أخيه، وكان العلم أخوف ما يخافونه، فنكلوا برجاله شر تنكيل، ففر منهم من أفلت من ظلمهم إلى أوروبا وأمريكا ومصر.
كان الأحرار في غضون هذه اللمعات والكوارث النازلة بأمتهم قد أجمعوا أمرهم سرا، وأنشئوا الجمعيات السياسية في بلاد الحرية التي تبوءوها، ونشروا الجرائد والكتب والرسائل، وكلها تنديد بالحال الحاضرة، وغلا في ذلك قوم واستخذى آخرون، حتى قام فريق من الشبان في الأستانة - ومعظمهم من طلاب المدرسة الطبية والمتخرجين فيها - فأسسوا جمعية الاتحاد والترقي منذ ثماني عشرة سنة، ثم نمت وعظمت بعد ذلك، وانتظم في سلكها كثيرون من كبار الأحرار وخيار العقلاء، وقد كان لرجالها تكتم غريب، وتحفظ شديد، وحزم عظيم، كانت بدايته السلامة من صولة الجواسيس، ونهايته ذلك الفوز الكبير والنصر المبين؛ إذ قاموا بقلب أعرق حكومة في الاستبداد إلى حكومة دستورية حرة، من دون أن تراق في سبيل ذلك نقطة دم، مع أن المسطور في التواريخ أن مثل هذا الانقلاب لم تصل أمة إلى ساحله إلا بعد خوضها في بحر لجي من الدم.
Page inconnue
لم تكن دهشة الأمة العثمانية وإعجابها بهذا الانقلاب بأكثر من دهشة سائر الأمم الأخرى، فقد تجاوزت صيحات «نيازي» و«أنور» بلاد الدولة العلية إلى مدن أوروبا وغيرها؛ فالتفتت مذعورة حائرة من هذا المصير العجيب الذي ما كان يخطر لها ببال، ولا يزال الناس فيها وفي غيرها من بلاد الدنيا معجبين بهذا الانقلاب الذي لم يع التاريخ في صدره له ضريعا، حائرين في أسبابه ومقدماته، حتى قام اليوم الكاتب السياسي، والأديب الألمعي، صديقنا محمد روحي بك الخالدي، عضو القدس الشريف في مجلس النواب العثماني، بتأليف رسالة جليلة في هذا الموضوع، أماط فيها اللثام عن الأسباب المجهولة، والحقائق المخدرة، وقد بحث فيها بحثا فلسفيا في أصل الاستبداد ونشوئه، وشكل الحكومة العثمانية في بدء تأسيسها، وبيان تقاليدها الموروثة ونظاماتها المكتسبة، وشيوع الخلل في إدارة الدولة واستبداد أولي الأمر فيها، مما أدى بها إلى شر حالة، وكان سببا في قيام الأحرار ومطالبتهم بالإصلاح، وأفاض القول في شئون الأحرار وتاريخ ظهورهم، وبيان الطرق التي سلكوها ليصلوا إلى مقاصدهم، مع تراجم لمشهوريهم.
جال المؤلف في ذلك جولة المؤرخ الواقف على الحقائق، واستنتج من الحوادث التي سردها أن الانقلاب هو النتيجة التي لا بد منها لتلك المقدمات التي سبقته، فكان ما كتبه جديرا بأن يكون رائدا لمن يأنس في نفسه شغفا إلى استكناه تلك الغوامض التي أدهشت العالم، وقلبت كيان السياسة، وأي قارئ ليس شغوفا بذلك؟
ونشرت الرسالة في مجلة «المنار»، فكانت موضع استحسان العلماء العقلاء، والكتاب الأبيناء، وكان بدا لي أن أستأذن مؤلفها في طبعها على حدة لتكون كتابا مستقلا تلذ مطالعته، وتسهل مراجعته، فكتبت إليه راغبا في ذلك، فرجع القول ملبيا الطلب؛ سامحا بتنقيح ما لا تسلم منه كتابة المتسرع، ولا سيما إذا كان كمؤلفنا لم يتح له أن يعيد النظر على ما كتب.
وإني أزفها اليوم إلى الناطقين بالضاد مطبوعة طبعا صحيحا نظيفا، رجاء أن يستفيدوا من تحقيق مؤلفها، ويقفوا على أسباب ذلك الانقلاب العجيب، وخليق بأهل هذا القطر الذين شغفوا بالدستور وقد ضلوا طريقه، ولم يهتدوا إلى بابه، أن يمعنوا في معانيها، ويتبينوا مراميها، عسى أن يتأسوا بأولئك الأحرار، ويكونوا من خير المحتذين لهم في هذه الديار.
القاهرة في سلخ ذي القعدة سنة 1326
حسين وصفي رضا
الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة
الفرق بين الانقلاب والثورة
الانقلاب في اصطلاح المؤرخين، تغيير مهم في حكومة الدولة وقلب في قوانينها، وهو غير الثورة التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب والثورة كبير؛ فإن الثورة كثيرا ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها وتصدها عن السير في طريق النجاح؛ بخلاف الانقلاب، فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها فهو يخطو بها خطوة في نهج التقدم، ويصعد بها درجة في سلم النجاح، وأكثر كتاب العربية لا يفرقون بين الكلمتين، فيطلقون اسم الثورة على الانقلاب، فيقولون: الثورة الفرنسية مثلا، بدل الانقلاب الفرنسي، ولم يلتفتوا إلى ما روي عن لويس السادس عشر ملك فرنسا لما أخبر بهدم قلعة الباستيل
la Bastille
Page inconnue
وإطلاق المسجونين فيها، فقال: إذن هذه ثورة
Revolte
فأجابه المخبر: عفوا يا مولاي، بل هذا انقلاب
Revolution .
فمراد ملك فرنسا أن فعل الثائرين غير مشروع، ولا حق لخروجهم عن الطاعة، وجواب المخبر ينافيه، ويبين أن الانقلاب غير الثورة والعصيان، فنحن اليوم أحوج إلى تعيين معاني الكلمات وإلى وضع قوالب الألفاظ على قدر المعاني؛ لأن الانقلاب السياسي من شأنه أن يحدث انقلابا في اللغة والأدب، فضلا عن انقلاب الأخلاق والعادات والأفكار، ألا ترى الجرائد العثمانية على اختلاف لغاتها من تركية وعربية ورومية وأرمنية ويهودية - إسبانية وعبرانية - وبلغارية وفرنسية والجرائد الألبانية والكردية على وشك الظهور، كيف بدلت لهجاتها بعد حدوث الانقلاب، وهجرت تلك الألفاظ الفخمة والتعبيرات السقيمة، التي تغطي المعاني بستار الإبهام حتى تستبهم على القارئ، وتقيد فكره بسلاسل التذليل والاستعباد؟!
الاستبداد يولد الانقلاب
إن الذي يولد الانقلاب هو الاستبداد، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، لا من قواعد الدين الإسلامي كما يتوهم بعضنا، وأكثر الأوروبيين الذين يصفون الحكومات الإسلامية بكونها ثيوقراطية؛ أي إنها جامعة بين الديانة والسياسة، وأحكام المستبد أو المستبدين في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يدهم من الخلق، لحملهم إياهم على ما ليس في طوقهم من أغراض المستبد أو المستبدين وشهواتهم؛ ولذا ورد في الخط الشريف السلطاني الذي أعطي به القانوني الأساسي: «إن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة، وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها: منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو الأفراد القلائل ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناء، وذلك حق ومنفعة حريان بالهيئة الاجتماعية المدنية ... إلخ.»
الاستبداد والإسلام
الاستبداد هو منبع الشرور، وسبب التأخر والانحطاط، وقد ورث ملوك الإسلام هذا الاستبداد عن أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان، عن نماردة بابل وفراعنة مصر، عن جنكيز خان وتيمور لنك، والإسلام أول شريعة اعترضت على الاستبداد وقاومته أشد المقاومة، وساوت بين أفراد الأمة، وحافظت على الحقوق والحرية الشخصية، وأمنت الأجانب المعاهدين - فضلا عن أفراد الأمة - على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ومهدت السبيل للحكومة الديمقراطية، ووضعت حق الحاكمية في الأمة، ولم تكتف بإعطائها الحرية في القول والعمل والكتابة والاجتماع، بل فرضت على كل فرد من أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فجعلت الأمة مسيطرة على الحقوق العامة، ولم تفرق في الحقوق الخاصة بين المسلمين وخليفتهم ولا أولي الأمر منهم، ورد في«الدرر» وهو من أهم الكتب الشرعية: «إن الخليفة يقتص منه ويؤخذ بالمال؛ لأنهما من حقوق العبد، ويستوفيه ولي الحق؛ إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين»، ولذا حكمت القضاة على أكثر من واحد من الخلفاء وسلاطين الإسلام برد المال وضمانه، وأنزلتهم عن المنصة، وأقعدتهم مع الخصم في مجلس الحكم.
الاستبداد آسيوي لا إسلامي
Page inconnue
كانت الحال على ما ذكر مدة الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم كعمر بن عبد العزيز من بني أمية، ثم تغلب الاستبداد الآسيوي على أحكام الدين الإسلامي، وانقلبت الخلافة إلى سلطنة، وأصبح خليفة الإسلام - مقدسا وغير مسئول - كملوك الإفرنج ليومنا هذا؛ لا يقتص منهم، ولا يؤخذون بالأموال، ولا تستطيع المحاكم إحضارهم ولا إصدار الحكم عليهم، ويرثون الملك كما يرث أحدنا مال أبيه، فاستبدوا بالأمر استبداد لويس الرابع عشر الذي كان يقول: «الدولة هي أنا» و«أموال الرعية إنما هي ملك لملكها، فإذا أخذ شيئا منها فقد أخذ حقه!» واستباحوا التصرف في نفوس الرعية وأموالهم وأعراضهم، وفي خزائن الدولة وبيت المال وأوقاف المساجد والمؤسسات الخيرية، وصار الوزراء والمصاحبون يقولون: «خسرو بكند شيرينست»؛ أي ما أعجب كسرى فهو حسن، فالحسن هو ما استحسنه السلطان والقبيح ما استقبحه السلطان، ولا دخل في ذلك للعقل والذوق، ولا للحكمة والشرع؛ لأنهم أولوا الشرع على حسب غاياتهم وأغراضهم.
فإذا تصفحت تواريخ الأمم الإسلامية في الشرق والغرب تراها مؤسسة على هذا الاستبداد الآسيوي، وعلى جانب من الاستعباد الأفريقي، وليس فيها شيء من الحرية الإسلامية، ولا المشورة المأمور بها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما قال الله لنبيه:
ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران، آية: 159)، وقوله تعالى:
وأمرهم شورى بينهم (الشورى، الآية: 38)، وحديث: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأمثاله كثيرة؛ كحديث حلف الفضول المشهور في التواريخ، وذلك أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول الذي عقدته قديما قبائل العرب، واشتهر باسم رؤسائهم: الفضيل والمفضل، فاجتمعت وجوه قريش في دار عبد الله بن جدعان، ونسبه، فتحالفوا وتعاقدوا: ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وكان ذلك قبل الإسلام، قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» فأي شيء أشبه بهذا الاجتماع والتعاقد من البرلمان والمبعوثين؟ لا بل من جمعية الاتحاد والترقي؟ ولقد أحسن جدا العلامة المقري في جوابه المذكور في «نفح الطيب» حيث قال:
سألني بعض الفقهاء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم إذ لم يل أمرهم من يسلك بهم الجادة، ويحملهم على الواضحة، بل من يغتر في مصلحة دنياه، غافلا من عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يراعي عهدا ولا حرمة!
فأجبته: بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا، وذلك أنه كان فيمن قبلنا شرعا، قال الله تعالى ممتنا على بني إسرائيل:
وجعلكم ملوكا (المائدة، الآية: 20) ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، (النور، الآية: 55) وقال تعالى:
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا (البقرة، الآية: 247)، وقال سليمان:
Page inconnue
رب اغفر لي وهب لي ملكا (ص، الآية: 35) فجعلهم الله تعالى ملوكا، ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء؛ فكان أبو بكر خليفة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإن لم يستخلفه نصا؛ لكن فهم الناس ذلك فهما، وأجمعوا على تسميته، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها عن سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في عهده على ذلك، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان، فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكا، ثم تعين علي بعد ذلك إذ لم يبق مثله، فبايعه من آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حول الخلافة ملكا، والخشونة لينا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فجعلها ميراثا، فلما خرج بها عن وضعها لم يستقم ملك فيها، ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - كان خليفة لا ملكا؛ لأن سليمان - رحمه الله - رغب عن بني أبيه إيثارا لحق المسلمين، ولئلا يتقلدها حيا وميتا، وكان يعلم اجتماع الناس عليه، فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا من قل، وغالب أفعاله غير مرضية ا.ه.
