مالك بنُ أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، المدني، حَليفُ بَنِي تَيْمٍ مِن قريش، ألَّف في ذلك كتابَه العظيمَ الموسومَ بالموطأ، وأَخَذ في تَنْقيحِه وتَهْذيبِه عشرات السنين، وانتَصَبَ لتَدْريسِه ونَشْرِه، فأخذَه عنه تلامذةٌ كثيرون، ضَرَبُوا أَكبادَ الإِبل للسَّماعِ عليه والاستفادَة منه، فانتَشَر كتابُه في الآفاق، وَعَوَّلَ عليه كثَيرٌ مِن المصنفينَ والمؤلِّفين في السُّنن وجَمع الأحاديث، فرَوَوا الكثيرَ من رواياتهم من طريقِه، واستفَادوا في تهذيبِ كتبِهِم وترتِيبِها وانتقاءِ رواتِها مِن كتابِه، فكان الأصلُ في البابِ، وغيرُه اللباب، وكان الموطأ أوَّلَ خُطوة في التَّأليف في صَحيح الحديث الثابتِ عن النبيِّ ﷺ؛ لذا كان انتشارُه أَكثرَ وأَبْلغَ من انتشارِ كتبٍ أُلفتْ في وَقت الإمامِ ﵀، كموطأ ابنِ أبي ذئب، ومسائلِ ربيعةَ وغيرِهما.
وبعد أن دُوِّنت الدَّواوينُ، وجُمعت السننُ، لَجَأ أئمة الإسلام، وعلماءُ الأمة إلى بيان معانِيها وفقهِها، والتَّمييزِ بين صحيحِها وسقيمِها، وبيان أحوالِ رواتِها ورِجالِها، وكلِّ ما حَوَتْه من فوائِدَ عِلميَّة؛ إِسناديةٍ ومتنيةٍ، ونال الموطأَ مِن ذلكَ الشيءُ الكثيرُ، فَعَكَفَ عليه أئِمَّة الهدى شَرْحًا وتَفسيرًا، اسْتنباطًا وتدريسًا، أخرجوا منه جَواهرَ العِلم ودُرَرَه، فصَنَّفوا في ذلك مصنَّفاتٍ عِدَّة، في عُلوم شَتَّى، وكان للمغارِبَة منهم والأندلسيين فضلُ السَّبَق في ذلك، واعْتَنَوْا بموطأ الإمام مالك بَعد دخوله المغربَ على يَدِ علي بنِ زياد التونسي في رواية، أو إدريس بنِ عبد الله الكامل -مؤسِّس دولة الأدارسة بالمغرب- في رواية أخرى، وإلى الأندلسِ على يد زِياد بن عبد الرحمن شَبْطُون، ثم يحيى بن يحيى الليثي، الذي ذاعَ صِيتُه، وانتشرَت
1 / 7