أو طبقات الشعراء بالنظر إلى أزمانهم ومزية كل طبقة منهم
هذا بحث لو تعمدنا الإفاضة فيه لاضطررنا إلى التثبت من أحوال كل عصر من عصور العرب، والنظر في شئون الشعراء وطرائفهم وفنونهم، ومناحي نظمهم، والرجوع إلى مراميهم في شعرهم، وطرق معائشهم، وبيان أنواع اقتباسهم من الأعاجم واقتباس الأعاجم منهم بالنقل والملابسة إلى غير ذلك مما يؤدي إلى تدوين سفر طويل، ومع هذا فلا بد من أن نلم بالموضوع إلماما إجماليا؛ لئلا يفوتنا استجماع أطراف الحديث الذي توخيناه، وعسى أن يكون لنا في مستقبل الزمن متسع لإعادة النظر فيه أو ينهض إليه باحث من أدبائنا، فيلجه من جميع أبوابه ويوفيه حقه بما لا يتيسر في هذا المقام.
من الكتاب من يقسم الشعراء بالنظر إلى أزمانهم إلى ثلاث طوائف أو طبقات أولها شعراء الجاهلية ثم المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ثم المولدون وهم سائر الشعراء، ومنهم من يزيد طبقة رابعة وهي طائفة المحدثين، فيحصر المولدين في فئة قليلة من أبناء أوائل الإسلام كالفرزدق وجرير والأخطل، ويجعل جميع من أتى بعدهم في عداد المحدثين.
وإننا ناحون في بحثنا نحو أصحاب التقسيم الأخير بالتسمية دون الترتيب، ومستدركون ما يجب استدراكه؛ لاختلاط الطبقات الثلاث الأولى بعضها ببعض وواضعون حدا فاصلا بين كل طائفة وأخرى، وباحثون في تماسك هذه الحلقات، وأسباب ترقي الشعر العربي حينا من الدهر، ثم انحطاطه في كلام المحدثين حتى أيام النهضة الأخيرة غير مغفلين في كل ذلك أوجه المقابلة مع منظوم صاحب الإلياذة.
النهضة الجاهلية
ليس بالأمر السهل تعيين الزمن الذي بدأت فيه نهضة الجاهليين لاندثار منظوم الشعراء مما تقدم على الشطر الأخير من القرن الخامس للميلاد أو ما تقدم على الهجرة بقرن ونصف قرن، على أنه لا ريب أن النهضة الجاهلية المتصلة بالإسلام بدأت قبل الهجرة بقرنين أو أكثر؛ لأننا إذا قرأنا شعر المهلهل والشنفرى، والمثقب العبدي والبراق بن روحان، وغيرهم ممن تقدم على الهجرة زهاء قرن وربع أو ما ينيف رأينا فيه من البلاغة وحسن الانسجام ما لا يجوز الحكم معه أنهم كانوا في طليعة شعراء العرب بل لا بد من أن يكونوا نسجوا على منوال نوابغ سبقوهم، ولكن لنا من وجه آخر مساغا للحكم أن تلك النهضة لم تستحكم إلا في القرن الأول قبل الهجرة، ولم تبلغ أوج علاجها إلا في بضعة عقود من السنين الملاصقة للإسلام، ودليلنا على ذلك أن شعر معظم المتأخرين في الجاهلية كلبيد بن ربيعة، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة العبسي، والأعشى، والنابغة الذبياني أرقى من شعر معظم المتقدمين عليهم في الزمن كالبراق وأبي دؤاد، والحارث بن عباد وأمثالهم، ولا يضعف هذا الحكم نبوغ بعض المتوسطين بين الفريقين كامرئ القيس، وطرفة بن العبد، والحارث بن حلزة اليشكري، وعمرو بن كلثوم، وغيرهم ممن لاصق الأولين، ونبغ في منتصف القرن السادس للميلاد فكانوا نبراس تلك النهضة، وقادة زمامها إذ يتيسر لنا بهذا الاعتبار أن نعين زمن استحكام النزعة الشعرية في نحو ذلك العهد أي: سنة 532 للميلاد أو قبل الهجرة بتسعين عاما، وهو زمن نبوغ امرئ القيس أول أبناء الفريق المتوسط بين متقدمي الجاهليين ومتأخريهم.
ومما يؤيد هذا القول أن كتاب العرب قسموا الشعراء إلى طبقات باعتبار جودة الشعر، كما قسموهم إلى طبقات بالنظر إلى التاريخ، فجعلوا أصحاب الطبقة الأولى من متأخري الجاهليين ومتوسطيهم كأصحاب المعلقات جميعا، والنابغة، والأعشى الأسدي، وعدي بن زيد، وعبيد بن الأبرص، وأمية بن أبي الصلت، وعدوا سائر من تقدمهم في الطبقة الثانية إلا المهلهل، فإنهم اختلفوا بين أن يكون من الثانية أو الأولى.
الحد الفاصل بين شعراء الجاهلية والمخضرمين
إذا حسبنا لاستحكام النزعة الشعرية الجاهلية تسعين عاما، وجعلنا طليعتها امرأ القيس، فإننا نحسب لطور الشعر الجاهلي بأسره مئة وخمسين عاما أولها سنة 472 للميلاد وآخرها سنة الهجرة النبوية، وزعيم جنده عدي بن ربيعة الملقب بالمهلهل، وهو معلوم أن بعض شعراء الجاهلية أدركوا صدر الإسلام، وماتوا في زمن النبي كزهير، وهو الذي قيل فيه أن النبي نظر إليه يوما وعمره مئة سنة، فقال: «اللهم أعذني من شيطانه» قيل فما قال بعد ذلك شيئا من الشعر، ومنهم من مات في زمن الخلفاء الراشدين كعمرو بن معدي كرب، ومنهم من عمر حتى انقضت دولة الراشدين، وقامت دولة بني أمية؛ كلبيد المتوفي في خلافة معاوية، وعمره على ما قيل مائة وخمس وأربعون سنة، فأمثال هؤلاء يحصل الإشكال في تعيين طبقتهم، فتلتبس بين طائفتي الجاهليين والمخضرمين.
وقد قيل في تفسير المخضرم هو من ذهب نصف عمره في الجاهلية ونصفه في الإسلام، أو هو من أدرك الجاهلية والإسلام على الإطلاق تشبيها بالناقة المخضرمة التي قطع طرف أذنها كأن ما ذهب من عمره في الجاهلية ساقط لا يعتد به، وقل من ينطبق عليه القول الأول من فحول شعراء الجاهلية كلبيد العامري الذي عمر طويلا في الجاهلية والإسلام، وأما الذين أدركوا الجاهلية والإسلام فكثيرون؛ كزهير، والخنساء، والحطيئة ممن نبغ في الجاهلية، وأبى ذؤيب العجلي، وكعب بن زهير، وحسان بن ثابت ممن نبغ في الإسلام؛ ولهذا نظر البعض في تعيين الطبقة إلى القرب والبعد من الإسلام، فكان زهير عندهم جاهليا، ولبيد مخضرما، وربما وضعوا لبيد في طبقتين، فقالوا: «هو جاهلي ومخضرم» وعندنا أنه إذا صح أحد هذين القولين بالنظر إلى الشاعر وصفته، فلا يصح شيء منهما بالنظر إلى الشعر وصبغته، وإلا لوجب أن نجعل معظم المخضرمين في طبقة الجاهليين أيضا، فتختلط الطبقتان مع أن لكل منهما مزية خاصة بها على ما سنبينه في ما يلي.
Page inconnue