في مهب المعركة
في مهب المعركة
Maison d'édition
دار الفكر المعاصر بيروت-لبنان / دار الفكر دمشق
Numéro d'édition
١٤٢٣هـ
Année de publication
٢٠٠٢م / ط٣
Lieu d'édition
سورية
Genres
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
في مهب المعركة
دار الفكر المعاصر بيروت - لبنان
دار الفكر دمشق - سورية
1 / 1
في مهب المعركة
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
في مهب المعركة
إرهاصات الثورة
إصدار دار الندوة
1 / 3
إعادة
١٤٢٣هـ - ٢٠٠٢م
ط٣: ١٩٨١م
1 / 4
إهداء
إلى شهداء الثورة الجزائرية الذين حققوا بدمائهم للأحلام التي تعبر عنها هذه الصفحات
مالك
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي ﵀ في باريس، في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات.
وقد نشرها آنذاك في صحيفتين جزائرتين ناطقتين بالفرنسية، هما الشباب المسلم والجمهورية الجزائرية.
وحينما لجأ إلى القاهرة عام ١٩٥٦ بدا له أن يترجم هذه المقالات وينشرها بالعربية. فكانت الطبعة الأولى عام ١٩٦١.
وقد سمى مجموعة المقالات هذه «في مهب المعركة»، باعتبارها إرهاصا للثورة الجزائرية وتسويغا لدوافعها.
ففي المقالات تلمس فكر بن نبي وقد أحاط بشخصية الشعب الجزائري بل بشخصية العالم الثالث، الذي كان وما زال خارج إطار الحضارة الحديثة.
فمنذ منتصف الثلاثينات، برز المهندس مالك بن نبي يختط للنضال سبل الفعالية، ويمنح الشباب الجزائري آفاقا تبدد ضباب الاستعمار، ويضع لثقافة الجيل أسسا من أصالة التاريخ وقيم العقيدة.
هذه الأصالة تقرؤها في كل مقال كتبه مالك بن نبي، في هذه المجموعة، يواجه بشجاعة نادرة الاستعمار الجاثم على أرض الجزائر.
ولم يكن سبيله إلى تلك المواجهة، ما تعارف عليه سياسيو ذلك الزمن، من
1 / 7
ديماغوجية تلعب بعواطف الجماهير. فقد اختط مالك بن نبي طريقًا إلى عمق القضية، يطرح القواعد الثابتة لتطور التاريخ، ثم يشرع في بناء الذات الجزائرية على أساس تلك القواعد.
لم يكن يعنيه أن يلعن الإِدارة الاستعمارية. لقد اختار الطريق الأصعب والأشق عليه، حين اهتم بفضح وسائلها تنويرا للرأي وتبصرة للطريق.
ولم يكن الطريق إلا تلك الشروط الموضوعية لنهضة فاعلة.
لذلك أصدر في تلك الحقبة بالفرنسية، ـ[شروط النهضة الجزائرية]ـ، ثم ومن أجل ربط هذه الشروط بالقيم الإِسلامية التي رسمت حدود الأصالة الجزائرية، أصدر بالفرنسية في تلك المرحلة، ـ[الظاهرة القرآنية]ـ، ليضع للشباب الجزائري المتصل بالمنهج الديكارتي، ضوابط تمسك في نفسه عروة العقيدة.
وإذ هو يدعو إلى بعث جديد للقيم الإِسلامية التي كونت تاريخ الجزائر، نراه يطرح في تلك المرحلة أيضا كتابه بالفرنسية، «Vocation de L'Islam» المترجم إلى العربية بعنوان: ـ[وجهة العالم الإِسلامي]ـ.
وقد حاز هذا الكتاب في بداية الخمسينات شهرة واسعة، ومنح الشباب المسلم في الجزائر وخارجه، سبل الخروج من ذلك المستنقع الذي وقع فيه العالم الإِسلامي، والذي يطلق عليه مالك بن نبي ﵀ مجتمع ما بعد الموحدين، وقد مني هذا المجتمع بمرض اجتماعي سماه «القابلية للاستعمار».