فيظهر لنا من هذا الكلام الفرق بين الخلافة والملك، والسبب الذي جعل ملوك الإفرنج مقدسين وغير مسئولين.
منبع الاستبداد قصر الملك والخلافة
إن منبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه هو قصر الخلافة، ودار الملك والإمارة؛ حيث تكثر دسائس المقربين، ويشتد حرصهم على الجاه وطمعهم في الأموال وادخارها وفي إنفاذ الكلمة، ولذا ابتعد عنهم أهل التقوى والورع في جميع البلدان والأزمان، فالمقرب منهم لا يكاد يتم له الأمر إلا ويظهر له رقباء يشون به، وينصبون له أشراك المكيدة، ويتهمونه بأنواع التهم، وينسبون إليه كل الخلل في الدولة، حتى يبعدوه عن مركز الدولة، وربما تسببوا في مصادرته وقتله مع أولاده وعياله، كما جرى للبرامكة مع هارون الرشيد، فتاريخ الدول والإمارات الإسلامية كله وقائع برمكية، وقد ينتصر الوزير على الخليفة أو الأمير ويحجر عليه ويصير هو المستبد بالأمر، ونتيجة القضيتين واحدة وهي الاستبداد، وتغلب القوة على الحق، والأمة في جميع هذه الأحوال شاخصة ببصرها لا تطلع على خفايا السياسة وتدبير الملك، ولا دسائس المقربين وحيلهم لإخفائهم جميع ذلك عنها، واستبدادهم بالأمر عليها، ولقد أجاد لسان الدين بن الخطيب - وزير بني الأحمر - في الرسالة التي خاطب بها الوزير بن مرزوق ووصف بها أحوال خدمة الدولة ومصائرهم، وعبر فيها عن ذوق ووجدان، وهي أبلغ ما حرر في هذا الصدد، وقد ذكرها المقري في الجزء الثالث من «نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب»، فالمصلحون لم يتخلصوا من هذه الغوائل ولا وجدوا وقتا لإصلاح داخل الممالك وتحكيم سياستها الخارجية، ولذا انصرفت هممهم لجمع الأموال وادخارها، واغتنام فرصة التقرب ونيل التوجه واكتساب السعادة؛ لأن الواحد لا يدري إلى متى يدوم له التوجه والإقبال، فيسارع إلى الاستفادة من الحال التي أسعده الحظ بنيلها.
قصر السلطنة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا
كان قصر السلطنة في الممالك العثمانية مرتبا على الأصول والتقاليد الموروثة عن المغول، فقد كانت الدولة عبارة عن خيمة كبيرة حكومتها بابها العالي، وأول وظيفة على هذه الحكومة إنزال الخان المعظم على الرحب والسعة، وإسكان من معه من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية، واستكمال أسباب راحتهم وسعادتهم، واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء «العرضى»؛ فالعمود الأوسط القائمة عليه هذه الخيمة هو «الصدر الأعظم» القائم مقام الخان المعظم؛ أي السلطان والحامل لختمه الذاتي والوكيل المطلق عنه في جميع مسائل الدولة الداخلية والخارجية، وبجانبه «قاضي عسكر» لفصل الدعاوى وتقسيم مواريث الجند والمحافظة على حقوق السلطنة، وشيخ الإسلام إنما هو «قاضي عسكر» وظيفته أحدث عهدا؛ فقضاء العسكر قديم في الدولة ومتقدم فيها على قضاء المدن، مما يدل على حياتها العسكرية المنتقلة، ثم «الدفتردار» الذي يقيد الأموال ويحرر الحساب وهو اليوم ناظر المالية، ثم «النيشانجي» الذي يكتب الإرادات والفرمانات وغيرها.
فهؤلاء أعمدة ثانوية حوالي العمود الأعظم الذي في وسط الخيمة، وأما حبال الخيمة فهي الأغوات.
ويقسم الأغوات - بحسب خدمتهم في الداخل أو في الخارج - إلى قسمين: فالقسم الأول هم خدمة الداخل المسمى «أندرون» من مماليك البيضان وطواشية السودان المحافظين على الحريم، وكبيرهم آغا دار السعادة، ويسمى أيضا آغا البنات «قيزلر آغاسي»، ثم آغا البستانيين «بستانجي باشي» المكلفين بزرع البساتين والجنان، وآغا الرسل الموصلين للأخبار، وآغا المحافظين على الأثواب والألبسة «أثوابجي باشي» و«القهوة جي باشي» و «الأبريقدار» و«السجادة جي باشي» ... إلخ.
Page inconnue
والقسم الثاني: هم خدمة الخارج وأغوات «العرضى» مثل آغا الانكشارية «يكيجري آغاسي» وآغا الصباهية «سباهي» وآغا الطوبجية وهو «الطوبجي باشي» ... إلخ، فهؤلاء الأغوات من خدمة الداخل وخدمة الخارج كلهم في درجة واحدة بمثابة حبال الخيمة، ولا فرق بينهم في التشريفات الرسمية والمعاشات والتعيينات، ولا في الاعتبار والمكانة عند الدولة، فالجاهل والعالم، والعبد المملوك والحر، ووضيع النسب وشريفه، ومجهول الأصل ومعروفه، والأبتر الخصي وكامل الأعضاء؛ كلهم متساوون، لا تمييز بين «القهوة جي باشي» الذي لا تحتاج صناعته إلا لمعرفة طبخ القهوة وتقديمها، وبين «الطوبجي باشي» المتوقفة صناعته على معرفة الفنون العسكرية والمعارف الكثيرة، وهذا الذي حمل الشاعر المفلق الأمير شكيب على أن يقول أبياته المشهورة، ومنها:
وألفيت فيها أمة عربية
يرى الترك منهم أمة الزنج أكرما
ولذا امتزجت الحياة البيتية بالحياة الدولية، والمسائل النسائية بالمسائل السياسية، وأشغال السراي السلطانية بأشغال الباب العالي، وبين السراي والباب العالي وسط يقال له المابين؛ لأنه بين «الإندرون»؛ أي الداخل، وبين «البيرون»؛ أي الخارج. ويشتمل المابين على الكتاب والقرناء والمصاحبين؛ وهم «المابينية»، ويعدون كلهم من أهل السراي وخدمتها.
فامتلأت السراي السلطانية بالأسرى من السراري الجركسيات والمماليك والطواشية، مع أن الشرع الإسلامي لا يبيح هذه العادة المستكرهة، قال شارح الدر: «وفي قطع الذكر من الأصل عمدا قصاص.» ويندر فيهم وفي جميع خدمة الداخل من يتعلم القراءة فضلا عن الكتابة؛ لأن فضيلة الواحد منهم أن يكون على الفطرة الأصلية فارغا من العلوم والمعارف، لئلا يسول له الشيطان أمرا أو دسيسة سياسية توجب انقلاب الملك؛ ولذا اختاروا الخدمة من قرى الأناضول البعيدة ومن ذوي السذاجة والغرارة، فإذا ولد لأحد السلاطين العظام مولود تربى في حجر والدته الجركسية على دلال السراري والأغوات إلى تمام السنة الثانية عشرة من عمره، ثم تبدل تلك السراري بالحظايا؛ فيتخذ منهن حرما ينزوي بهن في أحد القصور، وتبقى الأغوات والمماليك على ما كانت عليه أيام صباه، وربما جاءه بحافظ يحفظه القرآن، ومعلم يعلمه مبادئ العلوم، ولكن أكبر معلم للإنسان هو البيئة التي يكون فيها، وكيف يتعلم المرء من دون أن يخرج من بيته ويحتك بالعلماء ورجال الدولة؟! فيبقى ولي العهد على الحال ينتظر دوره في الملك، وهو محبوس في قصره، وعليه العيون والجواسيس لا يمكنون أحدا من الدنو إليه ولا المرور بجانب قصره، فضلا عن محادثته في المسائل العلمية والسياسية.
ومتى جاء دوره وجلس على السرير الملك سعى طواشية السودان ومماليك البيضان في وضعه تحت نفوذهم، وحرصوا على ألا يفلت من أيديهم، وفتشوا على أضعف نقطة في قلبه وأخلاقه، فلا يمضي عليهم كثير حتى يكتشفوها، فيستميلون قلبه إليهم من تلك النقطة، ويستفيدون منها لإنفاذ كلمتهم وجر المنافع إليهم وإلى أصحابهم ومن كان من حزبهم وشيعتهم، فيتألف من خدمة القصر الملوكي حزب قوي يسمى كامريلا
Camarilla ، وهي كلمة إسبانية معناها جماعة المتنفذين في قصر الملك، فيتداخلون في المسائل ويعارضون في السياسة ويستولون على الأمور، وإذا رأوا السلطان مال إلى صدر أعظم أو وزير، انقضوا عليه وسلقوه بألسنتهم وافتروا عليه بإفكهم، ونسبوه للعجز والتقصير، وسعوا في تنزيل قدره وترذيله؛ لأجل وضعه تحت سيطرتهم؛ ولذا كان في الغالب للقهوة جي باشي والأثوابجي باشي والإبريقدار والسجادة جي باشي والبستانجي باشي، حتى البلطة جي باشي - وهو الحطاب؛ نفوذ كلمة ومكانة أكثر من الصدر والوزراء وبقية رجال الدولة، ولا سيما في المسائل المالية وجر المنافع وتوظيف المنتسبين إليهم، ولم تزل رتبة آغا دار السعادة معادلة لرتبة الصدر الأعظم والخديو المعظم، ولهم بالفرنسية لقب سون ألتس
Son Altesse
كأمراء الإفرنج وأبناء ملوكها العظام، ولم يزل أكثرنا متذكرا نفوذ بهرام آغا وأمثاله.
شروع الدولة العلية بالإصلاح
Page inconnue
لو استمرت أوروبا نائمة في ظلام القرون الوسطى لبقيت الدولة العلية سائرة في هذه الطريق العوجاء سير مملكة الصين، أو سلطنة المغرب الأقصى التي انحطت إلى درجة البداوة، بعد أن كان لها في العمران قدم راسخة، بسبب مهاجرة الأندلسيين إليها ومتاجرتهم في إفريقية الغربية، ولكن أوروبا استيقظت من غفلتها في القرون الجديدة، وأوجدت هذه المدينة العجيبة التي بهرت العالم، وغيرت وجه الأرض باكتشافاتها واختراعاتها وعلومها وفنونها وآدابها، وتجاوزت دول أوستريا «النمسا» وروسيا والبندقية إلى ممتلكات الدولة العلية، فأحست بالضعف والانحطاط والتقهقر، وبدأت في الإصلاحات الجديدة من عهد السلطان مصطفى خان الثالث: فأحدثت الطوبخانة، وأنشأت معملا لصنع المدافع، وأقبل السلطان سليم الثالث بهمة عالية وإقدام على القيام بالإصلاح، ورتب إدارة الطوبجية والبحرية، وجلب المعلمين والمهندسين من أوروبا، وأحدث النظام الجديد، فاغتالته أيدي المنون بسبب هيجان الانكشارية الذين فسدت أخلاقهم، وأصبحوا بلاء مبرما على الأمة والدولة، بعد أن كان لهم في الفتوحات العثمانية شأن عظيم، ومفاخر كثيرة مسطورة في تاريخ أوروبا العسكري.
السلطان محمود الثاني
ثم جلس السلطان محمود الثاني وأزال غائلة الانكشارية، ونظم العساكر الجديدة، وأجرى من الإصلاحات ما هو مفصل في التاريخ العثماني، وأصاب الدولة العلية من الحوادث المهمة ما حملها على الاحتكاك بالدول الأوروبية والدخول في ميدان سياستها مثل حروبها مع روسيا، واحتلال نابليون بونابرت لمصر وسوريا، وخروج محمد علي باشا، وحرب المورة، واستقلال اليونان، وحوادث جبل لبنان، وتدخلت أوروبا في شئون الدولة العلية باسم المحاماة عن المسيحيين: فروسيا تحامي عن الأمم السلافية وجميع المتدينين بالمذهب الأرثوذكسي، وفرنسا عن الكاثوليك، وإنجلترا عن مبشري البروتستانت، وكن جميعهن يحرضن المسيحيين من رعية الدولة مقاومة الاستبداد، ويطالبن الباب العالي بإجراء الإصلاحات، ووضع القوانين والنظامات لمنع التعدي على النصارى، ولمساواتهم في الحقوق مع المسلمين، والباب العالي يجد الاستفادة من العداوة القديمة التي غرستها الحروب الصليبية بين المسلمين والنصارى؛ أهون عليه من سوق العساكر وتكبد المصروفات الحربية لتسكين الفتن وإخماد الثورات؛ وهكذا جرت المذابح، وارتكبت الفظائع التي تقشعر الجلود من سماع وصفها، وعادت على الوطن بالويل والخراب: كمذابح الروم في حرب المورة، ومذابح لبنان في حادثة الشام، وكمذابح البلغار في حرب روسيا الأخيرة، وهي التي قام لها جلادستون وقعد، وأرغى وأزبد، على منبر الخطابة في مجلس العموم الإنجليزي، وآخرها الفظائع الأرمنية المعروفة، وهي نقطة سوداء في صحيفة التاريخ.
