L'Empire islamique et les lieux saints
الإمبراطورية الإسلامية والأماكن المقدسة
Genres
بقي الأصل الأخير وهو الإجماع، وهذا الأصل هو الظاهرة الديمقراطية الواضحة التي تدل على أن حق الشعب في الحكم، وفي التشريع، مقرر في الإسلام على وجه لا يحتمل مناقشة أو جدلا. ولو أنك رجعت إلى كتب الأصول والفقه لتبينت أن القواعد التي تسير عليها ديمقراطية هذا العصر في التشريع والتي ترمي دائما إلى الملاءمة بين المنطق العقلي والعدل وبين حاجات الناس ومنافعهم، هي بعينها القواعد التي قررتها هذه الكتب الإسلامية.
يجب علي أن أعترف مع هذا الذي قدمت، بأن القواعد التي وردت في القرآن - وإن تكن قواعد عامة - هي قيد للمشرع، وذلك هو ما دعا بعضهم إلى الظن بأنها لا تدع للإرادة العامة الحرية في التشريع والحكم، لكن التاريخ أثبت أن هذه القواعد ضرورية لحياة الديمقراطية، فلا يمكن الخروج عليها.
خذ مثلا لذلك المبادئ الاقتصادية المقررة في كتاب الله، هذه المبادئ لا ترضى عن الفردية المطلقة القائمة على أساس من الأنانية الذاتية التي لا حد لها، بل هي تدعو إلى نوع من الاشتراكية جدير بأن يطلق عليه اسم الاشتراكية الإسلامية، لكن هذه الاشتراكية الإسلامية لا تتعدى ما يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعتبر في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالا نفسيا وكفى.
ثم إن هذه المبادئ الاقتصادية المقررة في القرآن تأبى إباء صريحا أن تزيد الاشتراكية على هذا القدر، وترفض رفضا باتا هدم الملكية الخاصة، وهي لذلك تقف في وجه المبادئ الشيوعية التي قررها كارل ماركس بكل قوة وشدة.
ومثل آخر من المبادئ التي قررها القرآن، يتصل بالأسرة ويدخل لذلك في نطاق الحياة الاجتماعية. فالزواج والأبناء والتوارث من الأمور التي لا يصح للمسلمين الخلاف على مبدئها ولا على ما ورد في القرآن عنها، فإذا اعتبرت هذه المبادئ وأمثالها قيدا لإرادة الشعب في التشريع، فهو قيد تقتضيه الحياة الديمقراطية.
وها نحن أولاء نرى أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في إنجلترا وفرنسا وأمريكا والديمقراطيات كلها، وإنه حيث قام ألغيت المبادئ العامة للديمقراطية - مبادئ الحرية والإخاء والمساواة - وقامت مقامها مبادئ الطغيان والحكم المطلق.
ولو أن الطغيان رفع عن كواهل الأمم التي قامت فيها المبادئ التي تخالف ما أسلفنا مما قرر القرآن الكريم لرأيت الناس يعودون إلى هذه المبادئ شيئا فشيئا، لأنها من فطرة الإنسان، كما أن الحياة الديمقراطية من فطرته.
لا عجب بعد الذي قدمنا أن تنزع الشعوب الإسلامية كلها في العصر الحاضر إلى ناحية الديمقراطية، وأن تجعل تشريعها على النظام الديمقراطي وسيلتها للحياة وللرقي والتقدم، وهي إذ تنزع هذا المنزع عن إيمان بالديمقراطية يؤدي بها إلى الدفاع عنها بكل قوتها، إنما تؤيد حكم الإجماع في حدود القواعد التي نص عليها القرآن الكريم. وهي فيما تصنع من ذلك لا تخالف تاريخها ولا تخرج عليه، وإنما تسير في طريق التطور الطبيعي للحياة الإنسانية. فقد كان حكم الشعب نفسه أساسا للحكم الإسلامي منذ العهد الأول، وإنما اختلفت الصور التي صور فيها نظام هذا الحكم باختلاف العصور، كما جاءت عصور مظلمة أساءت وجنت عليه. (3) صور الحكم الديمقراطي
تختلف صور الحكم الديمقراطي في العصر الحاضر بين النظام النيابي والنظام البرلماني، كما تختلف بين الملوكية والجمهورية، على أن هذه الصور ليست قديمة العهد، وإنما ترجع إلى ثلاثة قرون أو نحوها في إنجلترا، وترجع إلى عهد الثورة الفرنسية في فرنسا، وإلى عهد الاستقلال في أمريكا.
أما إذا نحن رجعنا إلى صور الحكم الديمقراطي في العصور القديمة، وبخاصة في اليونان، فقلما نجد هذا الحكم ممتدا في أمة يبلغ عددها الملايين، وإنما نجده على الأغلب في مدن أو مقاطعات محصورة العدد على نحو ما نعهده اليوم في سويسرا، لكنه كان محتفظا دائما بالمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه الديمقراطية، مبدأ حكم الشعب نفسه عن طريق التمثيل الصحيح والمناقشة الحرة وإقرار رأي الأغلبية.
Page inconnue