فمقالات بن نبي ـ[في مهب المعركة]ـ ليست إلا صدى لهذه الكتب، يتتبع أحداث تلك المرحلة في الإِطار السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، يحاول من خلالها تسليط الأضواء على المشاكل الحقيقية التي ينبغي للشباب الجزائري أن يتوفر بفعالية لحلها.
وبالرغم من عهد مضى في تاريخ الجزائر، تناولته هذه المقالات، فإنها لا تزال تحمل في طياتها نبض المشكلة وعمق حلولها.
1 / 8
فالاستقلال السياسي، الذي ظفرت به دول العالم الثالث فيما بعد، ما يزال يطرح مشكلة الاستقلال الاجتماعي والنفسي، ليواجه الإِنسان المتخلف مستقبله ومصيره بعيدًا عن تبعية العالم الصناعي المستغِل.
فمقالات بن نبي ـ[في مهب المعركة]ـ حاولت في مرحلة التحضير للثورة الجزائرية تصفية المفاهيم الفكرية وتعديل المبادرات الوطنية بما يتفق وفعالية الكفاح في مختلف الأصعدة. لقد تناول بن نبي في هذه المقالات كل حدث سجله الصراع مع الاستعمار في الشمال الأفريقي، وناقش كل كلمة قيلت حول ذلك الصراع، وراقب كل حركة بدرت في هذا الإِطار.
وكان فيما يناقش ويراقب إنما يطرح القواعد الأساسية التي حالت معطيات الثقافة الغربية ومصطلحاتها دون الولوج إلى جوهرها.
من هنا تبدو مقالات بن نبي في مرحلة التحضير للثورة الجزائرية، ذات اتصال بمقالاته التي حررها بعد عشر سنوات، والتي تحدثت عن مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، والتي سننشرها إن شاء الله، بعد أن ترجمها الأستاذ مالك ووضعها في كتاب سماه ـ[بين الرشاد والتيه]ـ.
ففي كلا المرحلتين، تبدو المشكلة مرتبطة في حلولها، بنسق اجتماعي يحقق الشروط النفسية والثقافية لبناء حضارة.
إن هذا الكتاب يطرح للقارىء صورة من تاريخ ما قبل الثورة الجزائرية، ناضل فيها الأستاذ مالك نضال الأبطال، وهو يشرح في الوقت نفسه القواعد الأساسية التي طالما تناولها في كتبه.
ولقد راجعنا النص العربي بقدر ما أتاحت لنا المحافظة على أسلوب الأستاذ مالك وإنا لنرجو أن نكون قد بلغنا الأمانة كما ألقاها إلينا.
جزاه الله عنا كل خير وأسكنه فسيح جنانه.
عمر مسقاوي
طرابلس- لبنان
٢٠ شعبان ١٣٩٨
٢٥ تموز ١٩٧٨
1 / 9
مقدّمة
بقلم الأستاذ محمود محمد شاكر
لعلي لا أبالغ إذا قلت: إن هذه المجموعة من مقالات أخي الأستاذ مالك بن نبي، هي عندي من أنفس ما كتب، لا لأنها تتناول موضوعا لا نزال نعيشه وعاش فيه من قبل آباؤنا، ولا تزال آثاره باقية فينا، تعمل عملا مدمرًا في حياتنا كلها، ولا لأنها تاريخ متصل مغموس في الشرور التي ارتكبها الاستعمار في بلادنا، ولا لأنها تذكرة لنا ولأبنائنا بما يخشى أن ينسوه من النكبات التي حاقت بهم. كلا، بل هي أنفس شيء عندي، لأنها تكشف لنا عن فكر رجل خبير فكر في الأمور ساعة بعد ساعة، وقيد هذا الفكر في حينه، فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كتب قديما، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل.