صدراة مصطفى رشدي باشا
إن الحوادث التي جرت قبل معاهدة باريس ساقت بعض رجال الدولة إلى تعلم اللغات الأوربية، ولا سيما الفرنسية؛ للوقوف على سياسة أوروبا ولتنظيم العساكر البرية والبحرية. وكان لأكثر المتعلمين نسبة وتردد على مصر، التي شرعت بالإصلاحات على عهد محمد علي باشا؛ فنبغ من رجال الدولة مصطفى رشيد باشا السياسي الشهير، ابن مصطفى أفندي متولي وقف السلطان بايزيد، وكان مولده في الأستانة (1241ه).
قرأ القرآن ومبادئ العلوم الإسلامية، وأجاد الخط وتعلم شيئا من مبادئ اللغة الفرنسية، ثم لازم نسيبه الصدر الأسبق اسبارطة علي باشا، وذهب إلى مصر مرارا، وخالط رجالها، وتقلب في مناصب الدولة العلية، وفي سفارة باريس ولوندره، فأكمل تحصيل اللغة الفرنسية، واطلع على دقائق السياسة وخوافيها، وكانت المسألة الشرقية شاغلة وزارات أوروبا؛ بسبب اجتهاد روسيا في جميع كلمة الأمم السلافية، وطمعها في الاستيلاء على القسطنطينية، وروسيا أكبر الدول الأوروبية وأكثرها نفوذا وأشدها خطرا على الموازنة السياسية، فكانت الدول الأوروبية - وفي مقدمتهن إنجلترا التي هي أحرص الدول على مقاومة السياسة الروسية - تشوق الدولة العلية إلى القيام بالإصلاحات الجديدة لتستعيد قوتها السابقة فتحمي نفسها، وتكون لبقية الدول سدا منيعا أمام هجوم روسيا.
السلطان عبد المجيد
لما جلس السلطان عبد المجيد خان (تموز/يوليو سنة 1839) كان مصطفى رشيد باشا سفيرا في لوندره، فعين ناظرا للخارجية وحضر إلى الأستانة، وكان له رأي ودخل كبير التنظيمات، وفي تشرين الثاني/نوفمبر من السنة المذكورة قرأ بحضور رجال الدولة وأعيانها وسفراء الدول الأجنبية الخط الشريف السلطاني المعروف بالتنظيمات، وكانت قراءته في كلخانة - أي دار الورد - وهي من دوائر السراي القديمة - طوب قبو - التي بجانب جامع أياصوفيا؛ ولذا اشتهر بخط شريف كلخانة، وقد اشتمل على تأمين الرعية على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم، وعلى قاعدة مطردة في استيفاء الأموال الأميرية، وعلى أخذ العسكر بالقرعة وتعيين مدة الخدمة، وإلغاء الامتيازات، وطرح التكاليف بنسبة ما لكل واحد من الثروة، ومساواة الرعية أمام القانون، وإلغاء المصادرة و«الإنغارية»؛ وهي الإجبار على العمل بلا أجرة وتعرف بالسخرة، ونحو ذلك مما هو مدرج في هذا الفرمان المعروف بالتنظيمات.
فالدولة العلية إنما أصدرت هذه التنظيمات إرضاء لأوروبا، ولا سيما إنجلترا. والأمة الإسلامية لم تفهم معنى هذه التنظيمات ولا معنى تأمين الناس على الأرواح والأموال والأعراض، كأن الشريعة التي كانت دستور العمل تبيح التجاوز والتعدي على الأرواح والأموال والأعراض، وحاشاها من ذلك، فالبلاء لم يكن سببه فقدان القانون والشريعة حتى يزول بإصدار هذه التنظيمات، وإنما سببه الاستبداد المتسلط على كل قانون وشريعة، فالحرية التي منحتها التنظيمات لم تكن شيئا مذكورا بجانب الحرية التي منحها القرآن، لو زال الاستبداد والجهل المستوليان على أهله المسلمين، واجتهدوا في فهمه وتأويله على مقتضى نواميس المدينة الحاضرة، كما فعل أحرار العلماء، كالشيخ محمد عبده وغيره.
شرعت الدولة العلية في إجراء الأحكام المشار إليها في التنظيمات، وسنت قانونا لأخذ العسكر جرى تطبيقه في بعض الإيالات، وأحدث في بعضها ثورة وعصيانا كعصيان الأرناؤوط (1844) الذي سكنه رشيد باشا نفسه، ثم باشرت في تنظيم المعارف وفتح المدارس في الأستانة، ونظمت محاكم التجارة المختلطة (1846)، كما نظمت بعض دوائر الدولة وأقلامها، فكان مصطفى رشيد باشا - الذي تولى مسند الصدارة العظمى ست مرات، وتوفي سنة 1274ه/1858م - مصدر هذه الإصلاحات، بسبب وقوفه على الأفكار الجديدة، ومعرفته اللغة الفرنسية والأدبيات العثمانية، وهو أول من أفرغ الكتابة التركية في قالب سهل سلس، بعد أن كادت تكون غير مفهومة عند الجميع، لكثرة ما فيها من التعقيد والتشبيهات الغامضة والألفاظ والتراكيب اللغوية من فارسية وعربية، ونشأ في عهده وتحت ظله الشاعر الشهير إبراهيم شناسي أفندي موجد الأدب العثماني الجديد، حصل العلوم العربية واللغة الفرنسية، وذهب إلى باريس فاطلع فيها على آداب الطريقة المدرسية، ونسج على منوال راسين ولافونتين، وأدخل في الأدب التركي التعقل المشروط في الطريقة المدرسية، كما فصلنا ذلك في كتابنا «تاريخ علم الأدب».
Page inconnue
وكان الأدب التركي كله خيالات ومبالغات أعجمية، قلما يجد الإنسان فيه حكمة وتعقلا، وديوان شناسي صغير الحجم، ولكنه أنموذج للأدب الجديد، وأكثر قصائده في مدح مصطفى رشيد باشا، وأنشأ شناسي جريدة تركية سماها «تصوير الأفكار»، وحرر فيها المقالات السياسية والتاريخية والأدبية بقلم سهل سلس مفهوم، وطبع ديوانه مع منتجات «تصوير الأفكار» ثانية في مطبعة أبي الضيا توفيق بك، وكانت وفاة شناسي في سنة 1288 قبل بلوغه سن الشيخوخة والوظائف العالية.
عالي باشا وفؤاد باشا
ظهرت فئة قليلة من المتعلمين على النسق الجديد، واقتفوا أثر مصطفى رشيد باشا، ونبغ منهم اثنان شهيران خلد التاريخ ذكرهما، وهما: السيد أمين عالي باشا وفؤاد باشا، ومولدهما في سنة 1230ه؛ والأول: ابن مصر جارشيلي علي رضا أفندي؛ أي المنسوب إلى سوق مصر، وهو سوق العطارين. والثاني: ابن الشاعر الشهير كجه جي زادة عزت ملا الذي نفي للأناضول في زمن السلطان محمود خان ومات في منفاه، فتعلم أمين مبادئ العلم وإجادة الخط وقرأ الفرنسية على معلم مخصوص، ودخل قلم الديوان الهمايوني في الخامسة عشرة من عمره.
وكان من عادة رؤساء القلم تسمية كل داخل باسم يتميز به عن سميه، ولم يصطلحوا كالعرب والإفرنج على تسمية الولد باسم أبيه أو أسرته، وكان أمين قصير القامة فسمي «عالي» تسمية بالضد؛ تفاؤلا بعلو همته، فذهب إلى أوروبا موظفا في كتابة السفارات، وأتقن الفرنسية، وانتسب إلى رشيد باشا، وامتاز في فنون السياسة والمعارف العصرية، وعين عضوا في «أنجمن دانش»؛ أي مجلس المعارف المؤسس على نسق المجامع العلمية
L’Academies
في أوروبا، وكان عالي باشا يحسن الفرنسية والتركية كتابة وإنشاء، وتقلب في وظائف كثيرة مهمة، مثل السفارات والوزارات ومسند الصدارة العظمى. وأما فؤاد فدخل المكتب الطبي العسكري، وخرج جراحا في العسكرية، ثم دخل قلم الترجمة في الباب العالي، وتقلب في الوظائف السياسية الداخلية والخارجية، ورأس مجلس التنظيمات ومجلس الأحكام العدلية، وحضر إلى سوريا أيام حوادث لبنان، وكان إذ ذاك ناظرا للخارجية، ثم ذهب بمعية السلطان عبد العزيز إلى معرض باريس سنة 1867، ومرض فيها، وتوفي في «نيس» من أعمال فرنسا وله من العمر 55 سنة فقط، وكان في اللغة التركية أديبا شاعرا، وضع مع جودت باشا «القواعد العثمانية» التي لم يؤلف للآن أحسن منها، وخلف الفريق كجة جي زادة عزت فؤاد باشا الكاتب الشهير.
فرشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا هم نوابغ السياسة العثمانية، وواضعو الإصلاحات الجديدة بدلالة السفراء الأجانب؛ إرضاء لدول أوروبا ولا سيما إنجلترا، ومماشاة لها لحرصها على تقوية الممالك العثمانية لتتقي بها شر روسيا؛ فأمر هؤلاء النوابغ بترجمة القوانين والنظامات والتعليمات والأمور المدرجة في الدستور ترجمة حرفية، ولم يجدوا لهم وقتا لدرس احتياجات البلاد الداخلية والمدنية الإسلامية حق درسها، ولا لنشر الأفكار الجديدة بين المسلمين المفاخرين بسابق مجدهم ومتانة شرعهم؛ ولذا لاموا هؤلاء المصلحين ولم يرضوا عن أعمالهم، زاعمين أنها تئول إلى قلب البلاد وجعلها أفرنجية محضة؛ ولذلك كانت الأكثرية لحزب تركيا القديمة، ولم يكن من حزب تركيا الفتاة إلا فئة قليلة، درسوا العلوم الجديدة درسا سطحيا، وبعضهم زار أوروبا مرة أو مرتين، ومع هذا وفق حزب تركيا الفتاة لاستمالة أوروبا إليه، وأفلح في الحصول على اتفاق إنجلترا وفرنسا وساردينيا؛ أي إيطاليا، فحارب روسيا وانتصر عليها في حرب القرم، وعقد معاهدة باريس (30 مارس سنة 1856)، واعترفت أوروبا بمقتضاها بتمام ملكية الدولة العثمانية واستقلالها، ومنع أية دولة من المداخلة في أمورها الداخلية، وصدر خط شريف ثان في ذلك التاريخ أيضا مؤيد لخط كلخانة، وهو يشتمل على حرية الأهالي ومساواتهم في الحقوق والمعاملات، ثم جلس السلطان عبد العزيز خان سنة 1861، وأصدر فرمان الإصلاحات، ولكن هذه الفرمانات والخطوط الشريفة السلطانية لم تمنع سوء الاستعمال والاستبداد الذي في إدارة الدولة تماما، بل بقي الارتكاب والظلم والاستبداد على ما كان عليه سابقا، لعدم إصلاحهم السراي السلطانية، كما أصلحوا وجاق الانكشارية والصباهية وقلبوهما إلى النظام الجديد.
