وتكونت في الشركة لجنة ثورية برئاسته، وانضممت إلى اللجنة أعمل ليل نهار، وفي أيام الإجازات أعمل بغير أجر، لم أعد أفكر في الأجر، ولم يعد الوقوف في طابور الصباح أمام دورة المياه يؤلمني، ولا الانضغاط بين الأجساد في الأتوبيس يهينني، وذات مرة رآني وأنا أجري خلف الأتوبيس، أوقف سيارته الصغيرة وناداني، ركبت إلى جواره، وسمعته يقول: أنا معجب بك يا فردوس؛ لو أن عندنا في الشركة خمسة لديهم حماسك ونشاطك وإيمانك، لاستطعنا أن نفعل أي شيء في العالم.
ولم أرد، كنت أضغط بحقيبتي الصغيرة على صدري لأكتم دقات قلبي، وأحاول أن أجعل تنفسي طبيعيا، لكني اكتشفت بعد لحظة أنني ألهث، وقلت له - وأنا أعلم أنني أكذب: لا زلت أبتسم، وظل صامتا، ثم سألني بعد قليل: أتعودين إلى البيت مباشرة أم تريدين أن نجلس معا بعض الوقت؟ فاجأني السؤال، فقلت قبل أن أفكر: لا أريد العودة إلى البيت. لكني تداركت الأمر وقلت: ولكنك متعب من العمل طول اليوم، والأفضل أن تعود إلى بيتك وتستريح. وقال: ربما أستريح إذا تحدثت معك بعض الوقت، إلا إذا كنت متعبة وفي حاجة إلى الراحة. قلت دون أن أدري: الراحة! إن حياتي ليس فيها أي نوع من الراحة. وأحسست بيده الدافئة القوية تمسك يدي، فانتفض كياني برجفة امتدت إلى رأسي وجذور الشعر فوق جسدي، وسمعته يقول: فردوس، هل تذكرين أول مرة رأيتك؟ قلت: نعم. قال: منذ ذلك اليوم وأنا أفكر فيك. قلت: وأنا أيضا.
تحدثنا ذلك اليوم في كل شيء، حكيت له طفولتي وحياتي الماضية، وحكى لي طفولته وأحلام مستقبله. وفي اليوم التالي تحدثنا وحكينا كل شيء، حتى الأحاسيس التي أخفيتها عن نفسي حكيتها له، وحكى لي كل شيء. وفي اليوم الثالث أخذني إلى بيته الصغير، وقضيت الليل معه، أحكي له ويحكي لي، واحتواني بجسده واحتويته بجسدي. وأصبحت كمن أمسك الدنيا بقبضة يده، واتسع العالم أمام عيني وتوهجت الشمس، وتألقت كل الأشياء بضوء غريب، حتى طابور دورة المياه المشتركة تألق في عيني، وعيون ركاب الأتوبيس لم تعد صفراء باهتة، وإنما لامعة متألقة، وعيناي في المرآة تألقتا بضوء عجيب، وجسدي أصبح خفيفا كالريشة، أعمل طول النهار، ولا أشعر بتعب أو رغبة في النوم.
نظرت إلى وجهي صباح يوم إحدى زميلاتي في الشركة، فهتفت مندهشة: ماذا حدث يا فردوس؟ قلت: لماذا؟ قالت: وجهك لم يعد هو وجهك. قلت: ماذا؟ قالت: وجهك أصبح يشع بنور عجيب. قلت: أنا أحب. قالت: الحب! قلت: أتعرفينه؟ قالت في حزن: لا. قلت: يا مسكينة! قالت: يا مخدوعة! أتصدقين أن هناك شيئا اسمه الحب؟! قلت: الحب جعلني إنسانة أخرى، والحب جعل الحياة في عيني جميلة. قالت بأسى: يا مخدوعة! أتصدقين كلمات الحب التي تقال لمثيلاتنا الفقيرات؟ قلت: إنه رجل ثوري يحارب من أجلنا ومن أجل كل الفقراء. قالت في حزن: أتصدقين الكلام الذي يقال في الاجتماعات يا مسكينة؟ قلت بغضب: كفى، أنت تضعين منظارا أسود ولا ترين الشمس.
كان وجهي للشمس، أحملق في الضوء والدفء يغمرني حين لمحته يجتاز فناء الشركة كعادته، ولمعت في الشمس عيناه، لمعة غريبة جديدة جعلت عينيه غريبتين في عيني، كأنما هما عينا رجل آخر، وجريت إليه لأستقبله، لكني رأيت حوله بعض الموظفين يصافحونه ويهنئونه. لم يرني وسط الزحام، وسمعت أصواتا ترن في أذني: خطب ابنة رئيس مجلس الإدارة بالأمس، شاب ذكي يستحق كل خير، مستقبله باهر، سيصعد سريعا في الشركة.
وضعت يدي فوق أذني لأحول بينهما وبين الأصوات، وتركت الجمهرة حوله، وخرجت من باب الشركة، ولم أعد إلى بيتي.
ظللت أمشي في الشارع، عيناي لا تريان، دموعي فوق وجهي تسيل وتجف، وأقبل الليل ودموعي قد جفت فوق وجهي وعنقي، لكنها لا تزال تبلل ثوبي فوق صدري، وهواء الليل البارد نفذ إلى جسمي فارتجفت، وحوطت ذراعي حول صدري أدفئه. وتذكرت ذراعيه حولي، فارتجفت مرة أخرى، وبكيت، لكن الدموع لم تعد تسقط من عيني، وسمعت صوتا يشبه النشيج، وعرفت أنه صوتي.