وأشد النكبات التي يصاب بها البشر، نكبة الغفلة، لأنها محو لما تقوم به حياة الناس، والمرء لا يكون إنسانا ناميًا إِلا مع اليقظة فإذا سلب اليقظة، فقد اسقر في حومة الموت والهلاك، وإن بقي حيا يتحرك.
وهذه المقالات المتفرقة المعاني، المتباعدة الأزمان، يضمها معنى واحد في زمان واحد، فالمعنى الذي يضمها هو معنى الاستعمار وهو معنى واحد، وإن اختلفت وسائل التعبير عنه قي نواحي الحياة الإِنسانية. والزمن الذي يجمعها، هو زمن واحد، هو زمن الاستعمار، وإن اختلفت عليه الأيام والليالي والشهور والسنوات. والنتيجة التي يخلص إليها قارئها، إذا أحسن القراءة وأخذها مأخذ الجد، هي أننا عشنا في أكبر مؤامرة على العالم الإِسلامي وتوابعه ولكننا مع ذلك لا نزال نعيش في هذه المؤامر كأنها تعني أحدا سوانا ولا تعنينا في شيء
1 / 10
لأن المؤامرة تتم يوما بعد يوم ونحن نحيى في آثارها حياة المستمتع بأيامه ولياليه، وما أيامه ولياليه إلا بنات فلك الاستعمار، لا بنات فلك الشمس والقمر. وأنا لا أعني بهذا بلاغة ولا شعرًا، ولكني أحسست ذلك كله وأنا أقرأ هذه المجموعة ساعة بعد ساعة.
فهذا المفكر الخبير، قد استطاح بحسن إِدراكه وبقوة بيانه وبدقة ملاحظته، أن يفتح عيوننا على الخيوط التي تنسج منها حياتنا تحت ظلام دامس قد أطلقة المستعمر ليخفي عنا مكره بنا وخداعه لنا، فإذا تم نسيج هذه الحياة، لبسناها كأنها حياة نابعة، من سر أنفسنا، وبذلك يتمكن أن يقودنا كالأنعام، ونحن نحسب أننا إنما نقود أنفسنا، وأننا نتصرف في هذه الحياة تصرف الحر الذي لا سلطان لأحد عليه. وهذا هو المعنى الذي يرمي إليه الأستاذ مالك باصطلاحه الذي وضعه وهو «قابلية الاستعمار».
وليس يخالجني شك أننا لن نظفر بما تتمناه قلوبنا، ولا بما تتبجح بذكره ألسنتنا، من حرية، أو استقلال، أو مجد أو كرامة، إلا إذا استطعنا أن نفكر في أمورنا تفكيرا صحيحا، مؤسسا على أصل من التنبه واليقظة والإِدراك. وظهور رجل مثل مالك بن نبي من بين شعب لقي من نكبة الاستعمار ما لم يلقه شعمب إسلامي آخر باعث على الرجاء والأمل، فأنا لا أعرف فيمن قرأت لهم أو سمعتهم من الناس ولا ممن في أيديهم مقاليد أمور الشعوب العربية والاسلامية رجلا فيه مثل هذا الحس الدقيق بالنكبة، أو مثل هذا التنبه الشامل للدسيسة، أو مثل هذه الاستقامة في فهم الوسائل المعقدة التي يستخدمها الاستعمار، أو مثل هذه الخبرة بالخسة التي تلبس ثياب النبل والشرف. وإنه ليحزنني أن يكون أمرنا اليوم كما قال الأول «من البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره».
فعسى أن تكون هذه المجموعة من المقالات دليلا مرشدا يفتح به الله عيونا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا، فيومئذ تتحقق لنا الأمنية التي لا نعيش إلا بها، ولا نسعى إلا إليها.