حزب تركيا الفتاة
أول مؤسس لحزب تركيا الفتاة هو مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا المصري، ثم صهره خليل شريف باشا. ولد مصطفى فاضل في القاهرة سنة 1830م، وحصل العلوم الجديدة حتى صار على جانب من العرفان والاضطلاع والوقوف على دقائق الأمور، فخدم في مصر، وبعد جلوس السلطان عبد العزيز بسنة عين ناظرا للمعارف في الأستانة، ثم ناظرا للمالية، وأجرى فيها عدة إصلاحات، وكان ميكروب الاقتراض قد تفشى في هذه النظارة، وأحدث بلاء القوائم النقدية، حتى بلغت الديون ما بلغته؛ فأثقلت كاهل الأمة، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك يوسف كامل باشا صهر والي مصر محمد علي باشا، ومترجم تليماك للتركية الترجمة الأولى العويصة، وكان عالي باشا في نظارة الخارجية، وفؤاد باشا في رياسة مجلس الأحكام العدلية، ثم في نظارة الحربية، وأدخل فيها حسين عوني باشا العدو الألد لعمر باشا المجري، وكان فؤاد باشا انتدب حكما لفصل الخلاف الحادث بين مصطفى فاضل وإخوته على تقسيم ميراث أبيهم؛ فحصل بينهما موجدة وعداوة، فلما تولى فؤاد باشا الصدارة تسبب في عزل مصطفى فاضل من نظارة المالية مع ما له من الخدم والإصلاحات المفيدة، فشق ذلك على مصطفى فاضل وقدم للسلطان عبد العزيز خان لائحته الشهيرة التي شدد فيها النكير على الاستبداد، وكشف الغطاء عن عورات الدولة، وبين أسباب الضعف والانحطاط وسوء الاستعمال بحرية لم يعتدها رجال المابين ولا سمعوا بمثلها قبل ذلك، ثم هاجر إلى باريس سنة 1865، ولحقت به فئة من الشبان، فأكرم مثواهم وأنفق على تعليمهم، ونبغ منهم كثيرون في الأدب والكتابة والسياسة. حدثني أحدهم قال: كنا في باريس في عيشة راضية، لا يهتم الواحد منا بأمر معايشه، فإذا فرغ من الدرس والتحقيق والمشاهدة عاد إلى منزله، فوجد ما يحتاج إليه من الطعام والمنام، بخلاف أحرار هذا الزمان الذين قاسوا أشد العذاب في أمر معايشهم.
فاشتغلت النابتة الجديدة بفنون الأدب وعلوم التاريخ والسياسة والصناعات النفسية، فنظموا الشعر وألفوا القصص ونشروا المقالات في الجرائد، ونبغ منهم نامق كمال بك شاعر النشأة الجديدة وأديبها وموجد الأدب الجديد العثماني، ولد في الأستانة سنة 1250ه، وقرأ في المكاتب، وتعلم الفرنسية، وصارت له مهارة زائدة في الإنشاء الذي نشر به مقالاته السياسية في الجرائد بأسلوب مستحدث طريف هو من السهل الممتنع، وأشعاره على نسق أشعار فيكتور هوجو في طلب الحرية وتدبير المملكة وإصلاح شئون الحكومة، وله مؤلفات كثيرة، منها التاريخ العثماني الذي لم يطبع، وقصة وطن أو سليستره التي تمثل اليوم في الأستانة وسلانيك بعد حدوث الانقلاب، وتوفي نامق كمال بك وهو متصرف في جزيرة ساقز سنة 1305ه، ومنهم ضيا باشا الأديب الشاعر، وسعد الله باشا سفير ڨيينا الأسبق مترجم قصيدة لامارتين التي عنوانها «البحيرة»، وله أشعار عصرية رائعة، ومنهم أبو الضيا توفيق بك الذي أصلح حروف الطبع وكتب الخط الكوفي، وطبع الكتب والرسائل والمجموعات بصنعة بديعة عجيبة لم تبلغها إلى الآن مطابع الشرق ولا مطابع أوروبا الشرقية، وعبد الحق حامد بك سفير بروكسل وصاحب قصة طارق بن زياد، وكثير غيرهم من الكتاب والأدباء أنصار حزب تركيا الفتاة الذي أسسه مصطفى فاضل باشا، ثم صهره خليل باشا الذي جاء من مصر إلى الأستانة، وتوظف في نظارة الخارجية بسبب معرفته الفرنسية، وصار سفيرا في باريس وغيرها وناظرا للخارجية، وتزوج بأكبر بنات مصطفى فاضل باشا، وهي الأميرة الشهيرة نازلي هانم، التي اقتفت أثر والدها وزوجها الأول في تعضيد حزب تركيا الفتاة، وساعدته بالمال والجاه هي وشقيقها الأمير محمد علي باشا.
Page inconnue
لائحة فاضل باشا للسلطان عبد العزيز
لخص مصطفى فاضل باشا سياسة تركيا الفتاة في اللائحة المذكورة التي قدمها إلى السلطان عبد العزيز خان، وقال فيها:
تتصور أوروبا أن المسيحيين وحدهم في تركيا خاضعون للمعاملات الاستبدادية، ولاحتمال أنواع الأذى والتحقير المتولد من الظلم، وليس الأمر كذلك، فإن المسلمين ربما كان الظلم والعسف أشد وطأة عليهم، وهم أكثر انحناء تحت نير العبودية من المسيحيين؛ لأن المسلمين ليس وراءهم دولة أجنبية تتحيز لهم وتحامي عنهم، فرعايا جلالتكم من جميع المذاهب مقسومون إلى صنفين؛ هما الظالمون ظلما لا حد له، والمظلومون بلا شفقة ولا مرحمة، والأولون يجدون في الحكومة المطلقة غير المقيدة التي تستعملها جلالتكم والتي اغتصبوها؛ إغراء وتشويقا إلى جميع الرذائل، وأما الآخرون فتفسد أخلاقهم أيضا بعلاقاتهم الضارة مع سادتهم، وبما أنهم مجبرون على الخضوع دائما للشهوات الرذيلة، ولا يستطيعون إيصال شكاياتهم الصحيحة إلى أعتاب سدتكم الملوكية؛ لأن ظلامهم يرون هذه الاستغاثة - مع الاحترام - بحكومة جلالتكم من أكبر المفاسد؛ فاعتادوا على دناءة الأخلاق التي لا يمكن تصورها.
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فهذه الأصول الاستبدادية التي كان أعداء الإصلاح من حزب تركيا القديمة يريدون المحافظة عليها، ويعدون التمسك بها من الغيرة الدينية والحمية الوطنية، والإسلام والوطنية بريئان منها للأسباب المشروحة فيما مر، فحزب تركيا الفتاة يمكننا أن نعتبر وجوده منذ تولي مصطفى فاضل باشا نظارة المعارف (1862م) وهاجر إلى باريس (1865-1867م)، وأنصار هذا الحزب هم جميع المطلعين على الكتب الفرنسية وأدب الطريقة المدرسية أو على ما ترجم بالتركية، والذي أطلق عليه هذا الاسم هم الفرنسيون فقالوا: «جون تركي» كما يقولون: «جون فرانس - جون ألمانيا - جون إيطالي» فترجم بتركيا الفتاة، وقيل بالتركية: «كنج تركلر»، ولذا قال هانوتو: إن تركيا الفتاة من اللغة الفرنسية، وقد جوزي مصطفى فاضل باشا على جرأته بمصادرة أمواله، ثم أعيدت إليه بوساطة بعض الأجانب، ولكنة حرم من ميراث الخديوية هو وحليم باشا؛ بسبب صدور الفرمان السلطاني بانتقالها إلى أكبر أولاد المالك، وهو إذ ذاك إسماعيل باشا، وصار مسند الخديوية ينتقل من الوالد إلى ولده، بعد أن كان ينتقل إلى الأكبر فالأكبر من الأسرة، كما هي القاعدة التقليدية في جميع الممالك الإسلامية، لما علمت أن الإسلام ليس فيه ملك موروث.
وفي سنة 1278ه و1871م أصيبت المملكة العثمانية بوفاة أشهر قوادها عمر باشا، وأشهر ساستها الصدر الأعظم عالي باشا؛ صاحب الأعمال الكثيرة في تنظيم إدارة الحكومة، ووضع ميزانية للمالية، وتأسيس نظارة الداخلية والأوقاف ومجالس الدعاوى والتمييز، وتنظيم أصول المحاكمات واستعمال الأصول الإعشارية، وغير ذلك من الإصلاحات الداخلية والسياسية الخارجية، وترجمت القوانين والنظامات عن الفرنسية بلا نظر ولا معرفة بصالح البلاد واحتياجاتها فترجموا - مثلا - قانون التجارة الفرنسي القديم، وأبقوا فيه مسائل النكاح والبائنة - الدوتة - واشتراك الزوجين بالأموال وعدمه، كما هو مختص بالأوروبيين ولا وجود له في الشرق، لا عند المسلمين ولا عند المسيحيين، وبعد وفاة عالي باشا تولى مسند الصدارة محمود نديم باشا، ومال إلى روسيا حتى سمي «نديموف» وبذر أموال الخزينة، وأصبح آلة في يد الجنرال أغناتيف سفير روسيا في الأستانة.
صدارة نديم باشا الأولى
محمود نديم باشا كان أبوه واليا، فتربى في داره على الاستبداد والارتكاب، وعين واليا كأبيه ثم ناظرا للبحرية ، وكان شديد التعصب للإدارة القديمة المستبدة.
كثير البغض للإصلاحات الجديدة والحرية، تقرب إلى السلطان عبد العزيز خان بالتملق، واستولى عليه من أضعف نقطة فيه وهي العظمة، فدس له بأنه تحت وصاية فؤاد باشا وعالي باشا، مع أنه خليفة الله في الأرض، والقابض على رقاب خمسين مليونا من الرعية الذين هم عبيد جلالته! وأن بيت المال هو حق من حقوقه، له أن يتصرف فيه حسبما شاء وأراد! وكانت الميزانية المالية وضعت في أيام عالي باشا وفؤاد باشا، وحددت فيها مصروفات المابين، فانقلبت أحوال السلطان عبد العزيز خان في صدارة محمود نديم، واستبد بالأمر، وأبعد عن الوظائف الملكية والعسكرية الرجال الذين تخيرهم عالي باشا ودربهم وعلمهم حتى كانوا من خيرة الموظفين، واستبدل بهم المرتكبين، وكثر تحويل الوظائف والعزل والنصب والترقي في جميع الوظائف الملكية والعسكرية، حتى كان الضابط يرتقي إلى المراتب العلى في أقرب وقت، ويصبح مشيرا بعد أن كان من قبل ضابطا صغيرا، وزاد الإسراف والتبذير ببناء السرايات التي لا لزوم لها وإنشاء الأسطول الذي صار أثرا بعد عين، كما زاد الانهماك في الملذات والشهوات، وكانت أوروبا وصيارفة الأستانة تقرض الأموال بالربا الفاحش والديون تتراكم على الدولة، والمكلفون بأدائها هم فقراء الرعية من أصحاب الأعشار والأغنام يؤدونها من كد اليمين وعرق الجبين.
Page inconnue
ومن الغلطات السياسية في صدارة محمود نديم باشا، إصدار الفرمان بفصل الكنيسة البلغارية عن الكنيسة الرومية، وتعيين أكسارخوس للبلغار مستقلا عن بطريرك الروم في القسطنطينية، وكان ذلك بمساعي الجنرال أغناتيف حبيب محمود نديموف باشا للتوصيل إلى أحداث دولة للبلغار، مع أن الباب العالي كان يعتبر جميع هذه الأمم الصغيرة - كالبلغار والصرف والأفلاخ والبغدان والجبل الأسود والهرسك روما - تابعين لبطاركة القسطنطينية؛ لاشتراكهم جميعا في الدين الأرثوذوكسي، ومن الغلطات المالية أيضا، إعطاء المثرى النمسوي اليهودي الشهير - وهو البارون هرش - امتيازا بسكة حديد الروم إيلي المعروفة بسكك الحديد الشرقية، وإضرار الخزينة والأمة من وراء ذلك ضررا كبيرا، وفي أثناء ذلك ظهر مدحت باشا في مسند الصدارة.
صدارة مدحت باشا الأولى
ولد مدحت باشا في القسطنطينية سنة 1822م، ووالده حاج علي أفندي، أصله من روسجق التي كانت مركز ولاية الطونة «بلغارستان» على ضفة نهر الطونة «الدانوب» اليمني، ولما كان من صغار الموظفين، لم يستطع تعليم ابنه غير مبادئ العلوم وحسن الخط، المعدود في ذلك الدور من أكبر العلوم وأعمها للدخول في الوظائف والترقي فيها، وأدخله على حداثة سنه قلم الصدارة فتخرج في أقلام الباب العالي، وتعلم بالمشاهدة والتجربة والاختبار، وعين مأمورا في الولايات ومكث سنتين في دمشق الشام، وترقى إلى أن صار باشكاتب في مجلس «والا» وهو شورى الدولة، وذهب مرة ثانية إلى دمشق وحلب للتحقيق عن القبرصلي محمد باشا، ولفت باستعداده واجتهاده نظر رشيد باشا وعالي باشا وفؤاد باشا ورفعت باشا ناظر الخارجية إليه، فأجلسه معه رفعت باشا ليسمع المحاورة التي دارت بينه وبين البرنس منجيكوف مندوب دولة روسيا، وذلك قبل حرب القرم، فاطلع مدحت باشا حينئذ على السياسة الخارجية.
