لا بد أن نخفق إن حاولنا أن نبحث عن «الألفاظ الموحى بها» في هوميروس، بنفس المعنى الذي نجدها به في فرجيل، أو في دانتي، اللذين كان بحثهما العظيم عن إمكانيات الموسيقى وترتيب الألفاظ، معادلا للاكتشافات والغزوات الجديدة. لم يكن تأثير ذلك الإلهام الداخلي في هوميروس هو إعادة خلق اللغة من جديد. كان عليه أن يعتمد على المنشدين السابقين بطريقة لم يتخذها أحد غيره من قبله، ولم يفعلها شاعر مجيد بعده. بيد أن هذا جعل مجهوده ممكنا. وليست عظمته ناتجة عن طول الإلياذة والأوديسة، بل لاتساع نطاق روحه التي كشف عنها وسيطر عليها. كان التعبير الشاعري الذي يمكن صياغته بسهولة وتحويله إلى أناشيد، وتراث الشعراء، وليس لغة الكلام الدارج اليومي، كانت كل هذه موجودة قبل هوميروس، كان، تحت تصرف الشاعر، تحوير الجمل وصياغتها لتلائم شعر البطولة، وتشكل تبعا لذوق الشاعر، وجاءت هذه الجمل بينه وبين اللغة نفسها. كان هذا، بالطبع، ربحا له، ولكن من الممكن أيضا أن تكون عقبة أمام تقدمه. كانت العناصر الجاهزة مثل درجات السلم بالنسبة لذلك الشاعر، تساعده على أن يرتقي ويشيد صرح بنائه، فبواسطتها يمكنه الاستمرار في أغنيته، ولكن لا يمكنه أن يستمر بواسطتها وحدها.
نرى، في الجزء الثاني والعشرين، من الأوديسة، نرى فيه فيميوس يتوسل بكل ما لديه من حول وطول، لكي ينقذ حياته، قائلا إنه علم نفسه بنفسه
autodidaktos ، وإنه مدين لله بموهبته الغنائية المتعددة الاتجاهات، وليس التأكيدان متناقضين، مهما تكن الظروف التي أعدت لها. يعتبر فيميوس أن تعليم نفسه ذلك الفن، بنفسه، من الأفضال البالغة المنسوبة إليه. وهنا يتقدم الشعراء، لأول مرة في الأدب العالمي، طالبين نسبة حق المطالبة بالطرافة لأنفسهم. والكلمة الإغريقية التي بمعنى أغنية هي «طرق»، فيصنعها المغني ويستعملها، ولكنه لا يزال بحاجة إلى الإرشاد ليسير فيها، وذلك بسبب المطالبة بالطرافة. كما أنه يتقدم بنفس الطلب إلى الإرشاد الإلهي، يمكن تعلم كل شيء في أناشيد البطولة، ويجب تعلمه: النغمة والألفاظ، وفي عصر هوميروس، المواضيع أيضا، ووصف المواقف المشهورة. وإذا كان هذا المجهود واجب العمل، فلا بد أن يكون طريفا، ولكن الطرافة لم تكن في اللغة أو الخطط أو الفكرة أو المواقف المعروفة جيدا، وإنما كانت الطرافة في خلق موحى بها لعالم الآلهة والبشر. وفي الأوديسة، في جدة أولوسيس وعالمه، قبل كل شيء.
جاء الإيحاء الهوميري مع المادة الموضوعية من جميع أناشيد البطولة وموضوعاتها. وكانت تلك الموضوعات موجودة فعلا. ومن المحتمل أنها كانت شائعة منذ عهد القصور الكريتية
Cretan
حيث كانوا يتكلمون الإغريقية أيضا فيما مضى، وفي عهد مقار آلهة موكيناي وكان هذا لمدة خمسمائة أو ستمائة عام؛ ولذا كان من الضروري وضعه في حوالي سنة 800ق.م. وهذا تاريخ يشير إليه كل شيء. وربما زود هوميروس بمادة الموضوع اللازمة للأوديسية، بواسطة السرد النثري، والمغامرات التي يرويها الملاحون، والقصص التي يحكيها القصاصون المحترفون الذين لم يكن إنتاجهم، بحال ما، عديم الفن. وجو الموانئ الإغريقية الشرقية في الجزر الشرقية لبحر إيجه وسواحل آسيا الصغرى، هو الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه لمعرفة تاريخ حياة هوميروس. كانت فكرة رائعة من جانب العالم الكلاسيكي الألماني كارل راينهاردت
Kal Reinhardt ، الذي ندين له بأدق تحليل لتكنية السرد في الأوديسة نقرؤه في آن واحد مع مغامرات سندباد
Sinbad . وتقع جميع الفروق التي وجدها في اتجاه الكتابة الروائية العظمى، ولكنه أوضح وحدة شعر البطولة بالمقارنة. ومع ذلك، فقد كان لدى إيحاء هوميروس مادة أخرى يعمل عليها، أكثر أساسية لها لأنها أكثر قرابة لها؛ ألا وهي الأسطورة نفسها التي ليست ألفاظا وسردا فحسب ولكنها بعد ورؤية. وكذلك عالم البحر الأبيض المتوسط المتماسك، وسواحله الحقيقية وجزره. وقعت هذه، فيما مضى، أمام بصر هوميروس، وأمام عينيه الفاحصتين. وإذا كانت العيون موحى إليها، فإنها تبصر الرؤيا.
الأنشودة الأولى
«... فجلست أمامه، وأمسكت بيدها اليسرى ركبتيه، بينما أمسكته بيمناها من أسفل ذقنه ... وخاطبت «زوس» في توسل قائلة ...»
Page inconnue