محمود محمد شاكر
1 / 11
مقَدِّمَة المؤلف
سبق لي أن نشرت في هذه السلسلة دراسة تحت عنوان ـ[الصراع الفكري في البلاد المستعمرة]ـ.
ولكنني شعرت خلال بعض ملاحظات أبداها إخوان يهتمون بهذه القضايا، أنه ربما يتبقى- عند من يقرأ تلك الدراسة من دون خبرة سابقة بالموضوع- يتبقى عنده شيء من الإِبهام حول الفكرة العامة التي يعرضها الكتاب. إبهام يتطلب رفعه مزيدا من التوضيح، حتى لا تبقى هذه الفكرة في نظر القارئ مجردة، لا تحيط بها إلا العموميات، وإلا الاعتبارات النظرية التي نفس فكرة الصراع هذا.
فالقارئ يريد الدخول في الموضوع عن طريق الظروف الواقعية، والتفاصيل المادية التي تحيط بفكرة الصراع الفكري، كما يحيط الوسط الطبيعي بالكائن الحي الذي يتكون فيه، ويتضمن كل الشروط اللازمة لتكوينه ونموه.
إن فكرة الصراع الفكري تكونت عندي في ظروف معينة وفي نطاق تجربة شخصية لم نستطع إلا ذكر بعض تفاصيلها عند الحاجة أما وصفها بالتفصيل فذلك نمسك عنه لسببين: لأن هذا الوصف لا يكون مجديًا إلا في كتاب مذكرات، ولأن بعض التفاصيل لا يتقبلها القارئ، حين يصورها الاستعمار كمبالغة مقصودة، حتى إن الكاتب يخطىء حين ينقلها بقصد الإِفادة.
إذ أسلوب الصراع الفكري يفرض أن لا تقال كل الوقائع التي تتصل به، ولا تذكر كل الظروف التي تحيط به في لحظة معينة.
فهناك حد وسط يجب التزامه بين الإِفراط الذي يستغله الاستعمار على
1 / 12
أنه مبالغة، والتفريط الذي يستفيد منه أيضًا على أنه سكوت عن بعض الحقائق التي لا بد أن تقال.
فرغبة القارئ الذي يريد مزيدًا من التوضيح تستحق أن تلبى في هذا الحد بالضبط.
فهذا الكتاب يهدف إلى ذلك وقد جمعنا فيه تحت عنوان ـ[في مهب المعركة]ـ بعض المقالات المترجمة، التي كتبت فعلا في ظروف المعركة الواقعية، بما يحيطها أحيانا من غموض عندما يريد الاستعمار أن يسدل الظلام على بعض المواقف المشبوهة التي ليس من مصلحته أن تعرف، وعلى بعض الأفكار التي لا يريد أن يرتفع الى مستواها الرأي العام، وعلى بعض التوجيهات حتى لا تصير واقعًا اجتماعيًا.
إن المقالات المترجمة التي جمعناها في هذا الكتاب تتضمن هذه العناصر التي تكون مادة الصراع الفكري، وواقعه اليومي. الواقع الذي يريد الاستعمار أن يسدل عليه ستارًا من الظلام، حتى يبقى الرأي العام في قيود لا تراها إلا عين بصيرة وحتى يبقى الفكر في أغلال ما يسمى «الواقعية» وهي جحود الواقع، وحتى تبقى السياسة سوقا تشترى فيه الضمائر وتباع، ويبقى النشاط الاجتماعي معطلا بسبب شروط سلبية تفرضها إرادة خفية على حياتنا، ويجعلها من له بها صلة في بلادنا، مبررات فشلنا.
إننا ننشر هذه المقالات لأنها تعبر عن ذلك الواقع المرير الذي يدركه القارئ من دون تعليق من طرفنا، مع أننا نأتي أحيانا ببعض التعليق على الهامش عندما نراه ضروريا.