وبعد وفاة رشيد باشا سنة 1858م تولى الصدراة عالي باشا، فأذن لمدحت بالذهاب إلى أوروبا مدة ستة أشهر، فذهب إلى باريس ولوندره وبروكسل وڨيينا، وشاهد انتظام الإدارة ومحاسن المدينة والترقيات العصرية، ومازال يرتقي في الوظائف حتى صار واليا على ولاية الطونة - بلغارستان الآن - فأجرى فيها إصلاحات كثيرة، وفتح مجلس الأيالة، وهو المجلس العمومي الذي فتحه راشد باشا في سوريا، ثم عين واليا على ولاية بغداد ومشيرا لعساكرها؛ فسكن عصيان نجد؛ فأهداه السلطان عبد العزيز خان سيفا مكافأة له على خدماته، وإذ كان الصدر الأعظم محمود نديم باشا كثير العزل والنصب والتبديل، نقل مدحت باشا من ولاية بغداد إلى ولاية أدرنة، فمر بكرسي السلطنة وطلب مقابلة الحضرة السلطانية، وأراها طرق الخلل وسوء الإدارة وعاقبة الأمر، فعزل محمود نديم من الصدارة وتولاها مدحت باشا، ولكنه لم يبق فيها إلا ثلاثة أشهر، وكان سبب عزله - على ما روي - أن إحدى سراري القصر بعثت إليه مع الطواشي طالبة تعيين أحد خدامها قائمقام في أحد الأقضية؛ فأجابه مدحت: «سلم على الخانم وقل لها أن تلتمس هي بنفسها من أفندينا ذلك.» واشتد غضبه من مداخلة السراري وتتابع رجائهن.
صدارة نديم باشا الثانية
كثر تبديل الصدور بعد عزل مدحت حتى بلغوا نحو العشرة في خلال سنة أو خمسة عشر شهرا، ثم عاد إلى الصدارة محمود نديم باشا، وكان العود غير أحمد، فزاد الارتكاب، وبيعت الرتب والنياشين، كما بيعت الوظائف بالمزاودة، بحيث أصبح يحتجنها الذي يزيد في الثمن، واختلت الموازنة المالية، حتى قضت بإعلان الإفلاس في 5 تشرين الأول/أكتوبر سنة 1875، وطمع العدو في البلاد، فأوجب ذلك هيجان تركيا الفتاة وعقلاء الأمة، وكان التجسس غير معروف في ذلك الوقت، وكان للجرائد حرية في الكتابة والانتقاد، فشرعت جريدة «وقت» التركية في نشر الحكايات والأساطير عن ملوك الصين، واستنتاج الأمثال والمواعظ من انقراض ملكهم، والتعريض بذلك لوزارة محمود نديم باشا، وأخذ فريق من الناس يطوفون على المجالس والدواوين والأندية العامة، ويقصون أنواع المظالم والارتكاب وسوء الإدارة، فهاجت الأفكار العمومية ولا سيما الصوفتاوات؛ وهم طلاب العلوم الدينية البالغ عددهم في جوامع الأستانة نحو خمسة عشر إلى عشرين ألف طالب.
هياج الصوفتاوات وصدارة رشدي باشا
اجتمع من هؤلاء الطلاب زهاء خمسة أو ستة آلاف طالب، وهجموا على الباب العالي في 22 مايس/مايو سنة 1876، وذهب آلاف منهم إلى سراي طولمه باغجه مقر السلطان عبد العزيز، فشكوا إليه، طالبين عزل محمود نديم وتولية محمد رشدي باشا، فأجيبوا إلى ذلك، وصدرت الإرادة السنية بتشكيل الوزارة، وتولية محمد رشدي باشا الصدارة، وحسين عوني السرعسكرية، وقيصر لي أحمد باشا نظارة البحرية، وراشد باشا الذي كان واليا على سوريا نظارة الخارجية، وخير الله أفندي مشيخة الإسلام.
خلع السلطان عبد العزيز
كان حزب مدحت باشا من الأحرار مؤلفا من نامق كمال بك، وضيا بك، ورؤوف بك، وإسماعيل بك، وهؤلاء لم يرتقوا إلى رتبة الباشوية، وأما الذين ارتقوا منهم إلى هذه الرتبة بعد ذلك فهم: حسن فهمي باشا، وشاكر باشا، وسعد الله باشا، ورائف باشا، ورفعت باشا. وكانوا من الوزراء، فلما تولى حزب تركيا الفتاة زمام الأمر، واستولى على المالية، والقوة البرية والبحرية والشرعية؛ خلعوا السلطان عبد العزيز في 17 جمادى الأولى سنة 1293 و30 مايس/مايو سنة 1876 بفتوى من شيخ الإسلام، وأجلسوا ابن أخيه السلطان مراد خان، ففرح به الناس واستبشروا، وكان السير هنري إليوت سفير إنجلترا أشد السفراء سرورا، والجنرال أغناتيف سفير روسيا أكثرهم غما، وهو حبيب محمود نديم باشا والمشير عليه بتلك السياسة العوجاء، ونقل السلطان عبد العزيز سراي طولمه باغجه إلى سراي طوب قبو المقابلة لها على ساحل البحر، ثم نقل بناء على طلبه إلى سراي جراغان المجاورة لطولمه باغجه على ساحل المضيق «البوغاز»، وبعد خمسة أيام وقع الاغتيال، واختلف فيه؛ هل كان بطريق الانتحار أو القتل عمدا، فإن الذين كشفوا على الجثة وجدوها في الطبقة السفلى من السراي على سجادة بقرب الباب، ففي إنزالها من الطبقة العليا المعدة للسكنى إلى الطبقة السفلى شبهة، وعلى فرض ثبوت الجناية: فمن عساه يكون المتهم بها؟ هل حريم السراي وطواشيتها الذين تكثر بينهم الدسائس ويصعب التحقيق؟ أو مدحت باشا وحزبه الذين لا مأرب لهم بذلك؟ وقد توصلوا إلى مأربهم بدون إراقة دم، واستحقوا إجلال العالم لهم من عثمانيين وأوروبيين، وهم أعقل وأدهى من أن يلوثوا عملهم العظيم بدم جناية ودسيسة مثل هذه!
Page inconnue
حادثة الجركس حسن بك وخلع السلطان مراد
ثم حدثت مسألة الجركس حسن بك ياور السلطان عبد العزيز، فإنه دخل دار مدحت باشا والوزراء مجتمعون فيها، وقتل السرعسكر وراشد باشا ناظرا الخارجة ووالي سوريا قبلا وأحمد آغا الخادم، وخرج ناظر البحرية وبعض الياورية الحاضرين، فأثرت هذه الحوادث في السلطان مراد وأدت إلى احتلال شعوره؛ فخلع بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام من جلوسه.
جلوس السلطان عبد الحميد
جلس على سرير الملك جلالة مولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني، بعد أن اشترط مدحت باشا وحزبه ثلاثة شروط: (1) إعلان القانون الأساسي. (2) استشارة الوزراء وجعلهم مسئولين وحدهم في أمور الدولة. (3) تعيين ضيا بك وكمال بك كاتبين خاصين للمابين، وسعد الله بك باشكاتب؛ لأنهم من الأحرار الحريصين على تنفيذ أحكام القانون الأساسي، والأولون ممن قاموا بتسويده وتنميقه، فلم يعمل بهذه الشروط وتعين الداماد محمود جلال الدين باشا مشيرا للمابين، وإنجليز سعيد باشا رئيسا للياورية ، وكجوك سعيد باشا الصدر الأسبق في هذه الآونة، وكان سعيد بك باشكاتب للمابين.
مؤتمر الأستانة وإعلان القانون الأساسي وصدارة مدحت باشا الثانية
كانت بلاد البلقان في اختلال وهيجان بسبب قيام الهرسك والصرب والجبل الأسود والبلغار وتأففهم من الظلم والاستعباد، ومطالبتهم بالاستقلال، وتمسك كل منهم بقوميته وأدب لغته، بعد أن كان الدين المسيحي الأرثوذكسي يجمعهم تحت سلطة بطريرك القسطنطينية، وكانت أوروبا تطالب الدولة العلية بإجراء الإصلاحات، والعناية بالمسيحيين التابعين لها ووقايتهم من الظلم والاعتساف، فتقرر عقد مؤتمر
Conference
في الأستانة العلية لاتخاذ التدابير اللازمة لتسكين البلاد وإصلاحها، وكان المؤتمر مؤلفا من أحد عشر مندوبا: منهم اثنان من إنجلترا؛ وهما سفيرها السير هنري إليوت، واللورد سالسبوري، واثنان من فرنسا، واثنان من أوستريا «النمسا»، وواحد من روسيا وهو الجنرال أغناتيف، وواحد من إيطاليا، وواحد من ألمانيا، واثنان من قبل الدولة العلية؛ وهما صفوت باشا وأدهم باشا. فعقدوا جلستهم الأولى في 23 كانون الأول/ديسمبر سنة 1876 في دائرة الترسانة «معمل الأسلحة» التي على خليج دار السعادة من جهة غلطه، ولم يكد يتم افتتاح المؤتمر إلا وقد سمعوا أصوات المدافع، فوقف صفوت باشا قائلا: أيها السادة إن أصوات المدافع التي تسمعونها هي دلالة على إعلان القانون الأساسي من قبل جلالة سلطاننا الأعظم، وهذا القانون متكفل بالحقوق والحرية لجميع رعايا المملكة العثمانية بلا استثناء، وقد حصل بذلك المقصود من عقد المؤتمر، فأصبح انعقاده وعمله من قبيل العبثيات.
فبهت القوم وانفضت الجلسة، وقد أعلن القانون الأساسي حقيقة في ذلك اليوم، وأطلق لدى إعلانه مائة مدفع ومدفع في جميع المدن والممالك العثمانية ذات القلاع، وكان مدحت باشا هو روح هذا الانقلاب العظيم، وهو القابض على زمام الأمر في الحقيقة منذ خلع السلطان عبد العزيز، وإن لم يكن «صدر أعظم»، وكان الصدر الأعظم إذ ذاك محمد رشدي باشا شيخا مسنا منقادا له ولحزب تركيا الفتاة، وبعد جلوس السلطان عبد الحميد خان الثاني استقال محمد رشدي باشا لشيخوخته، وتولى الصدارة العظمى مدحت باشا، وهي صدارته الثانية.
لم يرض الجنرال أغناتيف بهذه الإصلاحات ، بل أصر على بقاء انعقاد المؤتمر، فداوم أعماله وقدم لائحة إلى الباب العالي في 15 كانون الثاني/يناير سنة 1877، وطلب الجواب عنها في خلال ثمانية أيام، فكانت من قبيل البلاغ النهائي
Page inconnue
Ultimatum .
عقد المجلس العالي ورفضه لائحة مؤتمر الأستانة
عقد الصدر الأعظم مدحت باشا مجلسا عاليا مؤلفا من الوزراء والمشيرين ورجال الدولة والرؤساء الروحيين وأعيان المسلمين والمسيحيين واليهود، وعرض عليهم لائحة المؤتمر، وأفهمهم مطالب الدول الأوروبية، وأن ردها يؤدي إلى الحرب، فتشاوروا بكمال الحرية وأبدى كل منهم رأيه، فقال رؤوف بك ابن رفعت باشا ناظر الخارجية الأسبق إذ ذاك: الحرب كداء الحمى يمكن أن ننجو منه، ولكن لائحة المؤتمر كداء السل الرئوي عاقبته القبر لا محالة، وقال صاوا باشا من خطبة طويلة: إننا نختار الموت على إهانة شرفنا. وألقى وكيل بطريرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في رد اقتراحات المؤتمر، فرفض المجلس قبولها بالاتفاق، وظهر من هذا الاجتماع ائتلاف المسلمين والمسيحيين واليهود، واتفاقهم واتحادهم على محبة الوطن وترقيه والغيرة على منافعه، وكان الروم والأرمن الكاثوليك أشدهم حماسة، حتى إن الروم عزموا على تشكيل فرقة متطوعة لمحاربة الصرب مع العساكر العثمانية؛ لأن استقلال الأمم البلقانية من الصرب والجبل الأسود والبلغار مضر بمصالح الروم لانفصالهم عن الكنيسة الأرثوذكسية، التي هي تحت رياسة بطريرك الروم في القسطنطينية، ورفضهم استعمال اللغة والأدبيات اليونانية، فبناء على جميع ذلك أجاب الباب العالي في 20 كانون الثاني/يناير برفض مطالب الدول المذكورة في لائحتهن، فانفض مؤتمر الأستانة وغادرها المندوبون والسفراء، دلالة على قطع العلاقات بين أوروبا والباب العالي.
