هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأن يكون بعضنا يتبع بعضا، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، ويشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي. فقام أبو بكر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه وهم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى، يزعمون أنها لهم شافعة، وعليهم بالغة نافعة، وإنما كانت حجارة منحوتة، وخشبا منجورة، فاقرأوا إن شئتم (إنكم وما تعبدون من دون الله) [يونس: 18]، (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)، وقالوا:
* (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * [الزمر: 3] فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له والصبر معه على الشدة من قومهم، وإذلالهم وتكذيبهم إياهم وكل الناس مخالف عليهم (1)، زار لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم وإزراء (2) الناس بهم واجتماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، وأول من آمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم ولا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصارا لدينه ولرسوله، وجعل إليكم مهاجرته فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء، لانفتات دونكم بمشورة، ولا تنقضي (3) دونكم الأمور.
فقام الحباب بن المنذر بن زيد بن حرام رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار: املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم وظلالكم، ولن يجير مجير (4) على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة وأولو العدد والنجدة (5)، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد
Page 24