وننشرها لأنها تتصل بهذا الواقع من نواح مختلفة، من الناحية التاريخية عندما تصف ظروفا معينة مهدت للثورة الجزائرية مثلا، ومن الناحية العلمية عندما تضع بعض جوانب الاستعمار الخفية تحت المجهر، ومن الناحية الاجتماعية عندما تحاول فك بعض العقد وبعض المركبات التي نشأت في نفوسنا من مواجهة
1 / 13
بعض المشكلات التي لا زالت قائمة في البلاد الإسلامية، كمشكلة المرأة ومشكلة التراب، ومن الناحية الثقافية عندما تحاول توسيع الفكر عند شبابنا المثقف حتى يكون في موقفه إزاء بعض القضايا المتصلة بمصير الإنسانية وبمصيرنا، أكثر وعيًا وأكثر فعالية.
القاهرة في ٢٧/ ٨/ ١٩٦١
مالك بن نبي
1 / 14
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
الاِسْتِعْمَارُ تَحْتَ الْمِجْهَرِ
• سيكولوجية الإستعمار
• الإستعمار يفتح وجهة ثالثة في التاريخ
• الفوضى الإستعمارية
ــ
1 / 15
سِيكُولُوجِيَّةُ الاِسْتِعْمَارِ
الجمهورية الجزائرية في ٢٦/ ٣/ ١٩٥٤
ــ
لست أريد أن أقدم كتابا يدرس الاستعمار على طريقة التحليل النفسي، وبالخصوص لأن هذا الكتاب ظهر سنة ١٩٤٨، وحاز على الشهرة حين ظهوره.
ولست أريد ذلك من ناحية أخرى، لأنني أعلم خطورة الظروف التي تحيط بالشباب الجزائري، في اللحظة الحاسمة التي يمر بها وهو يتطلع لـ «الحقيقة الفعالة» (١) أكثر مما يتطلع إلى حقيقة نظرية مجردة، ربما لا نفي بحقها إن لم يسبق لنا أن باشرنا أفكار فرويد والأساتذة الآخرين الذين أسسوا معه علم النفس.
ولكن بالنسبة إلى هذا الجانب النظري، فلنقتصر على الإشارة إلى النبذذ التي وفق الناشر في وضعها على غلاف الكتاب، كي يعطينا فكرة عن شخصية صاحبه وعن صلته بعلم النفس ... وهكذا يعطينا فعلا صورة ملخصة عن شخصية المسيو منوني، وعن اهتمامه بمشكلات علم النفس حيث كان يدرسها مع الأستاذ شارل بلونديل، عندما شغل بمدغشقر، كرسي الدراسات الفلسفية الذي أسسه هناك الأستاذ هنري بولهان، ثم استمر في تكوينه الخاص بمعية الدكتور لا كان بباريس.
فها نحن قد تزودنا بخبرة كافية عن مؤهلات المؤلف- إذا صح التعبير- لاستخدام علم النفس التحليلي في مثل هذا الموضوع، وهو يعرف قيمة هذه الوسيلة العلمية، ويعرف أنها ليست معصومة ولا مطلقة في اكتشاف الحقيقة، وهو يعلم زيادة عن هذا أن ميدان علم النفس التحليلي محدود، يختلف عن ميدان
_________
(١) كتبت هذه السطور قبل اندلاع الثورة الجزائرية بسبعه أشهر.
1 / 17
علم الأخلاق وميدان علم الحياة، أو علم ما قبل التاريخ ... ويستدل على هذا بنكتة طريفة يذكر فيها مغامرة بعثة علمية، ذهبت إلى إفريقيا الوسطى من أجل دراسة بعض العينات من القردة، فاكتشفت، أو اعتقدت أنها اكتشفت، حالة نفسية معينة تميز تلك القردة بينما يكشف علم النفس التحليلي أن تلك الحالة لا يمكن أن تكون إلا حالة «أنا» متحضر.