تغلب حزب التقهقر وكتاب مدحت للسلطان
كان الحزب المخالف للقانون الأساسي يسعى في التخلص من هذا القانون، فبعد تعيين مدحت باشا في الصدارة انعقد مجلس الوكلاء برياسته في دار الداماد محمود جلال الدين باشا، وتذاكروا في القانون الأساسي، فارتأى أحمد جودت باشا ناظر العدلية - الحقانية - تأجيل هذا القانون لعدم الحاجة إليه (؟) بسبب جلوس السلطان الحالي! وكان أحمد جودت باشا من المنتسبين إلى الداماد محمود جلال الدين، ومن كبار العلماء والمؤرخين، ولكن ارتشاءه مشهور في الأستانة والولايات، وإعلان القانون الأساسي يسد على المرتشين باب الارتكاب، فبإصرار مدحت باشا وحزبه - مثل ضيا بك وكمال بك وغيرهم من الأحرار الذين مر ذكرهم وبجريدتي «وقت» و«استقبال» والمقالات الشائقة المحررة فيهما - صدر الخط الشريف السلطاني إلى مدحت باشا بإعلان القانون الأساسي، وحمله الباشكاتب سعيد بك إلى الباب العالي، وتلي في الميدان الواسع الذي أمام الباب بحضور جماهير الناس، وبعد تلاوته خطب مدحت باشا في الموضوع، وتلا الدعاء فوزي أفندي مفتي أدرنة وأمن الناس.
وما زال مدحت باشا يلح في طلب اجتماع المبعوثان، ويجتهد في تأليفه من الأحرار، والمابين يؤخر ذلك ويفرق جميع الأحرار، حتى إنه أراد تعيين ضيا بك مسود القانون الأساسي سفيرا في برلين؛ لئلا ينتخب مبعوثا عن أهل الأستانة، فضاق صدر مدحت باشا من التأخير والمحاولة، وكتب إلى الذات الشاهانية مباشرة: «لم يكن غرضنا من إعلان القانون الأساسي إلا محو الاستبداد، وتعيين ما لجلالتكم من الحقوق وما عليها من الواجبات، وتعيين وظائف الوكلاء ومسئوليتهم، وتأمين جميع الناس على حريتهم، حتى ترتقي البلاد في معارج الارتقاء»، إلى أن قال: «وإني لكثير الاحترام لشخص جلالتكم، ولكن الشرع الشريف يوجب علي ألا أطيع أموركم «أوامركم» إذا لم تكن موافقة لمنافع الأمة»، ونحو ذلك مما لم يسمع بمثله إلا من مصطفى فاضل باشا كما تقدم. وبالحقيقة أن أحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى الفقهاء في هذا الصدد لا تترك أدنى شك ولا ريب؛ لأن السلطان - بحكم الشرع - ليس مطلق الحرية، ولا مطلق التصرف في أموال الناس ومنافعهم، وإنما هو في جميع ذلك مقيد بالأحكام الشرعية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ فالحكومة المطلقة التي درجت عليها الدول والإمارات وتوارثتها من عهد معاوية، لا وجود لها على التحقيق في الدين الإسلامي.
عزل مدحت باشا ونفيه وصدارة أدهم باشا
عزل مدحت باشا ونفي على الباخرة «عز الدين» إلى إيطاليا، ووجهت الصدارة العظمى إلى أدهم باشا والد حمدي بك وخليل بك مديري دار العاديات «الموزة خانة»، وعين جودت باشا للداخلية، وأحمد وفيق أفندي لرياسة مجلس المبعوثان مؤقتا؛ لأن انتخاب الرئيس مبين في المادة السابعة والسبعين من القانون الأساسي.
بعد خروج السفراء ومندوبي الدول من الأستانة العلية، بعث البرنس غورجقوف ناظر خارجية روسيا إلى الدول بمنشور مؤرخ في 31 كانون الثاني/يناير يطلب فيه مداخلتهن بالاشتراك لإجراء الإصلاح في الممالك العثمانية (!) وإلا اضطر القيصر وحده إلى اتخاذ التدابير اللازمة في هذه المسألة، وأرسل الجنرال أغناتيف إلى أوروبا يقول: بما أن الباب العالي بدأ يخل بمعاهدة باريس، فتمام استقلال تركيا المشروط في تلك المعاهدة أصبح واهيا لاغيا، فترددت دول أوروبا ولا سيما إنجلترا في قبول هذا الكلام.
انتخاب أعضاء مجلس المبعوثان
Page inconnue
رأت الدولة العلية إصرار أوروبا على إصلاح الروم؛ فسارعت إلى انتخاب أعضاء المبعوثان، وتطبيق أحكام القانون الأساسي الذي نالت به الأمة العثمانية الحرية وحق الحكم، فلم يفقه الناس إذ ذاك معنى هذه الحرية ولا قدروها حق قدرها، فظنوا أن المبعوثين كبقية الموظفين يشتغلون بمصالح الأمة تحت سيطرة الوزراء والنظار، ليستفيدوا من الرواتب التي ينقدونها، فلم يعنوا بأمر الانتخاب كما يجب. حدثني بعض أحرار الأستانة قال: كنا نحرض الناس على الانتخاب ونسوقهم إليه سوقا، وهم يقولون: ألم يكفنا ما لدينا من المجالس والدوائر المشحونة بالموظفين، حتى نزيد عليها مجلسا جديدا ونتكبد القيام برواتب موظفيه؟! فإن لم يصلح حالنا وتنتظم إدارتنا بجميع ما نراه أمام أعيننا من النظارات والدوائر العظيمة المشتملة على الألوف من الموظفين؛ أتراه يصلح بمجلس المبعوثان؟
هذا ماكان يقال في قاعدة السلطنة ومقر الخلافة، فما بالك بمراكز الولايات والأولوية، إذ كان المنتخبون لا يوصون مبعوثيهم إلا بطلب الرتب والأوسمة والألقاب والمناصب والمخصصات والرواتب لهم ولأقاربهم وذويهم؟! ولمن لاذ بهم وحام حول حماهم، أو بإعفائهم من التكاليف الأميرية والخدمة العسكرية وتخفيف الضرائب والمكوس عنهم ونحو ذلك! مما يعود على الوطن بالخراب لا بالعمران، كأن خزينة الدولة كنز لا يفنى، تمطر عليه الأموال من رحمة الله بغير عد ولا حساب.
افتتاح مجلس المبعوثان وخطاب السلطان
افتتح المجلس العمومي المؤلف من الأعيان والمبعوثان في 4 ربيع الأول سنة 1294 و19 مارت /مارس سنة 1877 في بهو الاستقبال الكبير في سراي طولمة باغجة بمحلة بشكطاش، وتلي النطق السلطاني أمام الحضرة السلطانية وهو:
أيها الأعيان والمبعوثان
إنني أبدي الامتنان بافتتاح المجلس العمومي الذي اجتمع للمرة الأولى في دولتنا العلية، وجميعكم تعلمون أن ترقي عظمة واقتدار الدول والملل إنما هو قائم بالعدل، وأن ما انتشر في العالم من قوة دولتنا العلية وقدرتها في أوائل ظهورها كان من مراعاة العدل في سير الحكومة، ومراعاة حق ومنفعة كل صنف من صنوف الرعية، وقد عرف العالم أجمع تلك المساعدات التي قام بها أحد أجدادنا العظام المرحوم السلطان محمد خان الفاتح في مطلب حرية الدين والمذاهب، وجميع أسلافنا العظام أيضا قد سلكوا على هذا الأثر، فلم يقع في هذا المطلب خلل في وقت من الأوقات، ولا ينكر أن المحافظة على ألسنة صنوف رعيتنا وقوميتهم ومذاهبهم منذ ستمائة عام كانت النتيجة الطبيعية لهذه القضية العادلة. والحاصل بينا كانت ثروة الدولة والملة - الأمة - وسعادتها صاعدتين في مدراج الترقي في تلك الأعصار والأزمان بفضل حماية العدالة ووقاية القوانين؛ أخذنا بالانحطاط تدريجيا بسبب قلة الانقياد للشرع الشريف وللقوانين الموضوعية، وتبدلت تلك القوة بالضعف ... إلخ.
ثم ذكر تنكيل السلطان محمود بالانكشارية، وسبقه لفتح باب إدخال مدينة أوروبا الحاضرة إلى الممالك العثمانية واقتفاء السلطان عبد المجيد خان أثره، وإعلانه أساس التنظيمات الخيرية ... إلخ النطق السلطاني المعروف.
قابل الجميع هذا النطق بالخضوع والركوع (!) وخصص لاجتماع المبعوثين بهو كبير في سراي العدلية - الحقانية - بالقرب من أياصوفيا تحت رياسة أحمد وفيق أفندي الذي صار بعد ذلك باشا، وعين للرياسة بإدارة سنية لا بالانتخابات؛ ولذا كان رقيبا على مدحت باشا، وقد اتهمه حزب تركيا الفتاة بالاستبداد؛ لأن رياسة مجلس المبعوثان شبيهة بوظيفة رئيس الموسيقى المركبة من آلات كثيرة مختلفة، لكل آلة توقيع خاص، فعلى الرئيس أن يلاحظ موازنة الأنغام وائتلاف بعضها ببعض، لتخرج جميعها بصورة مقيدة وليس أن يأخذ آلة من الآلات الموسيقية ويضرب عليها ليوازن ما بينها.
مذاكرات مجلس المبعوثان
كانت الجلسة الأولى مخصصة للمذاكرة في العريضة التي ينبغي تقديمها من مجلس المبعوثان جوابا عن النطق السلطاني، فحررت مسودة الجواب، وأسقط الكاتب منه كلمة «السنة» في الجواب عن فقرة «المحافظة منذ ستمائة عام على السنة»، المذكورة في النطق السلطاني، فقام أحد مبعوثي الروم من الأستانة، وقال ما محصله: «لا يمكننا أن نقبل إسقاط كلمة تدل على أثمن امتياز نلناه؛ لأن لساننا - نحن معشر الروم - هو ثروتنا، فمن سوء الفهم وقلة الأدب نحو جلالة سلطاننا الأعظم أن نمحو كلمة أثبتتها جلالته بنفسها وكررت منحنا ذلك من جديد.» فقال الرئيس: ليس بحثنا في ذلك؛ لأنا لا نعرف في هذا المجلس لسانا غير اللسان العثماني الرسمي. فقال جمهور العثمانيين: «بك أعلى! بك أعلى!» - أي: حسن كثيرا! حسن كثيرا! فقام مبعوث أرمني وأيد كلام المبعوث الرومي، فقال الرئيس ثانية: ليس بحثنا في ذلك، ومع هذا فإني أسأل أعضاء المجلس عما إذا كانت آراؤهم موافقة لرأيي. فقال جمهور المبعوثين: «أڨت أفندم! أڨت أفندم!» - أي: نعم يا سيدي! نعم يا سيدي!
Page inconnue
بروتوكول لوندره ورفضه
سمي جمهور المبعوثين بعد ذلك «أڨت أفندم» لتصديقهم على كلام الرئيس من دون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم - والحق يقال - فئة عارفين بمصالح الدولة وطرق الإصلاح، جسورين على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهب للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذكرات إلى المسائل الخارجية، لأن مندوبي الدول الست الذين عقدوا مؤتمر الأستانة اجتمعوا في لوندره وليس للدولة العلية مندوب معهم، ووقعوا بتاريخ 31 مارت/مارس سنة 1877 على «بروتوكول» - أي مضبطة - طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود، والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية لكون لسانهم سلافيا ودينهم مسيحيا! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في 3 نيسان/أبريل سنة 1877.
جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان، وقرأ على أعضائه ترجمة البروتوكول، وشرح لهم أحوال السياسة الخارجية، وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون نتيجة إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العلية عضد من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزانتها، وكرر عليهم ما قاله مدحت باشا في المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من العسرة المالية، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكرية؛ فاعترض أكثر المبعوثين على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا يزيد عليه، وكان مبعوثو الأرناؤوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضا، وقام مبعوث الأكراد فقال ما ملخصه: تزعمون أن المالية في ضيق شديد؛ فكيف يمكننا تصديق ذلك، وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهمة؟! تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! لما كنت في بلادي لم يكن علي إلا ألبسة مرقعة بالية كبقية إخواني من أهالي كردستان، ولما رأيتكم ترتدون أحسن الملابس وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة، خجلت من نفسي فاشتريت الثوب الذي ترونه علي من سوق الدلالين! وأنا مرهق، لا من المخازن الكبيرة وأنا موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علي بيعه فأنا أبيعه وأنا مغبوط، وأعود إلى ثوبي المرقع.
ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول كل ملاحظات ناظر الخارجية؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثرية، وكانت الأقلية ثمانية عشر صوتا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن؛ فنظم الباب العالي نشرة مؤرخة في 9 نيسان/أبريل سنة 1877 احتج فيها على بروتوكول لوندره المنظم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانية الذي أقرته الدول في معاهدة باريس، فقرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها وأقرها، وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس جورجاقوف في بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في 19 نيسان/أبريل مضمونها : إن الباب العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به، فصارت الحرب ضرورية؛ لأن روسيا مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين !
فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدول قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطا لحقها وإزراء بشرفها وعبثا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة باريس، وصارت النشرات والمحررات السياسة تتطاير من عواصم أوروبا، والإنذارات والمذكرات تتساقط على السفراء ونظار الخارجية، فلم يجد ذلك نفعا، بل أعلنت الحرب في 24 نيسان/أبريل سنة 1877.
مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه
بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة، وذكر في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء، ينتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع الرعية «عثمانيين» من دون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين، لأن الموظفين كالوالي والدفتردار «رئيس الحسابات» والمكتوبجي «رئيس الكتاب» ونحوهم؛ أعضاء دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين.
فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون؛ أي المحامي عن القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على أبناء ملته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم
Jurisconsulte ، واعترضوا أيضا على تسمية «متصرف»، فقالوا إن هذا الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق روح الحرية والمساواة، واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام وقد كان «شوبقجي»؛ أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك.
ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة ملايين ليرة عثمانية للدخول في الحرب، فتألفت لجنة
Page inconnue
Commission
من أحد عشر مبعوثا للتذرع بالوسائل المؤدية إلى الحصول على المبلغ المطلوب، فحاولوا اقتراضه من إنجلترا على أن يكون لها في مقابل ذلك، وأرادت مصر كما فعلوا قبلا فرفضت إقراضهم؛ لأن التأمينات غير كافية، فقرروا عقد قرض داخلي بفائدة عشرة في المائة من وارادات أصحاب الأملاك والتجار، وأخذ راتب شهرين من أصحاب الرواتب، فصدق مجلس المبعوثان على هذا القرض وعلى كل ما طلبته الحكومة منه، وختم جلساته في تموز/يوليو سنة 1877؛ فقال الرئيس: ارجعوا إلى ولاياتكم، وأعيدوا الانتخابات، واجتهدوا بأن ترسلوا إلينا مبعوثين أوفر عقلا وأكثر وقوفا على ما تحتاج إليه البلاد!
فيرى من ذلك أن مجلس المبعوثان - على ضعفه وعجزه وجهل أعضائه في السياسة والإدارة - لم يكن منه قصور أو تقصير في وظائفه، ولم يحصل فيه اختلاف شديد بين المسلمين والمسيحيين، وإنما كانوا جميعا متفقين على مقاومة الاستبداد ومنع التعدي وتبذير الأموال، وكل منهم عارف بمصالح بلاده الخاصة؛ لأن معرفة ذلك لا تحتاج إلى علم كبير أو رأي ثاقب لبداهتها ووضوحها كالشمس في رابعة النهار، غير أن الواقفين منهم على مصالح الدولة العامة وسياستها الخارجية كانوا أقل من القليل، والحكومة أبت أن تعترف لهم بحق، بل نظرت إليهم نظر الوصي إلى الصبي!
الحرب الروسية العثمانية
استمرت الحرب الروسية العثمانية ثمانية أشهر (نيسان كانون الأول سنة 1877)، وأبرزت الجنود العثمانية فيها من الشجاعة والصبر والثبات والقوة ما دل على حياة الأمة وفتوتها وسلامة جسمها من أعراض الهرم أوالمرض الذي يصفها به العدو، ولكن نقصان التجهيزات العسكرية وسوء الإدارة كانا سببا في انتصار الروس في أوروبا وآسيا، وتجاوزهم نهر الطونة «الدانوب» وجبال البلقان، وأخذ القرص ومحاصرة أرضروم من جهة الأناضول، وفتح بلفنا في الروم أيلي، ولقد أظهر عثمان باشا وعسكره من الشجاعة والمقاومة ما حير الروس وأوروبا كلها، فاعترفوا بفضلهم وقدروهم قدرهم، «والفضل ما شهدت به الأعداء.»
طلب مدحت باشا وانتخاب المبعوثان الثانية
استنزفت هذه الحرب ثروة البلاد وأضعفت قوتها وأفرغت صناديق الحكومة من الأموال؛ لكثرة الإنفاق وانقطاع الوارد إليها من التكاليف والرسوم، فتقرر إعادة التئام مجلس المبعوثان وطلب مدحت باشا من أوروبا، وعقد قرض لوندره، وعقد الصلح مع روسيا، فجرى انتخاب ثان بأمور «أوامر» مؤقتة لا كما يقضي نظام انتخاب مجلس المبعوثان.
افتتاح مجلس المبعوثان مرة ثانية وخطاب السلطان فيه
افتتح مجلس المبعوثان مرة ثانية في يوم الخميس الواقع في 7 من ذي الحجة سنة 1294 و13 كانون الأول/ديسمبر سنة 1877، فذهب الوكلاء الفخام والوزراء الكرام والعلماء الأعلام وأعضاء مجلس الأعيان والمبعوثان وسفراء الدول الأجنبية إلى سراي بشكطاش، واصطفوا على الصورة الآتية: فكان عن يمين الحضرة العلية السلطانية أدهم باشا الصدر الأعظم ووكلاء الباب العالي، ثم موظفو المجالس العالية، ثم رؤساء المذاهب المختلفة، ثم أعضاء شورى الدولة ومستشارو النظارات المختلفة، وكثيرون من أعيان رجال العسكرية والملكية بحسب رتبهم ومقاماتهم، وكان عن شماله حضرات شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة قبلا، ثم العلماء من رتبة قاضي عسكر الروم أيلي والأناضولي، ثم «الفريقان» الكرام وفريق من العلماء الأعيان، وكان أعضاء مجلس الأعيان أمام الحضرة العلية السلطانية من ناحية اليمين على صفين، وأعضاء مجلس المبعوثان أمامها من ناحية الشمال على تسعة صفوف، وفي الساعة السادسة على الحساب العربي دخل السلطان الأعظم وسلم الرقيم المشتمل على نطقه لسعيد باشا باشكاتب المابين، فتلاه على الحاضرين، وهو:
يا أيها الأعيان والمبعوثان
Page inconnue
إنني اكتسبت الممنونية بفتح المجلس العمومي وبمشاهدة مبعوثي الملة «الأمة»، ثم ذكر الحرب مع روسيا والمحافظة على الملية؛ أي القومية، واللغات وحق المساواة، وإدخال غير المسلمين من الرعية في الجندية، والمحافظة على القانون الأساسي وإصلاح المالية والعدل في جباية الأموال الأميرية وتنظيم القوانين.
وختمه بقوله:
يا أيها المبعوثان
إن إبراز الحقائق في المسائل القانونية والسياسية وضمان منافع البلاد يتوقفان على مجاهرة أرباب الشورى بأفكارهم بالحرية النامية، وبما أن القانون الأساسي يقضي بذلك فإنني لا أرى احتياجا إلى أمر أو ترغيب آخر.
مذكرات مجلس المبعوثان
ثم انعقد مجلس المبعوثان في الدائرة الخاصة به تحت رياسة حسن فهمي أفندي - وهو اليوم باشا من النظار - وشرع المبعوثون في المذكرات والمباحثات بقية شهر كانون الأول/ديسمبر وكانون الثاني/يناير وأوائل شباط/فبراير سنة 1878، وكثر الجدال بين المبعوثين وبين الحكومة - لا بين الأعضاء المختلفين في الدين واللسان - وطلب بعضهم التدقيق في حسابات المالية، وحضور ناظرها لمناقشته الحساب، ومحاكمة المرتكبين، وسؤال المتهمين باختلاس الأموال الأميرية، وسوء الأعمال المختلفة المتعددة، وقام أحد المبعوثين وقال: إن الجاندرمة
1
في الولاية التي بعثت منها تنهب الأهالي، والمحاكم ترتشي على إبطال الحق وإحقاق الباطل، والضابطة تعذب المحبوسين بالضرب وأنواع العذاب، واعترض مبعوث آخر على المذابح التي جرت في بلغارستان وطلب التحقيق والبحث عنها، وطلب جماعة من المبعوثين عزل خمسة من الوكلاء. منهم: محمود جلال الدين باشا، وسعيد باشا، وكجوك سعيد باشا، والتحقيق عن كثيرين من رجال الدولة وقواد العساكر، ولا سيما عن الاختلاس والإسراف في نظارة البحرية وغير ذلك.
إلغاء الصدارة واستبدال مجلس الوكلاء بها
بعد ذلك تولى الصدراة أحمد حمدي باشا المعروف في ولاية سوريا، وذكر في فرمان التولية: «إن اعتزال أدهم باشا مدة للأعمال كان مراعاة لصحته، هذا مع التسليم بنزاهته ودرايته، ونحن راضون عنه من كل الوجوه أتم الرضا ...» إلخ، وبقي حمدي باشا في الصدراة بضعة وعشرين يوما، وفي غرة صفر سنة 1295 و4 شباط/فبراير سنة 1878 صدر الفرمان القاضي بإلغاء لقب «صدر أعظم» واستبدل رئيس الوكلاء به، وتوجيه هذه الرياسة إلى أحمد وفيق باشا رئيس مجلس المبعوثان مع رتبة الوزارة، وتعيين مسئولية «تبعة» الوكلاء؛ أي النظار كما هي الحال في وزارات أوروبا، فحضر «الباش وكيل» الأفخم إلى مجلس المبعوثان، وقال لهم ما ملخصه:
Page inconnue
إن جلالة السلطان الأعظم تريد في الحقيقة باطنا وظاهرا إدارة الملك كما تقضي أحكام القانون الأساسي، ولذا استبدلت رياسة الوكلاء بمسند الصدراة، فالوزراة الجديدة المؤسسة على قاعدة المسئولية لا ترغب إلا في سلامة الدولة وترقيها، والوكلاء مستعدون للحضور دائما إلى المجلس عند الطلب، ولكنهم يرجونه أن يقبل في بعض الأحيان وكلاء من أعضائه لكثرة شواغلهم وحرصا على أوقاتهم!
فقام أحد المبعوثين، وقال ما خلاصته:
إن مجلس المبعوثان له الحق وحده ومن شأنه خاصة إحداث تغيير عظيم مثل هذا التغيير، تقولون دائما إنكم تريدون المحافظة على القانون الأساسي، إذن فاحترموا حريتنا؛ لأننا نحن الذين نمثل القانون الأساسي ونحافظ على أحكامه، وأنتم الذين تحاولون نقضه وإبطاله ...
فأحيلت المسألة على لجنة
Commission
مخصوصة لتدقق فيها 5 شباط/فبراير، وكانت الحرب أوشكت أن تضع أوزارها، وعساكر روسيا استولت على أدرنة وتجاوزتها، وطلبت أوستريا «النمسا» أن تجمع في ڨيينا مؤتمرا من مندوبي الدول الموقعة على معاهدة باريس؛ لتنقيح المعاهدة الجديدة بين تركيا وروسيا، والتوفيق بين أحكامها وأحكام المعاهدات القديمة، وبعثت إنجلترا بأسطولها إلى بحر مرمرة في 14 شباط/فبراير سنة 1878.
المجلس العالي
تداخلت دول أوروبا في المسألة الشرقية بعد أن تركت روسيا تفعل ما تريد في الحرب، وعادت إلى المناقشات والمحاورات - على عادتها - في هذه المسألة، فاعتمد المابين على ما بينهن من الاختلاف واستغنى عن مجلس المبعوثان فألف في 11 شباط/فبراير سنة 1878 مجلسا عاليا من وكلاء الدولة ورجالها وأعيانها والرؤساء الروحيين، وطلب من مجلس المبعوثان خمسة أشخاص: الرئيس، ووكيله، وأحد مبعوثي الأستانة؛ وهو الحاج أحمد أفندي، وكتخدا الأسترجية «الكدش»، ومبعوث آخر يهودي. فقال لهم الحاج أحمد أفندي: إن طلبكم الآن رأينا في غير محله، فقد كان يجب عليكم أن تسألونا قبل الخراب، فمجلس المبعوثان يتنصل من كل تبعة تلقى عليه لأمر وقع بغير علمه، ولم يكن برأي من آرائه، وكرر القول بأن المجلس يرفض كل تبعة في الحال الحاضرة.
