شاكر
لم يكن لشاكر موهبة أدبية تجذبها، أو ملامح الفتى الذي يعيش في خيالها، يكتب بلغة الصحافة وليس الأدب، قامته متوسطة ذكاؤه متوسط، ملامحه وسيمة متوسطة من دون جاذبية، لا يخفق شيء تحت ضلوعها حين تراه، يرتدي دائما بذلة أنيقة وحذاء لامعا، لون الجورب متسق ولون القميص والبذلة وربطة العنق، يبدو بصوته الرصين وملامحه الجامدة مثل الأستاذ الجامعي، بشرته بيضاء متوردة قليلا تنم عن الراحة، لكنه كان متواضعا يحاول الاقتراب من البسطاء والفقراء والضعفاء والنساء، حين وصلتها الرسالة بدأت فؤادة تدرك وجوده، كانت خارجة من قصة حب تركت في قلبها جرحا غائرا، قررت عدم تكرار التجربة، أوحى إليها شاكر أنه يستحق الثقة، حكت له كل حياتها، وهو حكى لها عن أمه وأبيه وطفولته الحزينة، لم يحك شيئا عن حياته الأخرى. وراء مكتبها الفاخر جلست كوكب تنظر في مرآتها الصغيرة، تلامس بالفرشاة أنفها وخديها، تختفي البثور الدقيقة تحت البودرة، يختفي الشحوب تحت لمسات باللون الأحمر، بعد عشر دقائق بالضبط ستأتي فؤادة إلى مكتبها، تحافظ دائما على موعدها، تبتسم كوكب لنفسها في المرآة، أسنانها صغيرة بيضاء منتظمة «صفي لولو» كما يقول الأستاذ، كلمة الأستاذ تعني الرئيس لهذه المؤسسة الضخمة، الأستاذ يكبرها بعشرين عاما وأكثر، متزوج وله ثلاثة أبناء يدرسون في الخارج، يخفق قلبها حين يرمقها بعينيه العميقتين في أثناء اجتماع المجلس، يدعوها إلى مكتبه أحيانا للتحدث، يستطلع رأيها في بعض قراراته، وخصوصا التعيينات الجديدة، لعبت دورا في تعيين أحمد عارف مديرا لمكتبها، بدرجة نائب رئيس تحرير، دقت الجرس، ظهر أحمد عارف على الفور، أصابت ظهره انحناءة خفيفة، صوته أصبح خفيضا ، ناولته ماكيت العدد الجديد ثم نظرت إلى ساعتها، يا أحمد بعد سبع دقائق ستأتي الأستاذة فؤادة إلى مكتبي أتعرفها؟ - أيوه طبعا قرأت كتاباتها. - إيه رأيك فيها؟
كاد يتسرع ويقول: كتاباتها بديعة. لكن حاسة الشم المرهفة لدى مديري المكاتب، جعلته يسكت لحظة ثم يمط شفتيه بامتعاض، قائلا: موش بطالة يا أستاذة كوكب. أنا رأيي يا أحمد أن موهبتها متوسطة، لكن ممكن تتحسن لو اشتغلت معانا في المجلة، إيه رأيك؟ - الرأي رأيك يا أستاذة.
كاتبة فقط
جلست كوكب وراء مكتبها تنتظر دخول فؤادة، انتزعت من الأستاذ الموافقة على تعيينها في المجلة، تتأمل الغرفة الواسعة الفاخرة، المكتب، المكتبة، أصص الزرع الأخضر في الأركان، السجاجيد، النجفة الكريستال تتدلى من السقف، دخلت فؤادة بقامتها الطويلة الممشوقة، رأسها شامخ كأنما لم تعرف الألم والهوان، جلست في مقعدها تنظر إلى كوكب بتلك التحديقة، لم يتغير شيء فيها، ينقبض قلب كوكب، يثقل ويغوص في أحشائها، لا تتصوري يا فؤادة فرحتي، قرار تعيينك يصدر اليوم أو غدا ستكونين معنا في المجلة، أتوافقين؟ - أوافق بشرط يا كوكب. - بشرط إيه؟ - شرط أن أكتب ما أريد، لا أحد يتدخل في عملي، سأكون كاتبة فقط، لا علاقة لي بتحرير المجلة أو إدارتها، أتوافقين؟ - أوافق.
بدا السرور على وجه كوكب. - ستحبين العمل معي يا فؤادة.
شعرت كوكب بلذة وهي تقول: «معي» وتعني تحت رئاستي، ثم قالت: المؤسسة أكبر المؤسسات في الشرق الأوسط، ومجلتنا الأولى في مصر والعالم العربي، ده مكانك يا فؤادة، مش مع بدرية البحراوي. - بدرية البحراوي أعظم كاتبة لا أسمح لك. - متأسفة يا فؤادة، مش قصدي حاجة.
دق جرس التلفون، انشغلت كوكب في المحادثة.
استغرقت فؤادة في تأمل اللوحات على الجدران، صور رئيسات التحرير السابقات للمجلة، رئيس الدولة أو الوزير يقدم لإحداهن الجائزة التقديرية، صورة كوكب في آخر الطابور، أنهت كوكب المكالمة التلفونية، اتجهت نحو فؤادة: نحتفل بالتعيين الجديد؟ إيه رأيك ناخد درينك سوا؟ عندهم هنا في الكافيتيريا نبيذ أحمر عمر الخيام؟ - شكرا يا كوكب، ليس لدي وقت.
تحركت الغصة في حلق كوكب، ابتلعت لعابا لا يخلو من مرارة، لم تتوقع أن تقبل فؤادة العمل معها أو تحت رئاستها، أما وقد قبلت فهذا يثلج صدرها إلى حد ما، والأفضل أن تتركها تمضي قبل أن تتراجع وترفض، لكن شيئا غامضا خارج إرادتها يجعلها تستمر في الكلام، تعالي ناخد كاس نبيذ والا النبيذ حرام؟ - مش حرام طبعا لكن عندي شغل. - فيه حاجات أهم من الشغل. - زي إيه يا كوكب؟ - حاجات إنسانية. - إنسانية؟
Page inconnue