وهذه القصة المضحكة تعني أحد شيئين: إما أن الحالات النفسية ليست محددة بالكائنات التي تتصف بها، وأن علم النفس التحليلي أكبر خطأ حدث في تاريخ العلوم، وإما أن البعثة العلمية أخطأت في استخدام هذا العلم حتى إننها التقطت صورة نفسية، اعتقدت أنها صورة القردة المدروسة، بينما هي صورة الدارسين ... منعكسة على موضوع دراستهم.
وعندما يذكر منوني هذه القصة الطريفة، فإنه يشعرنا بأن الغرور الذي يسمى «الانحراف المهني» لا يستولي على عقله، وهذه المناعة من الخطأ الذي يقع فيه من يجمد على المنهج، تزيد في قيمة الدراسة التي يقدمها إلينا منوني، خصوصا وأننا نعتبر هذه القصة من حيث الموضوع أكثر مما نعتبرها من حيث المنهج.
إِن الواقع الاستعماري يهمنا في حد ذاته، قبل كل شيء، فالكتاب يلقي الضوء الكشاف على هذا الواقع، ولكنه يكشف لنا مجهولات أخرى، لا تتصل مباشرة بالموضوع، فتخرج هذه المجهولات من ظلمة جهلنا لتصبح في ضوئه معلومات جديدة تثري بصفة عامة دائرة معارفنا، مثل تلك الفكرة التي يعطيها منوني عن التناسب الغريب الموجود بين «وحدة المكان» أو الجانب الموضوعي و«وحدة الإنسان» أو الجانب الذاتي، فيفسر المؤلف بذلك النزعة العنصرية، أي الشيء الأساسي في نفسية الاستعمار، على أنها أثر لفاصل نفسي يجزىء الذات أو وحدة الـ «أنا»، عناما يسقط هذا الفاصل الذاتي على سطخ الجانب الموضوعي «وحدة النوع البشري» فيجزئه إِلى جزأين، أحدهما له السلطة
1 / 18
والسيادة، والآخر عليه السمع والطاعة، كما يعتقد من يدين بالعنصرية.
وفكرة هذا الفاصل الذاتي شيء جدير بكل اهتمام في دراسة الواقع الاستعماري كظاهرة، والمؤلف يبين هذا الفاصل في الضمير الأوروبي، ولكن دون أن يحدد نقطة بدايته في التاربخ، وربما طابقت هذه النقطة اليوم الذي اكتشفت فيه أوروبا، في أعماق نفسها، ما أطلقت عليه «ابن المستعمرات»، أو «الإنسان الملون».
وحيث لم يكن لدينا، أكثر مما لدى منوني، من معطيات التاريخ ما يكفي لتحديد تاريخ هذا الانفصال في الضمير الأوروبي، فقد كنا في دراسة سابقة (١) قدرنا هذا التاريخ بصورة تقريبية في العهد الروماني، في العهد الذي كانت فيه الحروب الفينيقية، بما تتصف به من شدة معاملة تعبر عنها تلك الكلمة المأثورة التي كان يرددها كاتون في كل مناسبة «لا بد أن تحطم قرطاجة» كانت تلك الحروب إرهاصا للحروب الاسعمارية كأنها تنذر بتلك المذبحة التي ستحدث في أمريكا يوم ينزل بأراضيها بيزار.
وإذا كان منوني يقتصر على اعتبار الأشياء في العهد الاستعماري الحديث، فإنه اعمى هذا قد قدر العوامل الاقتصادية والسياسية والستراتيجية التي تتصل بالنزعة الاستعمارية اتصالا تكوينيا، مع ذلك فهو يعتبر أن هذه العوامل كلها «تؤدي مفعولها، كأسباب، في عقول مهيأة نفسيا».
وهذا الاعتبار يمثل إلى حد ما المدخل المنهجي الذي ندخل به إِلى نظرية منوني، حيث ينشأ عنها مفهوم أولي يسميه «موقفا استعماريا».