وعدت تلك الليلة إلى الشركة، ودخلت مكتبي، ولممت أوراقي في حقيبتي الصغيرة، وسرت نحو باب الخروج، لم أكن رأيت إبراهيم منذ خبر الصباح، فوقفت عند الباب أتلفت حولي، الحديقة الصغيرة في الفناء الخلفي، فسرت إليها وجلست، وأنا أتلفت حولي، وكلما سمعت صوتا من بعيد، أو أحسست حركة ما؛ أرهفت أذني. ورأيت كتلة بحجم الجسم تتحرك قرب مدخل الفناء، فانتفضت واقفة، قلبي يدق ورأسي يدق وصدري يدق، وخيل إلي أن الجسم الذي رأيته يقترب مني، فسرت نحوه في الظلام ببطء، وفي حركة السير أدركت أن العرق الغزير قد بلل كل جسدي بما في ذلك شعري وبطن يدي، وشعرت بشيء من الخوف وأنا أسير في الفناء المظلم وحدي، فناديت بصوت خافت لم يصل إلى أذني: إبراهيم! ولم أسمع صوتا، واشتد خوفي، لكني كنت لا أزال أرى في الظلمة كتلة بحجم الجسم، وقلت بصوت عال سمعته بأذني هذه المرة: من هناك؟ وكأنما بدد الصوت العالي الحلم، كمن يتكلم وهو نائم فيصحو على الصوت، وانقشعت الظلمة عن جدار من الطوب بني أمام مدخل الفناء، جدار قصير بطول الإنسان وبغير طلاء، خيل إلي أنه بني هذه اللحظة فقط وإن كنت رأيته من قبل.
وقبل أن أخرج من باب الشركة ظللت أتلفت حولي، عيناي تمسحان النوافذ والجدران والأبواب، تترقبان شيئا يفتح فجأة، وتطل منه عيناه لحظة قبل أن أمشي، أو يلوح لي بيده بحركة الوداع العادية، ولم تكف عيناي عن الحركة، وفي كل لحظة كنت أفقد الأمل، لكن الأمل سرعان ما يعاودني، وعيناي تروحان وتجيئان بسرعة شديدة، وصدري يعلو ويهبط بسرعة أشد، وقبل أن أخرج إلى الشارع توقفت لحظة أخرى وانتظرت، وحين أصبحت في الشارع توقفت لحظة كأنما أتوقع شيئا، كأنما شيء سيفتح فجأة، لكن كل النوافذ والأبواب ظلت مغلقة.
لم أعرف في حياتي ألما كهذا الألم، وحين كنت مومسا كان ألمي أقل حدة؛ ألما وهميا أكثر مما هو ألم حقيقي. حين كنت مومسا لم أكن أنا نفسي، وشعوري لم يكن هو شعوري، ولا شيء كان يؤلمني كهذا الألم الذي أحسسته، ولم أشعر بالمهانة التي شعرت بها، ربما لأنني وأنا مومس كنت قد أهنت أكثر من اللازم، فلم يعد هناك ما يهينني أكثر، أو أن حياة المومس هي الشارع، وليس هناك ما أتوقعه من الشارع. ولكن في الحب توقعت شيئا، في الحب بدأت أحلم بأن أكون إنسانة، أو ربما لأنني وأنا مومس لم أكن أعطي شيئا بغير مقابل، ولكني في الحب أعطيت نفسي بغير مقابل، بذلت للحب كل شيء عندي، وسلمته نفسي بغير أسلحة وبغير دفاع. لكني وأنا مومس كنت في حالة دفاع دائم عن نفسي، أحمي نفسي بأن أسحبها من أعماقي، وأعطي الرجل جسدا سلبيا فاقدا الشعور، كنت أحمي نفسي بانسحابي وسلبيتي، أن أكون سلبية معناه أن أقاوم بطريقة ما. أن أقول للرجل: تستطيع أن تأخذ جسدي، ولكنك لا تستطيع أن تجعلني أنفعل أو أهتز بلذة أو حتى ألم، إنني أنام من الداخل ولا أشعر بشيء، لا أشعر حتى بالتعب؛ لأني لا أستنفذ شيئا من جهدي، ولا أنفق شيئا من قوتي. لا أستخدم نفسي، وإنما أدخرها في أعماقي. لم أشعر وأنا مومس أنني أبذل شيئا من طاقتي وأحاسيسي وأعماقي. كم بذلت من نفسي، وكم أنفقت من جهدي وطاقتي وأحاسيسي وأعماقي! كم بذلت، وكم أعطيت بلا حساب وبلا مقابل، كعطاء القديسين! ولم أكن أريد شيئا سوى أن ينتشلني الحب وأصبح نفسي، وأصبح ذاتا محترمة لا يحتقرها الآخرون، ولكن لم يكن لي أن أبلغ مما أريد شيئا؛ فأنا موظفة صغيرة فقيرة مهما فعلت، ومهما أعطيت عطاء القديسين، إن قدسيتي (كقدسية أي فقير) لا يمكن أن تكون في نظر الآخرين فضيلة، وإنما هي غباء أو ضعف أشر ازدراء من الرذيلة.
Page inconnue