قال: كنتُ في جيشٍ، فلقينا العدو، فحاصَ الناس حَيْصَةً، فكنتُ فيمن انحاز، فقلنا: لا ندخل المدينة، وننظر في وجوه الناس، وقد بؤنا بغضبٍ من الله، فأقمنا بجنبَاتِها، فقلنا: لو دخلناها فَنَتَثَبَّتُ منها -وفي رواية: فامْتَرْنا منها، وفي كتاب أبي داود: فنثبُتُ فيها (١) - نذهب فلا يرانا أحدٌ، فدخلناها ليلًا، فقلنا: لو عرضنا أنفسنا
على نبي الله ﷺ، فإن كانت لنا توبةٌ تُبنَا، قال: فقعدنا له في الطريق، فخرج لصلاة الغداة، فقلنا: يارسول الله، نحن الفرَّارون، قال: «بل أنتم العَكَّارون»، قال: قلنا: يا رسول الله، نحن الفرَّارون، قال: «بل أنتم العكَّارون» -ثلاث مرار- فأخبرناه ما أردنا أن نصنع، قال: «فلا تفعلوا، أنا فئتكم»، وفي كتاب أبي داود: فأقبل إلينا فقال: «لا، بل أنتم العكّارون»، قال: فَدَنونَا، فَقَبَّلْنا يده، فقال: «أنا فئة المسلمين» .
ففي حديث ابن عمر هذا زيادةُ بيانٍ في عموم حكم آية النهي عن التولّي يوم الزحف، إلاّ إلى فئةٍ، وأن ذلك ليس مخصوصًا ببدر، وابن عمر لم يقبله رسول الله ﷺ للحرب، إلا بعد يوم بدر.
قوله: «العكَّارون» هم الكرَّارون، الرَّاجعون. يقال: عَكَرَ واعْتكر إذا كرَّ ورجع، فكان رجوعهم إلى النبي ﷺ وإلى ما كانوا عليه من بذل أنفسهم في
= إلى الحرب، العطَّافون نحوها، يقال للرجل يولّي عن الحرب، ثم يكرُّ راجعًا إليها: عكر واعتكر، وعكرتُ عليه: إذا حَمَلْتُ.
لطيفة: أسند الخطابي في «المعالم» (٢/٢٣٦) إلى الأصمعي، قال: رأيت أعرابيًا يغلي ثيابه، فيقتل البراغيث، ويترك القمل، فقلت: لم تصنع هذا؟ قال: أقتل الفرسان، ثم أُعَكِّرُ على الرَّجَّالة.
وقوله: «أنا فئتكم» . قال ابن الأثير: الفئة: الفرقة والجماعة من النَّاس في الأصل، والطائفة التي تقيم وراء الجيش، فإن كان عليهم خوفٌ أو هزيمة التجؤوا إليهم.
(١) في الأصل: «منها» والكلمة التي قبلها محتملة، والمثبت من «سنن أبي داود»، وفي رواية ابن الأعرابي: «فننبتُّ»، وفي رواية ابن داسة: «فننبثّ» وفي بعضها: «فَنَتَثَبَّت»، وفي بعضها: «فنبيت» .