إن «الموقف الاستعماري» ينشأ في نظر منوني كل مرة ينعكس فيها الـ «أنا» الأوروبي خارج إطار أوروبا، أي كل مرة يقع فيها اتصال بين «الأوروبي» و«الأهلي»
_________
(١) كتاب شروط النهضة، فصل المعامل الاستعماري.
1 / 19
وإننا لنعرف، عن طريق علم الأجناس، معرفة كافية من هو الأول، ولكن من هو الثاني؟
الجواب هو: أن كل رجل غير أوروبي فهو «أهلي» بتعبير اللغة الفرنسية «Indigène» أو بتعبير اللغة الإِنجليزية «Native».
وأما شذوذ اتصالهما، الذي ينشىء الموقف الاستعماري فإنه صادر عن الفرق، الذي يلاحظه المؤلف، بين «حرب استعمارية» ومجرد حرب، يعبر عنها بالمصطلح العادي.
فنحن ندرك أن الدراسة منذ مقدمتها الأولى، ستتخذ اتجاهين: أحدهما خاص بدراسة «المستعمِر» والآخر خاص بدراسة «المستعمَر»، وأن المعطيات النفسية الخاصة بهذين الاتجاهين هي التي تصوغ بالتالي التركيب الذي يطلق عليه منوني «المواقف الاستعمارية».
ولا شك أننا كنا ننتظر في الكتاب بعض الملامح، التي تعودنا، بمقتضى تجربتنا كمستعمَرين، أن نرى فيها ملامح «المستعمِر» ولكننا نتساءل هل يعترف المستعمَر، مثل ابن جزيرة مدغشقر الذي كان موضوع دراسة منوني على وجه الخصوص، هل يعترف بتلك الصورة التي يعطيها له منوني عندما يسمه بتلك السمة التي يطلق عليها مركب التبعية Complèxe de dépendance؟
ومهما يكن في الأمر فربما كان الشعور بالذات يحس بمعاكسة سواء عند «المستعمَر» إن لم يعترف بهذه الوصمة التي يصفه بها منوني، أو عند «المستعمِر» عندما يشعر أن المؤلف كشف بعض ملامحه الخفية، مثل تلك الوصمة التي يصف بها، الأوروبي في المستعمرات، على أنه لا يطلب فقط الفائدة المادية ولكنه يرغب أيضا في بعض الملذات النفسية الخطيرة.
فكل من عنده فكرة مسبقة عن بعض المذابح التي سجلها التاريخ في رصيد الاستعمار منذ سنة ١٩٤٥، ويعرف ما كان فيها من تفنن سادي في الوحشية،
1 / 20
يدرك إلى أي نوع من «الملذات» يشير المؤلف بهذه الكلمة.
ومهما يكن من أمر، فإن الصديق الباريسي الذي عرفني بمنوني، أراد أن يلفت نظري بصورة ما، إلى وجه تشابه بين ما يسم به المؤلف شخصية الملغاش أي ابن المستعمرات بصفة عامة عندما يصفها بـ «مركب التبعية»، وبين الحالة الخاصة التي تكون عليها الشعوب المستعمَرة، وقد أشرت إليها في بعض دراساتي بمصطلح «قابلية الاستعمار».
ولكنني لا أرى وجه التشابه الذي يشير إليه صديقي على أنه ذو مدى بعيد، هذا إذا أخذنا في حسابنا العناصر الخاصة بكلتا النظريتين ولسنا نتساءل هنا!! هل سلوك التبعية الذي اتخذه المؤلف موضوع الدراسة في البيئة الملغاشية، هو خاص بهذه البيئة، أم إنه يتعدى حدودها ويكون قاسما مشتركًا لكل البلاد المستعمرة بالصورة التي يعتقدها صاحب الكتاب!! إنني لا أتصور في الشمال الأفريقي مريضا يقول للطبيب الذي عالجه وشفاه: «أنت الآن أوروبيني» أي أن يجعل بينه وبين رجل آخر صلة الملكية، التي تعبر عن «سلوك تابع» وعن موقف استعماري ينشئه تلقائيا سلوك فرد ملغاشي إزاء طبيب أوروبي عالجه.
