La foi, la connaissance et la philosophie
الإيمان والمعرفة والفلسفة
Genres
3
أشعر اليوم بأن ما تخيلته في زمن من الأزمان عن العلم التجريبي واقتداره المطلق على حل كل ألغاز الكون، والحلول بذلك في نفس الجماعات محل الإيمان ليس يبلغ من نفسي إلى مكان العقيدة واليقين بمقدار ما كان يبلغ منها في صدر شبابي. بل إن شعوري هذا ليزداد كلما اتصلت بالحضارات القديمة، وبالحضارات الفرعونية منها بنوع خاص، وكلما رأيت ما كان لهذه الحضارات من قوة وأيد، وما كانت ترتكز مع ذلك عليه من صور الإيمان التي تحفز الجماعات إلى مضاعفة السعي والعمل في الحياة، وتصل بهم لذلك إلى أن يخلدوا على الزمن من آثار علمهم ما لم يقدر الزمن على إخضاعه لناموس البلى والتجدد، وما لا يزال حتى اليوم وحتى ألوف سنين مقبلة شاهدا على قوة حضارة شادت هذه الآثار الخالدة.
3
ولقد ازددت إيمانا بصدق هذا الشعور في أثناء مقامي بالأقصر وأسوان في أسبوع عيد الفطر الأخير، وحين شاهدت للمرة الثالثة معابد الأقصر وخوفو وآمون بالكرنك ومقابر الملوك والملكات، ومعابد الدير البحري والروماسيوم ومدينة هابو وتمثالي ممنون بطيبة ، ومعبد إيزيس الغريق في مياه الخزان عند الشلال فيما وراء أسوان. ازددت إيمانا بصدق هذا الشعور؛ وتبدى لي أن حضارة جديدة لا بد سيبزغ فجرها عما قريب، وستكون حضارة الفراعنة هذه، وحضارة الشرق والإسلام بعدها، هي العامل الأكبر في هذا البعث، وكما أن غزو الأتراك مدينة قسطنطين وإجلاءهم الكثير من علماء النصرانية إلى اليونان وروما، قد كان سبب البعث (الرينسانس) في الغرب وأساس هذه المدنية الغربية التي ظلت قوية قاهرة أكثر من أربعة قرون، فإن غزو الغرب للشرق واقتحام علم الغرب أبواب مقابر الملوك الأجداد وكشفه عما في هذه المقابر من أسرار تاريخ تلك العصور، وفتح هذا العلم عيون أبناء مصر والشرق على هذه النفائس المحدثة عن حضارة كملت لها كل أدوات الحضارة، وإثارة عواطفنا ودفعها لتنهل من هذا التراث الذي كشف، ولن يعود إلى الظلماء من بعد - سيكون هذا كله بسبب البحث (الرينسانس) في الشرق وأساس حضارة جديدة يتزاوج فيها العلم والإيمان، فيرتوي منها العقل والنفس جميعا، وتجد فيهما الروح الإنسانية غذاء يجمع لها بين الرخاء والسعادة وبين النعمة والطمأنينة.
ولعلك تتساءل: كيف توحي الآثار المصرية بهذا الشعور؟ والجواب عندي أن هذه الآثار تحدثك عن علم لأهلها غزير، علم استطاعوا به خلق معجزات ما يزال عصرنا ينظر إليها في شيء من البهر والإعجاب. فهذه الهياكل الضخمة والمعابد العظيمة لم تقم عمارتها على أساس من المصادفة ولا على تجارب للفن وكفى، بل إن في كل منها لآثارا هندسية يحدثك علماء اليوم عنها حديث معجب بها أشد إعجاب. وهذه الأهرام القريبة منا في القاهرة لم تكن مدافن وكفى؛ بل إن في عمارتها ومقاييسها واتجاهاتها الفلكية ما يدل على معارف هندسية وفلكية دقيقة غاية الدقة. وليس هنا مكان تفصيلها؛ لأنها تستوعب صحفا وصحفا من شرح فني لم يقصر علماء اليوم في وضعه تحت أنظارنا، ثم إن ما تراه على جدران المعابد من صور الحياة؛ ليدلك على أن هؤلاء الأقدمين كانوا يفهمون الحياة فهما واقعيا بحتا على نحو ما تملي به قواعد العلم والطريقة التي وضعها ديكارت، ونظمها وهذبها من جاء بعده من العلماء. وإنك إذ ترى على جدران الكرنك من صور الطير والوحش والإنسان ما لا مزيد بعده لدقة، لتدهش (للريالسم) القوي الذي كان قاعدة الفن في تلك العصور البعيدة. وقد أطلعت في أحد أعداد مجلة الالستراسيون الفرنسية على صورة جدارية مأخوذة عن آثار بني حسن تصور مصارعة بين رجلين تصويرا سينماتوغرافيا ترى فيه تسلسل الحركات واضحا جليا إلى حد دفع المجلة الفرنسية لإظهار عظيم إعجابها بهذا التصوير الفرعوني السينمائي، في حين ما يكاد الغرب يحتفل بمرور ثلاثين عاما على السينما فيه بإعتبارها أثرا من آثار العلم الحديث. ومع ما ترى من غزارة علم أرباب هذه الحضارة القديمة؛ فإنك ترى في نفس الوقت مظاهر إيمانهم القوي بادية كذلك في نقوشهم وتماثيلهم، دالة على أنهم كانوا يحسون ما نحس به من قوى الغيب، وما لا يزال علم الإنسان عاجزا عن تكييفه وإدراكه واستنباط قوانينه. ولكنهم كانوا لا يتجاهلون هذه القوى كما نتجاهلها ولا ينسونها كما ننساها، ولا يقفون من إيمانهم بها عند الانتظار إلى أن يقتحم العلم خفاياها ويستظهر سننها؛ لأنهم كانوا يشعرون أن حياة الإنسان القصيرة تتمثل الغيب كما تتمثل الواقع، ويجب أن تستلهم غرائزها وحي الغيب كما تستلهم حواسها ومداركها، وعقلها الصورة المضبوطة الدقيقة للواقع.