تعطيل مجلس المبعوثان إلى أجل غير مسمى
صمم السلطان حينئذ على العدول عن سياسة والده - الماجد السلطان عبد المجيد خان - في عمل الإصلاح بإطلاق الحرية والعمل بمقتضى أحكام القانون الأساسي، وجنح لسياسة جده السلطان محمود خان في إعمال القهر والاستبداد، مفضلا هذه السياسة؛ اعتقادا منه أن الشعوب التي وضعها الله تحت يده لا يمكن تسييرها إلا بالقوة! وكان المندوب الروسي قد حضر إلى الأستانة فلم يسر بوجود مجلس المبعوثان لخلو بطرسبرج من مثله، واستبداد القيصر برعيته، ففي 14 شباط/فبراير سنة 1878 قرأ الرئيس حسن فهمي أفندي على المبعوثين منطوق الإرادة السنية القاضية بتعطيل مجلسهم إلى أجل غير مسمى !
Page inconnue
استخدام المبعوثين والأمة لتعطيل مجلس المبعوثان وأسبابه
خرج المبعوثون يتعثرون بأذيالهم، وأنذرت الضابطة المتطرفين منهم والجسورين على التكلم وإيقاظ أفكار الأمة بوجوب المهاجرة من الأستانة! فذهب بعضهم إلى الولايات الثمانية وبعضهم إلى مصر والبلاد الأجنبية، ولا تقلق الأمة أو تتأثر بهذا الاحتقار والامتهان، ولا حصل منها هيجان أو اعتراضات! كأنها جمل المحامل.
يصرفه الصبي بكل وجه
ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي
فلا غير لديه ولا نكير
ولم يبق من المبعوثين من أصر على مبعوثيته إلى آخر نفس من حياته إلا أفراد قلائل، كمبعوث القدس الذي كان - بجراءته - يثبت على بطاقة الزيارة
Carte-visite
أنه مبعوث القدس، ويقدمها إلى وزارة الدولة ورجالها لدى زيارته لهم في الأستانة، وإلى سفراء الدول الأجنبية وموظفي نظارة الخارجية في أوروبا، ولما اجتمع بصديقه خليل غانم مبعوث بيروت في الاجتماع الثاني للمجلس ومنشئ المقالات الرنانة في جريدة الديبا وغيرها من جرائد باريس، وذلك قبيل وفاتهما؛ آخذه لكتابته في بطاقة الزيارة كلمة المبعوث السابق
Ex-Depute
Page inconnue
فمحا كلمة «سابق»؛ لأن صفة المبعوثية إنما هي بإرادة الأمة وانتخابها، فهي لا تزول عن صاحبها إلا بانتخاب آخر، ومجلس المبعوثان لم يلغ إلغاء وإنما عطل إلى أجل غير محدود، فكان اجتماعه في كل سنة من قبيل الممكنات الجائزة عقلا ونظاما، ولكن أكثر المبعوثين تناسوا وظيفتهم كأنها وظيفة حقيرة لا يؤبه لها وقد عزلوا منها ولم يجسر أحد على ذكرها في ترجمة حاله الرسمية، ولم يذكرهم بها مذكر ولا وعظهم واعظ! ولا حررت في هذا الموضوع جريدة من جرائد المملكة العثمانية.
إن لهذا السكوت والاستخذاء أسبابا كثيرة: منها أن الحرية أمر تستحوذ عليه الأمة بالغلبة والاستيلاء، وليست مما ينعم به إنعاما أو تعطى جزافا، ولقد كانت الأمة حينئذ منهوكة القوى مكسورة الجناح بسبب الحرب، لا دار إلا وفيها مأتم، ولا أسرة إلا وقد أصابتها مصيبة، وزاد البلاء بسبب البحران المالي، ونزول قيمة المسكوكات «النقود»، فكانت الأسرة تبعث خادمها إلى السوق ليشتري القوت الضروري، فيعود إليها خاوي الوفاض لعدم رواج النقود، فتطوي على الجوع وتتفتت أكباد الوالدين لبكاء أطفالهم، ثم إن الأمة هي عبارة عن أهل العاصمة منع الاستبداد وأهالي الولايات والقرى، والعساكر المنظمة، المدربة على الحرب المسلحة بالأسلحة الجديدة والمدافع، فأما أهل الأستانة - ولا سيما المسلمون - فإنه لا يتصور قيامهم لطلب الحرية لأن جلهم - إن لم نقل كلهم - موظفون أو عائشون في ظل الموظفين، والعساكر المسلحون واقفون لهم ولأهل الولايات بالمرصاد، وقادرون على إخماد نار أية ثورة أو مظاهرة، وأن قيام طائفة مسيحية وحدها لطلب الحرية مما لا يرضى به المسلمون ولا بقية الطوائف المسيحية أو اليهودية، كما شاهدنا ذلك في أرمينيا ومقدونيا التي اشتدت فيها المناقشة بين الروم والبلغار والصرب والرومان، كما أن العساكر وحزب الأحرار العقلاء لا يرضون به؛ لأن قيام كل ملة على انفراد يقضي بتقسيم الممالك وتفريقها وضعفها، وإثارة أضغان العداوة الموروثة من الحروب الصليبية والقرون المتوسطة المظلمة، على أن هذا القيام كان مصدره الكنائس والأديار بإيعاز الرهبان والقسيسين والمبشرين والمرسلين، فكان سببا لإيجاد المذابح والفظائع ومداخلة الأجانب.
أما حزب تركيا الفتاة الذي أسسه مصطفى فاضل باشا وخليل شريف باشا، فإنه لم يكن في عهد مدحت باشا إلا فئة قليلة من صغار الموظفين وضباط العساكر والمتعلمين في المدارس الجديدة، والذين درسوا شيئا من اللسان الفرنسي أو الإنجليزي، واشتهروا باسم «إنجلز» لتعلمهم الإنجليزية فقط، مثل: إنجلز سعيد باشا، إنجلز كريم أفندي، إنجلز علي بك والد أحمد رضا بك روح هذا الانقلاب، أو الذين أصلهم من الأوروبيين فأسلموا ودخلوا في الوظائف، مثل عمر باشا المجري، ونوري بك ابن المركي دوشاتونيف الفرنسي، وكثير غيرهما، أو الذين تزوجوا بنسوة أوروبيات وربوا أولادهم تربية إفرنجية أو غير ذلك، فكانت هذه الفئة متحدة الفكر في إعجابها بالمدنية الأوروبية وميلها إليها، ولم تكن لهم جمعية ولا رابطة غير الرابطة المعنوية الفكرية؛ لأنهم من موظفي الحكومة، والوظائف تضطرهم إلى إخفاء الرأي وإطاعتهم لآمريهم إطاعة يفرضها العقل والسياسة، وإلا كانت الأمور فوضى، ولكن الجامدين من المسلمين لم يفرقوا بين الدين المسيحي والمدنية الأوروبية، واعتبروا كل إصلاح صدر من أوروبا المسيحية مخالفا للدين والآداب الإسلامية، وشتان ما بين المدنية «الأوروبية» والدين المسيحي.
سعاوي أفندي وحادثة جراغان
على أن بعض المتطرفين من حزب تركيا الفتاة ثاروا بزعامة علي سعاوي أفندي، وكان من طلاب العلم المعروفين بالصوفتاوات، مطلعا على العلوم العربية والفنون والرياضة، وواقفا على الأفكار الجديدة، نفي في أيام السلطان عبد العزيز وصدارة عالي باشا، وفر إلى باريس ولوندره ونشر ثمة الرسائل والمقالات، وكان ينفق على نفسه فيهما مما ينفحه به رجال الأستانة، ثم عاد إليها، وصار من حزب مدحت باشا أنصار القانون الأساسي، وعين مديرا للمكتب السلطاني ثم عزل، فاتفق مع صالح بك الأرناؤوط - أحد الضباط - وجمعا فئة من المهاجرين، فكانوا زهاء مائة رجل، وهجموا على سراي جراغان لإخراج السلطان مراد منها ومبايعته، واسترداد الحرية والقانون الأساسي، ففاجأتهم العساكر بالسلاح فشتت شملهم، وكانت هذه الحادثة في 13 مايس/مايو سنة 1887 زمن رياسة صادق باشا لمجلس الوكلاء.
صدارة رشدي وصفوت وخير الدين التونسي
لبث أحمد وفيق باشا «باش وكيل» لمجلس الوكلاء مدة قليلة، ثم وجهت إلى صادق باشا فبقي فيها تسعين يوما، ثم استبدلت الصدارة «بالباش وكالة» وعين فيها رشدي باشا ودام فيها ثمانية أيام، ثم عين لها صفوت باشا ناظرا للخارجية، فاكتسب فيها ثقة الحضرة السلطانية ولم تطل فيها مدته، وعين لها خير الدين باشا الجركسي الأصل والتونسي النشأة، وهو مؤلف التاريخ العربي «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، وله وقوف على العلوم العربية وعلى الفرنسية، وتجول في ممالك أوروبا، وقد طلب منها في سنة 1294ه، كما طلب السيد جمال الدين الأفغاني وغيره، وعين رئيسا لشورى الدولة، ثم «صدر أعظم» سنة 1295، وبقي في الصدارة ثمانية أشهر، ثم استقال وبقي جليس بيته إلى أن توفي سنة 1307 في الأستانة، فكان في طلبه وتوظيفه شبه ميل إلى سياسة الجامعة الإسلامية
panislamiseme ، ولكن هذه السياسة لها معنيان: المعنى القديم الاستبدادي الذي مشى عليه خلفاء بني أمية والعباسيون، وهو مخالف لحقيقة الإسلام، ومناف لروح العصر الجديد والمدنية الحاضرة. والمعنى الحديث وهو يوافق أصل الإسلام والمدنية، ولكنه يخالف مسلك المستبدين بالأمر، ويحول بينهم وبين مآربهم، وهو أشد وطأة عليهم من القانون الأساسي وحزب تركيا الفتاة.
صدارة كجوك سعيد باشا وأعماله
ثم عين لمسند الصدارة سعيد باشا، المشهور بسعيد باشا الصغير «كجوك سعيد»؛ تمييزا له عن سميه ناظر الداخلية الكردي الأصل، والمتوفى قبل بضع سنين، وكان سعيد باشا الصغير محررا في جريدة «حوادث»، فاتصل بالداماد محمود جلال الدين باشا ودخل بوساطته المابين وصار باشكاتب له، وهو المتسبب في إبعاد مدحت باشا وتعطيل أحكام القانون الأساسي، وإعلان الحرب، وعزل القائد «السردار» عبد الكريم باشا وإخلائه موقع «بيله» أمام بلفنا، ومداخلة المابين في إدارة جميع الشئون العسكرية، وإصدار الأمور من السراي السلطانية أثناء الحرب، وتقسيم المملكة العثمانية في معاهدة سان ستفانو التي نقحتها معاهدة برلين ... إلخ، فإن الإرادات السنية في جميع ذلك كانت تصدر برأي سعيد بك باشكاتب المابين وتوقيعه، ولهذا كان مبغوضا من حزب تركيا الفتاة؛ لأنه كان آلة وعونا على الاستبداد، وعلى إدارة المصالح من دون رأي الباب العالي، مع أن باشكاتب المابين كان لذلك العهد ينتخب من قبل الصدارة العظمى، وكان الصدور لا ينتخبون لهذه الوظيفة إلا الذي يعتمدون عليه لعرض المضابط والمقررات والإنهاءات «المطالب» واستصدار الإرادات السنية بها، ولم يكن للباشكاتب نفوذ معارض لنفوذ الباب العالي صاحب التقاليد والأصول المرعية في إدارة المملكة، ولا سيما في أيام رشيد باشا وفؤاد باشا وعالي باشا، فلما توفي عالي باشا وتولاها محمود نديم تدنت أهميتها بسبب نفاقه وتملقه للمابين وتقديمه أموال الخزينة إليه بغير عد ولا حساب، ولما ولي سعيد باشا الباشكتابة زالت مكانة الصدارة البتة، وانحصرت الأعمال والإدارة في المابين، وصار للباشكاتب نفوذ يمكنه أن يطلب مدحت باشا الصدر الأعظم إلى المابين ويبلغه الإرادة القاضية بنفيه على الباخرة عز الدين!
Page inconnue