وربما لا يكفي هذا كمقياس نميز به بين التبعية بمصطلح منوني وبين القابلية للاستعمار بالمصطلح الذي استخدمته، وهو ليس موضوع حديثنا بخصوص هذا التمييز إلا بصفة عابرة ومن أجل رفع الشبهة، لذا نقتصر على القول الذي يوضحه مما سيأتي: إن الفرق بين الحالتين اللتين يعبر عنهما كلا المصطلحين هو أننا من ناحية في مواجهة مركب مجتمع (المجتمع التابع) يكون قد بلغ حالة الركود وانتهى إلى التوازن الجامد بتطور نفساني طبيعي، أو فطري بينما نكون من ناحية أخرى أمام وضع مجتمع قد وصل إلى حالة الركود إثر نكسة اجتماعية، أي أننا في الحالة الأولى أمام مجتمع متماسك متجانس تكون الصلات العمودية فيه «الأسرة» أداة تماسك قوي للمجموعة كلها وفي الحالة الثانية أمام مجمتع متفكك منقسم إلى ذرات، تكون الصلات الأفقية فيه «المجتمع»
1 / 21
تلك التي من شأنها أن تربط المجموعة- شعبا أم أمة- قد تحللت نهائيا.
ويمكن أن نضيف إلى هذا المقياس الاجتماعي عنصرا نفسانيا يزيد في توضيح الفرق الذي نشير إليه: فالمجتمع الذي يعنيه منوني ينشىء مع الاستعمار صلة نفسية اجتماعية بينما ينشىء المجتمع الذي نعنيه صلة اجتماعيه نفسيه أي إن الأولوية في الحالة الأولى للعنصر النفساني، بينما الأولوية للعنصر الاجتماعي في الحالة الثانية.
ومهما يكن من أمر فإن مركب التبعية في نظر المؤلف يكون عند «الأهلي» شيئا نظيرًا أو مقابلًا للنزعة الاستعمارية عند الأوروبي.
وهذان العنصران يكونان بطبيعة الحال موضوع فحص مدقق إذ أنهما يكونان الهيكل النظري الذي بنيت عليه الدراسة التي نتحدث في شأنها وندخل فيها هكذا بهذه التمهيدات مع ما يضيف إليها منوني من توضيحات لازمه، كالفرق بين الشخصية وهي ما تعطيه الوراثة الاجتماعية وانتاج الحضارة وبين «الفرد» وهو ثمرة كمية سلالية معينة. وهكذا يتبين أن الشيء الذي يطبع سلوك الفرد ليس لونه، أي الكمية السلالية، ولكن ثقافة البيئة التي ينشأ فيها.
وعليه فالبحث يتجه في هذا الاتجاه، فالمؤلف يدرس من ناحية التطور الذي أدى إلى ظهور النزعة الاستعمارية في أوروبا، ومن ناحية أخرى التطور الذي أدى إلى ظهور مركب التبعية بمدغشقر على سبيل المثال.
وفي كلتا الحالتين يرجع المؤلف- طبقا لمنهج علم النفس التحليلي- إلى مرحلة الطفولة.
فهو يرى أن «التبعية» تنشأ من شعور الطفل بعجزه، ذلك الشعور الذي يتكون وينمو عند الطفل الملغاشي بقدر ما يشاهد من قوة وحول عند والديه، وعند والده على وجه الخصوص، فيشعر أمامهما بمركب نقص، يحاول التخلص منه بتحويره إلى «مركب تبعية»: المركب الذي ينزع من الطفل الفكرة والرغبة
1 / 22