وإلى هذا النحو من تمثل الحياة تميل نظريات كثيرة من فلسفة الغرب اليوم، وفي مقدمتها نظريات الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجس. وأحسب أنا جميعا نرانا - بحكم عقولنا نفسها - مضطرين لتمثل الحياة على هذه الصورة لو أننا تركنا وإلهام عقلنا غير متأثرين بالنظريات الأخرى، التي نرى واجبا علينا محاربتها ولو أدى بنا التطرف في الحرب إلى شيء من الغلو وإنكار الواقع. فليس عالم من العلماء إلا يشعر بأن العلم الإنساني على عظمة ما كشف عنه من نواميس، وما أخضع للإنسان من قوى، وما يزال يحيط به حظ من الغيب عظيم له كما للمحسوسات والمدركات نفسها أثر كبير في الحياة وفي سيرتنا فيها، وإذا كان ممكنا في حكم التفكير المجرد أو الجدلي أن يصل العلم يوما من الأيام إلى الكشف عن كل ما في الوجود وإخضاعه لحسنا وإدراكنا، فإن ذلك لن يكون - على ما نظن - في مستقبل قريب. بل هو لن يكون إلا إذا تطور الناس طورا آخر، وأصبح لهم من الحواس وأسباب الإدراك أكثر مما لهم اليوم، واستطاعوا أن يستعينوا بوسائل العلم أضعاف ما يستطيع إنسان عصرنا. والحضارة، وهي طريق حياة العالم وسبيل سعيه إلى الرغد والسعادة، لا تستطيع أن تنتظر حتى ذلك اليوم البعيد، أو حتى تصبح الإنسانية في صورة أخرى غير الصورة التي نعرفها، ويعرفها آباؤنا وأجدادنا من ألوف السنين. وما دمنا جميعا نشهد في حضارة الغرب شيئا من مقدمات القصور عن أن تؤدي للعالم ما تشعر الإنسانية أنه طلبتها في الحياة من رغد وسعادة، فلا مفر لهذه الحضارة من أن تسمح لحضارة غيرها - رويدا رويدا بطبيعة الحال - من أن تقوم بما قصرت هي عن القيام به.
ومقدمات القصور من جانب حضارة الغرب عن أداء الرسالة التي يطلب إلى كل حضارة أداؤها؛ أكثر وضوحا من أن تحتاج إلى طويل بحث أو جدل. ويكفيك مقنعا بل إيمانا بقصورها أن تسأل عن الرسالة النفسية التي أخذت حضارة الغرب على عاتقها أن تقوم بها، وأن تجد الجواب عن سؤالك هذا سلبيا أو في حكم السلبي. فحضارة الغرب شرقية الأصول في روحها يونانية الأسس في مظاهرها، هي تقوم على المسيحية في جانبها الروحي، وعلى اليونانية في جانبها العقلي والفني. وقد كان بين هذين الجانبين من جوانبها، وما يزال بينهما نضال غايته أن يكون لأحدهما على الآخر الغلب. فمنذ القرن السادس عشر قام الثائرون على سلطان الكنيسة بالحركة الفكرية والعلمية التي طبعت حضارة الغرب في العصور الأخيرة بطابعها. وككل حركة جديدة مضطرة للنضال، كانت هذه الحركة العلمية والفكرية ترمي إلى هدم الكنيسة، وتقويض أركانها ومسح قواعدها وأسسها. وإذ كان العلم قد أسفر عن نجاح قوى سريع قلب نظام الحياة، ودخل إلى الناس في دورهم ومساكنهم، ويسر لهم من ألوان العيش والحياة ما لم يعرفوا شيئا مثله حين حكم الكنيسة، فقد صفق الجميع لرجال العلم، وانزوى رجال الدين في ناحية قانعين بالهزيمة التي أصابتهم منتظرين يوما أحسن. وطال برجال الكنيسة الانتظار أن كان العلم يطفر من نجاح إلى نجاح، وأن كانت القوى التي كشف عنها تضع في متناول الناس كل أسباب الرغد رخيصة جميلة فيها ما يلذ وما يستهوي، ثم إن كانت الكنيسة ورجالها قد أحاطت تعاليمها بحجب كثيفة من الأوهام التي كانت محسنة السواد أيام جهل السواد، والتي