يدور السؤال في رأسها، في منتصف جبهته زبيبة سوداء علامة الصلاة والسجود والخشوع لله، في عينيه نظرة ملتوية أقرب إلى الشيطان منها إلى الله، أمامه في الطابور فتاة من عمر هنادي ابنتها، في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، رأسها ملفوف بحجاب ملون عدة لفات، تحمل زلعة فوق رأسها تمسكها بيديها الاثنتين، تبدو طالبة في المدرسة أو المعهد، سنة أولى مثل ابنتها، يتحرك الطابور ببطء، تنظر سعدية إلى ساعتها في قلق، تعود إلى فحص الوجوه الشاحبة الواقفة في الطابور، كل منهم يحمل صفيحته كمن يحمل صليبه، يتنافسون في الحصول على الماء، ينتصر الشباب ذوو العضلات، من بعدهم الشابات عضلاتهن أقل قوة، ثم الرجال الكهول ثم العجز والمرضى، في المؤخرة تقف النسوة الطاعنات في السن أو المريضات، قد تفترش الواحدة منهن الأرض من شدة الإعياء، ترمقهن سعدية من بعيد، عيون منكسرة تشوبها صفرة، وجوه طويلة شاحبة متغضنة، ملأى بالبقع والتجاعيد، كعوب سوداء تطل من شباشب بلاستيك، أياديهن مشققة تعلوها بقع بيضاء وزرقاء، أيمكن يا سعدية أن تصبحي واحدة منهن؟
أن تكوني امرأة ميتة في القبر يا سعدية أفضل من امرأة مريضة أو عجوز فقيرة ليس لها أحد في هذه الدنيا؟ نعم الموت أفضل لك يا سعدية، لكن ... أين سيدفنونك يا سعدية وليس عندك قبر؟
تكلم نفسها أو تخاطب الرب.
آه يا رب، أتعرف مين المجرم؟ اسمه إيه يا رب؟ شكله إيه؟ بني آدم أو حيوان؟ يعتدي على طفلة زي هنادي؟
تتطلع بعينيها إلى السماء تبحثان عن وجه الرب أو وجه الرجل الذئب؟ أيختفي وراء هذه السحابة السوداء أو ذلك العمود من الدخان؟
تستقر عيناها فوق الوجه الكبير المعلق بين السماء والأرض، فوق عمود النور الحديدي الطويل تثبت عيناها، فوق الوجه المربع في الصورة، فوق العمود صورته معلقة وفوق كل الأعمدة في الزقاق، والأزقة كلها في الحي، وخارج الحي في الشوارع كلها، من شارع المعهد المتوسط إلى شارع المعهد العالي، إلى شارع قصر العيني الرئيسي، حتى ميدان التحرير، الوجه في الصورة تعرفه منذ انفتحت عيناها على الدنيا، قد يتغير حجم الأنف الكبير، يقل طوله أو عرضه قليلا، أو تزحف شعرات رمادية أعلى الصدغين، لكن شعر رأسه يظل أدكن كلون الليل، كأنما يصبغه بالحناء البغدادية، عظام الصدغين قوية، فكاه نتوءان بارزان تحت أذنيه، جبهته عريضة، تنحدر إلى صلعة كبيرة حتى منتصف رأسه، عضلات شفتيه منقبضة في تكشيرة عريضة تشبه الابتسامة الواسعة، أسنانه مدببة بيضاء حادة، العيون في الطابور ترمق الصورة من تحت الجفون، يكتمون أنفاسهم، أجهزة حديثة تلتقط أي نفس يفلت من بين الشفتين، أو تنهيدة أو زفير يخرج من الصدر، أو كلمة يهمس بها أحدهم، تبربش عيونهم تتطلع نحو فجوة في عمود النور تطل منها أسلاك كهربائية، يتساءلون: أجهاز تسجيل في هذه الفجوة أم يختفي وراء برواز الصورة؟
الشيخ متولي
يدور الهمس الخافت، ثم يرتفع صوت الشيخ متولي، يسب الفتاة الواقفة أمامه في الطابور، يحاول الالتصاق بها لتترك له مكانها في الصف، لكنها تصده عنها بقوة فيتراجع إلى الوراء، يدوس قدم رجل عجوز يقف خلفه، يبسمل ويحوقل ويلعنه والدنيا، في مؤخرة الطابور امرأة مريضة بالحمى تفترش الأرض وتلهث، سعدية واقفة منتصبة وفي رجلها شبشب بلاستيك أصفر، تتكئ بركبتها اليسرى على الصفيحة الفارغة، عظامها قوية إلا مفصل الركبة اليسرى والفقرات الأخيرة أسفل ظهرها، شعرها أسود قاتم سوى شعرات بيض قليلة، تصبغها بالحناء البغدادية، تخشى أن تستبدلها الأستاذة بشغالة أكثر منها قوة أو شبابا، تلقي نظرة على ساعتها من حين إلى حين، تخشى أن تتأخر عن موعد الشغل، في السابعة صباحا تنتظرها الأستاذة فؤادة وزوجها شاكر بيه، لتعد لهما الفطور قبل خروجهما إلى الجورنال، الشيخ متولي اشتبك في عراك مع شاب اسمه جلال أسعد، أشفق على المريضة في آخر الطابور وفسح لها في المكان في أول الصف.
يغضب الشيخ متولي مزمجرا: الرجالة وراهم شغل يا جلال، النسوان مش مفروض يخرجوا. تزمجر الفتاة الواقفة أمامه: إحنا بنشتغل أكتر منكم يا رجالة؟! - بتخرجي ليه وسط الرجالة؟ - أكل عيش يا شيخ. - مكانك البيت يا بت؟
ينتهز فرصة اندفاعة الأجسام من خلفه ليحتك بردفيها النافرين، تدفعه بقوة بعيدا عنها. - عيب عليك يا شيخ يا بتاع ربنا.
Page inconnue