جعلت تتداعى بانتشار النور بين الناس وبمداومة العلم الكشف عما في هذه الأوهام من سخف وترهات. على أن هذه الحجب من الأوهام والأباطيل إن سترت ما كانت رسالة الكنيسة تضفي عليها بيئة من نور، فهي لم تطفئ ضياء الروح الذي ينبعث هذا النور عنه. ألست ترى الجاهلين من الناس يلفون الشخص الذي يعزونه في خلق يريدون أن يتقي هذا الشخص به البرد، فإذا الخلق يحوي من أسباب الضعف ما يجعل العزيز يتألم. وبدلا من أن يكشف أهله الخلق، ويزيلوا الهدم البالية تراهم يضيفون عليها خلقا وأثوابا بالية قذرة تزيد عزيزهم ضعفا. لكنه ما دام على قيد الحياة فهو قدير على أن يعود إلى قوته إذا هو أزيلت عنه الأثواب المحيطة به. كذلك جعل العلم يهدم ما أحاطت به الكنيسة روح المسيحية من خرافات وأباطيل، وجعل البعض يتوهمون أن هذه الخرافات متى انكشفت كلها فلن يبقى تحتها من شيء. لكن جماعة من العلماء أنفسهم شعروا بأن هذا الضياء الذي كانت المسيحية تريد أن تنير العالم به تمهد به السبيل بين شقاء الحياة وآلامها هو بعض حاجات النفس الإنسانية، فيجب أن تصل إليه، إن لم يكن عن طريق العلم فمن طريق آخر غير العلم، وجاهد العلماء يريدون أن ينبعث عن العلم هذا الضياء. وهم إلى اليوم لم يصلوا من ذلك إلى غاية. ولعل السر في هذا أن لهذا الضياء مصدرا غير التفكير ؛ وأن طرائق العلم قد جعلت التفكير وحده، التفكير القائم على أسس المشاهدة الحسية، هو الوسيلة لاستنباط ما يمكن استنباطه من سنن الكون. والمشاهدة الحسية والتفكير الإنساني لم يستطيعا حتى اليوم أن يقفا على سنن الكون جميعا، وإذن فلا بد لنا من حاسة غير الحواس المعروفة تنير لنا ما لم ينر العلم من طريق الحياة، وهذه الحاسة هي ما يسميه برجسون الإلهام، وما تسميه الأديان البصيرة أو النور أو هداية الله.
لم يستطع الجانب العقلي والفني أن يقضي على الجانب الروحي؛ وبكلمة أخرى: لم يستطع الجانب اليوناني أن يقضي على الجانب المسيحي في الحياة الغربية، وإن كانت حضارة الغرب الحاضرة ما تزال تدل بأنها يونانية الأصول. على أن ما طورت وأكبرت من أصولها اليونانية، قد وصل، أو كاد، إلى الحد الذي يقف عنده ولا يتخطاه قبل أن يطعم بروح جديد. ولسنا نحن الذين يقولون هذا أو يبتدعونه. فغاية الحضارة اليونانية، فيما يقول كثيرون من كتاب الغرب: الكمال والجمال، وعلى حد تعبير بعضهم: كمال الجمال وجمال الكمال، وهاهم أولاء الغربيون أنفسهم قد أصبحوا ينظرون إلى فنونهم باعتبارها مظهر الجمال آسفين على أنها تتدرج إلى عصر من الانحلال بما يتسرب إليها من نظريات جديدة، كالتكعيب
cubisme
وغير التكعيب، كما أنهم ينظرون إلى معنى الكمال، كأنه خيال سعوا وراءه فإذا سعيهم وراء آل لا حقيقة ولا وجود له. ولئن كان البعض من مفكريهم ينشدون في تضامن الإنسانية معنى جديدا يريدون به أن يدفعوا إلى حضارة الغرب قوة تعادل ما يخافونه عليها من ضعف، فذلك غرض معناه أن ما حاول الغرب من إقامة مدنية غربية يونانية الأصول قائمة على العلم وحده، لم يصادف من النجاح ما كان يطمع فيه المفكرون والعلماء الصادقو العزيمة ممن سعوا إليه في الماضي. فلا بد إذن من مدد جديد يبحث الباحثون عنه في الشرق، وفي غير الشرق لمنع التدهور والانحلال.
Page inconnue